لا جدال أن ظروف التضييق على أشكال الفكر، غالبا ما...

بقلم: عبد الواحد آيت الزين

في الوقت الذي كانت فيه انجلترا، تسير بخطوات متأنية نحو الخروج من مأساة حروبها الدينيةـ السياسية، وتزامنا مع بداية انخراطها في بناء وطن جديد، تطبعه مقولة الحرية والتسامح، ومارافق ذلك من نظر للكينونة البشرية كفضاء للحرية الفردية، كانت فرنسا ما تزال حبيسة الاضطهاد اللاهوتي، خاصة بعد إلغاء مرسوم “نانت” الذي ضاعف من معاناة البروتستانت الفرنسيين، معاناة، لم تكن سوى نتيجة للواقع السياسي الذي كانت ترزح تحته فرنسا، إذ تمسك ملوكها بنظام حكم مطلق بعد أن تم لهم القضاء على ثورة البرلمان *، فلم يعد قائما بفرنسا سوى ملك وشعب، الثاني اندغم كليا في الأول ففقد ماهيته كشعب، ولا أدل على ذلك خيرا من المقولة الشهيرة للويس الرابع عشر“الدولة أنا”.

في ظل هذه الشروط، ازداد ونشأ فرانسوا ماري أرويه “فولتير”: حروب أهلية ومنازعات وحشية كانت تجليات سماتها، تشي بمخبوء العلاقة المتداخلة بين الدين والسياسة، برك من الدماء وخنق في الحياة السياسية باسم الدين، تأزم في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، كلها أوضاع أدت إلى محاصرة الحريات السياسية والفكرية للإنسان الفرنسي في القرن الثامن عشر، فكان “أوريه” ضحية لها مرتين**، ودخل “الباستي” أشهر سجون فرنسا آنذاك، الذي شكل مأوى لكل معارضي النظام السياسي بهذا البلد.

لا جدال أن ظروف التضييق على أشكال الفكر، غالبا ما تؤدي إلى بعث الحياة فيه، وبروز اجتهادات لتشخيص هذا الواقع ومحاولة مداواته، بل وإبداع أشكال عديدة لمقاومة كل محاولات لجمه، والأكيد أن فرنسا القرن الثامن عشر، لن تكون استثناء في ذلك، فبالموازاة مع هذه التجاذبات السياسية والدينية، عرفت فرنسا أبهى لحظات الإنتاج الفكري، ومايزال ذلك الأثر العلمي البارز الذي عرف باسم “الموسوعة”، شاهدا رئيسيا على التفاعل الجدلي بين الفكر والواقع، فقد شكلت منبرا لكل من دالامبير، ديدرو، فولتير وآخرين... من أجل نشر ثقافة علمية عقلانية، وبالتالي العمل على تقويض دعائم البناء العقائدي للاستبداد الملكي، كما عنيت “الموسوعة” بالعمل على “إخراج النوع البشري من حالة الحجر الذي عاش تحت وطأته” خاصة في المسائل الدينية، وذلك بالدعوة إلى استعمال العقل استعمالا حرا، ومن الشروط الأساسية ل “حرية العقل” نبذ كافة أشكال الوصاية الخارجية، مهما تعددت مبرراتها (دين، سياسة، أسرة...)، الشيء الذي عبر عنه كانط، - في جوابه الشهير، عن سؤال “ما الأنوار؟” -، بتلك العبارته البليغة القائلة: “لتكن لديك الشجاعة على استعمال عقلك الخاص دون توجيه من الغير”•، عبارة تختزل الدعوى المركزية للفكر الفلسفي الأوربي في القرن 18.

إذا كانت رحلة جون لوك إلى ألمانيا، قد ألهمته في محاولة تخليص ابريطانيا العظمى من “آثامها العقدية”، فإن رحلة فولتير - بالأحرى هجرانه لفرنسا- إلى إنجلترا، قد ساهمت أيما مساهمة، في كتاباته، لشجب ما عرفته فرنسا من حروب دينية، كما أسهمت خبرته بهذه الحروب وإطلاعه الواسع على تاريخ البشرية في بلورة فكر التسامح لديه، فسخر قلمه لفضح أسرار القساوسة والرهبان، وتناول تاريخ الكنيسة الرسمي بمطرقة النقد، وهو ما كان سببا في ملاحقته غير ما مرة وهجرته لأكثر من بلد،(انجلترا، ألمانيا...)، حتى أطلق على نفسه لقب “المواطن الكوني” ورفض موضة العصر آنذاك “القومية”.

يتحدث فولتير في قاموسه الفلسفي عن مفهوم التسامح قائلا:“هو خاصية إنسانية، فكلنا مزيج من ضعف وأخطاء. لنتسامح بشكل متبادل مع تفاهاتنا، هذا هو القانون الأول للطبيعة”(1)، فالعودة إلى الطبيعة الإنسانية، واستقصاؤها يؤدي لا محالة إلى الاستخلاص بأن إمكانات الخطأ هي دوما واردة في الفعل الإنساني. وبالتالي لا بديل عن وجوب التسامح، فيصير بدوره ـ حسب فولتيرـ ضرورة طبيعية، وهو بذلك يبقى وفيا لخلاصات أستاذه جون لوك.

يعد أوريه، من أشد الناس عداوة، لكافة أشكال التعصب، فما بالك بذاك الذي كان قد تغول بأوربا باسم الدين ! فكانت لهجته الساخرة وأسلوبه الأدبي الذي يزاوج بين الواقع والخيال وسيلة، استنجد بها لمقاومة هذا “الوحش الضاري” (التعصب) كما يصفه، وحش تزداد بدانته بفعل اقتياته على يد أصحاب “العمائم الطويلة” و“آكلي لحوم البشر”،( البابوات). ويرى فولتير في التفكير الفلسفي علاجا فعالا لترويض هذا “الوحش”، فلا القوانين الوضعية ولا الوصايات الدينية، قادرة على ردعه مادام سمه قد تسرب إلى أعماق النفس البشرية. ويستحضر فولتير مثالا حيا للتعصب، مثال بورجوازيي باريس، الذين هرعوا ليلة القديس بارتيلمي إلى ذبح كل من لم يحضر قداسهم من أبناء وطنهم، وهم بهذا الفعل “الجلل حسب ظنهم”، يظنون أنهم سيلاقون الفوز العظيم في العالم الآخر لتنفيدهم أوامر الروح المقدس! غير أن قيام فولتير برحلته السماوية، التي صادفت يوم حساب الموتى، شكل ردا صريحا على زعم هؤلاء، إذ أن عدالة الإله قضت بمحاكمة الجرائم الإنسانية، وقد قيست بأشد الأفعال تزمتا، كما أن الإله الذي وصفه فولتير بالمتسامح، قد خص كل من قدموا خدمات جليلة للإنسانية بحق مقاضاة هذه الجرائم: كونغوتيوس، صولون، سقراط، تياتيتوس... (2) هكذا يرد فولتير بأسلوبه الخيالي على كل مسعور مهتاج، يظن أن حماسته للدين هي قانونه الوحيد الذي يعتد به من أجل الظفر بالفردوس الأبدي، فيجعله فولتير مهددا بالعقاب الأخروي جزاء لأفعاله، وهو بذلك يعبر عن موقفه الرافض لكل تعد على حقوق الأقليات الدينية بفرنسا بتهمة مخالفتهم للدين الرسمي، فالاختلافات في ممارسة الشعائر ـ حسب فولتير ـ ليست بالضرورة إشارات على تبني الكراهية والاضطهاد بل قد تؤدي على العكس من ذلك إلى سيادة السلام والوئام، ومن ثمة يفهم ثناءه على وجود أكثر من ديانة بانجلترا في كتابه رسائل فلسفية، إذ إن سيادة ديانة واحدة يخيف النفوس من سطوة الاستبداد، ووجود ديانتان معناه التذابح، في حين يعود سبب السلام والطمأنينة التي تعيشه انجلترا إلى وجود ثلاثين ديانة(3)، نفس الأمر سيؤكده في القاموس الفلسفي وهو بذلك يذكر قراءه بما خلص إليه في رسائله الفلسفية(4).

رغم مناداته بحفظ حقوق الأقليات الدينية واحترام طقوسهم التعبدية، ففولتير بدوره لم يقل بتسامح مطلق شأنه في ذلك شأن لوك، وهو ما يبرر حصره لنيل الوظائف العامة والمراتب الرفيعة في من يعتقد بدين الدولة، لاعتقاده بضرورة الدين الرسمي لضبط الشعب، وذلك ليس بغريب إذا ما نظرنا إلى رسالته حول الديانة الأنجليكانية، التي أورد فيها أن نيل الوظائف بانجلترا يبقى قمينا بالاعتقاد في الدين الأنجليكاني.

لقد رفض فولتير أن يكون للمؤسسات الكنسية أدنى تدخل في الشأن السياسي، كما رفض استنجاد رجال الدين بسلطة الحكام لنبذ المخالفين واجثتاتهم، غير أنه وضع الكنائس تحت رحمة الملوك، لان كل شيء ـ في نظر فولتير ـ هو ملك للدولة، وموقفه هذا ينسجم مع تشبته، بما يعرف في الأدبيات السياسية “بالاستبداد المستنير”، وقد شكل فريدريك الثاني بألمانيا والملكة كاثرين بروسيا في القرن الثامن عشر نموذجا “لنورانية الاستبداد”، وهو ما يفسر دعوتهما لفولتير في أكثر من مناسبة. فألا يشكل ذلك سببا من أسباب “نفاق بضاعة اللائكية الفرنسية” مقابل نموذجية النموذج الإنجليزي (لوك)!*

 إن فكرة من قبيل “الإستبداد المستنير” لم تكن لتريح (مثلا) البتة مفكرا مثل جون لوك، لذلك لاغرابة أن نجده يرفض كل شكل للحكم يستمد مشروعيته من الإستبداد ـ حتى ولو كان مستنيرا ـ بدليل وضعه لكافة السلط في يد الشعب. ففي مقابل الرهان اللوكي على “مسؤولية الشعب” للخروج بانجلترا إلى فضاء الحرية والتسامح، نرى فولتير يراهن على استبداد مستنير لإنقاذ فرنسا من الطغيان السياسي، لذلك نجد أن الأطروحة اللوكية ما تزال متداولة في أنماط سياسية متعددة حلما وأفقا، في حين يسير الاستبداد بكافة ألوانه نحو الأفول حلما وأفقا، بعد أن صار محط مساءلة ونقد. 

الهوامش:

 انظر حول ذلك مثلاً الكلمة التي كتبها الفيلسوف الفرنسي إتيان باليبار بمناسبة رحيل دريدا:
Étienne Balibar, À bientôt, Jacques Derrida, l’Humanité, 11 octobre 2004.
 أكتبُ تفكيكية دريدا ولا أكتفي بالتفكيكية لوحدها مع أن دريدا هو عرّابها وأبوها الروحي ويُعرف بها وتُعرف به، ولكنني أقصد هنا نصوص دريدا تمييزاً لها عن غيرها من الممارسات التفكيكية التي انتشرت عبر العالم وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية تحت مسميات التفكيك.
 Jacques Derrida, « Violence et métaphasique : Essai sur la pensée d’Emmanuel Levinas », p. 117- 228. in L’écriture et la différence, Seuil, 1967. 
 يرى رورتي في إحدى مقالاته المتأخرة التي سبقت رحيله والمُشكِّكة بالجدوى الاجتماعية لوجودية هايدجر وتفكيكية دريدا بالقول أنه ومنذ نيتشه هيمن على الفلسفة فلاسفة تهكميين اهتموا باستقلالهم الفكريّ وبفرديتهم أكثر من اهتمامهم بالفائدة الاجتماعية للفكر و لم تكن مشاركتهم في ميدان السياسة سوى مشاركة عرضية طارئة مقارنةً بإنتاجهم الفلسفيّ الكبير. انظر حول ذلك: 
Richard Rorty, “Habermas, Derrida and the Functions of Philosophy”, in The Derrida-Habermas Reader, edited by Lasse Thomassen, The University of Chicago Press, 2006, p. 47. 48.
 أقول إن موقف هابرماس من جدوى التفكيك الدريديّ “كان” مُشككاً ورافضاً للإشارة إلى أن هذا الموقف تغير مع نهاية تسعينيات القرن العشرين حين تصالح مع دريدا بمبادرة من هابرماس وقد أشار إلى أهمية ما قدمه دريدا وإلى أثره التنويريّ في الكلمة التي رثاه بها. انظر حول ذلك: 
Jürgen Habermas, « A Last Farewell : Derrida’s Enlighting Impact » in The Derrida-Habermas Reader, pp. 307-308.
 Marc Goldschmit, « La philosophie politique tout autrement » in Magazine Littéraire, N° 430 Avril, 2004, p. 33-34. 
 جيوفانا بورادوري، الفلسفة في زمن الإرهاب: حوارات مع يورغن هابرماس وجاك دريدا، ترجمة وتقديم خلدون النبواني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013، ص. 215.
 Entretien avec Didier Éribon, Le nouvel Observateur (du 22 au 28 février 1996), p. 61.
 أسمح لنفسي هُنا بالإحالة إلى كتابي في بعض مفاراقات الحداثة وما بعدها، دار المدى، 2011 وتحديداً للدراسة فيه بعنوان “الفلسفة بين تأمل العالم وتغييره”. ص. 154 ـ 162.
 ، الفلسفة في زمن الإرهاب، المعطيات نفسها، ص. 215.
 انظر في هذا الموضوع على سبيل المثال لا الحصر:
Alain, Renaut & Luc Ferry, La Pensée 68, Gallimard, 1988.

 حول هذه النُقطة يُصرّح دريدا قبل موته في مقابلة نشرتها مجلة L’Humanité الفرنسيّة بما يلي: “لم أُمضي أبداً إقامة طويلة في الولايات المتحدة، الجزء الأعظم من وقتي لم أكن أمضيه هناك.” أنظر: 
Alexandre Nielsberg, “Entretien avec Jacques Derrida », L’Humanité, 28 janvier 2004. 
 Frédéric Worms, La Philosophie en France au XXe Siècle, Gallimard, 2009, p. 459-460.
 المرجع نفسه، ص. 460.

 François Cusset, French Theory, Éditions La Découverte, 2003, p. 11.
 بهذا الصدد يقول دريدا:” إن استقبال عمليّ في الولايات المُتحدة كان بالفعل أكثر كَرَماً، وأكثر اهتماماً فهناك لقيتُ رقابة وحواجز وصراعات أقل مما لقيته في فرنسا“انظر” 
Alexandre Nielsberg, “Entretien avec Jacques Derrida », L’Humanité, 28 janvier 2004.
 French Theory, p. 118-139.
 المرجع نفسه، ص. 116.
 المرجع نفسه، ص. 116. 
 Jacques Derrida, Mémoires- pour Paul de Man, Galilée, 1988, p. 37. 
 المرجع نفسه، ص. 38. 
 المرجع نفسه، ص. 38 ـ 39 ـ 40. 
 French Theory, p. 131.
 المرجع نفسه، ص. 137 ـ 138. 
 Jacques Derrida, « Il n’y a pas le narcissisme » (autobiophotographies), in Points de suspension. Entretiens, Galilée, 1992, p. 227.
 Jacques Derrida :”Je suis en guerre contre moi-même", Le Monde, 18.08.2004.
 المرجع نفسه.

المصدر: http://www.alawan.org/article13429.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك