الطريق إلى القراءة .. شيء من تجربة ذاتية في التحرر

محمد بن علي المحمود

    

يعرف الجميع أن للقراءة عشاقها المتيّمين بها حد الهوس. ربما تنشأ العلاقة مع القراءة بتخطيط من البيئة المحيطة، في البيت، أو في المدرسة، أو في الأنشطة الصادرة عن التيار الفاعل إيديولوجيا في المجتمع. لكنها لن تكون أبدا كعلاقة الحب القدري، تلك العلاقة التي تخلق نفسها بنفسها، وتمتلك من قوتها الذاتية ما يجعلها تزيح عن طريقها كل العقبات الذاتية والمجتمعية

 

كما يقع الإنسان في الحب على قَدَر، يقع في غواية القراءة على قَدَر. القراءة لها طابع المعشوقة في كل شيء، من رحلة البدايات إلى حدود النهايات المحتملة. البداية قد تكون مصادفة عابرة لقراءة عابرة، كما هي في العشق تماما، قد تبدأ بنظرة عابرة لجمال عابر في الزمن أو في مدى البصر.

نظرة عابرة تقدح شرارتها الأولى، تصنع البداية المحتملة، تضع جنينا قابلا للنمو؛ غير أن وتيرة الوجد تتصاعد بعد ذلك، إما بقوة دفع اللحظات الأولى التي قد تكون استثنائية في سياقها، وإما بقوة الاستعداد الذاتي/ القابلية التي قد تجعل من العادي/ الطبيعي استثناء، وإما بهذه وتلك مجتمعتين؛ وحينئذٍ لا تسأل عن سيرة جنون، أو سيرة حب ينتهي بجنون !.

يعرف الجميع أن للقراءة عشاقها المتيّمين بها حد الهوس. ربما تنشأ العلاقة مع القراءة بتخطيط من البيئة المحيطة، في البيت، أو في المدرسة، أو في الأنشطة الصادرة عن التيار الفاعل إيديولوجيا في المجتمع. لكنها لن تكون أبدا كعلاقة الحب القدري، تلك العلاقة التي تخلق نفسها بنفسها، وتمتلك من قوتها الذاتية ما يجعلها تزيح عن طريقها كل العقبات الذاتية والمجتمعية؛ لتقيم قصة حب متمردة، قصة حب راسخة في عالم المستحيل.

هل عشق القراءة أعمق وأصدق وأبقى من العشق الثنائي بين بني الإنسان؛ حتى وإن وصل هذا الحب درجة امتزاج الأرواح بالأرواح؟

ربما، لكن لا ريب أن العلاقة بالقراءة/ الكتاب هي أكبر من علاقة فكر، كما هي أكبر من علاقة وجدان. هي علاقة يتضافر فيها العقل والقلب لبناء عالم من الحب، عالم كامل بأجوائه وطقوسه وذكرياته، عالم تنفث فيه روائح الورق والحبر وجمال الكلمة سحرها المعطر بشبق لحظات الاكتشاف، وذلك عندما تحس بقلبك منتشيا بتقدم عقلك بضع خطوات إلى الأمام.

وأنا في الثانية عشرة من عمري، يفيض وادي الرمة بما يشبه الطوفان. يملأ تجاويف القرى القصيمية، ويتخلل كثبانها الرملية. يخرج أهل القصيم إلى ضفاف مجرى الوادي الأعظم منتشين بولادة طبيعية لا تتكرر إلا كل ثلاثين أو أربعين عاما، كما يذكر ذلك الراسخون في معرفة متاهات هذه الصحراء. يخرج بنا الوالد حفظه الله ، ويقف بنا على أحد التلال الرملية التي تحيط بها المياه/ الاستثناء الطبيعي من ثلاث جهات. حالة استثناء تكسر صلادة الرتابة الاجتماعية. ينزل الجميع إلى قرب الماء، وأبقى في مقعد السائق أتخيل نفسي أقود السيارة، ولا أفتأ أعبث بهذا وذاك من مقود وغيره. أرى أمامي كتابا قديما قد تمزقت دفتاه، وبعض أوراقه على وشك التمزق. أبدأ القراءة به عابثا، أجد فيه كثيرا من الأخبار عن تاريخ العرب القديم، وعن أخبار طسم وجديس، عن العرب العاربة والعرب المستعربة، أين عاشوا وكيف هلكوا.

تشدني القراءة فيه، وأندمج فيه تماما، رغم أني لم أُقم أي علاقة مع أي كتاب من قبل، إذ كانت علاقتي بالكتاب المدرسي المكروه علاقة نفور. كرهت الكتاب المدرسي إما لكونه مفروضا، ونفسي تضيق بكل ما يُفرض عليها، وإما بسبب أننا نفتح الكتاب المدرسي في مدارسنا على إيقاع ضربات العصي السادية (حيث كانت مدارسنا أشبه بمعتقلات التعذيب منها بمحاضن التعليم والتهذيب) فنشأت علاقة سيكيولوجية شرطيّة بين العذاب والكتاب.

استمتعتُ بالكتاب الذي أقرأه بحرية كاملة. الكتاب كان سهلا ومُسلّيا رغم كونه يتحدث عن موضوع غريب بالنسبة لي.

يذكر الكتاب أخبار الغابرين الذين لم أكن أسمع أحداً يتحدث عنهم في محيطي. أحاديث الأسرة والأقرباء كانت عن الواقع اليومي، وعن التاريخ القريب الذي لا يمتد لأكثر من قرن أو قرنين، إلا ما يتعلق بالسيرة النبوية. هي أول تجربة أحس فيها بأن الكتاب يمكن أن يمنحك سعادة تتجاوز بك جمال المكان الربيعي الذي تنتشي به أسرتك من حولك. بدأت أقرأ فيه، وأكرر القراءة في كل رحلة برية، حتى تمزّق على يدي.

عندما أتذكر تلك اللحظات الباذخة عطرا في الذاكرة، لا أدرى ما الذي شدني في تلك التجربة إلى درجة أني اليوم أذكرها بكل تفاصيلها. هل هو جمال حكايات السابقين، خاصة وأنني كنت أقرأ فوق تل رملي يُشرف على منازل تمتد على مدى بصري، تمتد في الكتاب الذي بين يدي، وفي الواقع الذي أمامي؛ إذ على الضفة الأخرى من الوادي (= وادي الرمة)، يوجد الغضا الذي افتتح مالك بن الريب مرثيته لنفسه بالحنين إليه، كما توجد رامتان، والرس، والرسيس وعاقلة...إلخ مكونات المعشوق المكاني الذي طالما تغنى بها شعراء الجاهلية وصدر الإسلام، أم هي لذة المعرفة، أي لذة أنني أحسست بأنني أعرف جديدا، بل وأنني أعرف ما لا يعرفه كثيرون من حولي ؟

هل كان إحساسا غامضا بأنني أكتشف هذه الجغرافيا الصحراوية من خلال التاريخ؟

أنا الآن أسأل وأتساءل، ولكني في ذلك الزمن البعيد لم أكن أمتلك إلا إحساسا غامرا بجمال الحكايات، وإحساسا باهتا بأنني بدأت أتعرف على شيء من هوية المكان الذي يحتضنني منذ زمن بعيد.

مضت سنة كاملة لم ألتق فيها بمحبوبة أخرى تستحق أن أقيم لها فروض العشق. لدي هاجس داخلي يؤكد لي أنني على موعد مع الحب، ولكن، متى وأين؟

في البيت هناك كتب قليلة لا تتجاوز المئة كتاب، ولكنها على قِلّتها كتب دينية بأكملها، وزيادة على ذلك فهي لعلماء تقليديين من الغابر والحاضر، فكانت على الأقل بالنسبة لي تصد عن القراءة أكثر مما تغري بها. أقول هذا: رغم أني قرأت فيها متصفحا، ولكن قراءتي فيها لم تزد عن بضع صفحات من كل كتاب، ككتشاف صبياني وربما عبثي لا أكثر.

خلال هذه السنة، زرت المكتبة العامة، ولكنها لم تكن زيارة مُغرية بالعشق ؛ لأنها أتت بتكليف من أحد مُدرسي مادة الدين في المعهد العلمي، الذي هو أحد معاقل التقليدية الراسخة !. كان الأستاذ يدرّسنا تفسير قوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل..الآية)

طلب مني ومن زميل آخر أن نذهب إلى المكتبة العامة، ونطلب من أمينها كتاب (الطب النبوي ) لابن القيّم، وننقل كل ما كتبه ابن القيم عن فوائد العسل، ثم نأتي في الدرس القادم لنقرأ على الطلاب ما نسخناه بأيدينا. وبما أننا لم نعرف طريق المكتبة في موقعها الجديد، خاصة وأنها كانت تائهة بين الأماكن المستأجرة (ولا تزال إلى اليوم هذه اليتيمة المستضعفة تسكن بالإيجار، رغم أن عمرها تجاوز الأربعين عاما!)؛ فقد وصفها لنا، ومع هذا ظللنا لساعة نبحث عنها، حتى وجدناها في عمارة سكنية صغيرة داخل حي سكني، لا شيء يدل عليها إلا لوحة صغيرة تشي بالغياب أكثر مما تشي بالحضور. بعد ساعتين خرجنا ننفض عن كواهلنا عبء هذا التكليف الذي كان المدرس يحاول فيه ربطي وزميلي بالتراث التقليدي برموز تقليدية يعتقد أنها مصدر الحقائق المطلقة التي لا يجانبها الصواب.

الزيارة العابرة للمكتبة العامة التي تمت بناء على تكليف، وهدفها محدد سلفا، لم تكن مشجعة، ولا تغري بتكرار الزيارة، وإن كانت في الوقت نفسه لا تُنَفر منها. كانت المكتبة العامة هادئة، إلا من بضعة أفراد لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة. الغرف المليئة بالكتب فيها شيء غير قليل من الكآبة. على الأقل، هكذا بدت لي في تلك الزيارة الأولى. وطوال الفترة التي كنا فيها ننسخ من كتاب ابن القيم؛ كنا في غرفة مليئة بالكتب الدينية القديمة بمجلداتها الضخمة التي لا تمنحك كزائر عابر أي إغراء بالقراءة.

طبعا، لم نتجاوز هذه الغرفة الكئيبة إلى بقية الغرف، حيث كتب الأدب والتاريخ والمجلات الدوريّة..إلخ، فكان هذا سببا في ضياع فرصة سانحة لعلاقة حب أخرى، علاقة حب قد تكون بداية مشوار يراوغ به القدر آمال العاشقين.

ربما في اواخر الثالثة عشرة من عمري، أو بداية الرابعة عشرة، تنشأ علاقة حب أخرى. يقيم المعهد العلمي معرض كتاب صغيرا جدا، ويمنح خيار الاستعارة لمن يريد. المعرض في غرفة/ فصل واحدة، ولتفعيل هذا كنشاط؛ يطلبون من الجميع زيارته.

أتفرج على الكتب، وأبحث عن شيء شبيه بالكتاب الذي استمتعت به قبل سنة ونصف على ضفاف وادي الرمة. رأيت كتابا بعنوان (القادسية)، وكان في حدود 300 تقريبا، كما أتذكّر اليوم بعد كل هذه السنوات التي ناهزت الثلاثين عاما. تصفحته واقفا، ووجدت فيه شيئا من روح الكتاب السابق، ولهذا استعرته، ورجعت به إلى البيت. رميت بالكتب الدراسية، واحتضنت هذا الكتاب التاريخي أقرأ فيه. يبدأ الكتاب متحدثا عن بدايات ما يسمى بالفتوحات، والمهم أنه يسرد ذلك بأسلوب قصصي حتى يصل إلى وقائع معركة القادسية، ساردا كل ما له علاقة بالحادث المفصلي من قصص وأخبار وأشعار. شدني الكتاب، لا بقصص البطولات فيه فحسب، وإنما بالغراميات أيضا. قصص أبي محجن الثقفي كفارس، وكشارب للخمر لا يزال يُجلد عليها ويصر على الاستمرار (شخصية عنادية تغري بالرفض والتمرد، بصرف النظر عن موضوع الرفض والتمرد)، وعاشق للنساء. وكان عشقه اختراقا للتابو الذهني لدي. لا زلت أتذكر كيف تماهيت كطفل كبير في بدايات المراهقة، طفل يتفتح على مغاليق أول أسرار المرأة مع أبي محجن وهو يتلصص على امرأة جميلة تغتسل، حيث رصدها ورآها عارية، فقال فيها بيتا لا أزال أحفظه؛ لأنه اخترق ذاكرتي وقلبي، لا بجودته الفنية، وإنما بعمق إمساكه بصورة شبقية تلهمني جسدا وروحا، وذلك عندما قال:

ولقد نظرت إلى الشموس ودونها

حَرجٌ من الرحمن غير قليل

كنت أنظر كما ينظر أبو محجن، ولكن بعين خيالي، رابطا ما أجهل بما أعرف، أو بما أظن أنني أعرف. كل هذا أغواني بلا شك، فضلا عن الإغواء الآخر الآتي من أبياته التي يقول فيها:

إذا مت فادفني إلى جنب كرْمة

تروّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني في الفلاة فإنني

أخاف إذا ما مِتُّ ألا أذوقها

أتذكر أن ثمة إحساسا اجتاحني وأنا أقرأ مثل هذه القصص وهذه الأبيات، وهو أنني في هذه اللحظة التي أقرأ فيها؛ أنتصر على حصار التزمت الخانق الذي يُخيّم على أجواء بيئتي بشتى ميادينها، والأهم أنه اختراق مارسته من خلال معقل من معاقل إيديولوجيا التزمت (= المعهد العلمي) الذي منه استعرت هذا الكتاب الذي يتضمن ولو بشكل محدود جدا ما يناهض أبجديات الرؤية المتزمتة.

هنا أحسست إحساسا خفيا بالقراءة كفعل تحرري، شعرت بأنني أقفز على حواجز الرؤية المتزمتة بفضل غباء هؤلاء الذين أتاحوا مثل هذا الكتاب وهم لا يعرفون ما بداخله، إذ لم يقرأوه بالكامل. شعرت بأنني كسجين أخادع حُرّاسي، حراس الفضيلة الأخلاقية والفكرية، وأنني مارست جناية تهريب حريتي إلى فضاء لا يطاله هؤلاء الحراس بحال. وهذا ما جعل القراءة لدي تنتقل من فروض الدراسة بوصفها سياجا تطويعيا، إلى أن تكون فضاء تمرد ورفض ومعانقة للأشواق المحرّمة والآمال المجنونة التي لا تقف عند حدود.

في هذه الأثناء، كان أمين المكتبة الخيرية (= مكتبة الشيخ: محمد بن عبدالوهاب) سودانياً متديناً، وكان يعطيني دروس تقوية في مادة اللغة الإنجليزية. لكنه كان فيما ظهر لي من بعد إسلاميا حركيا؛ لأنه كان لا يكف يعطيني كتبا لمحمد قطب، في الوقت الذي كان يعطيني فيه تمارين منزلية في اللغة الإنجليزية، ويختبرني فيما قرأت من الكتاب، في الوقت الذي يصحح لي فيه تلك التمارين. وقد تحملت وصايته على مضض، حتى انتهت تلك الدروس، فكانت تجربة غير سعيدة مع كتاب يفرضه عليك أحدهم لغير مفاهيمك، ثم يخبترك فيما استوعبته منه. تجربة غير سعيدة؛ ولكنها ربطتني بالمكتبة الخيرية، إذ كانت على صورتها التقليدية أكثر حيوية من المكتبة العامة المكدسة بنوادر من الكتب.

كانت المكتبة الخيرية مرتبة بشكل أفضل (بجهد موظف واحد، ولكنه غير سعودي !)، بينما المكتبة العامة يعلو الغبار كثيرا من رفوفها، وكانت بغير ترتيب، بل تداخل الكتب والعناوين بعشوائية فاضحة؛ رغم وجود عدد من الموظفين السعوديين!.

في تلك السنة التي عرفت فيها المكتبة العامة والمكتبة الخيرية، وجربت أنواعا من العلاقة بالكتاب، بين علاقة مغرية، وعلاقة مُنفّرة، كان يُذاع مسلسل (طرفة بن العبد). كان المسلسل مغرياً أشد ما يكون الإغراء، على الأقل بالنسبة لي؛ لأن شخصية البطل كانت مغرية لي إلى حد كبير، شخصية فيها التمرد اللامحدود على كل قوانين الحياة الاجتماعية، البطل يدفع الأثمان الباهظة ثمناً لحريته واحتفاظه بكرامته، إلى أن يدفع في النهاية روحه ثمناً لجرأته على ملك غشوم.

عندما كنت أشاهد ذلك المسلسل لم أكن أعرف من هو طرفة، ولا ما هي المعلقات الشعرية. وعندما سألت والدي حفظه الله عن المعلقات قال: هي قصائد طويلة كانوا يعلقونها على الكعبة، وهي لأهم وأكبر الشعراء. وهذا ما زاد من تعلقي بالمسلسل. ومن هنا كان المسلسل إضافة فكرية من حيث بدأ كإضافة روحية، فمنه سمعت أبياتا من الشعر الذي لم أسمعه من قبل، وهو ما جعل رأسي يدور بنشوة عارمة كأنما كانت تلك الأبيات تمنحني رحيق الحياة ببضع كلمات، وخاصة عندما سمعت طرفة بن العبد يلقي مطلع قصيدته:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد.

ومع أني لم أعرف معنى البيت بالكامل على وجه التفصيل، إلا أنني أحسست بمعناه كاملا. كان إيقاع البيت رهيبا وطاغيا. سمعت البيت في المساء من فم البطل، وعرفت أن وراءه أبياتا أخرى، فبت أتحرّق شوقا إلى تحسّسها بعيني مباشرة. ولهذا عزمت على زيارة المكتبة لأستعير ديوانه بعد الخروج من المدرسة ظهراً، وقبل أن تغلق المكتبة أبوابه، وهذا ما كان.

المصدر: http://riy.cc/915806

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك