عبثية الشخصنة في صراع الأفكار

أمل زاهد

أرى أنه من المستحيل هز القناعات وتفكيك المفاهيم النمطية القارة في العقول عبر الشخصية  والتبخيس أو السخرية !.. فالقضية أعمق من ربطها بأشخاص بعينهم يتم تناولهم بمعاول السخرية ، أو إطلاق سهام الكلمات العدائية والأوصاف المتشجنة عليهم لكسر هيبتهم !. كما لن يجدي كثيرا حتى توجيه فوهة المدفع على أخطائهم وتناقضاتهم لتقويض فكر التشدد وهدم مقولاته !.فتناول الأمر من باب الشخصنة والتسقط وتصيد الأخطاء لن يحلحل إشكالية الفكر المتشدد بل سيساهم بتغذيته ورعايته، وسيقوي من تشبث مريديّ الواعظ بأفكاره، بتصويره لهم على هيئة المظلوم ” المستهدف” الذي تأتيه نبال التقصد من كل جانب . وهنا سيغمض المريد عينيه حتى عن الأخطاء والتناقضات التي قد يكون لمسها ورآها رأي العين ، وسيستأسد للدفاع والمنافحة عن فكر شيخه وسيجد له المبررات والمسوغات ! نتيجة لذلك لن يجد من يشخصن القضايا أرضا خصبة لبذر أفكاره إلا عند من يشابهه أو يماثله ، ولن يستطيع رمي حجر السؤال في عقلية نمطية أو ذهنية تتمترس وراء مقولات الممانعة ، فالشخصنة تجرد المرء من الموضوعية والتحيز الفج يعريه من مصداقيته .

وهكذا يختزل المشهد للأسف في الصراع بين الأشخاص وتياراتهم ، واستهدافهم بعضهم بعضا في تأزيم للأجواء المحتقنة أصلا بالتصنيفات والحروب الشعواء والاتهامات والتفسيق والتبديع من جهة والاستعداء والتحريض على إخراس المخالف من الجهة الأخرى ، بدلا من الصراع المشروع بين الأفكار والتجاذب والتدافع الصحي بينها ، لتثبت النافعة منها قدرتها على البقاء والاستمرار بما تتضمنه من فائدة للإنسان وقدرة على مواكبة واقعه والإجابة على أسئلة عصره ومواجهة تحدياته .

ناهيك أن ربط إشكالية التشدد بأشخاص فقط وهدر سياقاتها السياسية والثقافية يسطح القضية ويسذجها ويزيف الوعي ، فبنية الفكر المتشدد لم تسقط علينا كسفا من السماء ، بل فُتح المجال لها لتتغول وتتسيد وتبرمج العقول عبر أقنية متعددة -على رأسها التعليم- ردحا طويلا من الزمن نتيجة لاعتبارات ومصالح سياسية آنذاك . وفي واقع الأمر لم تكن الصورة وردية تماما أو بذلك الزهو والإشراق أيضا قبل ما سمي بالصحوة ، وإن كان المجتمع قبلها أكثر تقبلا – نسبيا – للاختلاف ومفردات التحديث ، كونه كان متخففا من ثقل الإيدلوجيا متحررا من حمولاتها -إلى حد ما- مما جعل تصرفاته وسلوكياته أقرب للتلقائية والعفوية مع المرونة اللازمة لتدوير المصالح . حتى الموقف من المرأة لم يكن أيضا بذلك الإشراق قبل الصحوة ، فغني عن الذكر مالقيه تعليم المرأة من ممانعات تشي بحقيقة الموقف من المرأة والمهاد الثقافي لرفض تعليمها والتي وثقها الدكتور عبد الله الوشمي في كتابه الجميل ( فتنة القول بتعليم البنات ).

فقد كان لبنية التشدد المهمشة للمقاصد الكبرى للشريعة حضور في موروثنا الثقافي والأفهام الدينية ( البشرية ) المتعاقبة للنصوص، كما كانت هناك تمظهرات للتدين الشكلاني والتمسك بالتفاصيل القشورية منذ بداية نشوء المدارس الفقهية وتأثرها بالسياقات والصراعات السياسية الكائنة ذلك الوقت وبذلك همشت القيم الجوهرية كالحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة . وفي قناعتي أن خاصية التشدد موجودة في كمون وخمول داخل الجسد البنيوي للفهم الديني ، حتى تأتيها اللحظة البرجماتية المواتية لتوظيفها وتمكينها من التسيد والهمينة والظهور من جديد ، وهنا لابد من العودة إلى جذر الأمر وأصله في الموروث الثقافي إذا ما رمنا تفكيكا للفكر الذرائعي المضيق لدائرة المباح .

تقويض الفكر المتشدد وهدم مقولاته وتفتيت أدبياته لن يتأتي إلا بفتح الباب على مصراعيه لفكر وفهم ديني مغاير، يقارعه وينازله وينحت تراكماته في الذهنيات وماران منه على العقول مما يتطلب عملا طويلا واشتغالا دؤوبا وتمكينا لهذا الفكر ودعما رسميا له على كافة الأصعدة التعليمية والإعلامية والثقافية والاجتماعية. والتخلص من إرث الأحادية وعدم تقبل الاختلاف والمفاهيم النمطية المعيقة للنهضة لا يكون إلا عبر الفكر ، والحفر العميق والهاديء في البنى الفكرية والأنساق الثقافية ، والسماح للأفكار الجديدة الشجاعة بالتحرر والخروج من معاقلها ، وذلك بتشجيع حرية التعبير عن الرأي بعيدا عن الحجر على الأفكار والتخويف من تداول ماهو خارج عن السائد من الفهم الديني ” البشري ” ، وبعيدا أيضا عن الحجر على الفكر المخالف الذي يجب أن يجد القناة المدنية للتعبير عن رأيه حتى لا يحتقن المجتمع حفاظا على السلم الاجتماعي .

تجديد خطابنا الديني هو اليوم من ألزم اللزوميات ليس فقط للخروج من إشكالية التطرف والارهاب والدعوة للنفير العام والتجييش والتحريض المذهبي وإقحام شبابنا في حروب بالوكالة ، بل لإحياء روح النهضة في الدين واللحاق بركب العصر والانعتاق من أسر التخلف، ولحماية الأجيال الجديدة من الموجات الإلحادية التي تجد بيئة خصبة عند شباب سئموا من خطاب لا يواكب زمانهم ولا يجيب على أسئلتهم الملحة ، وملوا من إغراقهم في الماضوية وجدليات تجاوزها العصر ، مما يجعل منهم لقمة سائغة لمن يستهدفهم ومجرد ردود أفعال فاقدين للحصانة والمناعة الذاتية !

المصدر: http://amalzahid.wordpress.com/page/2/

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك