الحماسة «المفرطة» قادت التائب لـ«المجهول»

يوسف الديني



وراء كل مراجعات يقدمها شاب انخرط في أعمال العنف «قصة» تحمل العديد من الدلالات المكثفة حول قضية القضايا «الإرهاب»، تلك القصص التي سطرتها تجارب ودماء وغربة وأفكار متأججة تتقدم بنا خطوات نحو بوابة الأسئلة المعلقة التي أضاعت مفاتيحها الأحداث المتعاقبة لمسلسل الإرهاب والدم.



بكل شجاعة يتحدث أحد المطلوبين الأمنيين السابقين جابر الفيفي عن تجربة انخراطه في دوامة العنف معرجاً على كومة من التفاصيل استطاع من خلالها رسم خريطة لطريق الاغتراب الطويل نحو مجاهيل العنف المسلح، ولا شك في أن هذه المبادرة الشجاعة في عرض التجربة تجعل المعنيين بمعالجة قضايا العنف والتطرف يأخذون عدتهم وأدواتهم المعرفية لتحليل الجوانب المؤثرة في تلك الحكاية من كل الزوايا النفسية والاجتماعية والفكرية.



بداية تحدث جابر الفيفي عن أجواء الثمانينيات المخيبة لآماله شاباً لم يكمل تعليمه الدراسي واكتفى بالمرحلة المتوسطة ليستكمل دبلوماً صناعياً يؤهله لدخول السلك العسكري الذي لا يجد فيه نفسه بسبب الصرامة والحزم والانضباطية التي لم يتأقلم معها جابر، فهو كما تحدث عن نفسه كان يميل لأن يصبح لاعب كرة قدم في أحد نوادي المنطقة الغربية وهو ما يقلُّنا إلى سؤال منهجي عن فاعلية المؤسسات التربوية التي قد تسهم في مساندة الشبان الصغار الطامحين إلى تحديد هويتهم المستقبلية على المستويين العملي والوظيفي.



مضت حياة جابر الفيفي بوتيرة مرتبكة فهو بسبب عدم تأقلمه وقلة انضباطيته فُصِل من السلك العسكري ولم يفلح في دخول المجال الرياضي ومن هنا كآخرين مثله واجه مأزق البطالة والشعور بالفراغ النفسي وضمور الفاعلية الاجتماعية في محيطه، فلجأ إلى الانغماس في مجموعات شبابية من محيطه لا همّ لها سوى تزجية الوقت كيفما اتفق من دون إدراك للعواقب النفسية الوخيمة التي يمكن أن يؤدي إليها ذلك الفراغ الكبير.



وبدافع من التغيير لنمط محيطه السلبي الذي لم يكن محل رضا عائلته انخرط جابر في تيار ديني متشدد بناء على تعرُّفه على مجموعات كانت ترتاد مسجد الحي الذي كان يقطن بجواره واللافت في ذلك الأمر أن هذا الانقلاب الكلي في حياة جابر وقناعاته الدينية الجديدة لم تكن إلا استجابة لتيار سائد ومهيمن ينحاز إلى النموذج المتطرف من فهم التدين الاجتماعي أو ما كان يسمى آنذاك بـ «الالتزام».



ومع مرور الأيام تحول جابر من شخصية كانت تشكل بفعل البطالة وحال الفراغ عبئاً على عائلته ومجتمعه الصغير إلى شخصية متطرفة تحاول فرض قناعاتها المتشددة على العائلة والأقارب بالقوة وبالتغيير باليد كأحد المفاهيم الخاطئة في تمثل التدين، الالتزام مستنداً في ذلك على ما ذكره عن نفسه من حدية في الطرح وعناد شديد في الطباع، وكانت أشكال ذلك العناد تتناول كعادة الخطاب الديني آنذاك على الاهتمام بمسائل فرعية من الهوية الشكلية (المظهر) على حساب قضايا كبرى من أصول الإسلام، وهذا ما يفتح السؤال على مصراعيه حول مدى مساهمة الخطاب الديني المتشدد في تلك المرحلة في تعزيز حال التطرف والعنف الفكري التي تعتبر اللبنة الأولى في طريق الانخراط في العمل الفوضى المسلح متى ما وجدت الجاهزية والقبول والمحرض النفسي وهو ما وجّه جابر في الجلسات أسبوعية التي كان يحضرها مع زملائه لمشاهدة الأفلام المرئية عن الجهاد في الشيشان، وهي مواد بصرية أنتجت في تلك الفترة بدافع استقطاب الشباب إلى الانخراط في القتال بمسمى «الجهاد» وكانت كما يؤكد الكثير من الباحثين أحد أهم مصادر التلقي والتحفيز لحلم الهجرة إلى أرض الجهاد كما كانت تسمى.



وهنا تبرز نظرية «الشبكات» في تحليل الدوافع التي تجعل شخصاً ما ينحاز إلى خيار العنف دون آخر مع وجود كل العناصر المشتركة بينهما.



تحدثنا نظرية الشبكات التي طرحها المحلل النفسي الدكتور مارك سيغمان في كتابه «فهم الشبكات الإرهابية» عن أن كثيراً من المجموعات التي انضمت إلى العمل المسلح في معسكرات التجنيد بمناطق التوتر في أفغانستان والشيشان والبوسنة اتخذت قراراها بناءً على نصائح موجهة من معارف سبقوهم في التجربة أكثر من كونهم قد انخرطوا لدوافع وأسباب فكرية أو قناعات ذاتية، وهذا ما أكدته تجربة جابر الفيفي حين تحدث عن شخص كان يحضر اجتماعاتهم الدورية نقلهم حديثُه المحرض على العنف من مجرد متابعين لتسجيلات الجماعات المتطرفة المرئية إلى راغبين في المشاركة والانزلاق في المأزق العنفي بسبب «خطاب التحريض» والذي اعتمد على محفزات نفسية عميقة مثل نصرة المستضعفين وحماية الأعراض... الخ تلك الشعارات التي يمكن أن تؤدي مفعول السحر في أذن الشبان الصغار.



من هنا تعرّف جابر الفيفي على أصدقاء المرحلة ممن كانوا ينشطون في تلك المرحلة في الاستقطاب العنفي عبر بوابة الجهاد، وذلك بتلقفهم المجموعات التي تريد تجسيد حماستها الدينية بالدخول في تجربة القتال في مناطق التوتر، وهؤلاء عادة ما يقومون بعزل الشاب من محيطه العائلي وحتى الاجتماعي ليكون مؤهلاً للأدوار المقبلة والتي تتطلب الكثير من السرية والحذر والعمل المنظم، عادة ما تقدم شبكة المعارف من التيار نفسه- ككل الفعاليات ذات الطابع التنظيمي - أدواراً لوجستية وتمويليلة من دون أن تتورط بشكل مباشر يُدينها قانونياً.

 

بدأت المرحلة الجديدة في حياة جابر الفيفي مع أول انتقال له من موطنه إلى باكستان وصولاً إلى أفغانستان عبر رحلة طويلة حفلت بالعديد من المنعرجات الخطرة والتحديات الصعبة، كل ذلك بدافع العاطفة المشبوبة فقط حيث يؤكد جابر أن حصيلته من العلم الشرعي كانت ضحلة لم تكن تؤهله للتمييز بين الحقيقة والوهم في لعبة الشعارات التي كانت ترفع لدفع الشبان نحو المجهول.

الحقيقة المرة التي صدمت جابر الفيفي وجعلته يفكر في العودة إلى نقطة الصفر والرجوع إلى وطنه عندما اقتيد بفعل مؤامرات ودسائس من الأشخاص الذين ذهب لنصرتهم حيث اقتادوه إلى معسكر غوانتانامو في صفقة أقرب إلى بيع الصيد الثمين لما يحمله ثقل معنوي كونه من المقاتلين الأجانب الذين عادة ما يحملون وزر هجرتهم الطويلة إلى مستنقعات الموت.

المصدر: http://al7ewar.net/forum/showthread.php?24883-%C7%E1%CD%E3%C7%D3%C9-%AB%...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك