الوعي المختل!

يوسف الكويليت

    كل المجتمعات مرت بحالة سكون وتوقف اعتبرت في العلوم التاريخية والاجتماعية صعوداً يقابله هبوط تفرضه عوامل متداخلة، ثم فجأة تأتي طفرات تقودها إما زعامات أو مفكرون وإصلاحيون تثور على تلك المسلمات لتعيد تدوير حياتها نحو نهضة جديدة..

الوطن العربي مر بهذه الظروف، ولكنه عجز أن يضع مشروعاً للمستقبل رغم توفر الأدوات والإمكانات وعزيت الأسباب لأنظمة الحكم والتشكيك بالأدوات التي لعبتها في تخريب مؤسسات القضاء والتعليم والاقتصاد، وإنشاء طبقات طفيلية استأثرت بالمكاسب وأحاطت نفسها بشبكة من أجهزة المخابرات التي أسست لإرهاب الدولة باسم مكافحة الشيوعية عند أنظمة تسمى يمنية، أو التحرر من خلال حكومات يسارية تطفلت على نظريات اليسار وتفويت مؤامرة الدول الإمبريالية ومحاربتها..

كل أعطى تفسيراً مفتوحاً وغير محدد للأزمات المتصاعدة، قيل إنها الأمية التي ساعدت على حجب الوعي وتحولت إلى طبقات تم استغلالها وتدجينها بوسائل دعائية بشرت بكل ما يداعب الأمي الفقير من إصلاح الأنظمة إلى الوعود بمجتمع الوفرة والفضيلة وقيل إنها الفجوة المعرفية والانقطاع ما بين عالم يتسارع في تطوره، وآخر يعيش على استهلاك هذا المنجز، وقيل إنها ثقافية باعدت بين الوعي الشمولي ومبادئ الحقوق، وبين آخر يجتر تاريخه ومسلماته دون تغيير في بنيته الثقافية بنقدها وتحويلها إلى نشاط عام لا تحتكره الدولة للهيمنة عليه وتوجيهه بحيث تجيز ما يتطابق مع منهجها وأفكارها وتبعد أي اتجاه يكشف عجزها وتخلفها وفسرها آخرون بأنها مشكلة اقتصادية متوارثة، لم توظف الإمكانات في دولاب التنمية الشاملة لتتسع مداخيل الطبقات العليا وتختفي المتوسطة وتنسحق الدنيا مما كان سبباً في صعود الاحتجاجات وردود الأفعال التي انتهت إلى توارث الربيع العربي التي ضاعفت المشكلات ولم تحلها..

الجانب الآخر من العالم فجر لنا مفكروه حتمية صراع الثقافات والحضارات واعتبروا صدام الإسلام مع الحضارة الغربية حتمياً للتباعد بين الثقافتين والديانتين وكذلك موروث التاريخ، وهو جزء من إعادة بلورة الفكر المسيطر والمؤسسات المحتكرة للثروات العالمية لكن لندع ذلك كله، فكل العلوم محايدة يمكن توطينها، والمعيار على هذا الكلام الصين فهي شيوعية في نظام حكمها، ولكنها استطاعت أن تحول العلوم والمبتكرات والبحوث عند الدول المتقدمة إلى منهج طبقته على جميع مؤسساتها الصناعية والتجارية، دون أن تذهب إلى تطبيق النظام الديموقراطي ليكون له الأولوية على الإنتاج، بينما العرب على العكس عاشوا على هامش التنظيرات السياسية التي احتلت المركز الأول في السلوك العام حتى أنها تسببت في صدام حاد بين مختلف فئات المجتمع، وتاهت الهوية بين الوطنية والقومية والحزبية والطائفية لتحتل السياسة المعيار الأول في قياس المؤمن والكافر عند فصيل متطرف من المسلمين ونتيجة للفراغ الثقافي احتلت هذه العناصر الواجهات الاجتماعية بجاذبيتها الروحية واستطاعت استقطاب جيل شباب لديهم حافز الموت أكثر من الحياة بدافع الفصل بين دار الكفر ودار الإيمان..

على الجانب الآخر ظهر وجه جديد بتحديات أكثر راديكالية وجدلية عندما عزت كل الأسباب إلى الموروث التاريخي والروحي والمتسائل أين مركز العقل من كل ما يجري حولنا وهو سؤال مشروع لم يستطع استيعاب المرحلة وتداعياتها فكان الرفض والشك والتطرف المضاد لتلك المسلمات عنواناً جديداً لفكر لم يتبلور، ولكنه طرح الأسئلة وترك للآخرين الأجوبة.

http://www.alriyadh.com/955874

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك