التفكير النظمي مشكلات وحلول
من خلال خمسة مقالات متتالية عرضت بعض الأفكار حول ما يسمى المنهج التركيبي في معالجة كثير من المشكلات. والمنهج التركيبي فرع من مجال التفكير النظمي، الذي من سماته الأبرز النظر إلى المشكلات بشمولية. ويتطلب النظر الشمولي أن يقطع التفكير حدود التخصص مرارًا عودة وذهابا حتى يعود بالحل، من خلال آليات عمل معروفة، كالعصف الذهني، والنمذجة، والمحاكاة، إلخ. وقد أعطيتُ أمثلة لمشكلات تنموية راهنة من أبرز خصائصها أنها لا تنتمي إلى تخصص واحد كمشكلة الإسكان، كونها مشكلات كبرى تلتقي وتتفرع فيها التخصصات. لكنني سأعرض ثلاثة أمثلة لمشكلات تأخذ أهمية أقل عند متخذ القرار والمتابع لكن الحلول التي اتبعت لمعالجة هذه المشكلات لها صفة الشمولية، إحدى سمات التفكير النظمي.
1- في مدينة نيويورك، بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي إحدى المجمعات السكنية، أبدى مجموعة من السكان تذمرهم الشديد من بطء المصعد. تجاهل مالك المجمع المشكلة، ظنا أن الوقت كفيل بحلها. إلا إن التذمر لم يتوقف، بل ازداد حدة حتى هدد السكان كلهم بالخروج من المجمع إن لم تتحسن خدمة المصعد. عرض مالك المجمع المشكلة على مكتب هندسي أملا في أن يجد حلا عاجلا. بعد شهرين من الدراسة، عاد المستشار الهندسي بحل يحسن من خدمة المصعد. فالحل يقضي باستبدال المصعد بآخر أحدث، مع اقتراح بزيادة سعة المصعد، إضافة إلى بعض التحسينات التجميلية. إلا إن الحل المقترح خلق مشكلة أخرى. فالكلفة المقدرة لمصعد جديد تعادل دخل المجمع كاملًا لسنتين ونصف. مع عدم قدرة مالك المجمع في توفير المبلغ المطلوب عاجلًا، فإن تجاوز مشكلة الكلفة برفع إيجار المجمع سيخلق بالتأكيد مشكلة أخرى. عاد مالك المجمع إلى مستشاريه بحثا عن حل آخر. بعد نقاش طويل ومضني، اقترح أحدهم حل مشكلة الانتظار لا مشكلة بطء المصعد، بوضع مرآة أو أكثر في صالة انتظار المصعد في كل طابق. نفذ مالك المجمع الاقتراح بعد طول تردد. كانت النتيجة أن توقف السكان عن تذمرهم، بل شكروا مالك المجمع على جهوده في تحسين الخدمة.
الحل الذي نفذه مالك المجمع لم ينطلق من النظر في حدود المشكلة التي عرفها السكان، أي بطء المصعد، إنما اتسع ليشمل حدود المشكلة التي منها الانتظار. فكان الحل يسمح لطالب المصعد بالانشغال بصورته في المرآة، وكان ذلك كافيا لعدم الشعور بالملل أثناء الانتظار.
2- في إحدى قرى الريف الاسكندنافي، قرر صاحب متجر لبيع التموينات الغذائية استشارة أحد خبراء التسويق في الطريقة الأمثل في رفع أسعاره دون أن يشعر المستهلك بذلك. فكان رأي المستشار أن يرفع الأسعار بشكل جزئي باستخدام ثلاثة أرباع العملة أو نصفها أو ربعها. نفذ صاحب المتجر الاقتراح، ووجد ارتفاعا في الأرباح لمدة يسيرة إلا أنها عاودت إلى النزول. فعاد صاحب المتجر لمستشار التسويق. بعد دراسة الأمر، عاد المستشار ليوضح لصاحب المتجر أن الزبائن لم يشعروا بزيادة الأسعار فعلا، إلا إنهم شعروا بصعوبة استخدام العملة المعدنية، مما جعل أكثرهم يختار متجرا آخر لا يحتاج فيه إلى استخدام العملة المعدنية وإن كان أبعد قليلًا. اقترح المستشار حلا جديدا. أن يشتري صاحب المتجر آلة بيع لا تقبل إلا العملة المعدنية، وأن يضعها بعد نقاط البيع مباشرة عند بوابات الخروج. النتيجة أن المبيعات تضاعفت أكثر من قبل.
كان نجاح آلة البيع نتيجة أن المستشار نظر إلى دورة العملة المعدنية منذ خروجها من المحاسب إلى يد المستهلك إلى المحاسب مرة أخرى. فوجد إن العملة لا تكمل دورتها بعد أن تصل إلى يد المستهلك الذي لا يجد لها مصرفا لعدم شيوع استخدامها في القرية. فبعد أن وضع صاحب المتجر آلة البيع أمكن للمستهلك أن يكمل دورة العملة المعدنية بسرعة مدفوعاً برغبته في تحاشي حمل العملة المعدنية معه إلى خارج المتجر.
3 - يكثر في الفنادق الكبيرة ظاهرة ارتفاع استهلاك الطاقة الكهربائية. بعد دراسة الظاهرة، تبين أن معدل الإضاءة في الغرفة الواحدة يفوق ثلاثة أضعاف الإضاءة الموجودة في غرفة مماثلة من أي حي سكني، لكن معدل وجود ساكن الغرفة الفندقية أقل بمعدل النصف من المقيم في غرفة سكنية مماثلة. كان التفسير لهذه الظاهرة أن ساكن الفندق يخرج دون أن يغلق الإضاءة. لمواجهة ارتفاع استهلاك الطاقة، لم ينظر المحللون للمشكلة من جهة الكلفة فقط، بل من عدة جوانب بيئية وتنافسية. كيف يستطيع الفندق الإيعاز لضيوفه بإطفاء الإضاءة عند الخروج دون التطفل عليه ودون أن يشعر أنه مراقب. كان الحل الأمثل ضمن حلول أخرى، أن يربط مفتاح الغرفة بمفتاح الإضاءة، بحيث يحتاج الضيف إلى أن يضع مفتاح الغرفة في جيب آلي عند الدخول حتى تفتح الإضاءة، وتطفأ الإضاءة عندما يسحب الضيف المفتاح عند الخروج. هكذا أمكن الفندق أن يخفض معدل استهلاك الكهرباء بما يتماشى ومعدل وجود الضيف في الغرفة، مقتربا من معدل استهلاك الأحياء السكنية للكهرباء في المدينة نفسها.
الحلول للمشكلات الواردة في الأمثلة السابقة لم تكن تتحقق لو كانت النظرة إلى المشكلة محدودة بمجال التخصص أو حدود المشكلة الظاهرية. إن ما يجمع بين الحلول الثلاثة رغم اختلاف موضوع التطبيق هو اتباع منهجية التفكير النظمي التي تتطلب النظرة الشمولية لعناصر المشكلة، وفتح الاحتمال لإيجاد الحلول من أي من العناصر ذات الصلة.