لماذا لا يجعل الله كل الناس أغنياء؟
سؤال بريء طرحه علي مؤخراً ابني الصغير ياسر..
وكما أقول دائماً: في أسئلة الأطفال البريئة تكمن العبقرية والمفاهيم الفلسفة العميقة.. وحين تخرج منهم أسئلة كهذه يصعب على الكبار (ليس فقط الإجابة عليها) بل وحتى شرحها بطريقة تناسب عقولهم الصغيرة (في حال عرفوا فعلاً كيف يجيبون عليها)!!
لا أدعي أنني فكرت بهذا السؤال من قبل ولكنني على قناعة بأنه لو أصبحنا كلنا أثرياء لما رأيت بيننا أطباء ومهندسين ومعلمين وموظفين، ولتعطلت كافة مصالحنا اليومية.. فأول شيء نفعله حين نصبح أثرياء هو ترك أعمالنا ووظائفنا الحالية وبالتالي ستتعطل كافة الخدمات والمناشط الحياتية..
لو أصبح جميع الناس أغنياء سيقدم الجميع استقالاتهم، وبالتالي لن تجد عمالاً يبنون منزلك أو فنيين يصلحون سيارتك أو مهندسين يقدمون إليك خدمات الماء والكهرباء.. لن تعثر على ممرضين وأطباء يعالجون أطفالك، أو معلمين يتحملون عنك عناء تربيتهم وتدريسهم.. والأغرب من هذا كله أنك لن تشعر بقيمة الثراء ولن تتمتع بمزايا الأغنياء حين يصبح جميع الناس مثلك..
فالثراء -بعكس ما يتصور معظمنا- لا يتأتى بكثرة المال، بل بوجود فوارق حقيقية بين طبقات المجتمع.. فوارق مادية تتيح لأصحاب المداخيل الكبيرة الاستفادة والتباهي على أصحاب المداخيل الصغيرة (وبالتالي ستنتفي هذه الميزة حين يصبح الجميع أثرياء).. ففي الهند وكمبوديا وفيتنام يمكنك أن تصبح ثرياً بثلاثة آلاف ريال فقط (كونها بعيدة عن متناول معظم الناس) في حين لا تكفيك إيجار فندق في باريس أو أوساكا أو زيورخ.. في الصين كان الناس -أيام الحكم الماركسي الصارم- لا يشعرون بفقرهم لأنهم في البؤس سواء.. لم يعرفوا معنى الفقر إلا حين انفتحت الصين على العالم وانفصل المجتمع الى طبقتين.. طبقة عاملة كبيرة ومسحوقة، وطبقة رأسمالية ثرية وصغيرة!!
- وهذا من حيث التباهي الاجتماعي والمقارنة بين الطبقات..
أما من حيث الواقعية الاقتصادية؛ فسيخسر الأثرياء قوتهم الشرائية إن أصبح جميع الناس أثرياء مثلهم.
فأسعار السلع والخدمات تتحدد في أي مجتمع بحسب قدرات الطبقة المتوسطة فيه، فحرص المنتجين على بيع منتجاتهم - والتنافس الدائم بين السلع ذاتها- يجعلها تؤقلم نفسها مع المداخيل البسيطة لعموم المشترين، وهذا يعني أنها تظل رخيصة الثمن بالنسبة للأثرياء كونهم ينعمون بشرائها بالسعر المتوفر لعامة الناس.. ولكن في حال أصبح (الجميع) أغنياء سيفلت جماح الأسعار وترتفع قيمة السلع والخدمات إلى مستويات عليا موازية - وبالتالي سينحرم الجميع من ميزة الأسعار الرخيصة الموجهة سابقاً لأصحاب المداخيل البسيطة!
ورغم أن الاحتمال يبدو غير مستحيل بإطلاقه (حيث تبدو بعض الشعوب الصغيرة مثل بروناي وقطر والنرويج ثرية بالكامل) ولكنها في الحقيقة تضطر لاستيراد العمالة والمهن من الخارج (كون المداخيل العالية للمواطنين تجعلهم يعزفون عنها وبالتالي تتشكل تحتهم طبقة كبيرة من المهاجرين الفقراء) أو تضطر لرفع أجور المهن المتواضعة من خزينة الدولة لضمان إقبال المواطنين عليها - كما في النرويج ولكسمبورج التي توازي فيها أجور عمال النظافة رواتب الأطباء والمهندسين!!
وكل هذا يثبت استحالة فكرة وجود مجتمع يتشكل بكامله من الأثرياء لأن مصالح الناس ستتعطل فيه، ولأن انتقال الجميع لمستوى الثراء يلغي ميزة التباهي والقدره على شراء السلع والخدمات بسعر منخفض.
الحقيقة المرة هي استحالة تساوي المداخيل الفردية في أي مجتمع، وحتمية وجود طبقة كبيرة من الفقراء يمتص الأذكياء مدخراتهم، ويتمايزون من خلالهم، ويستفيدون من السلع والخدمات الموجهة لهم!!
المشكلة؛ كيف أشرح لياسر هذه الحقيقة المُرّة؟!