رفع الرشد عن ابن رشد

مها محمد الشريف

    يحل مفهوم الصالح العام محل الأهمية والمسؤولية، لما للحياة من ارتباط فكري ومعيشي بالإنسان، فكم راشد بيننا رُفع عنه الرشد وسيادة العقل، وكم فرد تخلى عن قدراته الإيجابية وألغى وجوده بمشيئة الآخر، وتبع انتماءات غريبة، تؤكد نفيه وعزله عن المجتمع.

وترك ما يخصه ليقفز إلى شؤون الدولة والسياسة والناس ودينهم وسلوكياتهم، وكأني به من الأوصياء على الأمة، يكفر ويغفر ويصالح ويكيل العداء ويخطط وينفذ، ويطلق لفظ القانون على كل حالة يأتي بها، ويخوض في جوهر الهيئة السياسية، ويقايض على الصواب ويعمل عكسه.

إن أخلاق العصر الذميمة عكست صور الفساد المتعددة الألوان والأحجام والمقاسات، وألبست الناس لباس الجشع والخوف والغلو واللهاث وراء المادة، والتجمهر على شواطئ المجتمعات لتصيّد الأخطاء، ونصب الفخاخ بعضهم لبعض، وكأن الرشد رُفع عن الراشد والعاقل في عصر له أدوات ومآرب مختلفة عما سبقه من العصور.

فالشاهد يقول إن التجربة الجمالية بين الماضي والحاضر مع أن الفوارق الزمنية والمادية تفتقد المحاكاة، فأصبح كل شيء حولك يخترق مجاله، ويقفز فوق المعقول ويتناول كل الأحداث، بعيداً عن الحقائق، ليس له هدف سوى إجادة الحديث والسعي إلى النشر، فلم تعد للمشاركة الوجدانية الاجتماعية أي استجابة، واقتصرت معرفة الناس على السلع التي يقدمونها.

ولهذا يروي لنا "د. عبدالباسط الناشئ" مثالاً عن رفع الرشد عن ابن رشد قائلاً: (إن الفلسفة التي راجت عن ابن رشد للنص الشرعي وتعامله مع عقيدة المسلمين، هو تحطيم كل الخطوط الحمراء، وتجاوز كل الحدود التي تفصل بين العلم الإلهي وبين العلم البشري)، وعلى حد قوله إنه أسقط هيبة العقيدة الإسلامية، وجعلها موضوعاً للدرس مثلها مثل أي مسألة فكرية.

وأخبر أن البحث عن الحقيقة في فلسفة ابن رشد تتجلى في شخصه، وليس في الفلسفة والعلم، ما جعل الهيئات الدينية في العصور الوسطى تكاد تجمع على أنه زنديق، بل إنهم وصفوه بمؤسس أحد مذاهب الزندقة الجديرة بالجحيم.

وقد اختلفت الناس حول فلسفته، فمنهم من أخذ بشروحاته، ومنهم من جعلها قيد الدراسة والمقارنة، مع ابن حزم، والغزالي، والقرطبي، ومن بعدهم ابن خلدون وابن تيمية، وحدوا من انتشار كتبه، لولا أن الجابري فيما بعد قد أساء إلى روح الحداثة على حد رؤية د. الناشئ: عن قول الجابري: (إن الجيل الصاعد إما أن يكون رشدياً فيقدم على مدارج الأصاله والمعاصرة معاً، وإما لا يكون له مكان في العالم).

وجاء الخطاب هنا متذبذباً يكتنفه الغموض والمراوغة؛ لبث فكر أو علم يوجه نحو العقيدة، وقد أجده فساداً ونسقاً مناهضاً للرشد، يقتضي رفضه بكل الوسائل، فإن أمانة التاريخ والإنسانية تكمن في تنوير العقول، وليس في اجتهادات تنتمي في النهاية لغاية الاسم وصاحب العمل، لكسب الشهرة وتحول القاعدة الجماهيرية للحفاوة به ومتابعته بغير حق، والقول للعموم وليس للجابري فقط.

أما اليوم فإن العلم شامل وضروري لا ينتمي إلى أحد، شد من أزره العصر التقني، ولكن أوجده في قلب الاستهلاك على اعتبار أن الحياة برمتها قيد تنظيم تجاري عالمي، على عكس العلم في القرون الماضية التي اعتمدت على الأشخاص والتوارث حتى أصبحت دولاً ومؤسسات من العلوم والفلسفة.

http://www.alriyadh.com/949915

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك