التصنيف وصكوك الغفران!
تختلف المجتمعات من حيث معايير التصنيف المهيمنة فيها، والمستشرية بين أفرادها، فثمة مجتمعات تهيمن فيها معايير صناعة الحياة الكريمة، وبناء تأريخ في التقدم جديد، وتكوين حقبة تأريخية تختلف عما كان في مسلسل تواريخ الشعوب، وثمة مجتمعات تهيمن فيها ثقافة ماضية، تجعل معاييرها المحركة لوعيها، والمتغلبة عليه، معايير تساعد على إعادة إنتاج تأريخ ماض، ومرحلة منقضية؛ فالأولى تصنع التأريخ، والثانية تنتظر إعادته، الأولى تُصَدّر للعالم معايير تقدم الإنسان للأمام،
من الأحرى بنا، والأنفع للمسلمين، والأجدر بممثلي الدين عندنا، والأنقل لسماحة الدين إلى الآخرين، أن يُحاربوا التصنيف المذهي ومعاييره، ويقفوا في سبيل انتشاره، وينتشلوا التراث من شره، ويعدوه هو وصكوك الغفران المسيحية أخوين، رضعا من لبان واحد، ووجهين لعملة واحدة
والأخرى تُصدر له مقاييس تَوَقّفه، وانتظاره أن يعود التأريخ أدراجه؛ كما هو ملخص جملة " التأريخ يعيد نفسه"، تلك الجملة التي تشتهر عندنا، وهي حسب كتاب " مدخل في تأريخ الديمقراطية في أوروبا" للدكتور عبد الرحمن عبد الغني شاعت بعد دراسة المؤرخ اليوناني تقوديدس التأريخية.
التقسيمات اليوم للعالم ودوله كثيرة، ويُحتكم فيها إلى معايير مختلفة، وأسس متغايرة، فمرة تصنف دول العالم حسب الأنظمة السياسية، وتارة تُقسّم وفق الحالة الاقتصادية، وأخرى حسب الحالة الثقافية، وثمة طرائق للتصنيف أخرى، يُفرّق بها بين الدول، ويُميز بها بين المجتمعات، وهي تصانيف يُراد منها مصلحة دول هذا العالم، ويُبتغى من ورائها أن تمضي بها قدم الإصلاح إلى حيث تستغني عن غيرها، وتشب عن الطوق، وهذه التصانيف وتلك المعايير وليدة الشوق العارم إلى التقدم المطرد، والمنافسة المستمرة في هذا العالم، وجرى بعد ذلك تعميمها، فاتخذتها بقية الدول في رسم خارطتها المستقبلية، وصناعة حياة شعوبها.
هذه المعايير وجه من وجوه الحضارة المعاصرة، وتكشف عن معنى عزيز فيها، وهو السعي في صناعة التأريخ، وبناء حقب جديدة فيه، ولم تنشأ هذه المعايير، ولم تقم هذه التصنيفات عليها، إلا حين آمن هذا الإنسان أنّ ثمة تأريخا لم يُكتب، ومراحل زمنية لم تُبن؛ فهذه المعايير هي خلاصة إيمان هذا الإنسان بقدرته على بناء تأريخه من جديد، وهي إمارة واضحة على جزمه أن بالإمكان أحسن مما كان، وذاك حقاً هو ما كان!.
هذه المعايير نبت، تُزرعه البيئة المحيطة، وتساعده الظروف المكتنفة، وجماع الأمر كله فيه إيمان الإنسان، المستولي عليه، بالتقدم، وإمكانه وقابليته له، فهذه هي الشرارة الأولى، وصانعها الإنسان، وحين تُفقد هذه الشرارة، يذبل النبت، ولا ينتفع الإنسان من نقل هذه المعايير، وكثرة الحديث فيها، ويكون حاله كحال مَنْ ينقل شجر النخيل إلى الإسكيمو، ويرجو بعد ذلك أن يرى ثماره، وينتفع من طلعه!.
هذه المعايير، وتلك الأسس، تنشأ في بيئة تؤمن بصناعة التأريخ، وترى في نفسها القدرة على القيام بهذا الدور، ومن غير الممكن أن تُنقل إلى بيئات أخرى، تفتقد هذا الشرط، ولا ترى في نفسها قدرة إلا على أن تُعيد فصول التأريخ، وتُفسّرَ الحياة به.
يمكنني إذن أن أُصنف المجتمعات بعد هذا وفق تصنيف ثنائي؛ مجتمعات تصنع التأريخ، وتبني فلسفتها وإستراتيجياتها على ذلك، ومجتمعات أخرى تعيد التأريخ، وترى ذلك قصارى ما تستطيعه، وغاية ما تأمل فيه، وتلك هي حالنا، الغالبة علينا هذه الأيام، ولست أظننا منتفعين مما نستورده من مناهج ومعارف؛ ما دمنا نعيش هذا الحال، ونتقلب فيه.
وإذا كان الأمر هكذا، والحال على ما وصف صدر المقال، فمن الصعب جدا أن تنتفع مجتمعات إعادة التأريخ بمنتجات مجتمعات صناعة التأريخ؛ لأن الفرق هنا جوهري، والتحدي كبير، فهو يتعلّق بتغيير البيئة المحيطة، وتبدل الظروف الحاضنة، وما لم يتم هذا فسيكون أي نقل -مهما صغر أو كبر- مصيره للاندثار، ومآله للاضمحلال، ولعل حالنا مع الفلسفة قديما وحديثا، وحالنا مع بعض العلوم الحديث تكشف عن هذا المعنى، وتدل عليه.
وإذا كانت معايير التصنيف، المرتبطة بثقافة كل مجتمع، والمأخوذة منها، هي أدل الأشياء على حاله، وأبين الأمور في تصويره، والحديث عنه، فما هي المعايير النابتة على ضفاف نهر ثقافتنا، وما هي الأسس التي نتخذها في معايرة القريب والبعيد؟! وإذا كانت تلك آثار المعايير عند أمم الحضارة، وأدقها في الدلالة عليها، وأعظمها نفعا لغيرها؛ فما هي معاييرنا التي نفكر أن نجعلها لنا صادرات، وعنا أمام العالمين متكلمات، ونطمع أن تُقبل عليها أمم الأرض، وتتحول في القريب العاجل إلى معايير تصنيف عالمية كتلك التي صدرت بها المقال؟!
في عنوان المقال أحببت أن أجمع بين صورتين من المعايير التي أنبتتها ثقافتنا، ورعتها أجيالنا، وهي معايير لا أظن بإمكاننا تغييرها ما لم يتغير عمق الثقافة نفسه، وتجرى له تغيرات كبرى؛ إذ تشبه هذه المعايير إلى حد بعيد ما تلفظه المحيطات والبحار، فالملفوظ هنا دليل على ما يعيش في المحيط، ويختفي في قاع البحر، ولا مجال لتغيير المحيط وتبديل البحر عبر إجراء بعض التعديلات الشكلية على ما يظهر على شطآنهما، ونجده في سواحلهما.
في ثقافتنا المعاصرة إرث قديم، وموروث له مئات السنين، تحتل فيه معايير التصنيف المذهبي الصدارة، وتملك فيه توجيه الدفة، واليوم تستحوذ على قلوب الملايين، ولا يبدو الخلاص منها يسيراً، ولا النجاة منها قريبة؛ إذ هي أكثر معايير التصنيف عندنا جذريةً، وأعمقها أثراً، وأبعدها في التأريخ وجوداً، وأقربها إلى القلوب حضوراً، وأسرعها إلى العقول مجيئاً، وكل ذلك فيها جعلها تفعل فينا فعلها، وتؤدي على حسابنا دورها؛ فعلى مقدار حضور الشيء يكون أثره، وحسب اهتمام الناس به تكون نتائجه.
ومن غريب أمرنا أننا ننتقد صكوك الغفران، ونعدها أضحوكة على رجال الكنيسة، حين اتخذوها كما يقول الأستاذ ول ديورانت (قصة الحضارة 15/ 66) "وكان توزيع صكوك الغفران على من يقوم بالخدمة في فلسطين أربعين يوماً عملاً مشروعاً في العرف العسكري"، ونغفل عن أمرين مهمين في هذه القضية؛ أولهما أنّ هذا النقد الذي نقوم به قام به الغربيون أنفسهم قبلنا، وكان نقدهم له حين كانت الحاجة إليه ماسة، والدعوة فيه مؤثرة، ولم نقم به نحن إلا حين أضحى رجال الدين يعيشون في الظل، وليس تحت الشمس، ونسينا في حقهم ما قد قيل في المأثور: ارحموا عزيز قوم ذلّ!.
وثاني الأمرين أن من الأحرى بنا، والأنفع للمسلمين، والأجدر بممثلي الدين عندنا، والأنقل لسماحة الدين إلى الآخرين، أن يُحاربوا التصنيف المذهي ومعاييره، ويقفوا في سبيل انتشاره، وينتشلوا التراث من شره، ويعدوه هو وصكوك الغفران المسيحية أخوين، رضعا من لبان واحد، ووجهين لعملة واحدة؛ فإذا كانت الصكوك ضامنة لصاحبها الجنة، فما للتصنيف المذهبي ومعاييره من غاية غير هذه، ولا له هدف سواه، فلنبدأ من هنا فحريٌّ بالمرء أن يصلح نفسه قبل أن يشتغل بغيره.
إن الدخول -أيها السادة-إلى العالم الحديث له ضرائب؛ منها أن تكون معاييرنا التي نزمع تدويلها تشارك في تحقيق أهدافه، ونيله مبتغاه في التقدم، وتشييد حقبة تأريخية مختلفة، ودون أن تكون هذه هي بضاعتنا للعالم، وأثمن معروضاتنا في سوقه الكبير، فلن يخسر إلا ديننا؛ لأنهم باختصار شديد الوجازة لا يؤمنون بدين لم يستطع توحيد أهله، ولم يُثبت لهم جدارته فيهم، وفي بناء حياتهم، وانتشالهم مما هم فيه منذ قرون! فعلى من يأسى على دينه آناء الليل، ويتحسّر عليه أطراف النهار أن يُشارك العالمين من حوله في اهتمامهم، ويجلب إلى سوقهم ما يجعله أثيراً عندهم، مرغوباً بما بين يديه، ويُعيد نظره مرات ومرات في معايير التصنيف التي يُدير بها حياته، ويسوق بها جموع مجتمعاته، فهذا العالم لم يعد يخفى عليه شيء؛ فهو كمن يُطل عليك من نافذة منزله، ويسمع ضجيجك في الشارع المجاور له، ويُنصت إلى آهاتك وصرخاتك فيه، أفترى مثل هذا مُقبلا على ما عندك، وراجياً أن يحلَّ به ما يواجهه في حياته، ويُغنيني في هذا السياق أن أُذَكِّر، ولست أخالكم بعيدين عنه، بخبر برنامج البي بي سي "أثير الكراهية"، فقد كان صورة صادقة لأكثر معايير التصنيف قيمةً عندنا، وأعظمها رواجاً في ثقافتنا، فهل سنجد لهذه المعايير طُلابا في السوق العالمية، فنعدّ أنفسنا بعد حين غير بعيد من ذوي الفضل على أمم الأرض؛ كما هي اليوم ذات أفضال علينا؟! لا أحب القنوط، ولا أستروح للتشاؤم؛ لكنني أيضا لم أفكر يوما أن أجني من الشوك العنب، وأتزوّد من البحر بالماء العذب.