الخروج على الدين

بقلم: علي الشدوي   

يجب أن أقول الآن حتى لا أضطر إلى أن أقول مرة أخرى: إن العقلانية تعني عندي الإيمان بأن الإنسان يستطيع أن يتعلم من النّقد؛ لذلك فالإنسان العقلاني هو الإنسان الذي يعتبر التعلم من الأخطاء أهم من البرهنة على أنه مصيب. وتعبر قاعدة الفقهاء الأصولية “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب” عن هذا المقترب العقلاني وكحال العديد مِن القواعد الأصولية، يمكن تعميمُ هذه القاعدة واستخدامها في معظم مناحي الحياة، حيث يَغلبُ فيها الظنُّ في تقدير الأمور. فلا يجدر بأحدنا أنْ يُنزّه نفسَهُ عَن الوقوعِ في الرأي الخاطئ .

لقد عبر كارل بوبر ( انظر في الحرية والديمقراطية، ترجمة : عقيل يوسف عيدان، مراجعة: محمد عبد الجبار الشبوط، الكويت، مركز الحوار للثقافة ( تنوير ) الطبعة الأولى، 2009. ) بما يشبه هذه القاعدة الأصولية، وشرح المقترب العقلاني على هذا النحو : قد أكون أنا مخطئا وأنت على حق، ولكن يمكننا أن نأمل معا وبعد النقاش المشترك أن نرى الأشياء بشكل أكثر وضوحا من قبل، ما دمنا نتذكر أن اقترابنا أكثر من الحقيقة أكبر أهمية مِنْ مَنْ مِنّا على حق. وفقط بوجود هذا الهدف يمكن أن ندافع بأفضل ما يكون من نقاش. وهكذا حين أعني بالعقلانية هذا المعنى فذلك يعني أنني لا أعني بها مذهبا فلسفيا .

يكمن في قلب هذه العقلانية التي يتبناها هذه المقال دعوة إلى نزعة إنسانية في المجتمع السعودي، وهي النزعة التي ذهب المفكر إدوارد سعيد إلى أنها مفهوم قديم قدم العالم التاريخي الذي خلقه الرجال والنساء، وليس الإله. وهو العالم الذي يمكن إدراكه بشكل عقلاني. وفي الصميم من هذه النزعة الإنسانية تيار أنثربولوجي وفلسفي يضفي على الإنسان طابعا مركزيا، وهو ما يحد من الدور الذي يعود إلى الإله ( أو الآلهة ) من دون أن يمحوه بالضرورة. ( انظر مجلة رسالة اليونسكو ، تشرين أول/ أكتوبر-كانون أول/ ديسمبر 2001. تحت عنوان النزعة الإنسانية فكر متجدد دائما )

نحن نعرف نقد الفلاسفة المنتسبين إلى الغرب ككيرجارد وأدورنو وهوركهايمر هايدجر، ونعرف موقف شخصيات سياسية وثقافية غير غربية كغاندي وفانون. غير أن نقد هؤلاء لا يعني نبذ النزعة الإنسانية إنما أن نجد لها تفسيرا جديدا كأن لا تكون مشروعا يقتصر على النّخب العلمية والفكرية إنما يمكن أن تُدفع في اتجاه أن يكون لها طموحات عملية، وأن يوضع مفهوم الإنسانية في السياق الاجتماعي، ويجد له مكانا في الحياة اليومية. يمكن أيضا أن تدفع النزعة الإنسانية إلى أن تكون وسيلة لعرض التساؤلات، وإحداث التأثيرات العميقة، وإعادة جزء كبير من أوجه اليقين التي قُنّنت في غياب أي روح نقدية، ثم قدمت للمجتمع على شكل منتج جميل جاهز للاستهلاك. وإذا ما أخذ علي قارئ أنني استرشد بتجربة لا تنتمي إلينا؛ فليقبلها من منظور أن النزعة الإنسانية نتجت عن تجارب الاستلاب، وهي صيحة غضب الذين يعتقدون بانعدام الحياة الكريمة.

لا يمكن أن أنسى علاقة بين تحديث المجتمع السعودي وبين ( الخروج على الدين ) ( هناك فرق بين أن نقول ( الخروج على الدين ) وبين أن نقول ( الخروج من الدين ) . انظر جورج طرابيشي، العلمانية كجهادية دنيويّة، في : هرطقات 2 ، عن العلمانية كإشكالية إسلامية-إسلامية، دار الساقي، ورابطة العقلانيين العرب، الطبعة الأولى، 2008، ص 99 ). وهي العلاقة التي اقترحها لها مارسيل غوشيه واعتبرها علاقة ترادف؛ ذلك أن المجتمعات المهجوسة بالدين كالمجتمع السعودي لن تتحدّث إلا بالقطيعة مع النظام المعرفي المستند إلى الدين .
يسمي طرابيشي هذه القطيعة بالعلْمنة، ويقترح تعريفا لها ينتقي كلماته من المعجم العربي الإسلامي وهو ( الجهاد في سبيل الدنيا ) وهو تعريف يحلّه محل ( الجهاد في سبيل الآخرة ). 
إن ما يجعلني أتبنى العلمانية هو عدم وجود ما هو أفضل منها لحياة الإنسان الكريمة ، ذلك أننا جربنا تأويلات المتديّنين الدين، والكيفية التي ينظرون بها إلى الإنسان وما ترتب على ذلك.

سأدرج هنا ما يترتب على علْمنة المجتمع السعودي : 
• تحطيم احتكار علماء الدين قراءة النصوص وتفسيرها. 
• بدء تاريخ جديد للإنسان السعودي يخلق نفسه بنفسه بواسطة عقله .
• تكريس العلم ليتحرر المجتمع من الأساطير الغيبية.
• إلغاء مفهوم الحرام من حيث هو قوة علماء الدين في تحكمهم في المجتمع.
• نشوء مفهوم جديد للمواطن بغض النظر عن عرقه أو دينه أو مذهبه أو طائفته. 
• فاعلية القوانين من منطلق القيم التي يحددها المواطن وليس النص الديني.

السؤال الآن هو : كيف يمكن أن يُحول الحديث عن العقلانية النقدية والنزعة الإنسانية وعلْمنة المجتمع السعودي من حديث نظري إلى برنامج عمل لتطوير المجتمع السعودي؟ بالتبسيط النابع من صعوباتهما وليس من تجاهل صعوباتهما. يتطلب هذا الكثير من العمل. لكي تتبسّط أفكار المفهومين يجب أن تُفهم الصعوبات الكامنة فيها، ثم يُؤتى بالحلول العملية المبتكرة.
متى وكيف يكون هذا؟ لقد كان عليّ أن أطوّر أدوات تحليل لكي أجيب عن هذين السؤالين، لكن بما إنني معنى هنا بالأفكار وليس بالتطبيق فيكفي أن أقول : إن التعليم طاقة متطورة، وإذا ما أريد لهذه الطاقة ( التعليم ) أن تعبّر عن نفسها فلا بد لها من هدف مثلها مثل أي نوع من القوة؛ ولهذا يلزم حشد الوسائل والأدوات. إن دمج الوسائل والأدوات والهدف هو ما سيبدع تعليما جديدا، وهذا التعليم الجديد هو ما سيرشدنا إلى المزج بين الغاية والوسيلة. الغاية هي أن يكون الإنسان سعيدا في الدنيا, وهنا قد تمانع جماعات تعتبر التعليم سعادة في الآخرة. وممانعة كهذه تتطلب من الدولة أن تبذل المزيد من الجهد الأقصى لقوتها؛ لكن ليس بمعنى العنف ضد هذه الجماعات؛ إنما بقهرها التدريجي حين توازن الدولة بين جهدها وقوة ممانعة هذه الجماعات. 

يجب أن تُفهم العقلانية النقدية والنزعة الإنسانية والعلمانية لكي يُتخلص من أفكارهما غير الضرورية للمجتمع السعودي في هذه المرحلة ، ولا يوجد أفضل من التعليم لكي يحول أفكار العقلانية النقدية والنزعة الإنسانية والعلمانية المبسّطة إلى رأس مال اجتماعي للمجتمع السعودي ؛ أي جملة من القيم يشارك فيها أفراد المجتمع، وتكون سببا للتطوّر والتحديث.

ما مصدر قيم رأس المال الاجتماعي؟ الأسرة بشرط أن تكون منفتحة وليست منغلقة. وما الذي يمنع الأسرة من أن تكون منفتحة لا منغلقة؟ المجتمع المدني( انظر مراد وهبة، الرأس مال الاجتماعي من منظور فلسفي، مجلة الديموقراطية، يوليو، 2009، ص 26 . وفي هذا السياق لا يمكن تلافي قراءة مقال النابلسي في العدد نفسه عن دور رأسمال الاجتماعي المصري في بناء الأمة) وما الذي ينشئ المجتمع المدني؟ التربية المدنية والتعليم المدني حيث يتربى الفرد ويتعلم من حيث هو مواطن يُعرف“بالقدرة من أجل الآخرين” ؛ أي القدرات ذات القيمة للآخرين أكثر من قيمتها لمَن يمتلكها.

ولئن كنت أستطيع أن أسترسل إلى ما شاء الله في مناقشة الأسباب التي ستؤدي إلى تطور المجتمع السعودي ؛ إلا أن مما لا أشك فيه أن منهج بيكون الاستقرائي للطبيعة أفضل لتطور المجتمع السعودي ومستقبله من منهج علماء الدين في الاستنباط من النصوص الدينية. 
قواعد بيكون بسيطة. فقط اختبر أفكارك بالتجربة والملاحظة، ثم ابن على الأفكار التي نجحت في الاختبار وتخلّ عن تلك التي فشلت. اتبع الدليل أينما قادك. شكك في كل شيء. أنت طريقة الكون لكي يعرف نفسه. احذر. لست وحدك أنت مَن تملك الحقيقة. عليك أن تعلم أن مشروع العلم تعاوني يمتد عبر الأجيال.اقبل هذه الشروط البسيطة وتملك الكون.

وفي هذا السياق نفسه اعلم أن البرهان الذي يستند إلى التجربة والملاحظة أفضل للمجتمع السعودي من البرهان الذي يستند إلى الاستشهاد بالنصوص. لا يوجد أدنى شك عندي في أن رأي كوبرنيكوس في المجموعة الشمسية أفضل للمجتمع السعودي من رأي الشيوخ الذين ينكرون أن الشمس ثابتة والأرض تدور حولها، وأن العقلانية النقدية أفضل للمجتمع السعودي من الدوغمائية الدينية.

إنني أعرف أنه لا يوجد نموذج يحتّم تطوير المجتمع السعودي، إلا أن هذا لا يمنعني من أن أشرح نوع السلوك الإنساني الذي يمكن أن يؤدي إلى تطويره؛ فقد أعطى التاريخ الحديث مكانة للتعليم جعلت الغالب من المفكرين والفلاسفة والعلماء يرونه مدخلا إلى تغيير المجتمع. 
لكن ماذا لو افترضت أن نظرية لتطوير المجتمع السعودي تلوح في الأفق، ماذا أستطيع أن أخمن بخصوص هذه النظرية؟ حتى في وجود النقد الذي وجّه إلى المدرسة في كونها تعيد إنتاج التفاوت الاجتماعي، وأن ثقافتها هي ثقافة الطبقة المهيمنة، وأنه لا يوجد أي مبرر عقلاني في أن تختار المدرسة ثقافة لتعطيها شرعية على حساب أخرى. أقول رغم كل هذا النقد للمدرسة، واستنادا إلى ما نعرفه من تجارب المجتمعات الأخرى التاريخية فإن التعليم سيظل قائما كما هو في أي تصور لتحديث المجتمع السعودي ، وأن نقد المدرسة هو اعتراف بأهميتها في غرس البنيات العقلية.

إن المهم هنا هو أن يكون التعليم تدريبا على أفضل حالة للمستقبل؛ وليس وفق الحالة الراهنة للمجتمع لذلك يجب أن يتجاوز التعليم عائقان هما تربية الأسرة وتربية السلطة؛ فأولياء الأمور يفكرون في العائلة، بينما يفكر الأمراء في الدولة. يترتب على هذا أن أولئك وهؤلاء ليس هدفهم النهائي الخير الكلي والكمال التي تكون الإنسانية مهيأة له ، وتملك أيضا استعدادات لأجله (إيمانويل كانت، تأملات في التربية ، في ثلاثة نصوص، ترجمة: محمود بن جماعة، صفاقس، تونس ، دار محمد علي للنشر، الطبعة الأولى، 2005، ص 15).

وأكثر من هذا يجب أن يرعى التعليم الطفل ليس حين يتعلّم فقط؛ إنما حتى بعد أن يغادر التعليم، ويصير راشدا. أقصد بالرعاية أن يحول التعليم بينه وبين أن يستخدم عقله استخداما يضره هو أو يضر الآخرين مهما تكن عقائد هؤلاء الآخرين أو أعراقهم أو ثقافتهم أو أديانهم.

يولد الناس متساوين. هذا حق، ومهمتهم المشتركة أن يكونوا بشرا. وهذا حق أيضا. ولا يعني التعليم أن يتخرج الرجال والنساء ليعملوا على حساب الحياة التي يعيشونها. ليس المطلوب من التعليم أن يخرّج لسوق العمل كما هي الموضة الآن؛ إنما يخرّج إنسانا؛ وبعبارة جان جاك روسو: الحياة هي التي أريد أن القّنه ( تلميذي ) إياها. وحين يخرج من بين يدي لن يكون قاضيا أو جنديا أو قسيسا، بل سيكون إنسانا قبل كل شيء، بكل ما ينبغي أن يكونه الإنسان، وسيعرف كيف يكونه على الوجه الصحيح، ومهما غيرت صروف الأيام من وضعه، فسيكون دائما في وضعه الحق( جان جاك روسو، إميل، ترجمة: لطفي لوقا، القاهرة، الشركة العربية للطباعة والنشر، ص 32 ).

إن القول –يقول المفكر إدوارد سعيد-إن شخصا ما متعلّم أو معلّم هو قول له علاقة بالعقل ، وبالقيم الفكرية والأخلاقية، وبسيرورة البحث والنقاش والحوار مما لا يصادفه الفرد خارج المدرسة، والفكرة هي أن تشكل المدارس والجامعات عقول الشباب والشابات، وأن تعدهم للحياة.

المصدر: http://alawan.org/article13326.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك