العرب ومستقبل الإسلام

محمد محفوظ

    ذات مرة أطلق الزعيم الماليزي السابق مهاتير محمد موقفا صريحا حينما قال: بأن العرب لم يعودوا قادرين على حمل رسالة الإسلام في العالم الحديث لأنهم لم يألفوا التعددية في فضاءاتهم.. فتوالت الردود حول هذا التصريح والموقف بين رافض لهذه الرؤية ومبرر لها، وبين متعصب اعتبر هذه التصريحات تنم عن موقف نابذ للعرب وساع إلى نقل الثقل الإسلامي من المنطقة العربية إلى منطقة شرق آسيا.. وعلى كل حال وبعيدا عن التباينات في الرؤية والموقف مما أطلقه مهاتير محمد، من الضروري العودة إلى جوهر المسألة.. ولعل جوهر المسألة هو هل يمكن للعرب في ظل أوضاعهم الحالية وأحوالهم القائمة أن يمارسوا ذات الأدوار والوظائف التي مارسها العرب في صدر الإسلام.

 

الأمة القادرة اليوم على قيادة دفة العالم الإسلامي وصناعة مستقبله، هي الأمة المتطورة في إدارة تعدديتها وتنوعها الثقافي والاجتماعي، والقادرة على إنتاج العلم والمعرفة، والمشاركة من موقع القدرة الفعلية في تقديم العلوم والمعارف للعالم، كما أنها الأمة التي لا تحارب التجديد ولا تقف موقفا سلبيا من محاولات التطوير ومشروعات الإصلاح

 

 

 

 

وقبل أن نوضح وجهة نظرنا ورؤيتنا حول هذه المسألة ومبرراتها الثقافية ومعطياتها الاجتماعية وخلفيتها الحضارية والمعرفية، من الضروري القول: إن الشعوب العربية وعلى طول التاريخ الإسلامي أبلت بلاء حسنا في خدمة الإسلام وإيصال معانيه إلى مساحات جغرافية جديدة.. إلا أن هذا البلاء الحسن ليس من نصيب العرب وحدهم، وإنما هناك قوميات إسلامية ساهمت بهذا الدور وتركت وقائع حضارية وتراثا مجيدا في خدمة الإسلام وإيصاله إلى شعوب جديدة.

وهذه الحقيقة لا تلغي الموقع المتميز الذي تبوأه العرب في التجربة الإسلامية التأسيسية، وأن لغتهم هي لغة القرآن الكريم، وأن بيئتهم هي البيئة الأولى للدين الإسلامي.. ولكن هذا الموقع المتميز للعرب في تجربة الإسلام التاريخية، لا يلغي موقع ودور الشعوب والأمم الأخرى على صعيد خدمة الإسلام وإيصال قيمه ومبادئه وتشريعاته إلى مساحات جديدة.. فالكثير من الجهود التي بذلها المسلمون من غير العرب كان لها الدور الأساسي في إيصال الإسلام إلى شعوب جديدة وفي إثراء المعارف الإسلامية عبر سلسلة كبيرة من العلماء والفقهاء والدعاة من غير العرب..

وبعيدا عن الرؤية النرجسية والنمطية في النظر إلى البعد القومي للمسلمين جميعا، نستطيع القول: إن جميع الأمم والشعوب الإسلامية تفتخر بإسلامها وبذلت في حقب زمنية متنوعة الكثير من الجهود في خدمة الإسلام والمسلمين.. وعلى رأس هؤلاء هم العرب من المسلمين.. والجدير بالذكر في هذا الصدد أن العرب من غير المسلمين كان لهم أيضا الدور المتميز في خدمة اللغة العربية والحضارة الإسلامية.. فالمسيحي العربي هو مسيحي الديانة إلا أنه مسلم الثقافة والحضارة.. لذلك ثمة منجزات إدارية ومعرفية عديدة صنعها المسيحيون العرب في تجربة الإسلام التاريخية..

ولكن كلنا يعلم أن عدم التمسك بالمنجز التاريخي وعدم الإضافة عليه، قد ينقل دفة الأمور إلى مواقع اجتماعية أخرى.. ولكل ظرف تاريخي ومرحلة اجتماعية وسائلها وآليات عملها المناسبة.. وعلى ضوء التواصل الكبير بين أمم الأرض، أضحت هناك مستلزمات ومتطلبات جديدة، لكي تتمكن الأمم من إيصال رسالتها وقيمها إلى الأمم والشعوب الأخرى.

وعلى ضوء هذه الحقيقة تصبح مقولة مهاتير محمد جديرة بالفحص والتأمل والتحليل من خلال الأفكار التالية:

1- على ضوء التطورات العلمية والتواصلية المختلفة، لا يمكن أن يتسيد العالم، إلا الأمة التي تعرف التعددية والتنوع الثقافي والحضاري وتعترف بلوازمه ومقتضياته وإن عدم الاعتراف بحقائق التعددية ومعطيات التنوع، يصحر البيئة الاجتماعية مما يفقد هذه البيئة الكثير من المعاني الرائعة التي يحتاجها العالم اليوم، وهي اللغة المتداولة بين شعوب الأرض.

فالموقف الواقعي والفعلي العربي من مقولة التعددية، هو الذي يحدد إلى حد بعيد مدى قدرة العرب المعاصرين على إيصال المعاني السامية لدينهم ورسالتهم السماوية.. ويبدو وفق المعطيات القائمة على هذا الصعيد نتمكن من القول: إن المجتمعات العربية اليوم تعاني من مشكلات حقيقية في استيعاب تعددياتها الدينية والمذهبية والقومية.. والمجتمع الذي لا يحسن احترام تنوعه ولا يحافظ عليه، فإنه لن يتمكن من بناء جسور معرفية وحضارية مع الأمم والشعوب الأخرى.

لذلك فإن إعادة الدور الرائد للعرب في التجربة التاريخية الإسلامية، يتطلب من جميع المجتمعات العربية العمل على بناء واقع سياسي واجتماعي جديد يحترم تنوعه الأفقي والعمودي ويذود عن حقوقهما الخاصة والعامة.

فلا مستقبل على المستوى الحضاري، إلا إلى المجتمعات التي لا تقمع تنوعها ولا تحارب حقائق التعددية فيها.

وجميع مجتمعاتنا العربية اليوم، بحاجة إلى خطوات نوعية في هذا السبيل..

2- إن المجتمعات التي تعاني من رهاب التجديد والإصلاح وتحارب أهل التنوير وبناء الرؤى والمعارف الجديدة، هي مجتمعات غير مؤهلة لريادة قاطرة الإسلام في العصر الراهن.. لأن ضمور القدرة والطاقة التجديدية والإصلاحية للمسلمين، هو الذي يساهم في تراجع مستوى الوعي الحضاري والقدرة العامة على مواكبة العصر ومنجزات الحضارة الحديثة.. والمجتمعات العربية على هذا الصعيد أيضا تعاني من مشكلات وأزمات، حيث أنها مجتمعات لا تحفل بالتجديد ولا تحتضن المجددين ولا تحمي المصلحين بل في الأغلب هي تكون في الموقف المقابل لذلك حيث أنها تألف الركود والجمود وتسوغ استمرارهما، وتحارب أصحاب العقول التجديدية والإبداعية القادرة على تحريك الساكن، وتعلي من شأن سدنة القديم وتعتبره هو المعادل الموضوعي للقيم والمقدسات لذلك تتلاشى في هذه المجتمعات كل الفعاليات القادرة على إحداث معادلة جديدة في مسار هذه المجتمعات.. ولا يمكن لمجتمع يعيش الجمود ويحميه، أن يتمكن من قيادة مشروع الإسلام في العصر الجديد.

فالإسلام اليوم يحتاج إلى مجتمعات تعيش الحرية والفعالية والحيوية في مختلف مجالات الحياة.

3- ثمة علاقة عميقة تربط بين الريادة والتمكن الحضاري في الأرض والقدرة على إنتاج المعرفة والعلم.. بمعنى أن المجتمعات الإنسانية القادرة على قيادة دفة العالم، هي تلك المجتمعات القادرة على إنتاج العلم والمعرفة.. أما المجتمعات التي لا تشارك بفعالية في انتاج العلم والمعرفة، فهي مجتمعات غير قادرة من الناحية الفعلية على التأثير النوعي في مسيرة العالم.

والعرب اليوم إذا أرادوا قيادة دفة العالم الإسلامي، فعليهم الاهتمام بصناعة العلم وتبيئة المعرفة القادرة على المشاركة والتفاعل مع قضايا واحتياجات العالم.. دون ذلك لن يتمكن العرب من القيادة والريادة لعالم الإسلام المعاصر.

وخلاصة القول: إن الأمة القادرة اليوم على قيادة دفة العالم الإسلامي وصناعة مستقبله، هي الأمة المتطورة في إدارة تعدديتها وتنوعها الثقافي والاجتماعي، والقادرة على إنتاج العلم والمعرفة، والمشاركة من موقع القدرة الفعلية في تقديم العلوم والمعارف للعالم، كما أنها الأمة التي لا تحارب التجديد ولا تقف موقفا سلبيا من محاولات التطوير ومشروعات الإصلاح.

http://www.alriyadh.com/948817

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك