ترميم المجتمع قبل ترميم التراث

د. مشاري بن عبدالله النعيم

    نفكر دائماً في ما خلف التراث المادي، الروح الذي تعطيه قيمة ومعنى لذلك عندما سمعت عبارة البرفوسور "ليال"، مؤرخ مدينة هافانا، العاصمة الكوبية الذي زار الهيئة العامة للسياحة والآثار قبل أسبوعين بأنه "لا يمكننا أن نبدأ الترميم المادي العمراني إذا لم نبدأ بترميم النسيج الاجتماعي"، توقفت كثيراً عند هذه العبارة وفكرت في التحديات الحقيقية التي تواجه التراث العمراني الوطني الذي فقد سكانه وتلاشت أنسجته الاجتماعية، فكيف يمكن أن نقود عملاً وطنياً يعيد لتلك الأمكنة حياتها الاجتماعية ومن ثم نشاطها الاقتصادي. القاعدة الراسخة في ذهني هي "أستخدمه أو أخسره"، أي أن كل عضو مادي يجب أن تستخدمه أو سيموت، والمساكن القديمة كانت كائنات حية عندما فقدت سكانها حزنت وأصابها الاكتئاب وتدهورت صحتها وصارت تموت موتاً بطيئاً محزناً. البرفوسور "ليال" رجل كبير في العمر يتحدث عن الوسط التاريخي لهافانا وكأنه يتحدث عن عائلته وأبنائه، يقول إنه بدأ برنامج "ترميم النسيج الاجتماعي" للمدينة التاريخية منذ 34 سنة (1980م) وكان صبوراً على هذا البناء ولم يفقد الإيمان في يوم أنه سينجح وأنه سيحقق الهدف الذي نذر حياته من أجله. هذا الإيمان هو ما ينقصنا لاستعادة الحياة للمناطق التاريخية في بلادنا، لأنها تعني "استرجاعاً عميقاً للهوية" ومفهوم الهوية لا يمكن أن يكتفي بالصورة البصرية بل بالمكون الثقافي الاجتماعي لهذه الصورة.

هناك 7 مواقع في كوبا مسجلة كتراث عالمي، وهي مدن نشأت مع الغزو والاستعمار الأسباني قبل 500 عام وظلت لمدة 200 سنة متأثرة بالروح الأندلسية التي نقلها الأسبان معهم حتى بدأت تدخل التأثيرات الأوروبية المختلفة منذ نهاية القرن السابع عشر، لذلك فإن الكوبيين يرون هويتهم في هذا المزيج المتوازن من الطرز العمرانية والأنماط الحياتية التي شكلت ثقافتهم خلال الخمسة قرون الأخيرة وكان من الضروري إحياء هذه الروح قبل المحافظة على المباني وهذا ما حاول أن يقوم به فريق العمل الذي بدأ بترميم وسط المدينة بقيادة (ليال) وكان التحدي الأكبر أمامهم هو أنه لم يكن هناك أي أرصدة مالية في البلديات أو أجهزة الدولة مخصصة لمثل هذا العمل، وأن "أحلامهم" في الترميم كانت مجرد "أوهام بلا قاعدة اقتصادية".

لكن الشطارة هي كيف تتحدى كل هذه المعوقات وتصنع الحلم من جديد وتبدأ بالمشي في الطريق الصحيح حتى لو كان طويلاً ومنهكاً، لأنه هو الطريق الوحيد الذي سيوصلك لمحطتك الأخيرة. فقد بدأ بإعطاء مكتبه المسئول عن (المحافظة على المنطقة التاريخية) الصفة القانونية وطلب أن تمكنه الدولة من تملك العقارات واستلام أملاك الدولة في وسط المدينة والمقدرة على الاستثمار وربط صلاحياته برئيس الدولة حتى يحصل على القوة الكافية في اتخاذ القرارت وبدأ بتأهيل الأشخاص وطلب القروض وحول مكتبه إلى شركة "استثمارية" حكومية حققت أرباحاً في الفترة الأخيرة وصلت إلى 200 مليون دولار سنوياً تصرف كلها على ترميم المواقع التاريخية في كوبا دون الحاجة إلى تمويل حكومي.

لم يكتف البرفوسور "ليال" وفريقه بكل هذه الممكنات التي حصلوا عليها بالجهد والصبر لكنه قال في نفسه "لا يمكن أن نقوم بعملية الترميم دون وجود عمالة مدربة"، وكان يفكر في نفس الوقت في القاعدة الاقتصادية التي ستنمو عليها وحولها المجتمعات الجديدة في وسط المدينة، لذلك بدأ في تأسيس أكاديمية ترميم ضمت 14 حرفة أصيلة مرتبطة بعملية ترميم المباني التاريخية وأحضر 14 معلماً حرفياً ووضع منهجاً تدريبياً يرتكز على أن كل معلم يقوم بتدريب 7 من المتدربين فقط، وهذه النسبة اكتشفها من خلال دراسته للحرف القديمة وكيفية توارثها عبر الأجيال. لقد بدأ أكاديميته التدريبية ب 35 طالباً (من سن 16 إلى 20) كان يقدم لها راتباً شهرياً والطعام والسكن والتأمين الصحي (رغم موارده المحدودة جداً) لمدة سنتين، والآن لديه 500 متدرب، وكل خريج لابد أن يعمل سنتين في الخدمة الاجتماعية وله مطلق الحرية أن يعمل ما يشاء بعد ذلك. النتيجة التي يفتخر بها هي أن هذه المدرسة أنتجت فرق عمل استطاعوا خلال الثلاثة عقود الأخيرة من تأسيس شركات صغيرة ومتوسطة وأنشأوا تحالفات مهنية وصناعية انتشرت في كل أنحاء كوبا وتعدت المناطق التاريخية لكل المناطق الجديدة. لقد أحدثت حراكاً اقتصادياً عميقاً ساهم بشكل كبير في استعادة الحياة الاجتماعية في المناطق التاريخية.

ترميم النسيج الاجتماعي كان هاجساً أساسياً في كل الأعمال التي كان يقوم بها "البرفوسور" فقد كان التحدي كيف يعيد الحياة الطبيعية لوسط المدينة، لذلك فقد بدأ ببرنامج قروض صغيرة لبناء فنادق تراثية والآن لديه 16 فندقاً تعمل في وسط هافانا. كما قام بتأسيس "اتحاد" بين السبعة مواقع الحاصلة على اعتراف اليونسكو كمواقع تراث عالمي وأوجد نشاطاً استثمارياً يشمل المواقع السبعة من أجل تمويل استدامتها وتنميتها دون الاعتماد على أي مساعدات خارجية. وهو يؤكد هنا أن هذا العمل أوجد تحولاً اجتماعياً واقتصادياً كبيراً في هذه المواقع وخلق فرص عمل كثيرة، ومن المعروف أن التجمعات السكانية غالباً ما تتمحور حول "العمل" فتوفر االفرص الاقتصادية يجلب الناس ويعيدهم للمكان.

دعوني أقول إنني استمتعت برفقة البروفوسور "ليال" طيلة مدة وجوده في مدينة الرياض، وأذكر أنه قال عندما زرنا الجنادرية ودخلنا مقرات بعض المناطق "إن هذا المهرجان عظيم، فهو يقرب بين أبناء المملكة العربية السعودية ويبني وحدتهم الوطنية"، لقد قال "إن المملكة بلد كبير والجنادرية فرصة حية كي يتعرف أبناء البلد الواحد على بعضهم البعض". وهو هنا يؤكد على أهمية التراث الوطني ويجعله في المرتبة الأولى في عملية "استرجاع الهوية" وهو ما يعيدني مرة أخرى إلى مشروع الملك عبدالله للعناية بالتراث الحضاري للمملكة الذي أعلنته الدولة مؤخرا، فهذا المشروع أتى في وقته المناسب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تراثنا الوطني.

المصدر: http://riy.cc/914220

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك