«الاستثمار في اللغة العربية»... المؤتمرات لا تكفي!!

د. عبدالله القفاري

    

لا تقاس أهمية المؤتمرات بعدد الأوراق المشاركة.. بقدر مستوى الأوراق والأبحاث التي تُعرض. ولم يكن الاستثمار في اللغة سوى عنوان كبير ليأتي طيف واسع من الاهتمامات لم تحاول أن تربطها برابط الاستثمار في اللغة العربية

 

 

خلال سنوات مضت شاركت في العديد من المؤتمرات التي تعنى باللغة العربية، خاصة ما يتعلق منها بتعريب العلوم أو التعليم العالي أو قضايا المصطلح أو تقنية المعلومات.. ولم تكن سوى تلك الأسئلة التي تراوح مكانها في نهاية كل مؤتمر.

وفي الأسبوع الماضي عقد في دبي المؤتمر الدولي للغة العربية تحت عنوان: "الاستثمار في اللغة العربية ومستقبلها الوطني والعربي والدولي". إلا انه لم يكن مؤتمراً عادياً من حيث كثافة الحضور وعدد المشاركين. فعدد الندوات بلغ أكثر من 70 ندوة، وعدد المتحدثين تجاوز 500 متحدث، وعدد الأبحاث فاق 400 بحث، والمسجلون في المؤتمر تجاوز 1300.

إلا ان كل هذا لا يعني أن نتائج المؤتمر جاءت مختلفة.. فما زال الحديث عمن يعلق الجرس، ومن يأخذ زمام المبادرة.. وكلها تنظر للقرار السياسي وكأنه الحل السحري لمعضلة تراجع استخدام اللغة العربية على المستوى التعليمي وسوق العمل وغيرها من المجالات.

تُذكر جهود "المجلس الدولي للغة العربية" والجهات المشاركة في التنظيم فتشكر على اهتمامها بهذه القضية التي أخذت تتراجع للوراء في السنوات الماضية.. وربما وجدنا أن هذه المناسبة السنوية كفيلة باستمرار طرق الباب لاكتشاف الفرص لدعم لغة الضاد لترتقي موقعاً مناسباً في مواطنها وبين أقوامها ناهيك عمن يدرك أهميتها في بلاد العالم أجمع. وقد تزامن مؤتمر هذا العام مع إطلاق جائزة الشيخ محمد بن راشد للغة العربية، وهذه بادرة مميزة تضاف لمبادرات أخرى ترصد جوائز في مجال خدمة اللغة العربية والترجمة.

إلا أن السؤال يظل معلقاً، حول جدوى مؤتمرات كبيرة حول اللغة العربية طالما لم تكن تستهدف سوى تلك الأوراق العلمية التي تعرض في المؤتمر، دون أن ينطوي عليها خطوات ملموسة يمكن أن ترتقي لمستوى مشروعات تسد العجز في مناحي لابد من مقاربتها.. إذا أريد لهذه اللغة أن تأخذ موقعها بين اللغات الحية، وأن تصبح لغة حياة وعمل وتداول كبير كما هي لغة دين وهوية وقومية جامعة.

أعود إلى مسألة الاستثمار في اللغة العربية، التي لم يظهر منها في المؤتمر سوى النزر اليسير من أوراق العمل، بينما أخذت أوراق كثيرة تشرق وتغرب وتذهب مذاهب شتى دون التزام بهذا المحور الذي اختاره المجلس لمؤتمر هذا العام.

لا تقاس أهمية المؤتمرات بعدد الأوراق المشاركة.. بقدر مستوى الأوراق والأبحاث التي تُعرض. ولم يكن الاستثمار في اللغة سوى عنوان كبير ليأتي طيف واسع من الاهتمامات لم تحاول أن تربطها برابط الاستثمار في اللغة العربية.. وهو الاستهداف الأكبر لتأخذ العربية مكانتها اللائقة بها.. ليس فقط كهوية ولكن كلغة علم وعمل ذات جدوى وعوائد منتظرة.

لم يكن حضور القطاع الخاص كبيراً في هذا المؤتمر.. وأعتقد أنه كان معنياً جداً بهذا الاستثمار سواء فيما يتعلق بالتقنيات التطبيقية للغة العربية، أو من جانب استخدام اللغة العربية كلغة مال وأعمال يمكن أن تصبح جزءاً من هوية قطاع اعتمد اللغة الأجنبية بديلاً عن العربية في معاملاته وإدارته.. بل حتى في وثائقه وعقوده، كما كان من المهم سماع وجهة نظر هذا القطاع وبحث العقبات التي تحول دون تكريس اللغة العربية في نشاطه.

وربما كان الأجدى لو وزع نشاط المؤتمر على عدة قطاعات لاحتواء هذا التبعثر الذي جعل من بعض الأوراق مجرد عناوين عامة وكلام مرسل حتى بدت كأنها جزءاً من مناسبة احتفالية تحتفي باللغة العربية.

الاقتصاد.. وسوق العمل واللغة العربية، محوران مهمان كان يجب أن يركز عليهما المؤتمر. وطالما الحديث كان عن الاستثمار في اللغة كان يجب تلمس الأبعاد التي صنعتها أسواق التقنيات الحديثة في تعميم استخدام اللغة العربية، والأبحاث الجارية والعقبات القائمة حالياً التي تحول دون أن تصل لمدى يمكن الاطمئنان إليه في مواكبة عالم البرمجيات والتقنيات الحاسوبية المتقدمة.

كان يمكن بالإضافة إلى هذا تلمس محور آخر يتطلب التنسيق بين الجهود العربية الموجهة لخدمة اللغة العربية سواء من خلال الترجمة أو التعريب إلى جانب دراسة مشكلات التعليم الجامعي والانصراف الكبير عن استخدام اللغة العربية كلغة علم ودراسة وبحث.

وإذا لم يكن المؤتمر ليستوعب كل هذه المحاور، فبالإمكان أن يكون كل منها محوراً خاصاً بإحدى المؤتمرات، وذلك لأهمية دراسة تلك القضايا على نحو عميق والخروج بتوصيات يمكن تنفيذ بعضها أو السعي لإطلاق بعض البرامج بالتعاون مع بعض المؤسسات أو القطاعات المعنية بالدول العربية.

هناك العديد من المؤسسات العربية المعنية بالترجمة أو التعريب أو دعم المحتوى العربي على شبكة الإنترنت أو الإصدارات العلمية العربية أو المترجمة، بالإضافة إلى نشاط يستثمر التقنية الحديثة في البرمجيات والمعاجم اللغوية والمصطلح العربي.. بالإضافة إلى العديد من الفعاليات والجوائز التي رصدت لخدمة الترجمة واللغة العربية.. إلا أن التنسيق المشترك يبدو في أضعف حالاته إذا لم يكن معدوماً. ولذا ربما من المناسب أن يخصص المجلس الدولي للغة العربية أحد مؤتمراته لجمع القائمين على تلك الأنشطة ومحاولة ربطها عبر شبكة وبرامج مشتركة أو تأسيس صيغة تجمعية توفر الكثير من الجهد وتدعم الخبرات المتبادلة وتخدم التوجه الجديد لبناء مشروعات أكثر فعالية لخدمة اللغة العربية في مختلف المجالات.

لقد بدا مؤتمر دبي هذا العام حافلاً بكثير من المشاركات، إلا أن تشتت أوراق العمل وصغر حجم القاعات، وتوزع الجهود بين مناحي احتفالية وأخرى بحثية حرم كثيرين من الاستفادة من الأوراق التي قدمت عرضاً ومناقشة..

وتبقى جهود المجلس الدولي للغة العربية وعلى رأسه المنسق العام الدكتور علي بن موسى مما يذكر فيشكر، وتستحق الدعم والمساندة، فقد بُذلت جهود كبيرة حتما لاستمرار الدفع بهذا الاتجاه وإبقاء قضية اللغة العربية في صلب الاهتمام العام.. لقد جاء المجلس بمؤتمراته ليقرع الجرس ويذكي الأمل ويجمع المهتمين والدارسين والباحثين والمسؤولين لمناقشة قضية من أهم القضايا التي تواجه العرب اليوم وبها أيضا يتأثر مستقبلهم.

كما أن لهذه المؤتمرات أهمية أخرى، تتمثل بالتعارف واللقاءات بين المهتمين والباحثين والناشطين في مشروعات تستهدف اللغة العربية في مجالات مختلفة.. وقد تثمر عن مشروعات مشتركة ونشاطات تخدم وتنسق لبعض تلك الجهود. ولذا فهي توفر فرصة لمناقشات خلف كواليس المؤتمر تضفي على ذلك التجمع أهمية أخرى.

ومما لا يصعب فهمه أن السعوديين كانوا من أكثر المشاركين في المؤتمر، فالمملكة في قلب عالم عربي وإسلامي يجعل الاهتمام باللغة العربية ركيزة أساسية في بناء الدولة والمجتمع، كما هي مركز إشعاع يتطلع إليه ملايين العرب والمسلمين.

وتبدو بعض اللقاءات في الخارج توفر فرصة أكبر لاقتراب السعوديين من بعضهم.. وكم كنت سعيداً عندما التقيت بالدكتور مرزوق بن تنباك والدكتور عبدالله المعيقل والدكتور صالح الزهراني في ليلة رائعة أسماها الدكتور عبدالله المعيقل بليلة زحل.. حيث كان الشعر سيد تلك الليلة الجميلة الزاهية التي انشغلنا فيها بمناجاة النجوم بعيداً عن أضواء المدينة التي لا تنام.

http://www.alriyadh.com/936874

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك