مؤامرة الثقافات أم مؤامرة السياسات؟

إبراهيم بن سليمان المطرودي

    من الحكمة أن تضع نفسك مكان غيرك، ومن أحكم الحكمة أن تضع الأمم الأخرى، والشعوب الأخرى، مكان أمتك، ومحل شعبك وجماعتك، وتتعامل معها في تلك المواضع، كما لو كانت هي أمتك وجماعتك! فتنظر فيما تكرهه لأمتك، فتكرهه لتلك الأمم، وتُبغض أن تصاب به تلك الشعوب، تلك هي الحكمة في أنصع صورها، وأوضح معانيها.

ولطالما كانت هذه الحكمة "ضع نفسك مكان غيرك" سبباً من أسباب عودة الإنسان عن تفكيره، ومراجعته له، وإحجامه عن قوله، وتخفيفه من حدّته، ويجتمع مع هذه الحكمة في تحتيم المراجعة هذه الأيام شهرُ الصيام الذي سهّل لطالب الحكمة سبيلها، ويسّر له بلوغها، حين كانت التقوى إحدى أهم ثماره، وأثمن منحه {لعلّكم تتقون، وبين التقوى والحكمة علاقة وطيدة، إذ من أوضح أمارات التقوى الأخذ بالحكمة إذا بانت، والسعي في طلبها إذا خفيت، وهذا ما أحاول في هذه المقالة نيل بُغيتي منه، وإدراك حظي في إيضاحه للقارئ.

هذه المراجعة النقدية لظواهر الثقافة ضرورية؛ لأنها تتعلق بالأمم الأخرى، وتؤثر في علاقاتنا بها، ومثل هذا النقد لظواهر ثقافتنا قليل، واستعماله يسير، وسبب قلته أنه نقد للأمة عامة، وإدانة للوعي الجماهيري فيها، ومثل هذا النقد يتوقّاه كثيرون، ويستصعبون الخوض فيه، وإلى جانب صعوبة هذا النقد، فالناس في ثقافتنا أيضاً مشغولون بعضهم ببعض عن نقد الأمة وثقافتها في تعاملها مع الأمم الأخرى، ومن غريب أمرنا في هذا الشأن أننا نتطاحن بأَرْحية (جمع رحى) الكلام، ونتجادل بألسنة حِداد، يُضلل بعضنا بعضاً، ويُفسق فريق منا الآخر، فإذا جاء من يريد نقد الأمة في تعاملها مع الأمم، وحضر من يسعى إلى أنسنة ثقافتنا التي تحمل في كيانها كثيراً من التوحش، قلنا له: أقصرْ عن جلد الذات، وانتهِ عن نشر الغسيل، ونحن قبل دقائق كنّا في تناقدنا ساهين، وعن هذه القاعدة غافلين!.

أنا ساعٍ في نهاية شهر المراجعات، وموسم التأملات، أن أنقل المراجعة من ميدان العلاقة بالله - عز وجل - وهو الميدان الذي يحظى بحصة الأسد في الخطاب السائد، مع أن القاعدة الحكيمة الشهيرة تقول: حقوق الله مبناها على المسامحة، وحقوق الناس مبناها على المشاحة، إلى ميدان علاقتنا بغيرنا من الأمم، القريبة والبعيدة، وأتأمل في هذا الشهر حالنا معهم، وليس كما تعودتُ وعشتُ منذ خرجت إلى هذه الدنيا حين كنت لا أسمع في كل من مكان إلا شكوى من الغرب، الذي يكيد لنا، ويتآمر علينا، ويسعى جهده في أن يُطفئ نور الله - تعالى!، ويُعرقل المسلمين عن التقدم، ويمنعهم من إعادة أمجادهم، وإحراز أهدافهم في الحياة، التي لن تكون بطبيعة الحال إلا على جثة هذا الغرب الهامدة حسب الخطاب السائد!.

لقد أردت أن أُسلّط شيئاً من الضوء على كيدنا للغرب، وتربصنا به، كما هي ثقافتنا في تعاملنا داخل مجتمعاتنا المسلمة، إذ هي ثقافة واحدة، وموقفها من الآخر واحد، سواء كان قريباً منها أو بعيداً عنها.

الذي دعاني إلى هذا أن الإنسان بطبعه لا يميل إلى تذكار أخطائه على الناس، وإفشاء إساءته إليهم، وحال الأمة في هذا كحال الفرد، فهي تحرص على تبيان ما يكيده الآخرون لها، ولا يخطر في بالها أن تتفقّد نفسها، وتنظر في ثقافتها، فقد اجتمع علينا أمران، طبيعة إنسانية، واشتغال بعضنا ببعض عن ذاك، وهذان منعانا من التبصّر في ما تحمله ثقافتنا من ظلم للآخرين، وإهدار لحقوقهم، وكيد لهم، حتى بلغ بنا الأمر أن نستفيد من كل ما تُنتجه المنظومة الغربية من مفاهيم، ونتظاهر بالأخذ به في مجتمعاتنا (كالديمقراطية والمواطنة مثلا)، فإذا نظرنا إلى تلك المجتمعات، ودفعتنا ظروفها للقول فيها، وحان أن يستفيد الغرب ودوله من ثقافته التي صدّرها لنا، رأيتنا نقرأ ما يجري للأقليات المسلمة هناك على أنه عنصرية مقيتة، وطبقنة للمجتمع حسب دينه، وكنّا قبل ذلك رفضنا رفضاً باتاً من الغرب أن ينظر إلى مجتمعاتنا بتلك النظرة نفسها، ولُمناه أن يُثير البلبلة فيها، ويُحرّض على تقسيمها.

أنا عازم في هذا الشهر الكريم أن أضع الأمم الغربية مكان أمتي، وأُحلها محلها، وأجعلها هي المشتكية من الكيد، والمتذمرة من المؤامرة، والمسؤول عن هذه الشكوى هي الأمم المسلمة، والمنخرط في تأدية هذا الدور هم المسلمون، واختصرت هذا في عنوان المقال: "مؤامرة الثقافات أم مؤامرة السياسات" قاصداً إلى أنّ المؤامرة التي يحيكها كثير من المسلمين للعالم من حولهم هي مؤامرة ثقافية، وحين نُقارن بين هاتين المؤامرتين، سنرى أن الثقافية أخطرها، وأعظمها أثراً، لأنها ترتبط بوعي أمة، وترجع إلى مكوناتها الأساسية، على حين ترتبط المؤامرة السياسية بأنظمة الحكم، ومنظومة المصالح بين الدول، وكل ذلك لا ثبات فيه.

وهذه بعض النماذج والصور على مؤامرتنا الثقافية على الغرب، وكيدنا له، فالوعي الشعبي والجماهيري اليوم لا يؤمن بمفهوم المواطنة للدول غير الإسلامية، ويرى من حق المسلمين في أي دولة أن يستقلوا ويكونوا لهم دولة خاصة، وتجد الشعوب التي يقودها الواعظ تذهب بعيدا في نصرة أي أقلية مسلمة، لو همّت بالاستقلال عن دولتها! لكنك تجد هذه الجماهير في داخل دولها تعد من أكبر جرائم الأقليات أن تفكر في الاستقلال، وتهم بالانفصال، وشاهد هذا في مواقفهم من استقلال جنوب السودان، إذ كانوا يتباكون بمرارة على ما يجري!!.

وشاهد آخر له في دولنا نفسها، إذ تتهم كل طائفة عامة غالبة غيرها (وخذوا نموذج السنة والشيعة) بأنها طابور خامس، وتنتظر الفرصة حتى تنفصل، وتلحق بالدولة التي تنتمي لها مذهبياً، يخاف بعضنا من بعض، ويتوجس فريق منا من أخيه، ثم نعجب من الغرب حين يخاف من الأقليات المسلمة فيه، ونعد ذلك تعدياً منه عليهم، وظلماً لا يليق به أن يُوقعه عليهم؛ وهو داعي الديمقراطية، وحامي حماها! وأخيرا؛ وهو المهم هنا لا نعدُّ ذلك الوجود المسلم في الغرب تآمراً عليه، وكيداً لدوله! ونُطالبه أن يُعامل تلك الأقليات بغير ما نعاملها نحن به، لو كانت في دولنا، وداخل حدودنا.

نظن أن الغرب يخاف من أن تأتي الديمقراطية بالمسلمين، وننسى أنه يخاف مما تعتمل به ثقافتنا تجاه المسلمين في كل مكان، إذ ننصرهم، ونبذل قصارى جهدنا، لو أرادوا الانفصال عنه! وهذا معناه أن أي قوة مسلمة في دول أوروبا مثلا، ستحظى بدعمنا الشعبي لها، وتصفيقنا الثقافي لصنيعها، حين تُفكر في الاستقلال، وتكوين مجتمع مسلم مستقل، تلك هي مخافة الغربيين منا، إنهم يخافون منا ما نخافه منهم، وهو تقسيم دولنا، والمساعدة على انفصال شعوبها، لكن الفارق الكبير بيننا وبين الغرب أن الغرب يسعى إلى هذا بأجندته السياسية، ونحن نسعى له ليلاً ونهاراً بأجندتنا الدينية والثقافية، هو يسعى إلى هدفه بمتغير، لا يُمكن التنبؤ به، ونحن نسعى إليه بركيزة ثقافية راسخة، تستمد رسوخها من تصورنا للدين، وفهم رجالنا عنه.

الغرب يعيب ثقافتنا المريضة هذه التي تتخذ المبادئ الغربية مادام تخدم مصلحتها، وتعينها على إنشاء الدول وصيانة المجتمعات، ولا تبالي بهذه المبادئ حين يتعلق الأمر بغيرها من دول العالم (سياسة الكيل بمكيالين!)؛ فتراها تسارع إلى تأييد أي طائفة مسلمة حين تريد أن تفارق الدولة، وتنفصل عن المجتمع، ويرى الغرب شواهد هذا في علاقة بعضنا ببعض، إذ يُشاهد في هذا الوقت الصراع المحتدم بين السنة والشيعة، وسعي كل فريق إلى نصرة الدائنين بمذهبه، والمنتمين إلى طائفته! فما الذي يضمن له أن نلزم الحياد حين تعجّ المشكلات الدينية من جديد في دوله؟.

ثقافة الشعوب الغربية قائمة على مبدأ العرب العامي " الميدان يا احميدان"، وتلك هي خلاصة الديمقراطية عندهم، لو أردنا أن نُلبسها جملة شعبية مشهورة، حتى يفهمها الناس كلهم، ويتصورونها تصوراً سديداً من خلال معهودهم الثقافي! وهذا يبعث فينا الارتياح، ويُبعد عنا الخوف من مجتمعاتهم، ويزيد ارتياحنا أيضاً أن كثيراً من رجال الدين عندنا حسموا علاقة تلك المجتمعات بالأديان، وأظهروا لنا أنها مجتمعات علمانية، لا تُقيم لأديانها قائمة، ولا تعتدّ بها في بناء حياتها، وحين نكون في تلك المجتمعات نأمن من أن يُنظر إلينا بمثل تلك النظرة التي تقوم عليها حياتنا في مجتمعاتنا، وهذا ما يجعلنا لا نخاف الغرب الثقافي، وإن خفنا الغرب السياسي، وخشينا من تربصه بنا، على حين يخاف الغرب ثقافة شعوبنا، وتدفعه مخاوفه إلى شغل بعضنا ببعض، ودفع بعضنا في نحر بعض.

وإذا عرف الغرب خطر ثقافتنا عليه في العصر الحديث، فقد عرفنا خطرها علينا منذ القرون الأولى، فبها يُفسّر معظم ما نعيشه اليوم، وعاشه أسلافنا في بيئاتهم الأولى، فنحن والغرب متفقون على عداوة كل ما يخترم المجتمعات، ويُؤلّب بعضها على بعض، ويدعوها في نهاية المطاف إلى عدّ الانقسام ضرورة، لا محيص عنها، ولا ملجأ منها إلا إليها!.

وأخيرا، فأود أن أختم هذه المقالة بهذه الجملة، التي تُفسّر جزءاً من تخوّف الغرب منا، راجياً أن تُحمل على معنى حسن، وقصدٍ جميل، فأقول: إن الغرب الذي قضى دهراً طويلاً في مكافحة رجال الدين، وأضرارهم عليه، تُرهبه المجتمعات التي تُسلم قيادها تماماً لرجال الدين، فهو يرى في رجال أي دين رأيه في رجال الدين الذين بذل كثيراً لتخفيف سلطتهم، وتحجيم أثرهم في الحياة والناس، فهو لا يُحارب في ظني الأديان، وإنما يحارب رجالها الذين خُيّل لهم أن ما يحملونه من تصنيف ديني، يعد مسلمة لا يُمْكِنُ التنازل عنها، وفي ضوئها يتم تقسيم المجتمعات حسب أديانها ومذاهبها، فمثل تلك المسلمات لا تجتمع مع فكرتيه في الديمقراطية والمواطنة! هو يريد بناء المجتمعات على التنافس في إدارة الدنيا، والمهارة في تنظيمها، وضبط إيقاعها، وثقافتنا، والمتغلبون فيها، تدعو إلى بناء المجتمعات على الأديان والمذاهب والآراء، وقد تخلّى هو عن هذا الخيار الذي ما زال كثير منا يعدّه جزءا من الدين، وركناً ركيناً من أركانه! ورفض أن نُصدّر إليه بضاعة، تخلّى عنها، وأضعف سلطة رجالها، وأيقن أنها الخطر على مجتمعاته.

http://www.alriyadh.com/954954

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك