حوار مع توفيق السيف الرجل الذي يهجس بالنهضة

أمل زاهد

تحدثه فيجيبك بتواضع جم ، وتسأله وتحاوره فيفتح لك فضاءات أوسع ومجالات بلا مدى أو حدود .. تتفجر الأسئلة من رحم الأسئلة، وتتناسل من عمق إشكاليات كانت ولا زالت تتردد حائرة في مشهدنا الثقافي ، ولا بد أن تحرض إجاباته عقلك وتستفزه للمزيد من التساؤلات .. فهذا الرجل يهجس بالنهضة وتسكن داخله تلك الرغبة الصادقة بالتغيير والإصلاح، وفي إعادة روحية النهضة وقلبها النابض لهذه الأمة الساكنة النائمة في رحم الماضاوية وداخل أعراف وعادات وأفهام التبست بالدين وتسلقت على أصوله ، فتتوارى الأصول وراء الحواشي ، والجوهر خلف القشور كما يرى ضيفي الدكتور توفيق السيف .. حاورته فكان هذا اللقاء

1- من سالف الأزمان كانت علاقة المثقف بالسلطة علاقة شائكة ، فهو إما متمرد عليها رافض لها .. وعليه يحكم عليه بالنفي الذي يصل لتكميم الأفواه أو الاعتقال، وإما مثقف مدجن طوعا أو قسرا .. هل دجن توفيق السيف ؟

** ا

أجاب على هذا السؤال شاعر قديم :

وكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا

الناس ترغب في السلطة وترغب في الاقتراب من أهل السلطة ، ويتهم الناس بعضهم بالتملق للسلطان. جدلية الاقتراب والابتعاد تدور أساسا حول امكانية المحافظة على استقلال الرأي وحرية التفكير والتعبير . إذا قدرت على حفظ حريتك واستقلال رأيك ، فالبعد والقرب سواء . أما الحكم بأن فلانا دجن أو لم يدجن فهو انطباع شخصي متروك للقراء وعامة الناس ، وعلينا أن نحترم رأيهم .

2- هل يستطيع توفيق السيف أن يقول عن نفسه أنه متحرر تماما من الايديولوجيا؟

** لست متحررا من الايديولوجيا، ولا اظن ان شخصا في العالم كله متحرر من الايديولوجيا. الايديولوجيا هي الوسيلة التي نبني بها علاقتنا مع العالم المحيط بنا ، ونعطي للأشياء معاني ، ونربطها مع بعضها حتى تتحول من عناصر منفردة هائمة في الفضاء الى أجزاء في مركب ، هو رؤيتنا للعالم. وما لم يكن لدينا منظومة مفاهيم ومسلمات أولية فلن نحب شيئا ولن نقيم علاقة مع شيء مما يحيط بنا، لا انسانا ولا فكرة ولا شجرة ولا ساعة.

لا يحتاج الانسان الى التحرر من الايديولوجيا، بل يحتاج الى:

أ) الوعي بانه يحمل ايديولوجيا تؤثر على آرائه وأحكامه، ونتيجة لذلك فان آراءه ليست معيارية او موضوعية في كل الاحوال.

ب) الوعي بان الايديولوجيا -حتى لو أعتقد بصحتها – تلعب احيانا دور حجاب الحقيقة، أي أنها تظهر الاشياء للعين والعقل بخلاف ما هي عليه في الواقع الخارجي .

ج) الوعي بالفارق بين وظيفتي الايديولوجيا والعلم . وظيفة العلم هي وصف الاشياء وتفسير أحوالها، اما وظيفة الايديولوجيا فهي الحكم على تلك الاشياء والاحوال وتحديد قيمتها، اي ايجاد علاقة بينها وبين الشخص .

من هنا فإني من القائلين بإمكانية الجمع بين عقلين ، عقل علمي يصف الاشياء ويفسرها مهما كانت متنافرة مع رغبات الشخص وقناعاته ومعتقداته ، وعقل ميتافيزيقي دوره صناعة المعنى ، وتسكين الروح ، ومنح الاشياء الخارجية لونا انسانيا ، وايجاد علاقة جمالية بين الشخص والعالم. من المهم على أي حال الوعي بوجود هذه الثنائية وعدم الخلط بين العلم بالأشياء والحكم عليها.

3- فكر توفيق السيف فكر صادم للعقل الجمعي التقليدي شيعيا كان أو سنيا، هل ترى التصادم وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية ضرورة اليوم لإيقاظ أمتنا من سباتها ؟

** الفكر الشيعي والسني هو أقرب ما يكون إلى ثقافة اجتماعية، فيها شيء من العلم والفكر ، لكن معظمها هو نتاج للتجربة التاريخية للمجتمعات ، فهي تبرير للمصالح او التحولات او الحاجات او الهموم أو دفاع عن الذات. كثير من عناصر هذه الثقافة تشكل في رحم المعاناة ، ولهذا فهي صورة عن البشر الذين يحملونها في كل حقبة زمنية. كلا الثقافتين تعاني في الحقبة الراهنة من تخلف عن العصر وحاجاته وتحدياته وما يموج فيه من تيارات وتحولات. ونحن بحاجة الى وضع النقاط على الحروف، كي يلتفت الناس الى جوهر مشكلتهم ، أي العجز عن التفاعل مع العصر الذي يعيشونه. وظيفة المثقف ليس تبرير الواقع بل نقده ، وتحريض الجمهور على البحث عن الغيب الذي تخبؤه الايام . يبدأ التخلف في اللحظة التي يقرر الناس أنه ليس في الامكان أبدع مما كان . ومهمة المثقف هي دحض هذه الرؤية السكونية.

4- يشغلك سؤال النهضة إلى حد كبير وترى أننا متخلفون اقتصاديا وثقافيا وعلميا واجتماعيا، هل تلمح في عالمنا العربي بداية إرهاصات قد يتوالد من رحمها ما اسميته في كتابك الجميل ( الحداثة ضرورة دينية ) : روحية النهضة ؟

** منذ أواخر القرن التاسع عشر كانت هناك ارهاصات نهضة ومحاولات نهوض. المحاولات الأولى ركزت على تحديث الثقافة ، وفي منتصف القرن العشرين تركزت المحاولات على تحديث السياسة ، وفي الربع الاخير من القرن العشرين تحول التركيز الى الاقتصاد. وقد جنينا من جميع تلك المحاولات خيرا كثيرا، ولولاها لكنا اليوم نعيش في ظرف يشبه ظرف افغانستان مثلا. من المتفق عليه في بحوث التنمية ان كل مسار تنموي يؤدي الى تحريك المسارات الأخرى، فالنهوض الثقافي يؤدي الى نهوض اقتصادي وسياسي، وهذا يقود الى ذاك. المشكلة الكبرى في حياة المجتمع العربي هي عدم الاستمرار. كنا دائما نتوقف في منتصف الطريق. فلو واصلنا تحديث الثقافة لأصبحنا اليوم منتجين للعالم والتقنية ننافس بقية العالم. ولو واصلنا تحديث السياسة لاسترحنا من كثير من الازمات الاجتماعية التي نعرفها اليوم. وإذا واصلنا تحديث الاقتصاد فسوف نتخلص من معضلة الفقر التي تهدد السلام الاجتماعي في كل أقطارنا. من المهم ايضا أن نفكر في التحديث الشامل والمخطط ، بدل ان نفاجأ بالتحولات التي هي انعكاس للنهوض في مجالات اخرى ، كما هو الحال في تفاقم ظاهرة العنف التي هي – جزئيا على الاقل – انعكاس لتحديث الاقتصاد في سياق منفرد.

5- أين المرأة من سؤال النهضة ؟ وما هي نظرتك الاستشرافية لوضع المرأة الاجتماعي في المملكة ؟ وألا تحتاج المرأة إلى إعادة صياغة للوعي كونها من أشد حراس النسق قسوة وضراوة ؟

** في كل مجتمع هناك مراكز توتر رئيسية وأخرى ثانوية . مراكز التوتر تحرك الأزمات احيانا وتصنع الحلول أحيانا اخرى. الوضع الاجتماعي للمرأة هو أحد مراكز التوتر الرئيسية في المجتمع السعودي. هي ليست حارسة للنسق التقليدي بل ضحية له (مع ملاحظة ان الضحية قد ينساق احيانا في مشروع عدوه بسبب انعدام الخيارات البديلة ، مثل العامل الفلسطيني الذي يشارك في بناء مستعمرة اسرائيلية لأنه بحاجة الى خبز اليوم) . الأغلبية الساحقة من النساء السعوديات يتطلعن الى الحداثة باعتبارها السبيل الوحيد لحياة لائقة . حتى اللاتي يدافعن عن التقاليد على المستوى النظري ، متمسكات بالحداثة في حياتهن اليومية ، ولذلك ترين الفتيات جميعا يذهبن الى المدارس ويسعين وراء وظائف خارج البيت ، ويرغبن في استعمال المنتجات التقنية للحداثة . الوعي ليس مشكلة المرأة فقط ، نحن أمام مشكلة مجتمع بأكمله ، رجاله ونساؤه ، مجتمع يريد الحداثة ويخشى منها في الوقت نفسه ، يتطلع إلى التقدم لكنه غير مستعد لدفع ثمنه الثقافي والاخلاقي. واظن أن الجدل الواسع الذي يشهده المجتمع السعودي حول حقوق المرأة ودورها وموقعها في النظام الاجتماعي هو دليل على تحولها فعليا الى مركز توتر رئيسي . وجدنا خلال السنوات الاخيرة تغييرات ملموسة مثل إقرار المجتمع بحقها في العلم ثم في العمل واخيرا مشاركتها في بعض أطراف الحياة العامة (التجارة والاعلام كمثال) . واظن أن التغيير في هذا الاتجاه سوف يتواصل وسوف يتعلم المجتمع كيف يتكيف مع هذا التحول. لكن لا بد من الاشارة الى أن التحولات الكبرى كانت ثمرة لقيام حركة نسائية واسعة ، منظمة ، ومتنوعة التعبيرات ، ونحن نفتقر الى حركة من هذا النوع.

6- أنت تقول أن فكرة الأصالة لم تؤد إلى توضيح مكانتها من سؤال النهضة بقدر ما ساهمت فعليا في إعادة إنتاج فكرة الأصالة في معنى المحافظة على التقاليد والبحث عن حلول لمشكلات العصر من عمق التراث ، وفي ذات الوقت ترى أن التخلص من إرثنا الثقافي أشبه ما يكون بأن نطلب من الأمة أن تمحو ذاكرتها ، هل من سبيل للخروج من هذا المأزق ؟

** أود الاستشهاد بمقولة هيجل ، الفيلسوف الالماني ، حول الوعي بالتاريخ ، وخلاصتها أن الفرد الواعي هو الذي يعي تأثير تجربته التاريخية على تفكيره الحاضر ، أي القادر في لحظة من اللحظات على النظر إلى تراثه التاريخي كشيء قابل للانفصال عن عقله ، أي تحرير عقله من ضغط الأحكام المسبقة . في ظني أن كل فرد قادر على أن ينفصل عن تراثه حين يفكر في موضوع معاصر ، لكنه يحتاج إلى وعي بكيفية تأثير التراث التاريخي على العقل ، ويحتاج الى إرادة قوية للانفصال عنه. نحن إذن لا نحتاج إلى مسح ذاكرتنا ، بل إلى الوعي بتأثير هذه الذاكرة على تفكيرنا في قضايا اليوم ، والانفصال عنها حيثما كان الانفصال ضروريا للتوصل الى فهم موضوعي ومحايد للأسئلة التي تواجهنا.

فكرة الأصالة الشائعة في بلدنا هي تعبير عن رؤية كسيحة ترتاب في قدرة الجماعة الإنسانية على صياغة ذاتها وزمنها. وترتاب في قدرتها على اكتشاف مصالحها وصياغة القيم والمفاهيم المناسبة لتبرير تلك المصالح . ولهذا فهي تشدد على العودة الى مبررات ومفاهيم صاغها الماضون. فكأن هؤلاء الذين يتحدثون عن الأصالة يربطون بين قيمة الفكرة وزوال موضوعها. حين يتحدثون في السياسة أو الأخلاق أو السلوك اليومي مثلا يستذكرون عصر الخلافة الإسلامية باعتباره الزمن المعياري للصحة والخطأ ، وحين يتحدثون عن الأدب يستذكرون العصر الجاهلي ، وحين يتحدثون عن العلوم النظرية والتجريبية يستذكرون العصر العباسي. لقد استفدنا من التجربة السياسية والأخلاقية والأدبية والعلمية في تلك العصور . لكن لا أجد أي مبرر لاعتبار تلك التجارب معيارية تقاس عليها كل تجربة أخرى. لا أشك أن انسان هذا العصر أقدر من أسلافه الذين عاشوا في العصور الماضية على إبداع حلول أكمل، لأنه يعرف تجربة أولئك وتجارب من جاء بعدهم ، إضافة إلى ما يستخلصه من تجربته الخاصة . مجموع هذه المعارف تفوق كثيرا ما توفر للأسلاف. نحن نرجع إلى تجربة الأسلاف للحصول على علم ، لا باعتبار تلك التجربة حدودا نهائية للقيمة. القيم الأساسية مثل العدل والحرية والنظام ثابتة وموضوعية ، ولا تختلف في عصر عن عصر آخر ، أما معايير التطبيق والعمل فيجب أن تتناسب مع الزمن ومع حاجات الإنسان الذي يعيش في ذلك الزمن ، ولا فضل لأهل زمن على غيرهم في هذه الناحية ، ولهذا فمن الخطل ان نحول الماضين الى مرجع قسري او حصري ، او حتى مقدم على المعاصرين.

7- تتساءل عن مدى حاجتنا الحقيقية للتراث ، وتقول أننا أصبحنا كحراس المتاحف أو الذين يعتمدون في معيشتهم على مرافقة الأموات ، وكأنك تفترض أن شروط النهضة لن تتحقق إلا بقطيعة شبه كاملة مع التراث ، وتقول أن التراث الجيد هو الذي نسخره وليس الذي يسخرنا .. هل هناك تراث جيد وتراث سيء؟

** لا شك أننا نحتاج إلى بعض التراث كي يعيننا على فهم ديننا وكي يساعدنا في إعطاء معنى لبعض جوانب حياتنا. لكننا لا نحتاجه أبدا كقيد على عقولنا ، ولا نحتاجه كحبل يشدنا الى الماضي السحيق ، ويعطلنا كلما أردنا اللحاق بقطار الحياة في عصرنا. التراث الجيد هو التراث الذي نسخره ونستخدمه ونتحكم فيه وليس الذي يسخرنا ويستخدمنا ويتحكم في عقولنا. التراث الجيد هو المعلم الذي يساعدنا على معرفة ما عنده كي نتجاوزه إلى ما هو أعلى منه. التراث الجيد جسر ثابت بين زمنين أو مكانين ، يحمل الناس من زمن إلى زمن ، أو من مكان إلى مكان ، ثم يتركهم أحرارا كي يواصلوا دربهم بينما يبقى هو ثابتا في مكانه أو زمانه. أما التراث السيء فهو راعي الماشية الذي يرسلها إلى المرعى ، لكنه يعيدها إلى حظيرته آخر النهار . فهي مهما انطلقت فإنها تتحرك ضمن دائرة محددة آخرها العودة إلى الحظيرة نفسها . التراث السيء هو السقف الذي يوفر مساحة للحركة تحته لكنه لا يسمح لك بتجاوزه إلى ما هو أعلى منه .التراث السيء هو الجسر الذي يحملك إلى نهايته لكنه يمنعك من الانتقال إلى الضفة الأخرى ، فيبقيك محصورا بين حدوده ، لا أنت في الماضي ولا انتقلت إلى الحاضر.

8- المشكلة الحقيقة في تقديرك هي قابلية نمط معين من الفهم الديني لإعاقة النهوض الحضاري ، وترى في التدين السائد في العالم الإسلامي معيقا للنهضة ، يبدو هذا الخطاب صادما للعقل الجمعي فكأنك تتهم التدين بأنه سبب تخلفنا ؟

** ادعوك للتنبه إلى الفارق الجوهري بين الدين وفهم الدين . الدين كما انزله رب العالمين لا جدال فيه . بل أعتقد بعمق في انه طريق فسيح للنهوض والتقدم. أما التدين فهو أفهام الناس لذلك الدين وتطبيقهم لتلك الأفهام ، وهي بطبيعة الحال قاصرة عن بلوغ مراد الخالق ، ومتلونة بطبائع الناس وذهنياتهم المختلفة وثقافاتهم . ولهذا ترى مفهوم التدين في المغرب غيره في مصر أو اليمن أو المملكة أو تركيا أو إيران أو ماليزيا. هذه كلها مجتمعات مسلمة، لكن لكل منها مفهوم خاص وطريقة في التطبيق مختلفة. وورد في الحديث “من بدا جفا” وهو يشير إلى تأثير الظرف الجغرافي أو نمط المعيشة فيه على ذهنية الفرد وسلوكه. من هنا فإن حديثنا لا يتناول الدين ، بل فهم الدين وتطبيقاته. وأزعم أن بعض الأفهام والكثير من التطبيقات معيقة للنهضة.

من بين المعيقات الواضحة نذكر الخلط بين موضوعات الدين (وهي أحكام) وموضوعات العلم (وهي أوصاف وتفسيرات). ومنها التصور العدواني للعلاقة بين المسلمين وسائر البشر. ومنها غياب رؤية عقلانية عن حقوق الإنسان والتعدد الثقافي والإثني .. إلخ. لكن أشد العناصر إعاقة هي انكار فردانية الفرد واستقلاله وكفاءته والتركيز الكامل في قيم الجماعة الدينية على دور الجماعة وكونها محورا للقيمة والاعتبار. وأظن أن غياب مفهوم الفردانية وانكار استقلال الفرد في ثقافتنا الدينية هو جذر للعشرات من أوجه القصور الضعف وتعطيل احتمالات النهضة. الفردانية تعني في المقام الاول حق الاختلاف والتمايز وحرية الفكر ، واحترام المبادرة الفردية ، وهذه من أبرز أركان النهضة. لو تأملت في أنماط التدين السائدة في معظم المجتمعات المسلمة ، فسوف ينكشف لك اتفاقها جميعا في عناصر الإعاقة السابقة الذكر.

9- التدين حولنا في كل مكان ، ومظاهر التدين صارت أكثر وضوحا في كافة أنحاء العالم الإسلامي ، ولكنك تصر أن الدين فقد وظيفته الاجتماعية وأصبح شأنا فرديا ، كيف يكون ذلك وهو يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في الحياة في مجتمعاتنا ؟

** فقد الدين وظيفته الاجتماعية لأنه لم يعد ملكا لمجموع الناس ، بل أصبح حكرا على طبقة خاصة تملك نوعا من السلطة . وهي تستعين بهذه السلطة في فرض مراداتها وآرائها تحت عباءة الدين ، وقد تكون مجرد آراء فردية أو أعرافا وتقاليد لطائفة محددة من الناس. ظهور التدين في كل مكان هو تعبير عن نفوذ الطبقة التي تحتكر الشأن الديني ، وهي بالطبع قادرة على أن تصل إلى كل إنسان حتى داخل بيته . لكن هذا مختلف تماما عن اندماج الدين في الحياة العامة وهدايته لها . لو سألنا اليوم أي مسلم : ماذا يريد الاسلام لمجتمع المسلمين ، فسيجيبك فورا بأنه يريدهم أعلى الناس شأنا بعلمهم وقوتهم الاقتصادية واستغنائهم عن الغير ونفوذهم في نظام العلاقات الدولية . لكن لو نظرنا إلى الواقع فما الذي سنراه ؟. نرى الناس جميعا مؤمنين بالدين ملتزمين بشعائره ، لكن جماعة المسلمين متأخرة عن كل ما يريده الاسلام من ازدهار العلم وقوة الاقتصاد والاستغناء عن الغير والقوة السياسية . فهذا دليل بسيط على الفارق بين مراد الدين وحال جماعة المسلمين المتمسكة به. التفسير الوحيد لذلك هو أن نمط التدين السائد لا يوفر الفرصة الكافية كي تتبلور فاعلية الدين في إطار الجماعة ، وتحديدا في الاتجاه الذي شرحته. سوف استخدم مصطلحا معروفا في بحوث التنمية السياسية وهو “الإجماع” وهو غير الإجماع المعروف عند الفقهاء. وخلاصته أن نمو المجتمع الوطني مشروط بوجود نوع من التوافق الطوعي بين أفراده على منظومة معايير تنظم العلاقة بينهم، تحدد صورة مستقبلهم ، وكيفية العمل المشترك لتحقيق اهدافهم وحل خلافاتهم. هذا الإجماع غائب للأسف بسبب غياب المساواة بين أفراد الجماعة المسلمة ، وغياب حرية الفكر والتعبير والاختلاف ، ومنع النقاش في ما يعتبره البعض مقدسات دينية او أعرافا ضرورية. خلاصة القول أن التدين منتشر في كل مكان ، لكن الإجماع غائب . يمكن للوظيفة الاجتماعية للدين أن تظهر بوضوح في إطار حركة اجتماعية من أجل التقدم ، لكن هذه متوقفة على قيام ذلك الإجماع.

10- تفصل ما بين التراث والدين .. ولكن واقع حال ثقافتنا اليوم يمحو ذلك الخط الفاصل ما بين التراث والدين ، فما هو تراث وثقافة اجتماعية صار دينا لا يمكن مقاربة حدوده الشائكة واختلطت الأصول بالحواشي ، وعملية الفصل تبدو مستحيلة في ظل المناخ الثقافي الذي نعيش فيه .. هل توافقني على ذلك ؟

** يميل الناس في العادة إلى البحث عن تبرير لما يريدون وما يفعلون كي يرضوا ضمائرهم، وكي يحققوا الانسجام بين ما يدّعونه وما يفعلونه. وتجري هذه العملية بصورة عفوية تماما. عملية إضفاء المعنى على الفعل تجري في غفلة . كمثال على ذلك فإن غالبية الناس في بلادنا – وهم جميعا مؤمنون – ينظرون إلى سائقيهم وخدمهم وعمالهم الاجانب كطبقة أدنى منهم ، ويعاملونهم على هذا الأساس ، مع أنهم جميعا يقرأون تعليمات الدين الحنيف التي تؤكد على تساويهم معهم . المثال الآخر في مكانة النساء التي تشير اليها الآية المباركة “المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض” وهي صريحة في أهلية النساء وحقهن في تولي المناصب السيادية في الدولة والمجتمع (ما يسمى في الفقه بالولايات) ، وأن لهن من حرية الاختيار ما للرجال سواء بسواء . لكننا مع ذلك أعطينا الولاية وحق الاختيار للرجل ، وحصرنا دور المرأة في السمع والطاعة . في كلا المثالين أتينا بأعراف أو تقاليد اجتماعية وألبسناها رداء الدين ، لأننا نريدها من جهة ، ولأننا – من جهة اخرى – نريد أن يكون عملنا مبررا ومقبولا .

بالمناسبة فاني لا أرى ضيرا في هذه العملية ، اي إلباس الاعراف والتقاليد والمصالح عباءة الدين . بل أظن أنها عملية طبيعية ستجري سواء احببناها أم كرهناها ، وسواء اعترفنا بها او أنكرناها ، لأن الإنسان يميل بطبعه إلى البحث عن معنى لما يفعل ، هذا المعنى هو قيمة مسبقة يؤمن بها كمعيار للحسن والقبيح . من دون هذا المعنى يشعر الانسان بغربة ما يفعل، وهو لا يفعل الأشياء الغريبة إذا كان مختارا. إن كثيرا مما نصفه بالحسن أو القبيح هو أشياء نرغب فيها أو نبغضها، وقد لا تكون حسنة في الواقع أو قبيحة في الواقع. وفي هذا النطاق بالذات نجد أشخاصا يفعلون أشياء متباينة يراها بعضهم حسنة ويراها الآخرون قبيحة ، ولكل منهم تبريرات هي القيم التي تلقي على الفعل المعنى المراد. إختيار هذه القيمة أو تلك عملية فردية تختلف من فرد إلى آخر أو من مجتمع إلى آخر. كمثال على ذلك فإن تعدد الزوجات يعتبر في بلادنا عملا عاديا ، أو مرغوبا ، بل يعتبر أحيانا من علامات الوجاهة والثراء ، بينما يعتبر في إيران وتركيا مثلا من الأعمال القبيحة ، ومن النادر جدا أن تجد وجيها أو شخصا معروفا يتزوج بأخرى ، لأنه في الغالب سيفقد احترامه بين أنداده من رجال النخبة.

خلاصة القول أن تداخل الأعراف والمصالح والتقاليد مع القيم الدينية هو أمر اعتيادي ولا ينبغي أن يثير القلق. لكن المشكلة تكمن في تناسي الناس للخط الفاصل بين ما هو دين وما هو تقاليد ألبست رداء الدين . التقاليد بطبعها مرتبطة بالزمان والمكان ونظام المصالح الذي تولدت في إطاره، ولهذا لا يصح تجريدها من تلك القيود وتعميمها كما لو كانت دينا. نعرف طبعا ان مبررات الإلتزام بالدين موجودة في داخله ، أما مبررات الإلتزام بالتقاليد فهي موجودة في خارجها ، أي في المكان والزمان ونظام المصالح الذي أوجدها .

11- ترى أن الفقهاء القدماء ساهموا في التباس الدين بالعرف ، وإضفاء صفة القدسية الخاصة بالأحكام الدينية على كثير من العادات وبالتالي تحويلها إلى مقدس ، كيف حدث هذا ؟ وما هي أدلتك عليه؟

** أصل المشكلة في ظني هو الخلط بين الدين وعلم الدين. وقد أشرت سابقا إلى أن الدين هو ما أنزله رب العالمين ، أما علم الدين فهو آراء البشر من علماء ومفسرين ورواة ، وهم جميعا غير معصومين ، يصيبون ويخطئون ، ويتأثرون بما يحيط بهم من مصالح ومشكلات وضغوط ، وما يتوفر في بيئتهم من علوم وثقافات وأنماط حياة. عمل الفقيه أو المفسر أو المفكر ليس منفصلا عن الظرف الذي يعيش فيه.

دعنا نأخذ مثلا الاختلاف في صحة بعض الروايات المنقولة عن النبي (ص): السبب الذي جعلها تنسب إلى رسول الله ، مع أن كثيرا من الفقهاء والأصوليين يشككون فيها ، لسندها أو لمتنها أو لمفهومها . لا بد أن هناك أسبابا في البيئة الاجتماعية ولدت الحاجة إليها، وهناك أسباب مقابلة ولدت الشك فيها ، هذه الأسباب هي أفهام او أفكار بدت لوهلة أنها بديهية أو ضرورية ، لخدمة غرض ديني أو دنيوي . لكن – وبسبب غياب الممارسة النقدية الحرة جرى تثبيت تلك الأفهام باعتبارها قيمة مستقلة قائمة بذاتها . هناك أمثلة على قواعد عقلية أتخذت نفس المسار ، وأقرب أمثلتها قاعدة سد الذرائع التي استدل بها بعض الفقهاء المعاصرين على تحريم قيادة النساء للسيارات. ويريد البعض تثبيت هذا الرأي الفقهي بغض النظر عن الظرف الخاص الذي استدعاه أو المكان الخاص الذي كان يقتضيه. الحكم القائم على قاعدة سد الذرائع يتخذ لحاجة مرتبطة بظرف محدد وليس مستقلا ، ولا يصح تعميمها إلى ما يتجاوز ذلك الظرف.

المثال الآخر هو القاعدة التي يسميها الأصوليون بالتسامح في أدلة السنن، أي الروايات التي تفيد استحباب شيء أو كراهة شيء آخر. غالبا ما يتساهل الفقهاء في التدقيق في الروايات التي تتحدث عن آداب فردية أو عامة ، لأنها لا ترتب إلزامات . لكنها من ناحية أخرى تساهم في صياغة رؤية الجماعة لنفسها وحياتها. من أبرز الأمثلة على ذلك الروايات المتعلقة باللباس والزينة والسلوك الفردي، والتي اختلط فيها ما هو أمر رباني بما هو عرف لجماعة أو قبيلة أو منطقة.

هناك أيضا تصوير الفقهاء السابقين للمصالح والمفاسد. ثمة جدل حول تعريف المصالح ، هل يرجع إلى العرف العام أم هو متروك للفقهاء . في الماضي والحاضر يقدم الفقهاء تعريفاتهم الخاصة للمصالح، والمصالح ويستدلون عليها بنصوص أو قواعد شرعية . لكننا نعرف أن موضوع المصلحة متغير بحسب الزمان والمكان . تظهر المشكلة حين يأتي أشخاص، من أهل العلم أو غيرهم ، في زمن متأخر ، ويسقطون تعريفا قدمه فقيه توفي قبل خمسة قرون ، على مصلحة حاضرة ، لا يجمع بينها وبين سابقتها غير الإسم. ثمة ميل شديد إلى تثبيت الأسماء والعناوين القديمة ، ربما ينبئ عن عجز عن صياغة مفاهيم جديدة منبثقة من حاجات اليوم وشروط البيئة . مثال ذلك مفهوم الحسبة الذي اختصرناه من مفهوم المحاسبة ومنع الظلم إلى مفهوم ضيق قريب مما يعرف في بلاد أخرى بشرطة الآداب. ومثله أيضا مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني حرية النقد في المجال العام ويمارسه جميع أعضاء المجتمع ، وقد ضيقناه إلى وظيفة تقوم بها مؤسسة خاصة تراقب بالتحديد سلوك الأفراد .

هذه الإشكالات ليست نتاج فقهاء اليوم ، بل بدأت منذ زمن بعيد . لكن فقهاء اليوم لم يتعاملوا معها تعاملا نقديا كما يفترض في المجتهدين ، بل أخذوها كمسلمات. ربما لأنها تتناغم مع ما تربوا عليه ، وربما لأن مبدعيها قد ماتوا وتقادم عليهم الزمن ، وقد جرت عادتنا على تقديس ما مضى وتقديمه على ما هو حاضر ، او لأننا غير قادرين على اجتهاد يتجاوز الشكليات والظواهر إلى ما تحتها من مفاهيم أو قيم أو قواعد.

12- تقول أن لكل وقت أسئلته، وأجدني أتفق معك في ذلك ولكن إذا كنا لم نجب على سؤال الأصالة والمعاصرة بعد وهو سؤال أثير منذ اصطدامنا بالغرب وانهزام السيف أمام البارود .. وإذا كنا في زمن ما بعد الحداثة لا نزال مأزومين بثنائيات على شاكلة التراث والحداثة والخصوصية والعالمية ، فكيف نستطيع الإجابة على أسئلة وقتنا ؟ وما هو في تقديرك السؤال الأهم اليوم ؟

** يؤسفني القول أن التحديات التي نواجهها لا تسمح لنا برفاهية الاختيار. نحن نعيش في عالم تبلورت معايير القوة فيه وأصبح الطريق إلى القوة واضحا لكل عاقل. وهناك الكثير من التجارب التي يمكن لنا أن نرجع إليها كي نحدد أولوياتنا ومن بينها تجاربنا الخاصة . في ظني أن علينا انجاز ثلاث مهمات رئيسية ، إذا نجحنا فيها فسوف نشق طريقا سريعا إلى القوة والتقدم:

المهمة الأولى: ترسيخ قيم حقوق الإنسان، وأبرزها احترام استقلالية الفرد وكفاءته وتساويه والحماية القانونية لحرياته الأساسية ، وحقه في المشاركة النشطة في صناعة القرار المؤثر على حاضره ومستقبله.

المهمة الثانية: ترسيخ قيمة العلم والبحث العلمي ، وتطوير نظامنا التربوي والتعليمي كي يساهم في تشكيل بيئة محفزة لإنتاج العلم.

المهمة الثالثة : توسيع قاعدة الانتاج الاقتصادي باتجاه التحرر من الإرتهان لمنتج وحيد هو البترول . ونحن نملك اليوم الموارد اللازمة لتوسيع تلك القاعدة ولدينا الفرص. من أمثلتها الحج والعمرة الذي لا زلنا نتعامل معه كعبء بينما يمكن أن يشكل موردا اقتصاديا عظيما لو تعاملنا معه كفرصة. ولدينا الموارد المالية والبشرية والأسواق التي تشكل أساسا متينا لصناعة ضخمة ومتنوعة.

لقد بدأنا فعليا في اختبار تلك المهمات وظهر لنا فائدتها، ولهذا فإننا لا نبدأ من الصفر ، لكني أشدد على الحاجة إلى التعامل الجاد معها وتكريس الجهود كي نحولها من مسارات ثانوية كما هو وضعها الراهن إلى جوهر العمل العام وغرضه الرئيس لمدة لا تقل عن عقدين من الزمن. أي أن نجعل نجاحنا كمجتمع أو فشلنا مرهون بنجاحنا في انجاز المهمات الثلاث خلال مدة زمنية محددة .

13- تجديد الخطاب الديني قضية تثار منذ زمن بعيد ، وهو دون شك ضرورة إذا ما أردنا النهوض واللحاق بركب الحضارة الحديثة التي نصر على أن نعب من منجزاتها دون قدرة على إنتاجها .. ما هي أبرز المعوقات التي تواجه تجديد الخطاب ؟

** الحياة الدينية للفرد والمجتمع هي جزء من حياته اليومية العادية. عالم الدين بثقافته وتقاليده وحدوده وهمومه تشكل جزء عضويا من روح الجماعة وشخصيتها وسلوكها. ولهذا فإنه يتعسر تجديد الخطاب الديني ما لم يكن هناك مسار تجديد شامل يطال مختلف جوانب الحياة والثقافة . بعبارة أخرى فإن تجديد الخطاب الديني هو جزء من فكرة النهضة الاجتماعية وليس مسارا مستقلا بذاته. بديهي أن مجتمعا ساكنا متخلفا لا يستطيع إنتاج ثقافة حية ومتجددة ولا يستطيع إنتاج علم جديد. نحتاج إلى تجديد حياتنا الاجتماعية كي ننتج ثقافة جديدة ، وأظن أن الشرطين الأولين لتجديد الحياة الاجتماعية هما التطبيق الكامل لمبادئ حقوق الإنسان ، وإصلاح نظام التربية والتعليم.

رجوعا إلى الجانب النظري من المسألة، يفهم تجديد الخطاب الديني على واحد من ثلاثة وجوه ، كل منها يعبر عن نوع محدد من الهموم والاستعدادات :

الأول: تحديث الأدوات والوسائل وطرق العرض ، مع المحافظة على المضمون القديم ، وهذا يشبه إصدار طبعة حديثة لكتاب قديم . وهذا هو منهج التيارات المحافظة التي ترى أن كل ما ورثناه من الماضين طيب ولا ينقصه غير الوسيلة المناسبة للوصول إلى المتلقين، ولهذا فهي تركز على أدوات التوصيل من دون تعديل جديد في المحتوى . مناهج التربية والتثقيف الديني في بلادنا هي أوضح الأمثلة على هذا المسار.

الثاني : إعادة تفسير التعاليم القديمة واستخراجها من حالة السكون إلى حالة الحركة ، أي تحويلها من تعليمات محايدة إلى تعليمات حركية قابلة للتوجيه والاستعمال في الصراع الثقافي والاجتماعي. وهو منهج الحركيين الذين يركزون على توجيه الأفكار المتجذرة في نفوس الناس نحو اتجاه مختلف ، أي تحويلها من ساكنة أو محايدة إلى نشطة ، مثل فكرة الجهاد التي استثمرت كأداة رئيسية لتجنيد الأنصار وصناعة القوة السياسية في الصراع ضد السلطة أو ضد الغرب أو ضد قوى اجتماعية منافسة.

الثالث : مراجعة القواعد والأصول فضلا عن الفروع بحثا عن روح التشريع ، أي الرسالة الداخلية التي يمكن وضعها في صيغ مختلفة بحسب اختلاف الأزمنة والأماكن والموضوعات . وهو منهج المفكرين الذين يركزون على تطوير الفكرة أكثر من اهتمامهم برد فعل الجمهور.

من الواضح أن المنهج الأول هو الأكثر رواجا وهو تعبير عن الرغبة العميقة في الإبقاء على المألوف ، أما الثاني فيرتبط رواجه بالأزمات ، حيث توفر الازمة دوافع قوية لظهور الأفكار الثورية . المنهج الثالث هو منهج الأقلية، لكنه في الغالب المحرك الأقوى للإصلاح الطويل الأمد. إن أبرز الإصلاحات في الثقافة والنظام الاجتماعي هي ثمرة أعمال المفكرين سواء كان نقدا للسائد أو اقتراحا لبدائل.

14- تطالب بالفصل بين الدين والعلم في ذات الوقت الذي تطالب فيه باستئناف المصالحة بين العلم والهوية ، أين يجتمع هذان المطلبان ؟

كما تطالب أيضا بالفصل بين الدين والعلم تطالب بالفصل بين الدين والسياسة ، وتؤكد أن دور الدين في السياسة يقتصر فقط في تقديم القيم والمعايير الأساسية ، وليس نماذج العمل التي تختلف بالضرورة من زمن لآخر ، أليست هذه دعوة صريحة لتبني العلمانية ؟

** المقصود من الفصل بين الدين والعلم هو التمييز بين العلم والحكم. وهما مرحلتان في العمل العلمي ولا بد من الفصل بينهما كي نكتشف الحقيقة . مثاله الرأي الفقهي في عمل البنوك : يمكن أن نبدأ بالحكم فنقول أن أخذ الفائدة على القرض أو دفع الفائدة على الوديعة هو عمل البنك ، وهو يطابق موضوع أحكام الربا الواردة في القرآن الكريم. وهكذا ينتهي الموضوع . وبالعكس من ذلك يمكن أن نبدأ بدراسة عمل البنك ودوره ضمن النظام الاقتصادي القائم ، وطبيعة العلاقة بين رأس المال والعمل والقيمة الاقتصادية لكل منهما ، أي دور كل منهما في توليد القيمة المضافة ، ثم تحديد القيمة الاجتماعية للقيمة المضافة ذاتها ، وهي تختلف بحسب النظام الاقتصادي وتوزيع مصادر المعيشة من جهة ، وبحسب دور المال كمصدر للقوة الاجتماعية والسياسية من جهة أخرى ، ثم نقارن نتائج هذه الدراسة بنظائرها في زمن النص (أي النظام الاقتصادي وحركة رأس المال والعمل وتوليد القيمة المضافة وقيمتها الاجتماعية في ذلك الزمن) . وبناء على هذه المقارنة نبحث في مدى التطابق بين “موضوع” أحكام الربا الواردة في النص و”الموضوعات” المطروحة حاليا. الفارق بين الطريقتين أن الحكم جاء متأخرا في الحالة الثانية إلى ما بعد الدراسة العلمية المحايدة ، أما في الحالة الأولى فقد قدمنا الحكم وأهملنا العلم بالموضوع ، ولهذا فقد خرجنا بنفس النتيجة التي كنا نعرفها سلفا ، أي أننا لم نقم بأي جهد علمي حقيقي.

هناك من يقول اليوم بأن “الفائدة” ليست جوهر العملية الربوية، بل الاستخدام الاجتماعي للمال ، والتوازن بين حصة رأس المال وحصة الجهد الإنساني في توليد القيمة المضافة ، ولهذا فهؤلاء يجيزون القروض التنموية دون الاستهلاكية . والخلاصة أن المسألة بحاجة إلى بحث ولا ينبغي الوقوف عند ظواهر الأشياء والتسرع في الأحكام.

المثال الثاني يظهر في المعالجات الراهنة لمسألة العنف ، سواء العنف السياسي (الإرهاب) أو الجنائي ( المخدرات ، السطو .. إلخ) . التفسير الرائج للعنف السياسي يربطه بالغلو في الدين ويقارنه بحالة الخوارج في العصور الإسلامية الأولى . والتفسير الرائج للعنف الجنائي يربطه بالتفلت من تعاليم الدين وهو يربطه بالإعلام الفاسد وتزايد المال وضعف العلاقات الأسرية ..إلخ .

بدلا من التسرع في اصدار أحكام، نحتاج إلى مراجعة التفسيرات العلمية المتوفرة حول ظاهرة العنف في كلا وجهيها السياسي والجنائي. هذه التفسيرات هي نتاج لدراسات وبحوث علمية ركزت على حالات محددة ، فهي إذن تجربة كاملة ، وأول العلم قراءة التجارب. قد لا نستفيد من ذات النتائج لأنها ربما ترتبط عضويا بالتجربة التي انتجتها ، لكنها على الأقل سوف تنير الطريق أمامنا للبحث في الأسباب المحتملة لهذه الظاهرة . ربما يكون سببها الرئيس اقتصاديا ، وربما يكون سببها تفكك منظومات القيم الاجتماعية ، أو لعل سببها العجز عن التكيف . وربما يكون السبب هو ما قيل أي عجز المعنيين عن استيعاب الصورة الصحيحة للدين ، او ضآلة تأثير التوجيه الديني عليهم . وهذا بذاته يقودنا إلى سؤال: لماذا ، الذي يحتاج الى بحث علمي لا اصدار حكم سريع.

خلاصة الفكرة إذن هي أن العلم (أو الدراسة العلمية للموضوع) هي مرحلة سابقة على تحديد القيمة أو اصدار الحكم الديني . البحث العلمي يجب أن يجري من دون قيود ، وغرضه الوحيد هو الوصول إلى الحقيقة ، وبوسعنا أن نأخذ بهذه النتائج أو نرفضها فيما بعد ، لكننا على أي حال نعرف أننا قد بذلنا جهدا معقولا في فهم موضوع الحكم قبل اصداره.

أما الدعوة إلى المصالحة بين العلم والهوية (والمقصود هو الثقافة الدينية باعتبارها المكون الرئيسي للهوية) فهي ترتبط بذات الأساس السابق. اذكر مثلا أن العالم العربي ابن الهيثم وصف في كتابه “المناظر” معادلة فيزيائية صمم على ضوئها النموذج الأولي للكاميرا في أزمان تالية . وكانت فكرته تدور حول انتقال الضوء والتناظر بين أحجام المرئيات . ولو واصل العرب نشاطهم العلمي لكانت الكاميرا اختراعا عربيا. كان ابن الهيثم رياضيا وعالما في الدين . لكن فقهاء القرن العشرين حرموا التصوير في أول الأمر لأنهم طبقوا النصوص الواردة في صناعة التماثيل على عمل الكاميرا . تحريمهم هذا ناتج عن عدم معرفتهم بالفيزياء وعمل الكاميرا. واصدارهم الحكم مع عدم علمهم هو نتاج لإعتقاد سائد فحواه أن كل شيء وكل جديد يجب أن تحدد قيمته على ضوء ما ورد في الكتاب والسنة. نعرف أن هذا مستحيل لأن النص توقف عند زمن محدد ولا يمكن أن يستوعب كل جديد في الحياة . وحسب رأي الإمام الغزالي فإن النص محدود والموضوعات لا محدودة ومحال أن يستوعب المحدود غير المحدود. فيما بعد جاء فقهاء وقالوا أن عمل الكاميرا هو حبس الضوء وليس النحت أو التمثيل وبناء عليه أجازوا التصوير . ومن هذا وذاك نعرف أن المصالحة بين العلم والهوية تعني على وجه التحديد توضيح الخط الفاصل بين ما هو موضوع اشتغال للحكم الديني وما هو موضوع لعمل العقل والعلم ، ما يدخل ضمن تخصص الفقيه وما يخرج عنه . نحن اليوم نعيش في حال التباس بسبب شعورنا بالحرج من البحث في موضوعات معينة أو علوم معينة ، خشية أن تكون مصادمة في الجوهر أو في العرض للقيم الدينية . نحن في حرج لأن الرأي السائد هو أن البحث في الدين مقصور على من درس كتبا معينة ، في مدراس معينة ، وبطريقة معينة . وهذا يجعل سائر المسلمين من أهل العلم وغيرهم مستبعدين قسرا من النقاش في أمور الدين وما يخص تطبيق قيم الدين في الحياة اليومية. نحن في حرج أيضا بسبب تصورنا أن كل شيء يجب أن يكون قد ورد في الكتاب والسنة أو أن له حكما فيهما. والحق أن أكثر جوانب الحياة تصنف ضمن المباحات أي أنها موضوعات لعمل العقل ، والأحكام التي نصدرها عليها هي أحكام أخلاقية تقوم على معايير عقلية بحتة.

في إطار المصالحة بين العلم والهوية نحتاج إلى تحرير العلم من التصنيف التقليدي إلى طيب وخبيث أو جائز ومحرم ، واعتبار العلوم كلها (بما فيها علوم الشريعة) محترمة ، لكن غير مقدسة ، واعتبار نتائجها مؤقتة وتاريخية لا معصومة ولا نهائية ، وفتح الباب أمام كل عالم في أي تخصص لقول رأيه العلمي سواء جاء مطابقا لما قاله الفقهاء السابقون ، أو ما يقوله فقهاء هذه المدرسة أو تلك ، أو مخالفا لجميعهم . رأي هذا العالم ورأي الفقهاء السابقين والمعاصرين كلها غير مقدسة ، بل هي تاريخية وقابلة للنقد من دون حرج.

15- العلمانية مصطلح سيء السمعة، رغم أن الكثير من المفكرين الإسلاميين يرون أن للعلمانية جذور في عمق الدين الإسلامي؟ ألا ترى أنه حان الوقت لقشع الضبابية المحيطة بهذا المصطلح وتبييضه ليدرك عامة الناس ماهيته ؟

** نحن مصابون بمرض اسمه نقل القوالب والجدل فيها ثم إصدار الاحكام عليها من دون فتحها وتفكيكها . هكذا فعلنا بالعلمانية وهكذا فعلنا بالسيارة أيضا. ألا ترين أن خلاصة علم الميكانيكا عندنا هو استعمال المنتجات المستوردة بدل تفكيكها وإعادة إنتاجها ضمن شروط وحاجات بيئتنا الخاصة . خلاصة ما يمكن قوله هنا أن العلمانية بالمفهوم الراسخ في الثقافة الاوربية نقيضة لثقافتنا وغير قابلة للتنسيج فيها . ونحن لسنا مضطرين للأخذ بكل ما يقوله الآخرون. لكننا بحاجة إلى دراستها والتفكير فيها . نستطيع التمييز بين العلمانية كمذهب أو ايديولوجيا خلاصتها الفصل بين الدين والحياة العامة ، وبين العلمنة أي المسار الذي يؤدي إلى نزع القداسة عن بعض الأحكام ذات المصدر الديني وتحويلها الى أعراف مفتوحة لتصرف البشر. من ذلك مثلا تحويل بعض الأحكام الشرعية إلى قوانين وطنية تطبق باستعمال قوة الدولة ، فيطيعها الناس خوفا من العقاب الدنيوي أو رغبة في المكافأة المادية ، لا رغبة في طاعة الله ورضاه . هذه القوانين دنيوية أو علمانية (بحسب بعض التعريفات) رغم أن مصدرها ديني. يمكن أن نفكر في العلمانية كتجسيد لاستقلال العلوم وتمايزها عن بعضها فثمة علوم دينية وثمة علوم غير دينية مثل العلوم الطبيعية والتجريبية والرياضيات والفلسفة الخ ، فهذه يمكن أن توصف بالعلمانية لتمييزها عن العلوم الدينية .

أخيرا يمكن أن نفكر في العلمانية في صورة فصل “المؤسسة الدينية” عن “مؤسسة الدولة” ، وجعل الإيمان أهليا اختياريا للأفراد لا قسرا عليهم ، وإقامة قوانين الدولة على أرضية المصلحة العرفية لا على أساس النص الديني ، وجعلها بالتالي موضع نقاش ونقد بين العامة لا مقدسات يحرم الكلام فيها. أو يمكن التفكير في الفصل بين الحكم الديني والعلم الديني ، الحكم الديني واجب الطاعة أما العلم الديني فهو قابل للنقد والمعارضة.

خلاصة القول أن مفهوم العلمانية ليس قالبا نهائيا ، وليس الغرض من الكلام فيه هو دائما إبعاد الدين عن الحياة العامة . في كثير من الحالات يكون هدف النقاش هو تخفيف الأعباء التي حملت على كاهل الدين وأثقلته بما ليس منه . وتقديم الدين للمؤمنين كسبيل للحياة والتقدم لا كقيد في أيديهم وعلى عقولهم . لكن لا شك أن مفهوم العلمانية السائد في الغرب لا يتناسب مع معتقداتنا الدينية. وبالمناسبة فقد نشرت كتابا مشتركا مع خمسة باحثين بعنوان “الديمقراطية في بلد مسلم” ، وهو عمل تجريبي يستهدف اختبار العلاقة الممكنة بين ما نعتبره دينيا وما يعتبره الغرب علمانيا ، وركزت هذه المحاولة على الصور الممكنة للتقريب بين قيم الدين ومبادئ الديمقراطية ، وهو يقدم شروحات مفصلة حول الاحتمالات الممكنة للجمع بين الطرفين.

16- لا يمكن أن نتقدم دون ممارسة النقد الذاتي ولكن هناك عقبات كثيرة تقف أمامنا .. ما هي في تقديرك أبرز هذه العقبات ؟ وكيف نعيد تفعيل قيمة جهاد النفس وربطها بالنقد الذاتي ؟

** أبسط صور الممارسة النقدية هي أن يقول كل رأيه في النقطة المحددة من دون سعي إلى اقناع الطرف الثاني بهذا الرأي ، أي يخلق خيارا جديدا ويترك للأخرين حق الاختيار . النقد الموضوعي هو الذي يتوجه إلى الفكرة المطروحة للنقاش ويغض الطرف تماما عن صاحب الفكرة . نحن نفتقر إلى النقد لأننا نفتقر إلى النقاش العلمي . النقاشات عندنا قليلة جدا ، ومعظم هذا القليل يتناول الأشخاص ويساجل دفاعا عن الذات. الناقدون يضعون نصب عينهم اسم صاحب الفكرة وانتماءه الايديولوجي أو السياسي أو الجغرافي (وأحيانا الاثني) وينظرون إلى آرائه من خلال هذه الزوايا . لهذا تجدهم يحتفون بأفكار بسيطة وأحيانا ساذجة لأشخاص معينين ويحتقرون أفكارا عظيمة لأشخاص آخرين.

في بلادنا كثير من المفكرين وأصحاب الآراء الناضجة. لكنهم صامتون خوفا من الأذى أو بسبب ضيق المساحة المتوفرة للتعبير الحر عن الرأي. في الصحافة نعاني من تضخم في الرقابة وارتياب من جانب الرقباء وانعدام تام للمعايير المكتوبة التي على ضوئها يسمح أو لا يسمح بالنشر. لدينا إذن مشكلة الافتقار إلى اطارات قانونية ومؤسسية تضمن حرية التعبير وتحمي أصحاب الآراء من العسف والتحكم. لدينا أخيرا مشكلة الخلط بين الرأي والدعوة. فريق من النخبة ينظر إلى الراي كأمانة ومسؤولية، ويطالب الكتاب بأن لا يقولوا شيئا يخالف قواعد راسخة أو أعرافا جارية أو متبنيات لهذا الفريق أو ذاك. ويبرون هذه المطالبة بأن القلم أمانة وأن الصحافة المنشورة تؤثر على أفكار الناس وعقولهم ، وهم لا يريدون للناس أن يعرفوا شيئا سوى ما هو مؤكد الصلاح.

في رأيي أن هذه المبررات وتلك المطالبات كلها سقيمة لا تصلح ولا تصلح. الرأي ليس أمانة بل إعلان عن معرفة قد تتفق مع المتعارف أو تتمايز عنه. ووظيفة الكاتب ليس اصلاح الناس بل التفكير والتعبير عن أفكاره. والناس ليسوا دجاجا في حظيرة كي نتحكم في الغذاء والهواء الذي يصل إليهم. أول العلم هو حرية التعبير والنقد والاختلاف . وليس ثمة طريق للتقدم والاصلاح من دون حرية النقد ، وأعني الحرية المطلقة التي لا تحدها قوانين ولا قيود ولا حكام ولا أعراف ولا مجاملات.

17- تطرح قضية التفكير في الذات وأهميته وتحليل الأمور وتفكيكها وعدم قبولها على علاتها أو ما يسمى بالعقلية النقدية ، ولكن كيف يتكون العقل النقدي ومنظومتنا التعليمية قائمة على آلية التلقين والقولبة ، وإعادة إنتاج الآت تحفظ ولا تفهم وتستظهر ولا تفكر ؟

** حين نتحدث عن الذات، فإن جوهر حديثنا يتعلق بفهم الذات ، وقدرة الفرد على أن يفكر في ذاته من دون أن يتأثر بتصوره المسبق حول هذه الذات. وهو ما يعرف في الفلسفة باسم الذاتانية او subjectivity . ينطوي هذا النقاش على أسئلة عديدة ، بعضها ضروري كي يحدد الفرد مكانه في العالم . لعل أول الأسئلة وأبسطها هو سؤال العلاقة بين الفرد والجماعة : هل أنا فرد مستقل بذاته ، مستقل بعقله وفكره ، قادر على التعبير عن ذات خاصة غير ذائبة في المجموع . أم أنا نقطة في بحر المجموع ، مجرد كسر يكمل الرقم ، أو امتداد لواحد من ألوان اللوحة . هل أصنع هويتي الخاصة أم أرثها او استعيرها من الهوية الجمعية . هل أنا الذي أصوغ حياتي ورؤيتي وتطلعاتي ، أم أنا منساق فيما صاغه غيري من أسلوب حياة أو رؤية للعالم أو تطلعات؟ هل أنا هنا لأني قررت أن أكون هنا ، أم لأن الأقدار ساقتني إلى هذا المكان ؟. هل أحمل هذه الرؤية لأنني توصلت إليها بعقلي الخاص ، أم لأن عائلتي أو مدرستي أو مجتمعي زرعوها في عقلي؟ . هل أنا أنا لأني أردت ذلك أم لأن غيري قرر لي أن أكون كذلك؟.

حين تطرح هذه الأسئلة على بعض الناس ، فإن جوابهم السريع – والمتوقع – سيكون : حسنا .. الفرد مستقل وهو في الوقت نفسه جزء من الجماعة ، لديه هوية فردية وأخرى عضوية. واذكر كتابا قديما للأستاذ محمد قطب حاول فيه مناقشة المسألة ، وتوصل في ختام تلك المناقشة إلى هذه التسوية التي يعرفها جميع الناس حتى لو لم يناقشوا الامر. نحن نعرف بالبديهة أن الفرد لا يعيش في فراغ بل وسط جماعة . لكننا نتكلم عن جانبين مختلفين: الأول هو الحدود الفاصلة بين ما هو فردي وما هو جمعي ، والثاني أرضية النقاش هل هي استقلال الفرد أم محورية الجماعة. إذا قلنا باستقلال الفرد فيجب أن نقر بوجود مجالين متمايزين في الحياة الاجتماعية: المجال الخاص والمجال العام . المجال الخاص حريم شخصي للفرد ، يمارس فيه رغباته وحرياته المطلقة وإراداته الخاصة ، ولا يجوز خرقه أو الحكم أو التحكم فيه أو إصدار القوانين أو تحديد الحركة ضمنه من جانب أي طرف ولأي مبرر. الحريم الشخصي هو المكان الذي يتمتع فيه الفرد بوجوده الإنساني الخاص ، الذي قد يتوافق وقد يختلف مع الغير. خلافا للمجال العام الذي يمثل نطاقا مشتركا بين الناس ، ولذلك فهو مجال اشتغال الإرادة الاجتماعية والقوانين والسلطات والأعراف والتوافقات .. إلخ. ويترتب على القول باستقلال الفرد توفير الحماية القانونية لحقه في مخالفة الجماعة ، وعدم إيقاع عقوبات رجوعا إلى أعراف أو توافقات أو قناعات جمعية ، إلا إذا حددت سلفا في القانون العام.

هذه الأسئلة هي المنطلق في تحديد فلسفة التربية والتعليم . نظامنا التعليمي اليوم يدور في الجوهر حول نقل الموروث الثقافي والتجربة الاجتماعية إلى الجيل الجديد ، فهو إذن يركز على التواصل والاستمرارية بين الأجيال ، ولا يهتم إلا نادرا بالتغيير أو القفز على الفواصل الزمنية. الطريقة المتبعة هي ذات الطريقة المعروفة في الكتاتيب القديمة ، أي شرح النص وإقناع الطالب بأن هذا النص هو إطار الحقيقة وحدودها. وهذه الطريقة سائدة في تعليم العلوم الإنسانية والعقيدة وفي تعليم العلوم الطبيعية والتجريبية وحتى الرياضيات. فلسفة التربية والتعليم في بلادنا تستهدف إذن إنتاج نسخ جديدة عن الجيل القديم مع القليل من التعديلات.

إذا أردنا إنتاج جيل مفكر ومنتج للعلم ، فنحن بحاجة إلى تربية عقل شكاك ومتسائل ، عقل متمرد على الأطر والموروثات. عقل يتطلع إلى كشف الغيب وليس الوقوف أمام جدرانه ، عقل يؤمن بالغيب ، أي بوجود عالم وراء المشهود والمعروف والمتفق عليه. الإيمان بالغيب هو إيمان بوجود أوسع من الوجود المرئي والمشهود ، وأن الإنسان مكلف وقادر في الوقت عينه على الوصول إلى ذلك العالم إذا خرق جدار الغيب ، أي إذا فكر وجرب وتأمل في الأشياء وحاول عبور السطح الظاهر إلى ما تحت السطح من خفاء.

العقل المفكر والعقل المتسائل والعقل الشكاك يحتاج إلى بيئة تسمح بالاختلاف، وتقدر المبادرة الفردية ولو كانت مخالفة للسائد. نحتاج إذن إلى فهم الذات باعتبارها حرة مستقلة، قائمة بذاتها ، شجاعة في إبداع الجديد ، لا مجرد “صامولة” في آلة ضخمة اسمها المجتمع ، وظيفتها الوحيدة هي تسهيل عمل الآلة أو تكميل ألوان اللوحة.

18- لاحظت في كتابك ( الحداثة ضرورة دينية ) أنك لا تفصل بين التحديث والحداثة ، ألا ترى أننا نحتاج لهذا الفصل والتفريق بينهما لنعي أن ما حدث في عالمنا العربي هو تحديثات دون تبني للأساس المعرفي القائمة عليه وهو الحداثة ؟

** الحداثة هي تيار في الفكر الانساني ظهر في القرن السابع عشر الميلادي ، ويدور بمجمله حول فهم جديد لثلاثة عناصر متفاعلة: الانسان الفرد ، الزمن ، العلم. الإنسان – عند الحداثيين – هو محور الكون وهو غايته ونهايته. كل شيء من صنع الإنسان وكل شيء غرضه تحسين حياة الإنسان. الزمن – عند الحداثيين – هو الحاضر والمستقبل ، أما الماضي فهو مجرد مخزن للأفكار والمعلومات يرجع إليه الإنسان متعلما لا مستفتيا . أما العلم فهو المعرفة الناتجة عن الفحص والتجربة والنقد وإعادة التجريب في إطار منهجي يسمح بالتفنيد والتعديل. ولا يوجد عندهم علم معصوم. كل ما ليس قابلا للنقد أو التفنيد فليس علما ، بل ميتافيزيقا تقبله أو ترفضه بحسب إرادتك بغض النظر عن دليله . تركز دعوى الحداثة على قابلية الإنسان لصياغة ظرفه الحياتي وتطوير بيئته والسيطرة عليها اعتمادا على المعرفة العلمية والتجربة والاستخدام السليم للتقنيات التي يطورها لحل مشكلاته. تدعو الحداثة إلى اختبار كل وجه من وجوه الحياة الإنسانية لكشف سبل التقدم وما يعترضها من معوقات وتطوير حلول علمية لإزاحتها. وهي أخيرا تنبذ السكون، وتركز على التغيير المتواصل باعتباره الطريق الطبيعي للارتقاء ، وترحب بكل مختلف عن السائد باعتباره نافذة محتملة على مستقبل أفضل.

وبالمقارنة فان التحديث هو العمل الهادف الى إرساء القيم الأساسية للحداثة في الحياة الاجتماعية، أي التأكيد على محورية الإنسان الفرد كسيد للكون ، وهدف للتشريعات ، وصانع للحياة . والتركيز على العلم كأساس لاتخاذ القرار في المجالين الفردي والاجتماعي . والنظر إلى الحاضر باعتباره أعلى قيمة من الماضي وأكثر كمالا ، واعتباره النطاق الأساس لكل الجهود التي غرضها صياغة المستقبل.

من الناحية المبدئية نعتبر الحداثة مرحلة متطورة في تاريخ الإنسانية وسعيها للإرتقاء . لكنا لا نأخذها كقالب جاهز . بل نتعامل معها تعاملا نقديا ، وهدفنا هو إعادة إنتاجها ضمن الشروط المادية والثقافية الخاصة بمجتمعاتنا . قد نقبل بعض أجزائها ونرفض الآخر ، وقد نقدم بعضها ونؤخر الآخر أو نعدله . في كل الأحوال نعتبر الحداثة “معرفة” و “تجربة” مفتوحة لأي جهد إنساني ، بغض النظر عن الإطار الحضاري الذي ظهرت فيه وتطورت .

التعامل الانتقائي مع الحداثة يختلف عن التعامل النقدي . في التعامل الانتقائي يقتطع الإنسان أجزاء وينقلها ، وهذا هو الجاري في المجتمعات العربية . فنحن ننقل نظم البناء الغربية كما هي ، وننقل التقنيات المختلفة وننقل النظم الاقتصادية والمالية من دون تعديل . أما الذي ندعو اليه فهو إعادة إنتاج الحداثة ، أجزاءها أو مجموعها ، ضمن الشروط الثقافية والمادية الخاصة بنا . إعادة الانتاج تأتي ضمن قراءة نقدية تتعلق بقيم الحداثة نفسها وبموضوعات اشتغالها المقترحة في آن واحد. في الاقتصاد مثلا نحن ننقل قوانين عمل تطورت في إطار فلسفة اقتصادية- اجتماعية مختلفة ، وقد لا تلبي حاجاتنا ، لا سيما بالنظر إلى الفارق الكبير في الثقافة وفي مستوى النمو بين مجتمعاتنا والمجتمعات الصناعية . كان من الأفضل لنا أن ندرس علم الاقتصاد من جهة وندرس حاجاتنا من جهة أخرى، فنعدل قوانين العمل تلك أو نبتكر بدائل كي تستوعب وتلبي هذه الحاجات لا أن ننقل نسخة كاملة عن البنك الأوربي والبيروقراطية الأوربية ..إلخ. خلاصة القول أننا بحاجة إلى إنتاج حداثتنا الخاصة ، ويمكن أن تكون القراءة النقدية للحداثة الاوربية هي الخطوة الأولى في هذا الطريق.

19- علاقتنا بالغرب كانت ولازالت علاقة شائكة وأنت تطالب بالانفتاح على الثقافة الغربية ، وترى أننا ندور بين فشلين فشل في الإتباع وفشل في الإبداع ، وأن الخروج من هذه الدائرة لا يكون إلا بإعادة الإنتاج من خلال العلاقة النقدية .. كيف السبيل إلى ذلك إذا كان مثقفونا أنفسهم إما مستلب للغرب وإما ناقم عليه ؟

** علاقتنا مع الغرب هي واحدة من نقاط التأزم البارزة في تاريخنا المعاصر . نحن نكرهه ونرغب فيما عنده. نتألم من هيمنته ونخشى من الانفكاك عنه. نطالبه بالعدل معنا ونتجاهل قيامنا بالعدل فيما بيننا. وهناك إضافة إلى هذا هيمنة السياسة على تصورنا لهذه العلاقة . فكلما تحدثنا عن الغرب قفزت إلى واجهة الحديث صورة الدولة القاهرة المهيمنة . وباء السياسة جعل النقاش الموضوعي مستحيلا. وجعل كل متحدث عن فضائل الغرب غبيا أو مشبوها.

لا نتكلم عن الغرب بالمفهوم الجغرافي، بل بالمعنى الثقافي والزمني. نحن بعبارة أخرى نتحدث عن التجربة وأرضيتها الفلسفية والمعرفية، سواء جرت هذه التجربة في بريطانيا أو اليابان أو في مصر أو السعودية أو أي مكان آخر. الغرب الثقافي والحضاري هو رمز لمرحلة تاريخية هي الأخيرة في تاريخ البشرية وسعيها المتواصل من أجل التقدم وتسخير الموارد التي أودعها الله في الكون وطلب من عباده استثمارها “هو أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها”. فإذا أردنا النهوض فإن نقطة البداية هي استيعاب ما وصل إليه الغربيون ، وفهم مصادر القوة التي قادت إلى هذه الحضارة أو تولدت في إطارها ، ثم العمل على إعادة إنتاجها ضمن نسيجنا الثقافي الخاص وتبعا لحاجاتنا ومصالحنا الخاصة . بين أبرز مصادر القوة التي كشفت عنها تجربة الغرب ، أشير إلى التفكير العلمي والعقلاني ، وإنتاج العلم ، والإبداع في مجال الاقتصاد ، وتمكين المجتمع من المشاركة الفاعلة والمؤثرة في صياغة الحياة العامة والمستقبل. وأمامنا أمثلة قريبة مثل كوريا الجنوبية التي بدأت بتقليد الصناعة الغربية وهي اليوم تنافسها في عقر دارها . وقبلها اليابان وسيأتي في السنوات القليلة القادمة مثال الصين ، وبينهما تجارب عديدة من ماليزيا إلى البرازيل. في كل هذه الأقطار جرى التركيز على الإنسان باعتباره منتج العلم والمدنية . ونحن اليوم نشكو من أن النشاطات التي تسمى تنموية تركز على الأشياء وتهمل الإنسان . فنحن نفتقر إلى إجماع حول محورية الفرد وحول حقوق الإنسان ولا سيما حرية التفكير والتعبير ، كما نفتقر إلى التربية المدرسية التي تبني العقل العلمي والتفكير العقلاني ، وأخيرا نفتقر إلى الإطارات القانونية والمؤسسية التي تسمح بمشاركة الأفراد في صياغة النظام الاجتماعي الذي يعيشون فيه والمستقبل الذي يسعون إليه. يمكن لنا أن نتعلم الكثير من التجربة الغربية ، نتعلمها ثم نطور تجربتنا الخاصة التي قد تكون مرحلة موازية وقد تأتي بمستوى أرقى مما وصل إليه الغربيون. لكن في كل الأحوال لا يمكن الابتداء من الصفر ، ولا يمكن اغفال تلك التجارب القيمة ، سواء أحببناها أم كرهناها .

سيرة ذاتية

توفيق السيف

مواليد 1959

درس اللغة العربية والفقه وأصوله في العراق وايران والكويت

حاصل على ماجستير الفلسفة في الشريعة الإسلامية

دكتوراه في العلوم السياسية – لندن

شارك في دورات دراسية مختلفة في الفلسفة والإدارة والاقتصاد والقانون وحقوق الإنسان والعلاقات العامة والإعلام.

نشر عددا من الكتب منها :

*هوامش نقدية على واقعنا الثقافي ، دار الكنوز الأدبية – بيروت 1996م (مقالات في نقد الثقافة العامة)

*ضد الاستبداد، الفقه السياسي الشيعي في عصر الغيبة، المركز الثقافي العربي، بيروت 1999 (دراسة في رسالة فقهية حول الدستور ودور المجتمع في السياسة مع ترجمة لنص الرسالة)

* الإسلام في ساحة السياسة ، دار الجديد ، بيروت 2000(مقالتان في حق الاختلاف)

*نظرية السلطة في الفقه الشيعي – المركز الثقافي العربي، بيروت 2002 (دراسة فقهية نقدية لنظرية السلطة والولاية عند فقهاء الشيعة واقتراح بدائل)

*الحداثة كحاجة دينية – الدار العربية للعلوم 2007 (تفصيح للأسئلة حول الحاجة الى الحداثة)

*الديمقراطية في بلد مسلم ، أطياف للنشر والتوزيع 2007م. (نقاشات فلسفية حول امكانية بناء الديمقراطية في اطار ديني – مشترك مع 5 مفكرين ايرانيين)

* Islamic Democracy and its Limits, Saqi Books, London 2007 (رسالة دكتوراه – بحث سوسيولوجي في امكانية التقدم نحو الديمقراطية من دون علمانية – دراسة حالة – ايران 1979-2005)

*الاستبداد وحكم التغلب في البلدان العربية – مشترك مع كتاب اخرين – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت.

يكتب مقالة اسبوعية صحيفة عكاظ (الاربعاء). والايام البحرينية (الخميس).

كتب سابقا في جريدة اليوم ، الرياض ، الراي العام الكويتية.

نشر عددا من المقالات العلمية في فصلية الكلمة

شارك في برامج اذاعية وتلفزيونية متعددة تتضمن مقابلات ومناقشات او تعليقات.

عضو في مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت ، منظمة العفو الدولية – لندن

يجيد اللغتين الانكليزية والفارسية.

أجري هذا الحوار لدورية الآطام التابعة لنادي المدينة المنورة الأدبي الثقافي

المصدر: http://amalzahid.wordpress.com/page/3/

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك