والضد يُظهر قبحَه الضد
لولا الله - تعالى - ثم الانفتاح لبقيت متطرفاً، لا أرى للعالمين غير ما أنا عليه، ولمكثت حيث يمكث الآن كثير من المتشددين، الذين سوّل لهم الشيطان، وزيّنت لهم أنفسهم، فخالوا ما في أيديهم هو المعيار، الذي يجب على الآخرين أن يقيسوا ما عندهم به، ويتفحصوه في ضوئه، ولبقيت منتبهاً إلى العالمين كلهم، أراقب أخطاءهم، وأحصيها عليهم، كأنّما لم يُكفل الله - سبحانه - من عباده سواي في الاحتساب عليهم، والاستصلاح لهم، وأغفل غفلة الأموات عن نفسي، وأنساها، وبإصلاحها أُمرت، وإنقاذها خُوطبت، وبإعمارها الأرض طولبت!
ليس من الغريب أن أنشأ منغلقاً، مؤمناً بما عندي، ومشغولاً بدعوة الناس إليه، ومطاردتهم للإيمان بما فيه، فذاك الأصل في إنسان مثلي، عاش في بيئة، لا تسمح له بغير ما تغذوه به، وتحدو ذهنه بنشيده، وتجمع مع هذا الحشف سوء كيل لأقدار لآخرين، وتطفيفاً في زنة ما عندهم؛ لكن الغرابة كلها، والعجب أجمعه، أن أظلّ على تلك الطريقة، وأبقى في ذلكم السبيل، بعد أن شهد العالم من حولي على أنّ الانفتاح هو السبيل الوحيد في علاج الأمراض الثقافية، ومداوة الجروح الفكرية.
الانفتاح والانغلاق من الأضداد اللغوية، لا الأضداد المنطقية، فهما مفهومان متضادان، يكشف أحدهما عيوب الآخر، ويدل عليها، فهما محتاجان إلى بعضهما حاجة الإنسان في سدّ حوائجه إلى غيره
الانغلاق، والدعوة إليه، واللِّياذ به، والاعتصام بحبله، وجهٌ صارخ من وجوه التطفيف، الذي نهانا الله - تعالى - عنه، وحذّرنا من سلوك سبيله، قائلا: (ويلٌ للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعثون. ليوم عظيم). إنني حين أنغلق عن غيري، وأحجب نفسي عنه، أكون قد أصدرت حكماً عليه، وأدنت ما هو فيه، هذه هي النتيجة الوحيدة التي أخرج بها حين أفكر في الانغلاق، وأتأمل مآلاته؛ إنه عندي تطفيف في وزن أفكار الناس، وتقدير آرائهم، وتقييم ما عندهم؛ لكنه تطفيف فكري ثقافي، لا مادي حسي!.
دعتنا الآية الكريمة التي ختمت بها مقالي المتقدم إلى تغيير ما في الأنفس؛ إن كنا نرغب في تغيير ما بنا، وإصلاح ما شاب أمورنا من فساد، ولست أجد لهذا التغيير المبتغى، والهدف المرغوب المحبوب، وسيلة أنفع من الانفتاح، وأجدر منها للقيام به؛ فالانفتاح على الآخرين هو الدواء لكل داء، والعلاج لكل مرض، وأحسبنا لو سألنا التأريخ، وكان له لسان ينطق، وعقل يُفكر، عن دواء لكل داء؛ لقال لنا بملء فهمه: إنه الانفتاح، إنه الانفتاح! ولو كنا سألناه أيضا عن سبب الأدواء، وعلة كثرة الأمراض، لقال لنا: إنه الانغلاق، والانكفاء على الذات!.
الأمراض التي تُصيب الناس، وتنزل بالأمم، نوعان؛ نوع عارض، تدفع إليه الظروف المحيطة، وتُشارك في انتشاره الأحوال المتقلبة، ونوع دائم، لا يرتبط بزمن، ولا يرجع إلى مكان، ومن النوع الثاني عندي الانغلاق؛ فهو خلّة في المسلمين منذ قرون، وسجية لهم، ومثل هذه الأمراض تكون المسؤولية فيها على الناس، والملامة فيها متجهة إليهم، والبدء في تغييرها راجع إليهم، ومرتبط بإرادتهم؛ فما من الأسباب الخارجية شيء يُمكن أن يُعاد بالبلاء إليه، ويُلصق به؛ فهو دائم ثابت، لم يتغيّر عبر الأيام، ولم يتبدل في مختلف الأماكن والأصقاع؛ حتى يُخيّل إلينا أن هناك من يقف وراءه، ويدفع بالأمة إليه!.
الانفتاح ضرورة، ضرورة للإنسان الفرد، وضرورة للأمة، فالإنسان في تأريخ نشأته الأولى لم يستطع تلبية حاجاته، والحصول على ما يُقيم حياته، إلا حين انفتح على غيره، وساعده على بناء مستقبله، فكان كل واحد منهما يُقدّم للآخر خدمة، ويسدُّ له حاجة، واندفع الإنسان باحتياجه إلى غيره، وإيمانه بذلك، إلى تكوين المجتمعات، وبناء الأمم والجماعات، على حين بقيت الحيوانات خارج هذه الفكرة، وبعيداً عنها، وفي إيضاح هذه الفكرة، والكشف عن ضرورة الانفتاح في تكامل الناس، يقول ابن سينا:" إن الإنسان يُفارق سائر الحيوانات، بأنه لا تحسن معيشته لو انفرد وحده شخصاً واحداً، يتولى تدبير أمره من غير شريك، يُعاونه على ضروريات حاجاته، وأنه لا بد من أن يكون مكفياً بآخر من نوعه، يكون ذلك الآخر أيضاً مكفياً به، وبنظيره، فيكون مثلاً هذا يبقُل لذلك، وذلك يخبز لهذا، وهذا يُخيط للآخر، والآخر يتخذ الإبرة لهذا حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفيا"، ويوضح الفارق بين الإنسان والحيوان أكثر قائلاً:" بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد مما في الطبيعة؛ مثل الغذاء المعمول، واللباس المعمول، والموجود في الطبيعة من الأغذية ما لم يُدبّر بالصناعات؛ فإنها لا تلائمه، ولا تحسن معها معيشته، والموجود في الطبيعة من الأشياء التي يُمكن أن تُلبس أيضا فقد تحتاج أن تُجعل بهيئة وصفة حتى يُمكنه أن يلبسها" (الشفاء).
تلك هي حاجات الناس المادية، لم يستطع واحدهم أن يسدها إلا حين انفتح على غيره، وآمن بالعيش معه، والإنسان أشد احتياجاً للانفتاح حين يريد أن يسدّ حاجاته الفكرية، ويحلّ معضلاته العقلية، ويبلغ آماله الثقافية؛ لكن مشكلته في الفكر والثقافة والعقل أنه يجد في محيطه من يغشه باكتفائه عن غيره، ويحرضه على الانغلاق عنه، ويُوعز إليه أنّ ذلك من حقه، ومن موجباته تدينه! وتقديره لأسلافه.
دعاة الانغلاق، والاكتفاء بما في أيدي الناس، كثير؛ لأنه الخطاب المهيمن اليوم، والصوت الأكثر ضجيجاً في الساحة، ويتخذ أرباب هذا الخطاب إلى إقناع الناس بالانغلاق وسائل شتى؛ فمرة يقولون: هذا حفاظ على الدين، وتارة يقولون: هو صون للأصالة، ومحاماة عن الهوية؛ لكنهم لا ينفكون يتحدثون، بل يبالغون في حديثهم، ويكثرون من تفاخرهم، عن انفتاح أوروبا على علوم المسلمين، وأثر ذلكم الانفتاح في تشكيل الحضارة المعاصرة، وصوغ الحياة الجديدة، يربطون في حالة أوروبا بين الانفتاح والتقدم، وتلك ملاحظة في محلها؛ لكنهم يريدون التقدم، وينتظرون حصوله، وهم متسلحون بالانغلاق، مؤمنون بثقافته، تنفتح أوروبا عليهم فتتقدم، ويرتابون في أنفسهم حين الانفتاح على غيرهم! سواء كان انفتاحهم على أمثالهم من المسلمين أم على غيرهم من أمم الغرب والشرق، فالانفتاح عندهم مرض، يلزم الإنسان أن يحتاط منه، ويحذر من وَعْثائه.
ليس المراد من الدعوة إلى الانفتاح أن نتخلص من الانغلاق، ونبرأ منه، ويرتفع عنا وجوده، فذاك أمر غير وارد، ومطلب جدّ صعب؛ لأن الانغلاق هو الحالة الأصلية في الإنسان، والطبيعة الأولى فيه، وما جاء على أصله، كما يقال، لا يُسأل عن علته، وإنما المروم من وراء هذه الدعوة هو أن ندفع تسلط الانغلاق ورجاله، وهيمنتهم على الحياة، ببعث الانفتاح وثقافته؛ إذ لا علاج للأدواء التي ينشرها الانغلاق، ويُوسع من مساحتها، إلا الانفتاح على الآخرين، والاستئناس بما عندهم، وما لم نسع في مكافحة الانغلاق، وتخفيف آثاره، فسيعود علينا، ويحيط بنا، وتُخيّم سحبه فوق رؤوسنا، فالانفتاح هو وسيلة جهادنا في حربنا مع الانغلاق وأهله، وما لم تبق هذه الوسيلة في أيدينا، فليس معنا من شروط التقدم أهمها، وما في حوزتنا من دروب التغيير أثمنها، وكأننا، والانفتاح ليس معنا، أمام أبواب مُقفلة، لم نحمل مفاتيحها، ولم نستعد بعدُ لمواجهتها.
والانفتاح والانغلاق من الأضداد اللغوية، لا الأضداد المنطقية، فهما مفهومان متضادان، يكشف أحدهما عيوب الآخر، ويدل عليها، فهما محتاجان إلى بعضهما حاجة الإنسان في سدّ حوائجه إلى غيره، وإذا لم يعرف الإنسان عيوبه، ويستدرك أخطاءه، إلا بالانفتاح على غيره، والجلوس إليه، فكذلك الحال في هذين المفهومين، لا تبين عيوب الانغلاق، ولا تتضح سوآته، إلا حين يُقرن بالانفتاح، ويُوضع إلى جنبه، ومن يمنع غيره من الانفتاح، ويحضه على تركه؛ فمراده أن يدرأ عن الانغلاق، ويخاف أن تنكشف للناس بلاياه، وليس ينفع مع هذا وأمثاله إلا أن نُحّرف قول الشاعر في حبيبته:
ضدّانِ لما استجمعا حسنا
والضدّ يُظْهِرُ حُسْنه الضِدّ
ونجعلهما كما في العنوان، فيكون هدفنا معرفة عيوب الانغلاق، ووجوه قبحه، وإبرازها حين يُقرن بضده، فبضدها تتميز المصطلحات، وتفترق الأشياء.