شل القوطي... ركّب القوطي

    من مادة علم الاجتماع الذي كنا ندرسه في الثانوية أدبي قرأنا عن نظرية تقول إن التقدم الحضاري (الملموس) إذا لم يُرافقه تقدّم ثقافي (فكر ومعرفة) فإن المجتمع سيُصاب بنوع من التحلل أو هو قال التصادم المضر، والذي يُخلخل الحياة الاجتماعية. وضرب الأستاذ مثلا في ذلك فقال: لنتصور مجتمعاً بدائياً هبطت عليه منتجات جديدة، ولا يوجد بين أفراد ذلك المجتمع من يستطيع التعامل مع الجديد فذلك هو الانحلال الاجتماعي، ولا أعتقد أنه أدخل الانحلال الأخلاقي، بل يقصد مرحلة سيئة قد تطول ولا علاج لها.

وفي مدينتي استعاض الزرّاع عن السقيا بواسطة الحيوان لرفع الماء من البئر، بمكائن سحب عصرية تعمل بالديزل. وذلك قرابة نهايات الأربعينيات من القرن الميلادي الماضي. وتلك المضخات لها مدخنة تكون خارج البئر. وفي بعض الأحيان ينضب ماء البئر أو يُصبح غوراً، وترك الماكنة تعمل دون ماء يرفع حرارتها ويتسبب في ضرر لمُعدّة صَرَف عليها صاحب المزرعة مبلغاً قد يكون استدانه. وجاء أحدهم بفكرة وضع علبة قصدير بزاوية معلومة وربط مُحكم. فإذا أسرعت الماكنة نتيجة قرب نضوب الماء يتغيّر صوت العادم، فيتدارك الفلاح ذلك إن كان بعيداً ويُبادر إلى إطفاء الماكنة. وأخذ بقية الفلاحين الفكرة وطبقوها، حتى عم الصوت أرجاء المدينة وخصوصاً في الليل الذي اعتاده الناس لتشغيل الماكنة وملء برك التوزيع.

ليل المدينة لم يعد هادئاً كما تعوده سكان الحضر من غير الفلاحين، وأبدوا امتعاضهم، وطلبوا من خطيب الجمعة نصح أصحاب المكائن تلك بعدم تشغيلها ليلاً، أو رفع العلب تلك. ومضت الحال بين رأي ورأي آخر لفترة من الزمن إلى أن اعتادت البلد ذلك الصوت من مكائن (رستن) بستم نايم!

أقول إن صاحب النظرية لا يفتقر إلى الصواب، وكان على الناس أن يتعلموا ما يحيط بالموضوع من ضرر من جراء اندثار مكائن دفع الفلاح أو المالك بها المبالغ الكبيرة. فإذا "شال القوطي" فيعني توقف الماكنة وربما تسبب في خسارة كلية.

ولا بد أن الناس تثقفوا وعرفوا هذا الشيء فلم تتكرر

الشكاوى، لأن رأس المال المصروف على تلك المكائن رأسمال وطني لا يجوز هدره.

وكما هي حال واقعنا الآن وفي خضمِّ هذا التقدُّم الحضاريّ الجارف ولاسيَّما القفزات العلميَّة والتكنولوجيَّة التي أخذَت تسيرُ بسرعةٍ هائلةٍ لم يسبقْ لها مثيلٌ في تاريخ البشريَّة، إذْ أضحت الحضارةُ الحديثة تقفزُ بوتيرةٍ مُتسارعة لم تتهيأ لها أكثر المجتمعات البشرية من ناحية الثقافة والمعرفة والعلم. ووجدنا معارض سيارات فخمة بالغة التعقيد والترف، ولم نوجد من يقرأ مطوياتها أو كتاب التشغيل والصيانة بعد.