الثورة الرابعة؟

    يشير كتاب (الثورة الرابعة: السباق العالمي لإعادة اختراع الدولة) إلى أن الدولة الحديثة تشكلت عبر ثلاث ثورات فكرية، ونحن الآن في مخاض الثورة الرابعة. الثورة الأولى -حسب الكتاب- كانت في القرن السابع عشر بظهور أفكار تومس هوبز في كتاب (لافايثن) التي أدت إلى ظهور الدولة القومية؛ تبع ذلك الثورة الثانية، الدولة الليبرالية، التي استوحت أفكارها من جون ستيوارت ميل، في القرن التاسع عشر؛ أما الثورة الثالثة، فقد استوحت أفكارها من بياتريس ويب، التي نشرت عشرة مجلدات عن الحكومة المحلية في مطلع القرن العشرين، أدت بذلك إلى ظهور ما يسمى بدولة الرفاهية. ومع توالي هذه الثورات يشير الكتاب إلى إن الثورة الرابعة ستكون مدفوعة بعوامل كثيرة، أهمها شح الموارد، والتنافس القومي بين الدول، وانفتاح الفرصة لكل دولة بتحسين أدائها.

كانت أفكار هوبز ناتجة من الظروف التي عاصرها حيث مرت بريطانيا بحرب أهلية استمرت عشر سنوات. كانت الحرب الأهلية مبعثها اختلال العلاقة بين ملك بريطانيا والبرلمان حول إدارة شؤون الدولة. لذا ليس من المستغرب أن يكون هوبز أول من طرح فكرة العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم في كتابه (لافايثن). حيث حدد هوبز وظيفة الدولة طبقا للعقد الاجتماعي مع المحكوم، حيث تأتي وظيفة تطبيق القانون وحفظ النظام في قائمة الأوليات. كان هذا العقد، حسب هوبز، هو ضمان حفظ الدولة والمجتمع من الوقوع في مأزق الحرب الأهلية، بحيث يتنازل الفرد عن جزء من حريته وسلطته إلى الدولة مقابل ما تقدمه له من خدمات مثل تنفيذ القانون وحفظ النظام. نقلت أفكار هوبز المجتمع البريطاني من العصر الإقطاعي إلى عصر الدولة القومية. كانت ما يطرحه هوبز في (لافايثن) هو دور الدولة في حفظ النظام ليمكن أفراد المجتمع من العمل بحرية تجارية، مع دور صغير للدولة في رعاية المستضعفين. كانت الفترة التي نشر فيها هوبز كتابه، هي فترة ازدهار الدولة العثمانية في عهد الخليفة سليمان القانوني، الذي لقب نفسه بسيد أوروبا، إضافة إلى ألقابه الأخرى، كسلطان الأقاليم السبعة. كما تبين لاحقا، هذه الفكرة الجديدة التي طرحها هوبز كانت كفيلة بدفع اوروبا إلى دخول عهد جديد، ومكنت بريطانيا بالتحديد لاحقا من بسط نفوذها على العالم.

بعد ما يزيد عن مئة سنة ولد جون سيتوارت ميل. كان العصر الذي ولد فيه ميل مختلفا عن عصر هوبز. ففي عصر هوبز كانت بريطانيا تعيش التشتت والفرقة، أما (ميل) فعصره عصر نمو ورفاهية. فالقرن التاسع عشر هو عصر الثورة الصناعية، وهو عصر انحدار الخلافة العثمانية وصعود الامبراطورية البريطانية والولايات المتحدة الأمريكية. كانت أفكار (ميل) تبحث عن سبل تفعيل قدرات الأفراد إلى أقصى قدر ممكن لتحقيق السعادة. كان السبيل إلى ذلك في تقليص دور الدولة وفتح السوق للأفراد. كان ذلك استجابة لنمو الحاجة إلى الأيدي العاملة الحرة التي يتطلبها سوق صناعي يتسع مداه بالاستعمار. نتيجة لأفكار (ميل) تقلص حجم الدولة، وانخفض محصول الضرائب رغم زيادة عدد السكان بمقدار الضعف. فوق الأرضية القيمية التي قدمها (ميل) للمجتمع، قيم الحرية الفردية والمسؤولية الاجتماعية، بعث (ميل) فكرة السوق الحرة التي كان يتطلبها العصر الصناعي، بحيث تقلصت الدولة مقابل اتساع قطاع المؤسسات الخاصة.

في مطلع القرن العشرين، طرحت بياتريس ويب أفكارها حول دولة الرفاهية من خلال دراستها للحكومة المحلية عبر عشرة مجلدات دونت فيها ملاحظاتها حول مسلمات مجتمعها الفكتوري الذي عاش منعما مستفيدا من أفكار (ميل) في الحرية الفردية، حيث تقول: عشت باعتباري أذكى عضو في أحد أذكى العائلات، ضمن أذكى الطبقات، في أذكى دولة في العالم. لم تكن (ويب) من فلاسفة السياسة، لكنها كانت تعتني بتفاصيل الدولة وآليات الإدارة. نتيجة لبحثها الدؤوب وملاحظاتها الدقيقة تولدت أفكار فلسفية لدولة الرفاهية التي ترتكز على التخطيط، وجدارة الفرد، والعلم. كانت من نتائج أفكار بياتريس ويب إنشاء مدرسة لندن للاقتصاد لصناعة أفراد جديرين بالقيادة، وإصدار مجلة (رجل الدولة الجديد). كانت نتيجة أفكار بياتريس إعادة قراءة الليبرالية، بالنظر إلى حقوق العمال في سياق السوق الحرة. تولد من ذلك تنمية حركة سياسية تدافع عن حقوق العاملين، مع نمو أكبر لدور الدولة في التخطيط وفرض مزيد من القيود على حرية المؤسسات. مع نمو حجم الدولة ارتفع معدل الضرائب، واتسع دور الدولة في الرعاية الاجتماعية.

إن ما تجمعه هذه الثورات من أفكار كانت نتاج تفكير عميق في مشكلات مؤسسات الدولة والمجتمع مع رغبة في تقديم حلول إبداعية. يدخل في ذلك الرغبة في المراجعة وإعادة تحسين جودة العمل رغم ما يحف هذه الأفكار من عقائد أيدلوجية توظف لصالحها. بالنظر إلى الحركة الاجتماعية والسياسية التي انتجت هذه الأفكار، يمكن لنا أن نتطلع إلى أفكار جديدة تعالج مشكلات عصرنا الغارق اليوم في الفوضى بحثا عن الثورة الرابعة.