دولة الخوارج.. نهاية المؤسسة وبقاء الإيديولوجيا

محمد بن علي المحمود

    

كل هذا التشديد على خطورة الفكر الخوارجي لا ينقض مقولتنا الأساسية التي أكدنا عليها في بداية هذا المقال، والتي تفترض أن الواقع هو الذي يفرض نفسه على الخيارات الفكرية. لكن، لا ينفي هذا أن الفكر مُلهم ومُحرّض، وتزيد فرصته في الإلهام والتحريض عندما يكون الواقع الممتد على مساحات العالم الإسلامي واقعا يستقطب مثل هذه الأفكار.

 

 

أكدتُ في المقال السابق أن إعلان قيام دولة الخوارج، هو – في الوقت نفسه – إعلان نهايتها، بل ونهاية معظم ملامح المؤسسة السياسية للخوارج منذ تنظيم القاعدة وإلى اليوم. وقد برهنت على ذلك بدلائل من التاريخ، ومن الواقع، ومن طبيعة الفكرة الخارجية ذاتها. إنها النهاية المحتومة. ولكن، هل يعني هذا نهاية الإيديولوجيا الخوارجية المتمثلة اليوم في منظومة الفكر التقليدي الأثري الذي كان نتاج التزاوج بين التكفيرية الخوارجية بما فيها من نصب صريح، وبين النصب الأموي بلواحقه، وبما فيه من إيمان راسخ بالرؤى الاستبدادية الطغيانية، ذلك الإيمان الذي كان هو المُشرّع للطغيان على امتداد تاريخنا الطويل؟

رغم دور العقائد/ الأفكار في التحفير وفي تحديد الخيارات؛ إلا أن الجميع يتعاطى مع الواقع بمستوى مُعيّن من البراجماتية التي قد لا تكون ظاهرة للعيان. ولهذا، فمن كان يغض الطرف عن دولة الخوارج (= داعش) في مرحلة ما؛ وفقا لحسابات سياسية مُعيّنة، سينقلب عليها الآن. ومن كان يعد خطرها ثانويا بالمعايير السياسية أو العسكرية؛ سيقوده التمدد الداعشي - الذي أعلن عن أقصى طموحاته السياسية بإعلان (الخلافة) – إلى وضع القضاء على هذا الخطر الزاحف في أعلى سلم الأولويات.

الدول هي في النهاية (كائنات سياسية حيّة)؛ تبحث – بشكل آلي وطبيعي – عن كل من يضمن لها شروط الحياة، كأي كائن حيّ. قد تستخدم الإيديولوجيا؛ ما دامت تحافظ على شرط بقائها ونمائها، ولكنها قد تعادي هذه الإيديولوجيا نفسها، أو شيئا من أهم كوناتها؛ متى ما أحست بأنها تحوّلت من داعم إلى مُراغم.

وقد أكد أوليفييه روا في كتابه (الجهل المقدس) ص138 أن الصرب إبان تفكك يوغوسلافيا هاجموا مسلمي البوسنة، ولكنهم لم يمسوا مسلمي صربيا، وأنهم كانوا يستهدفون الجماعة العِرقيّة الجديدة من بوسنيين، لا معتنقي الإسلام. وهذا السلوك الصربي الذي أشار إليه أوليفييه روا طبيعي، لأن العرق في تلك اللحظة التاريخية هو الذي كان يحكم معادلات السياسة الجديدة (= إنشاء دولة عرقية/ قومية)، حتى وإن كان سياسات مشحونة بزخم من التصورات التاريخية التي يبدو - للوهلة الأولى - أنها غير تاريخية، إلا أن المتأمل لما وراء الشعارات المعلنة للتجييش والحشد؛ يجدها تصورات مرتبطة بالصراعات العرقية أكثر من ارتباطها بصراعات الأديان.

حتى في فترة تأسيس الإسلام (وهي الفترة التي يفترضها المؤرخ الإسلامي محكومة بالإيديولوجيا إلى أقصى حد، وربما افترضها بعضهم محكومة بالإيديولوجيا وحدها)، كانت شروط الواقع الموضوعي، واستحقاقات التعاطي البراجماتي معها عاملا حاسما في تحديد مسار الإسلام في التاريخ. وهذا ما أكده ألفريد لويس دي بريمار في كتابه (تأسيس الإسلام) ص96 عندما أشار صراحة إلى حقيقة أن " تشكيل تحالف متمحور حول عمل عسكري في خدمة الفتح كان هو العامل الأول والأصلي في تأسيس الإسلام".

إذن، ما يضمن نجاعة الأفكار ليس شيئا مرتبطا بطبيعتها (= الأفكار/ الإيديولوجيا) من حيث هي منظومة متعالية، تنبع من يقين أو تُحيل إلى يقين، وإنما هو مرتبط بمدى ملاءمتها للواقع، ومن ثم للفعل الأجدى في الواقع. وإذا كان هذا متحقق – بدرجة ما – في فترة التأسيس المتمحورة حول المعنى الإسلامي، سواء في كليته أو في تفاصيله، فإنه مُتحقق – إلى أقصى درجة – في كل المحاولات التي حاولت تأسيس كيانات سياسية بالتماهي مع النموذج الأصل.

ربما يكون الصخب المرافق للإعلان الإيديولوجي ذي الأهداف السياسية قادرا على الإيهام بالعكس، أي بأن الأفكار هي المُحدد الرئيس للفعل جملة وتفصيلا. قد يخدع هذا المظهر الصاخب/ المُعلن - لأهداف حشدية - أشد الباحثين نباهة، فكيف بغيره !. ولهذا لم يكن غريبا أن يتبنّى توبي ماثيسن هذا الرأي؛ فيُصرّ في كتابه (الخليج الطائفي) - ص 19 - على أن "المذهب الشيعي هو مفتاح لفهم طريقة عمل الدولة والمجتمع في إيران".

توبي ماثيسن ينظر في الصورة المباشرة التي تعلن عن نفسها، ولو أنه دقق النظر فيما وراء هذا المباشر؛ لوجد أن الخيارات السياسية هي التي لها الأولوية، ومن ثم فهي ما يحدد هذه الصيغة المحددة من المذهب الشيعي، بدليل أنه قد تم تكييف كثير من مقولات المذهب الشيعي – بل وتحوير بعضها - لتتلاءم مع الظرف السياسي الإيراني الراهن. وبهذا، فليس المذهب الشيعي هو الذي يحدد مسارات العمل، بل مسارات العمل هي التي تحدد طبيعة النسخة المؤولة التي يجري اختيارها من داخل المذهب الشيعي، بدليل تجاوز مقولات في المذهب الشيعي هي أقوى – من حيث منطق الاستدلال الديني الخالص – من المقولات التي تم اختيارها واعتمادها دستوريا وتشريعياً. ولعل (ولاية الفقيه) كأهم مسألة تُلح على الجدل السياسي الإيراني هي القضية الأشد دلالة في هذا السياق، حيث كانت – كما أشار إلى ذلك وجيه كوثراني في كتاب (العرب وإيران) ص47- اقتراباً من الحال السنية في مسألة الخلافة. أي كانت اقترابا من الضد الذي صنع التقابل معه هوية المذهب. ومع ذلك تم اعتمادها حتى وإن كانت خيارا فقيها مرجوحا، إلا أنه مدعوم بخيار سياسي راجح !.

دولة الخوارج (=داعش) ليست مستثناة من كل هذا. فهي – بوصفها دولة أو حتى شبه دولة - حتما تمارس الخلط بين متطلبات الإيديولوجيا، ومتطلبات الكائن السياسي الحي (=الدولة). وهذا ما لمحه الدكتور عبدالسلام الوايل في الجزء الثاني من مقاله في (الحياة) عن داعش، والمنشور في عدد 15/7/2014م حيث رأى أن السلفية الجهادية تمر بمرحلة ثالثة، هي مرحلة تكوين الدولة، وأن هذا فرض عليها أن تتعامل مع الأفكار والواقع من منطلق براجماتي، حتى فيما تعتقد أنه يمس صلب عقيدتها. فهدمها للقبور/ الأضرحة كان انتقائيا، فمثلا، تجنبت ما له علاقة بتركيا في هذا المجال الذي يمس صلب التصور العقدي لديها؛ لأنها باتت تعي متطلبات الحفاظ على الكيان الذي أقامته، وتسعى للحفاظ عليه، ولو بالمهادنة التي قد تقصر، وقد تطول؛ تبعا للظرف السياسي المتعلق بالدولة، وليس انسياقا وراء تحولات في التصورات الأساسية للفكر التكفيري.

كل هذا لا ينفي أهمية الباعث الفكري. فالفكر وإن كان لا يقود التفاصيل العملية بشكل مباشر، إلا أنه هو الذي يرسم حدود الوعي في النهاية، أي هو الذي يرسم حدود التصورات الكبرى التي يجري من خلالها فهم الواقع. فمثلا، قد يطمع المنتمي إلى هذا الفكر الخارجي في انتهاج سياسة براجماتية مع واقعه الذي يحاصره بشروطه؛ إلا أن بُنية الفكر – وخاصة في تصوراتها الكلية – لا تمنحه فهما أعمق للواقع، ومن ثم لا تمنحه مجالا للتفاعل الإيجابي مع واقع يتصادم معه إلى أقصى درجات التضاد.

من هنا، فدولة الخوارج لن تمتد، بل ولن تعيش طويلا!. سترتطم خياراتها بأفق الوعي المحدود لديها. وهذا سيجرها إلى انتهاج سياسات كارثية لن يقبل العالم بها؛ مهما كان الثمن، حتى لو كان الثمن مزيدا من الاستقرار في منطقة ملتهبة بأعنف صور الصراع؛ لأن العالم يعلم يقيناً أنه سيكون استقرارا على فوهة بركان.

دولة الخوارج (= داعش) ستموت عما قريب. هذه نتيجة يقينية لديّ. لكن لن تموت الأفكار الملهمة التي خلقتها، كما لن تنعدم – مستقبلا – الشروط الموضوعية التي تُمهّد لتفعيل هذه الأفكار، والمتمثلة في البيئات الفوضوية المفتوحة على كل خيارات الاحتراب الداخلي والخارجي، إقليميا ودوليا. فالأفكار التكفيرية، والمؤسسة لشرعية قتل المخالف، لم توجد مع داعش، ولن تموت مع موتها. وبهذا، لن يموت من داعش إلا هذا الكيان المؤسساتي المتمثل في هذه الدولة اللقيطة، وسيبقى الفكر الداعشي تمظهرا من تمظهرات التقليدية التكفيرية، سيُطارد في أكثر من مكان، ولكنه سيبحث له في كل مكان عن موطئ قدم، ولو في أقبية المعتقلات !.

إن التحدي الحقيقي في مواجهة الخوارج التكفيريين لا يكمن في بنود الخطة التي من المفترض أن تكون دولية - إقليمية، وسيُناط بها مهمة القضاء على دولة الخلافة الداعشية المحكوم عليها بالموت سلفا، بل التحدي الحقيقي، والأعمق، والأدوم، يتمثل في الفكر الداعشي الموجود والمتغلغل في تراثنا، ذلك الفكر الذي ستتكفل الفلول الداعشية - التي ستتقاطر علينا بعد سقوط خلافتهم - بنشره وتعميمه، ممهورا بتجارب عسكرية قادرة على إحداث أكبر الضرر في أشد الأماكن حساسية، ولن يكون صدها –فكرا وحراكا - إلا بأكلاف باهظة قد تضطرنا إلى تقديم بعض التنازلات التي قد تبدأ بنوع من المساومة الإيديولوجية غير المباشرة، وربما تنتهي بالتنازل لهم عن جوهر الحياة: الحرية.

لقد أشار الأستاذ عبدالرحمن الراشد في مقاله المعنون ب("داعش" ليست بالخبر السيئ) والمنشور في الشرق الأوسط بتاريخ 13/7/2014م إلى هذا العبء الفكري الذي يجب علينا تحمل مسؤوليته بوعي حين قال: "مواجهة «داعش» ليس بمحاربتها في الأنبار العراقية، أو دير الزور السورية، أو الجوف اليمنية، بل أولا في الداخل، سواء في الدول الإسلامية، أو في الدول التي وصلها الفكر المتطرف إلى الأقليات المسلمة من الصين إلى أوروبا". والأهم أنه أشار إلى أن اعتماد الخيارات المدنية هو أنجع وسيلة في هذه الحرب، خاصة في الدول التي تأخذ على نفسها مواجهة هذا الفكر الداعشي الذي يتهددها حتى في مشروعية وجودها.

إذن، لا بد من حرب ثقافية - مدنية، معلنة، ضد هذا الفكر المعادي للإنسان وللحضارة وللحياة.

من الضروري تتبع كل السياقات الفكرية المتقاطعة مع هذا الفكر، ومنها، بل وأهمها، منظومة التشدد/ التزمت التي تقع خياراتها الملزمة في دائرة تخرج عن نطاق الخيارات الفردية، وتتصل بمجمل الخيارات المفروضة في الفضاءات العامة. والأهم أن تكون حربا مفتوحة، أي بلا نهاية، فالفكر المتطرف كالجريمة، أي هو إفراز دائم للحيوية الدينية المتشددة. ومن ثم فإن أية غفلة أو تهاون في مواجهة هذا الفكر بالحسم في اعتماد الخيارات المدنية المناهضة للتشدد الديني؛ لا بد وأن تسهم في نمو نوع من التطرف. وهذا ما جعل الأستاذ عبدالرحمن الراشد في مقاله السابق يُرجع سبب ظهور داعش ونموها السريع إلى أن الكثير من الحكومات نامت بعد أن قلصت جهودها في ملاحقة التطرف والمتطرفين، خاصة بعد أن اعتقدت أنها انتصرت على الإرهاب.

إن كل هذا التشديد على خطورة الفكر الخوارجي لا ينقض مقولتنا الأساسية التي أكدنا عليها في بداية هذا المقال، والتي تفترض أن الواقع هو الذي يفرض نفسه على الخيارات الفكرية. لكن، لا ينفي هذا أن الفكر مُلهم ومُحرّض، وتزيد فرصته في الإلهام والتحريض عندما يكون الواقع الممتد على مساحات العالم الإسلامي واقعا يستقطب مثل هذه الأفكار.

للأسف، عالمنا الإسلامي فيه من مقومات الواقع المعنوي والمادي ما يجعله بيئة صالحة لاستنبات أشرس ما في التقليدية الماضوية من تزمت وإقصاء وتكفير وتشريع للقتل باسم الله. ومن هنا، فإذا كان علينا أن نقطع الطريق على ازدهار هذه الأفكار بتغيير الواقع، وتحويله إلى واقع مدني حر يستعصي عليها، فإن علينا أيضا، وفي الوقت نفسه، أن نقطع الطريق على الواقع الحاضن نفسه بتخفيض خطورة هذه الأفكار إلى أقصى درجة ممكنة. وبهذا نُحصّن أنفسنا من هذا الخطر المدمر بمستوى: درجتين نوعيتين؛ إحداهما تنتمي إلى عالم الفكر، والأخرى تنتمي إلى عالم الواقع، فإن تم اختراق الأولى لهذا السبب أو ذاك؛ تكون لها الأخرى بالمرصاد. وهذه حماية مضاعفة لا بد منها؛ خاصة بعد أن رأينا كيف يتفاعل الإرهاب ويتطور؛ ليصل إلى أبشع صور القتل الجماعي، لا في حدود تفجير هنا أو تفجير هناك، وإنما باعتماد سياسة القتل المُمنهج، والمُعمم بمستوى دولة تمتد على مساحة واسعة من أرض العراق والشام.

http://www.alriyadh.com/953265

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك