رواد ليس لهم أحفاد!

يوسف الكويليت

    هل كان جيلنا مسحوراً برواد عرب تتلمذنا عليهم بلا آباء مؤسسين لنا في الداخل وكنا مغرمين ليس فقط بإبداعهم وبلاغتهم، وإنما عقلانية ما كتبوا وأرّخوا، كذلك استقلال شخصياتهم عمن تعلموا منهم في مدارس الغرب وخاصة أعمدة الفلسفة والأدب والفنون المختلفة حين اختط كل واحد منهم مدرسته وشخصيته العربية؟

كثيرون كتبوا ناقدين، بعضهم «تأدلج» من خلال الواقعية الاشتراكية للأدب وآخرون وصل بهم التغريب عدم اعتماد اللغة العربية كجسد جديد لحضارة معاصرة ولدعوة إما لإطلاق الحرف اللاتيني للغة العامية، أو استرداد أبجديات لغات اندثرت، وآخرون حاولوا اختصار الطريق بتعميق الثقافة الفرنسية والكتابة بلغتها للعبور إلى العالم الخارجي، وهؤلاء من أُطلق عليهم «الفرانكفونيون» من عرب أو بربر المغرب العربي ولا يزال لهم رواد ودعاة لدرجة محاولة الفصل التام بين تلك الدول وحضارتهم العربية، وقد كان في المشرق من حاول بناء مشروع كهذا اتهم بعضهم بالتغريب لصالح مؤسسات ودول حاولت مسخ تراثنا وتاريخنا المشترك.

سنعرض لبعض الأسماء ممن أعطوا في الأدب والفن ولن يقتصر النشاط على الذكر فقد، بل مساهمات المرأة العربية وسنختصر باسم أو اثنين لأن المجال واسع والخيارات كثيرة، فمصر أعطت نموذج طه حسين كعملاق فكك عُرى التراث العربي، وصاغ مشروعاً هائلاً أثار ضجة كبرى وخاصة كتابه في الشعر الجاهلي والذي يعد نموذجاً في فلسفة الشك وخاصة منهج «ديكارت» وصاحب مذهب العقلانية، وكان أكثر مناوئيه الطبقات الدينية التقليدية فاتهموه بالإلحاد، وهناك من قال إن فكرة الكتاب مسروقة من أديب آخر اسمه «مرجليوث» لكنه ترك أثراً عربياً غيّر من المفاهيم الكلاسيكية مما انعكس على مجمل من كتبوا بعده.

في الشعر هناك مدرسة بغداد قادها الزهاوي والرصافي والجواهري وفي سورية عمر أبو ريشة وسليمان العيسى وغيرهما وأدباء وشعراء المهجر من الشام كله، وفي الفن تبقى أم كلثوم وفيروز وعبدالوهاب، وفريد الأطرش وغيرهم على قائمة رواد هذا الفن، وكذلك بلدان عربية أحيت فن المقامات والمواويل وسحر الموسيقى والصوت والكلمة، ولا ننسى اليمن الذي أخرج رواده الكبار في الشعر مثل البردوني، أو غنى موروثها الغنائي الذي تتلمذ عليه معظم أصحاب البدايات في الخليج العربي، وخاصة أصحاب فن الصوت.

الذي يعنيني من هذا الاستطراد المختصر، لماذا لم تتواصل الأجيال مع بعضها لإغناء أمتنا بامتداد آخر يضفي الجديد على تلك الريادة ويغنيها، وهل القطيعة جاءت لأسباب سياسية أو اجتماعية، أو قصور ثقافي عندما أصبحت المطاردة لأي مثقف مهنة رجال الشرطة والمخابرات وغيرهما، أم أن بيئة الجامعة والمدرسة وضعف كوادرهما نتيجة طبيعية لهذه القطيعة، وان مغريات الأدب أصبحت مهنة كاسدة في هذا الوطن الكبير؟! لكن إذا اعتبرنا ذلك مبرراً كيف أصبح الفن من أغنية ومسرح ونحت وفنون تشكيلية لا نرى امتداداً لجواد سليم في العراق، أو محمود مختار في مصر، أو آمنة المصمودي في تونس، وما يصدق على هؤلاء ينسحب على تاريخنا المعاصر، فهل أصبحت الأرحام لا تلد إلا المشوهين حتى أصبحت الذائقة الفنية تستسيغ أغنية «أحبك يا حمار» على الأطلال لأم كلثوم؟

لقد ذهب الرواد ولكنهم لم يتركوا لهم أحفاداً يرثون عطاءهم وجهودهم العطيمة.

http://www.alriyadh.com/962980

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك