بين التفكير.. وفضاء التعبير!!

د. عبدالله القفاري

    العلاقة بين عالم الأفكار، وفضاء التعبير، علاقة شرطية، ليس من أجل أن تستنبت الأفكار فقط، ولكن من أجل كشف التباساتها وبحث عيوبها وتطوير معطياتها.

رافعة الأفكار ومطور مخرجاتها ومعزز صلاحيتها.. مرتبط بفضاء التعبير عنها والجدل حولها.. وإلا فإن شرط التطور الفكري سيظل موقوفاً إلى أجل غير مسمى، ناهيك عن هروب الأفكار لعالم سفلي لتعمل بعيداً عن الضوء.. تمارس حياتها الخفية بعيداً عن النقد، وقد تقود إلى عالم آخر موازٍ لعالم الشهادة حيث عالم السرية والاختباء والتكتم ثم في لحظة خاصة تعلن انفجارها في وجه الجميع.

 

 

الإنسان كينونة مفكرة متأملة في فطرتها الأولى، على اختلاف بين البشر في قوة هذه الفطرة واستجابتها. إلا أن تراكم المؤثرات منذ التنشئة الأولى قد يعطل ملكة التفكير.. فيصبح منوطاً بها استدعاء الركض في دائرة المعروف والمعتاد والمجرب

 

 

لا ينمو الفكر بشكل طبيعي قادر على استلهام المقدرة البشرية التي استودعها الله في عقل الإنسان وكينونته إلا عبر سلسلة شروط، من أهمها، توفر فضاء التعبير عن الأفكار ومناقشتها وتطويرها وبحث قيمتها وحتى الاختلاف حولها..

محاولات الإخضاع لرؤية وحيدة - على طريقة لا أريكم إلا ما أرى - تستدعي الجمود والتوقف.. ولن تقوى على مواجهة الأسئلة الحارقة التي تطال الحاضر والمستقبل، وهي مصدر قلق المجتمع وعلاته وإخفاقاته.

لم يتطور عالم الأفكار سوى في بيئات تحترم حرية التعبير وتقدر فضاءاته. لا توجد في العالم حرية مطلقة ولم تكن، فالحرية المطلقة فوضى ضاربة في عمق المجتمع وعلاقاته وكينونته.. كما أن الحجب والإقصاء يحرم المجتمع من تعددية الأفكار وتقليب أوجهها والبحث عن صالحها من طالحها.. وفي كل أنظمة الدول المتقدمة محرمات لكل ما يهدد سلامة المجتمع أو حقوق الإنسان، إلا أنها في أضيق نطاق وضمن توافق مجتمعي لا يمكن تجاوزه. وفي ذات الوقت فإن أي نظام بلا أفق يضمن حرية التعبير، يستحيل إلى حالة توقف وعدم استشعار مخاطر وبدائل لازمة، وقد يقود في نهاية المطاف إلى رفض حتى ما يستوجب ضبط إيقاع التعبير وترشيد قنواته واحترام قوانينه.

لا تتوقف عجلة التفكير حتى لو تضافرت كل العوامل المادية القوية ضدها.. فهذا أمر محال لم يكن يوماً من طبيعة البشر.. فقد خص الله الإنسان بالعقل، والعقل معمل ضخم للتفكير.. وكم أثنى الله على المتدبرين والمتفكرين بخلقه وما في كونه من عظمة وإبداع.

ولم تكن العطالة الذهنية إلا ملمحاً للجمود والذبول تتراكم على تلك الطبيعة البشرية حتى تهيل التراب عليها في مقابر الأولين.

الإنسان كينونة مفكرة متأملة في فطرتها الأولى، على اختلاف بين البشر في قوة هذه النزعة واستجابتها. إلا أن تراكم المؤثرات منذ التنشئة الأولى قد يعطل ملكة التفكير.. فيصبح منوطاً بها استدعاء الركض في دائرة المعروف والمعتاد والمجرب.. حتى تتراجع ملكة التفكير وقد تخمد، إلا لأولئك الندرة من البشر الذي يقوون في ظروف خاصة على اختراق تلك الحواجز والانطلاق إلى فضاء أوسع في عالم الفكر والتدبر والتأمل العميق.. ناهيك عن قدرة الأفذاذ منهم على إنتاج الأفكار وتطويرها.

هذه الندرة، هي القيمة في أي مجتمع يتطلع لبناء موقع له في عالم التغييرات الكبرى. إلا أن أفكارها ونشاطها سيتراجع حتماً في ظل عزلتها.. وهي ليست عزلة اختيارية في معظم الحالات. وهكذا كان الأمر في حالات عزلت الفكر عن السياق العام، وارتضت بالجمود والبقاء في قوالب جاهزة من الصعب تطويرها، ناهيك عن استبدالها لمواءمة ظروف ومتطلبات وأسئلة جديدة.

إذا كان التدافع بين البشر سنة كونية (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض...)، فهو كذلك في عالم الأفكار.. بل تبدو أهميته في عالم الأفكار أكثر خطورة.. بل وحتى التدافع بين البشر هو ثمرة للتدافع بين الأفكار في غالب الحالات.

فتش في حالات التعثر على صعيد الإنجاز أو التطور الاجتماعي أو السياسي أو النمو الاقتصادي، وسترى أن مصاعد التغيير الإيجابي تبدأ من الأفكار، ثم القادرين على تبنيها وهم يحملون أمانة التنفيذ وسلامة القصد، ثم تعود فضاءات التعبير لتراقب المنجز وتنقد الخلل وتكشف ملامح الإنجاز أو التعثر، لتعاود حلقة الأفكار عملها في تبادل شرطي حيث تغذي الفكرة وسائل تحقيق الأهداف، ويتناوب تقويم المنجر باعتباره حقلاً للتعبير.. في دائرة منتجة لا تعرف التوقف أو الجمود أو الاكتفاء.

فضاء التعبير، الذي يسمح بتداول الأفكار وفحصها ونقدها وتطويرها.. هو نوع من التدافع الفكري، ويؤدي إلى تطوير التدافع الاجتماعي، حيث الانحياز لمشروع أو برنامج هو ثمرة الانحياز لأفكار تعمل لصالح الجماعة..

حرية التعبير لا تعني حرية التنابز والتخوين وهدم المقومات الوطنية.. وهناك من سيستغل ذلك الفضاء وهو يحطم آثاره الإيجابية، وهذا لا يحدث إلا نتيجة التعصب والانحياز الأعمى.. وهذا لا علاج له إلا بمزيد من الحوار، وتوسيع دائرة قبول الآخر، فلا يعزز حضور التعصب سوى محاصرة الأفكار الأخرى عن الفضاء العام.

أما على المستوى الاستراتيجي والتنموي فلا يوجد اليوم بلد متقدم في العالم دون مراكز للتفكير واستشراف للمستقبل.. تقدم خبراتها ودراساتها لصانع القرار، وهي تتحرك في أفق واسع يطال الاجتماعي والسياسي والعلمي والصناعي والاقتصادي.

الأفكار الرشيدة والمرشدة بالحوار والنقد، والانطلاق في فضاء معترف فيه من حرية التعبير، كفيل بأن يكون صمام أمان للمجتمع. فالأفكار الجيدة تطرد الأفكار الشريرة، والأفكار النيرة تستوعب حقيقة المكوث في عقول الناس، والأفكار الحيوية والمتجددة تصلح أن تكون مشروعاً يبنى عليه عالم من المبادرات والمشروعات لمواجهة العطالة.

ومن ناحية أخرى، فإن للتوقف والجمود الفكري تأثيرات ثقافية واجتماعية بالغة السوء. بل انها قد تكون أحد الأمراض المتفشية في مجتمعات الحجب والرفض والتقييد. فلا يظهر مرض الانتهازية ويتفشى، ولا يكثر النفاق والفساد، ويصبح أمراً شائعاً سوى في حالات حصار الأفكار خوفاً من تأثيراتها على مكتسبات فئات تتضامن في حجبها. وبالمثل يمكن أن يقال ذات الشيء عن ضمان حرية التعبير، فالحجب يوسع دائرة الانتهازية والنفاق والفساد والعبث بالمقدرات الوطنية.

لا يخلو مجتمع من ذهنيات وسلوكيات ارتضت أن تمارس أدواراً تتكسب منها، مهما تعددت هذه الأدوار.. إلا أن الخطورة أن تهيمن هذه الأجواء في حالة رفض كلية لأية أفكار يمكن أن تتجاوز بضاعتها، كما تقف موقفاً صاداً للتعبير مناط الكشف.. إلا أنها ستعجز في مرحلة أخرى حين يتجاوزها الواقع، مما قد يودي بحالة رفض شاملة.. وهنا تكمن خطورة أخرى ستكون كلفتها أكبر.

http://www.alriyadh.com/942555

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك