الوحشية الجديدة ورهان حقوق الإنسان
بقلم: منوبي غبّاش
إن ما نلاحظه اليوم من جرائم ضدّ الإنسانية ترتكب من قبل دول (هي نتاج للحداثة السياسية منذ القرن السابع عشر) ضدّ جماعات عرقية او طائفية أو دينية أو سياسية يجعلنا نعيد النظر في مرجعية حقوق الإنسان وفي فاعلية وجدوى منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها. إن إرهاب وجرائم الدولة الحديثة يسمح لنا بافتراض فشل الحداثة في تحقيق المثل العليا والأهداف السامية التي اقترنت بها منذ إرهاصاتها الأولى: تحرير الإنسان من كل أصناف الهيمنة٬ تحقيق الرخاء العام٬ تكريس حقوق الإنسان كحقوق كونية عبر الجهاز المؤسسي والحقوقي للدولة الحديثة. يمكننا أن نتحدث عن مفارقات تميز الحداثة في مستويات عدة: أولى هذه المفارقات تظهر على المستوى العلمي التقني٬ فتحسين مستوى العيش والسيطرة على الطبيعة وتوظيفها كل ذلك يبدو بلا أهمية إذا ما قورن بما وفره العلم-التقنية من إمكانيات هائلة لإفساد الحياة وتدمير الطبيعة. على المستوى الاجتماعي-السياسي تعمّق التناقض بين الفرد والمجتمع٬ بين المواطن والدولة وكذلك بين الجماعة والدولة. الدليل على ذلك هو تأزّم نظام التمثيل السياسي في الديمقراطية الليبرالية المعاصرة. بغض النظر عن تصور روسو لعدم إمكانية تمثيل الإرادة العامة٬ نستطيع القول إن التمثيل السياسي عبر الاقتراع العام لا يعني تمثيلا حقيقيا لكل أفراد المجتمع ناهيك عن تمثيل الأغلبية. وحتى لو افترضنا أن قاعدة الأغلبية هي الكلمة الفصل في الديمقراطية المعاصرة فانه بالإمكان الإعراض عنها بحجة حق الأقلية في الاختيار وتقرير المصير...إن الأزمة الأساسية للديمقراطية الحديثة تكمن في آلية الانتخاب بحسب قانون الأغلبية (أغلبية الناخبين وليس أغلبية المواطنين). تفرز قاعدة الأغلبية (النسبية) أقلية لها الحق في الحكم أي في استخدام مؤسسات الدولة وأجهزتها بحيث تستفيد منها أقليات أخرى متحالفة معها (جماعات المصالح المالية والاقتصادية). وأما على المستوى الأخلاقي-الحقوقي فإن مفارقة الحداثة تكمن في التناقض بين قيم حقوق الإنسان وانعدامها في الواقع. لقد اعتبرت المرجعية الكونية لحقوق الإنسان العنوان الأساسي للحداثة السياسية ويفترض أن تكون تلك المرجعية محدِّدة للعلاقات السياسية والاجتماعية في نطاق الدولة الوطنية أو الدولة-الأمة وللعلاقات بين الدول إلاّ أن الأمر ليس كذلك. إن الانتهاكات اللامتناهية لحقوق البشر تجعلنا نميل الى الإقرار بإفلاس الدولة اللائكية التي تعتبر حاملا لمشروع حقوق الإنسان بل بفشل المشروع الحداثي ككل.
تتوالى أمام أبصارنا صور أفظع الانتهاكات لحقوق الإنسان٬ انتهاكات لا يمكن أن توصف إلاّ بأنها وحشية وبربرية ليس مثلها إلا ما وثّقته كتابات القدامى من أصناف التعذيب الوحشي وأنواع التنكيل بالضحايا حتى الموت (انظر بيرنهاردت ج. هروود٬ تاريخ التعذيب٬ ترجمة ممدوح عدوان٬ دار ممدوح عدوان للنشر٬دمشق٬ 2008 ): التقتيل بطرق همجية كقطع الرؤوس والسحل والحرق وبتر الأطراف وتدمير المنازل على ساكنيها٬ تحطيم شروط الحياة البيولوجية والمادية٬ إبادة جماعات عرقية أو طائفية بكاملها بحجج واهية أحيانا وفي أغلب الأحيان بدون تبرير(المثال الأبرز على هذا التدمير المنهجي والتقتيل على الهوية هو ما تمارسه دولة إسرائيل المحتلة ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزّة المحاصر).
ولكن ما يبدو مزعجا وجديرا بالاهتمام في آن واحد هو بروز ظاهرة الجماعات المسلحة خارج نطاق الدولة. جماعات عابرة للحدود٬ مجهّزة بأسلحة متطورة لا تمتلكها بعض الدول الفقيرة وتحمل إيديولوجيا اسلاموية تكفيرية تشرّع لقتل الآخرين المختلفين دينيا والمخالفين في المذهب أو الملة. لقد تبيّن بجلاء أن مثل تلك الجماعات المنفلتة والمدعومة من قبل جهات ذات تأثير (دول وتحالفات وجماعات ضغط) يمكن أن تشكل خطرا على دول قائمة وتهدّد استقرارها ووحدتها (ليبيا٬ سوريا ٬أفغانستان٬ العراق...). في هذه الحالة غير المتجانسة مع ما وصلت إليه البشرية من فكر وأنماط تنظيم سياسي وإداري يبدو هدر الحياة واحتقارها من خلال القتل العشوائي٬المسرف٬ اللامبرّر و“السهل” في أفظع صوره. والغريب أن الجريمة التي تتحول إلى فعل قتل عادي ومكرّر٬ تتمّ باسم مقدّس كوني مفارق٬ باسم الله الذي يمثل نقطة الاتفاق الرئيسية بين الديانات السماوية المختلفة. ألا نكون٬ ونحن نعاين هذا العرض المأساوي المستمر للقتل٬ خارج النطاق المفهومي والعملي للدولة الحديثة؟ ربما نستطيع استعارة مفهوم “حالة الطبيعة” من فلاسفة العقد الاجتماعي للتعبير عن حالة الفوضى التي تتسم بغياب القوانين وانعدام الأمن وفساد الأخلاق (عدم الالتزام بقيم أخلاقية تحرم القتل وتحض على عدم ارتكاب الجرائم). إن حالة الطبيعة٬ بهذه المواصفات٬ لا بتلك التي أعطاها إياها روسو أو جون لوك٬ تنطبق الى حدّ كبير على الفشل السياسي للدولة الحديثة وكذلك على واقع العلاقات الدولية. في كلتا الحالتين هناك انعدام للقانون وانتهاك للحقوق: انعدام القانون المدني أو عجز الدولة لأي سبب من الأسباب على تفعيله وعدم فعالية القانون الدولي بسبب انعدام الآليات والوسائل الكفيلة بتكريسه كمنع الاعتداء على الدول المستقلة ومنع الحروب العدوانية...
إذا اتفقنا على أن الحداثة وما نتج عنها منذ نهاية القرن العشرين من عولمة للإقتصاد والثقافة وأنماط العيش (اقتصاد السوق٬ ثقافة محلية تمت عولمتها وفرضها فرضا بواسطة الاستعمار الاستيطاني أولا ثم بواسطة وسائل الاتصال الحديثة ثانيا٬ وأساليب عيش تنتظمها قيم الفردية والمصلحة الخاصة والنجاعة والمال.. الخ) قد أنتجت أعداءها ومناوئيها الرافضين لها٬ فإنه يمكننا أن نعتبر حركات المقاومة -يجب أن نفهم المقاومة هنا بالمعنى الايجابي وبالمعنى السلبي- في أشكالها المدنية والثقافية والعسكرية والجماعات الرافضة لنمط الحياة الأوروبي بحسب مواصفات ومعايير معينة (الحركات الشوفينية كالنازية الجديدة والجماعات المسيحية الأصولية...الخ) وكذلك الجماعات الاسلاموية الجهادية في العالم العربي إفرازا لهذه الحداثة المعولمة.
كيف نفسر بروز الجماعات الجهادية في العالم العربي الإسلامي؟ لنترك الإجابة السهلة جانبا أقصد تلك التي تفسّر كل ما يحدث تقريبا بالتآمر الخارجي الغربي٬ الصهيوني٬ الإمبريالي٬ العلماني على “الأمة” المصطفاة دينيا أو عرقيا. يمكن القول على سبيل الإجابة الأولية إنها نتاج أو مظهر من مظاهر فشل تجربة التحديث أو ما سمي بمشروع التحديث الوطني الذي بدأ بعد انتهاء حقبة الاستعمار الاستيطاني. لم نستطع منذ بداية ما اصطلح على تسميته بالنهضة العربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إنجاز مشروع الدولة-الأمة٬ مشروع الجمهورية الحديثة كما تشكّلت ملامحه في أوروبا ولدى شعوب أخرى رزَحت مثلنا تحت نير الاستعمار. طبعا لذلك أسباب كثيرة منها الاستعمار المباشر قديما والتبعية راهنا و هناك أيضا أسباب ثقافية تتعلق بخصوصية الثقافة العربية-الإسلامية التي تتمسك بالتقليد والتكرار وتنبذ النقد والتجديد ولا تتقبّل بسهولة قيم وتجارب الحداثة الأوروبية التي تصفها بالكفر والمادية ومعاداة الدين.
ولكن ما العمل أمام انتهاك حقوق الإنسان وهدر الحياة؟
ليس لنا إلا أن نقاوم أشكال انتهاك الحق في الحياة وفي شروطها الأساسية اعتمادا على مرجعية حقوق الإنسان ذاتها. قد يقال إن موقف الإدانة الأخلاقية لا يغير من الواقع شيئا ولا يجعل الجلادين أكثر رحمة ولا القتلة يكفون عن القتل. قد يكون ذلك صحيحا لمن يستعجل النتائج العملية ولكنه لا يقلل من قيمة الموقف الأخلاقي الرافض والمنتفض لأنه موقف مقاومة. مقاومة سلبية لا شكّ ولكنها يمكن أن تتحوّل الى فعل في إطار حركة جماهيرية والى ممارسة منظّمة تُفضي إلى منع انتهاك حقوق الإنسان.
إن الإمبراطورية (مجال الهيمنة الامبريالية العالمية) توفر وتخلق –كما يرى طوني نغري- إمكانيات هائلة للمقاومة يجب استعمالها من أجل إضعافها وكسر القيود التي تمنع بواسطتها ابتكار إمكانات وأساليب جديدة للعيش. المقاومة الايجابية والفاعلة يمكن تعريفها في العبارة التالية: العمل على إحلال بدائل ثقافية واجتماعية وسياسية تلغي ثقافة الامتثال والاستهلاك وتعيد بناء مجتمع آخر قائم على قيم التضامن والعيش المشترك بحيث تصبح السياسة فن الاجتماع والبحث الجماعي عما هو أفضل للانسان.
لا يمكن مقاومة انحرافات العولمة المدمّرة إلا باستعمال أدواتها ووسائلها ولكن بشرط التسلح بمرجعية قيميّة مغايرة لتلك الموجِّهة لحركة العولمة الراهنة٬ مرجعية قيميّة تكون حقوق الإنسان٬ باعتبارها حقوق طبيعية كونية لا باعتبارها حقوق ذاتية وضعية٬ محورها.