العلمانية بين الفكري والسياسي

أنس زاهد

العلمانية واحدة من المصطلحات المفخخة التي يتم اختزال دلالاتها في الجانب السياسي بعد منحها صفة معاد للدين . وهي صفة تستخدم للإدانة أي أنها لا تصلح للاستعانة بها عند التصدي لتعريف المصطلح بشكل موضوعي.

لكي نفهم العلمانية جيدا يجب علينا أن نعود إلى تاريخها كمنهج فكري حاول وضع حد لاستبداد مؤسسة الكنيسة معرفياً بالدرجة الأولى، وسياسياً بالدرجة الثانية.

العلمانية بوصفها منهجاً فكرياً ظهرت كاستجابة طبيعية لحاجة العلم إلى التحرر من المنظومة المعرفية الكنسية المغلقة على الفرضيات الغيبية والتصورات اليقينية. وعندما أقول منظومة معرفية، فإنني لا أعني الجانب المتعلق بالحياة الروحية للفرد والمجتمع، وإنما أقصد مجموعة الأفكار المسبقة والتفسيرات الإطلاقية للواقع المتغير، سواء فيما كان يتعلق بالقوانين المسؤولة عن حركة الكون، أو تلك المسيرة للفرد والمجتمعات البشرية.

المنظومة المعرفية الكنسية المغلقة على الفرضيات الغيبية والقراءات الاطلاقية والتفاسير اليقينية، لم تقدم نفسها باعتبارها الدين نفسه وحسب، ولكنها صادرت حق العلم في البحث والاكتشاف، ومن ثم العمل على تسخير المعطيات الكونية لخدمة الإنسان. ولعل أوضح مثال على ما قلته آنفاً، هو ذلك العنت الذي أبدته المؤسسة الكنسية في رفض ما اتضح بعد ذلك أنه حقيقة علمية لا مراء فيها، والتي تمثلت في دوران الأرض حول الشمس لا في دوران الشمس حول الأرض.

هذا الاشتباك بين المنظومة المعرفية للكنيسة وبين حاجة العقل للاستعانة بالمنهج العلمي للتعامل مع الكون والواقع عموما، هو الذي أدى إلى ظهور العلمانية كمنهج فكري نازع للقداسة عن الأفكار الإطلاقية التي تستند إلى الفرضيات الغيبية لتفسير الواقع. وهو ما لا يمكن أن يدخل في نطاق إنكار الغيب نفسه كما يعتقد البعض.

ما سبق يوضح أن أي تعريف للعلمانية لا يأخذ بعين الاعتبار تاريخ التطور المعرفي في القارة الأوروبية وفي الثقافة الغربية عموما، هو أقرب إلى أن يكون حكما مسبقا من أن يكون تعريفاً علمياً يتسم بالموضوعية والتجرد.

لكن ماذا عن العلمانية في بعدها السياسي..؟

التعريف الأكثر رواجاً في الوطن العربي لمصطلح العلمانية هو: فصل الدين عن الدولة، أو فصل الدين عن الحياة العامة. وهو تعريف غير دقيق من الناحية العلمية لأنه يتجاهل الظروف التاريخية والبيئة الاجتماعية والثقافية والمعرفية التي أدت إلى ظهور العلمانية كمنهج فكري، بالإضافة إلى تجاهله دور العلمانية في التطور المعرفي الذي أدى الى التقدم العلمي الهائل الذي حدث في الغرب عقب العصور الوسطى مباشرة.

في الجانب السياسي، لم تكن الدولة العلمانية تعبر عن نزعة مضادة للدين كما يحاول الكثيرون تبسيط أو تسطيح الظاهرة العلمانية التي عبرت ولا زالت تعبر عن نفسها من خلال نموذج الدولة المدنية. وإذا كانت الدولة المدنية تناصب شيئا ما العداء، فإنها تفعل ذلك في مواجهة النزعة الفاشستية القائمة على الاقصاء والتمييز سواء كان عرقيا أم عقائديا، وليس في مواجهة النزعة الدينية أو نزعة التدين نفسها.

الدولة المدنية التي تعتبر منتجاً علمانياً صرفا، هي ليست نقيضا للدولة الدينية وحسب كما يعتقد كثير من المستسهلين والاختزاليين الذين تعودوا على تصنيف الدول والأنظمة السياسية إلى قسمين: الأول ديني والثاني لا ديني. ولو كان هذا الاختزال المخل صحيحا لكانت الدولة الشيوعية والدولة الفاشستية جزءا لا يتجزأ من النماذج التي ينطبق عليها تعريف الدولة المدنية.

مصطلح الدولة الفاشية الذي يعتبر النقيض الموضوعي للدولة المدنية، لا يشتمل فقط على الدولة الشيوعية ذات الخلفية الإلحادية والدولية القائمة على التمييز والتي تدعو إلى التطهير العرقي، ولكنه يشمل كل الدول التي تقوم على التمييز واضطهاد المختلف، بما في ذلك بعض النماذج الدينية للدولة، ومنها النموذج الطالباني في الحالة الإسلامية.

الدولة المدنية باختصار هي نقيض الدولة الفاشستية، والنموذجان السابقان – المدني والفاشي – لا يمكن فهمهما\ خارج إطار تاريخ التطور التاريخي والمعرفي والسياسي للقارة الأوروبية.

المصدر: http://amalzahid.wordpress.com/page/3/

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك