ليلة البحث عن الوعي العربي!!

د. عبدالله القفاري

    تشير مصادر معرض الرياض الدولي للكتاب إلى أن عدد الزائرين بلغ خلال الأيام الستة الأولى حوالي مليون زائر. ومن يذهب عديد المرات للمعرض سيجد بالفعل أن عدد الزوار كبير وحاشد.. لا شك أن هناك اهتماما متزايدا بالكتاب.. إلا ان هذا لا يعني بالضرورة أن الوعي الثقافي ارتفع بمستوى نمو تلك الاعداد.. فهناك ايضا بيانات لابد من استكمالها حول نوعية الكتب المباعة، وحجم المبيعات منها ومن سواها.. وغيرها من المؤشرات التي يمكن من خلالها الاستدلال على طبيعة نمو الوعي الثقافي بين الزائرين.

 

 

عندما يغلق المتعلم عقله بأقفال التخصص؛ فإنه من المحال أن يتسرب إليه وعي يطال قضايا الإنسان الكبرى. الوعي إضاءة ذهنية كاشفة تضرب بعمق في الوجدان. المعرفة قنطرة الوصول ولكنها ليست الشرط النهائي.. إلا إذا تم توظيفها كشفًا يضيء المستغلق ونورًا يبهت الظلام المتسربل بوهم المعرفة..

ما يجعلني اتشكك في مسألة نمو الوعي الثقافي، والطلب على سوق الثقافة، هي تلك الاعداد المخجلة التي تذهب لحضور ندوات البرنامج الثقافي المصاحب للمعرض.

من بين العديد من فعاليات البرنامج الثقافي وجدت عنوانا يستحق الاهتمام باعتباره من قضايا الساعة، التي تعد اليوم الشغل الشاغل للمثقف والمتابع والمهتم بما يدور حوله.

في مساء الثلاثاء الماضي كنا على موعد مع "الوعي العربي والسياقات الراهنة". عنوان لافت في خضم القضية الأكبر التي يواجه العرب اليوم استحقاقاتها المكلفة وتخبطها الواسع.

اللافت أن تلك الاعداد المؤلفة من الزوار لم تمنح تلك الندوة سوى عشرين شخصا من الذكور.. وإذا اضفنا إليهم عدد المصورين وموظفي وزارة الثقافة سنجد العدد لم يتجاوز الثلاثين.. وربما أقل منه في قاعة النساء.

هذه الدهشة من ضآلة عدد الحاضرين، تضرب الرقم المليوني بعرض الحائط. فأولئك زوار وليسوا بالضرورة قراء حقيقين أو مشدودين لعالم المعرفة والاكتشاف. فمهما تنوعت مشاربهم فلن يكون ذلك العدد المخجل للحضور إلا مؤشرا على انصراف كبير أو عدم اكتراث أصيل، خاصة وان موضوع الندوة يكاد يكون الأهم بين كل مواد البرنامج الثقافي الذي بدا يعاني من الارتباك والحشو لسد الفراغ.. وعلى الباحثين ان يفسروا تلك الظاهرة التي تبدو من غرائب معرض الكتاب.

إلا أن المسألة الأهم في ليلة الوعي العربي، أن هذا الوعي تاه برمته بين الضيوف المشاركين في تلك الندوة.

فالوعي عند مشارك يدور حول المعرفة، وعند آخر يدور حول طبيعة التكوين الاجتماعي، وعند ثالث يتعلق باللغة ومكانتها.. وعند رابع يتحرك في سياقات الانكسار منذ سقوط الخلافة العثمانية إلى حقبة الاستعمار.

كل يغني على ليلاه، وكل يحاصر الوعي بما يملك من بضاعة مزجاة. وفي اعتقادي أن هذا الخلل الذي طال ما يجب أن يكون أهم فعالية في البرنامج الثقافي من مسؤولية القائمين على البرنامج. ولست في معرض توجيه النصح بمبادىء يعرفها كل من يقوم على تنظيم برنامج كهذا، فهي من ابجديات العمل التي تاهت وسط فوضى الإعداد والتنظيم.

الوعي العربي، مفهوم ملتبس وغير دقيق. فليس هناك وعي عربي مطلق يمكن أن يصف حالة عربية شاملة. كلمة الوعي تضمر عندما تتلبس حالة عربية بالمطلق، بينما كان التخصيص مهما لضمان دقة معالجة الموضوع خاصة وهو يتعلق بالسياقات الراهنة وما ادراك ما السياقات الراهنة.

هل يوجد وعي عربي محدد الملامح والقسمات؟ لا معنى لهذه العبارة لتخصص للعرب وحدهم في هذه المرحلة. فالتجارب الانسانية جعلت الوعي عابرا للقارات بين العرب وسواهم. ولم يكن الوعي بحقوق الانسان -على سبيل المثال- خاصية عربية تفرض نفسها في السياقات الراهنة.. بل هي ثمرة تجربة بشرية وتطور بشري عاشه الآخرون قبل أن تصل رياحه للعرب.

بالتأكيد هناك حالة عربية كشفت عن نفسها في سياق الثورات الشعبية، كان عنوانها يوحي بمفاهيم حقوقية وانسانية ورغبة في الانعتاق من عنق زجاجة القمع والاحباط إلى فضاء الحرية والكرامة الانسانية، ولكنها ليست بالتأكيد حالة عربية خاصة، ولكن السياقات التي مرت بها هي الجديرة بالبحث عن بواعثها وتطورها وانكساراتها واستشراف مآلاتها..

يجب ألا تسرقنا العناوين الكبرى عن تحليل مضمونها، ناهيك أن يمرر أحد المشاركين الوعي باعتباره المعرفة. المعرفة والعلم ليس بالضرورة أن يثمر وعيا يشكل جزءًا من شخصية الانسان المتعلم. الوعي حالة متجاوزة للمعرفة والتخصص وإن كانت المعرفة هي القنطرة التي لابد منها مع وسائل اخرى واستعدادات وشروط أخرى للوصول إلى حالة الوعي.

عندما يغلق المتعلم عقله بأقفال التخصص فإنه من المحال ان يتسرب إليه وعي يطال قضايا الانسان الكبرى. الوعي اضاءة ذهنية كاشفة تضرب بعمق في الوجدان. المعرفة قنطرة الوصول إلا أنها ليست الشرط النهائي، إلا اذا تم توظيفها كشفا يضيء المستغلق ونورا يبهت الظلام المتسربل بوهم المعرفة.. وإلا اكتفى كل متخصص بما لديه باعتباره وعيا بينما قد تكون خياراته الأخرى جزءًا من عطالة ذهنية تلامس قشور العلم وتصافح حقول التخصص ولكنها تعيش بمعزل عن فلسفة التقدم الانساني.

وربما اختار أحد المشاركين التنصل من مواجهة السؤال الكبير حول الوعي وسياقات التغيير الراهنة ليوزع الدم التاريخي على انكسارات حلت بالعرب. حيث أعادنا إلى انكسارين يراهما العنصر الأهم في التيه العربي الراهن.

أحدهما انهيار الخلافة العثمانية والآخر الاستعمار. وكم يبدو الحديث وجيها لو كان في منتصف القرن العشرين. إلا ان تلك التجربة المريرة للدولة القطرية منذ رحيل الاستعمار لم تكن لتلفت انتباهه إلى كارثية الاستبداد التي صبغت انظمة عربية شمولية ورثت السلطة بقهر المؤامرة والدبابة. فمنذ انقلابات العسكر في منتصف القرن العشرين اغلقت ابواب التحول الطبيعي في سياق كان يوحي بإمكانية بناء الدولة على اسس أكثر رحابة وحرية وانسانية.. إذ احتكرت تلك الانقلابات السياسة واغلقت أبواب التعددية على هشاشتها، وأطفأت مساحات الحرية على ضيق أبوابها.. لترث تلك الانظمة القمعية أكبر البلدان العربية وأكثرها أهمية، وتحولها عبر عقود إلى دول فاشلة اثمرت عن احتباسات كبرى لم تكن السياقات العربية الراهنة بعيدة أبدا عن نتائجها.. بل تعد المسؤول الأول عن هذا التردي الكبير والانهيار المفجع.

أما آخر المتحدثين فقد استلهم اخفاق وعينا من ضعف العناية باللغة العربية، لتصبح هي المشكلة الكبرى.. ولم أدرك ما العلاقة الشرطية بين "الوعي العربي والسياقات الراهنة" وعدم الاهتمام باللغة العربية.

وقد يبدو حماس المتخصص غلب عليه، إلا انه حتى في هذه قدم وصفة خاطئة عندما اختزل مسألة التقدم العلمي بقضية اللغة فقط. واذا كانت اللغة الأم جزءًا من مقومات التقدم في أي مشروع يستهدف خلق قاعدة علمية راسخة.. إلا ان هذا التشخيص يؤكد ان الوعي قد يكون بعيدا عن التخصص. فالمسألة مرتبطة بقضية أكبر وهي غياب مشروع استراتيجي يطال مسارات التقدم.. وهذه لن يحلها البكاء على لبن اللغة المسكوب.

في تلك الليلة وخلال أكثر من ساعتين حاولت القبض على الوعي العربي، فلم أجد سوى سحابات من التيه الفكري. أما خارج القاعة فوجدت الممرات تضيق بالزائرين.. بعضهم يعودون خفافا بأقداح القهوة.. وآخرون يجرون المعارف بالحقائب!!

رزقنا الله وأياكم وعيا لا يخذلنا.

المصدر: http://riy.cc/918701

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك