المسالخ الحوارية وحالة التشظي الفكري
بدر العامر
"الصراع الفكري".. حالة إيجابية تنضج فيها الأفكار وتكتمل الرؤى وتتعزز فيها عوامل الوحدة والتقدم، وهي حالة طبيعية في كل مجتمعات الدنيا، ولكن الحالة التي نعيشها ليست هكذا، إنها حالة من "الشقاق" و"التشظي" توسع الهوة بين الفئات المختلفة
منذ أن وعيت على المشهد الثقافي والدعوي والفكري السعودي وهو في حالة صراع محتدم لا يهدأ أبداً، وكلما توجه إلى الهدوء تفاجأ المشهد بحدث سياسي داخلي أو إقليمي أو دولي يذكي حالة الصراع ويرجع الناس إلى نقطة الصفر في الحالة الصراعية التي أصبحـت سمة وعلامة من علامات مجتمعنا التي هرم عليها الكبير ونشأ عليها الصغير..
قد يقول البعض إن هذه الحالة – أي حالة الصراع الفكري – هي حالة إيجابية تنضج فيها الأفكار وتكتمل الرؤى وتتعزز فيها عوامل الوحدة والتقدم والتنمية، وإنها حالة طبيعية في كل مجتمعات الدنيا، وأن حساسيتنا تجاهها هي التي تجعلها مقلقة للكثير بحكم عدم تعودنا على الخلاف والصراع الفكري واختلاف الرؤى وتباين الأفكار، وهذا كلام جميل لو أنه يدار بصورة طبيعية وعقلانية وهادئة، ولكن الحالة التي نعيشها ليست هكذا أبداً، إنها حالة من "الشقاق" و"التشظي" التي توسع الهوة بين الفئات المختلفة، وتوذن بفتنة كبيرة سيتحمل تبعتها البلد في أيامه القادمة، فإن كان الصراع في السابق يدور عبر وسائل تقليدية في الأشرطة السمعية، أو المجلات والجرائد التي لا تؤثر بشكل كبير، فإنها اليوم تشكل الصورة الظاهرة في مواقع التواصل الاجتماعي وساحات النت الذي أصبح ميداناً كبيرة للإثارة والخلاف والتشاتم والتلاوم والتخوين واستخدام كل وسائل "الفجور في الخصومة" كل طرف تجاه الطرف الآخر، ودخل في حالة الصراع أناس لا ناقة لهم في الأمر ولا جمل، وتوسعت حالات الاستقطاب تجاه الشباب الصغار مما أدى إلى فساد كثير من الطباع وتحول الكثير إلى وحوش ضارية في الألفاظ والطعن وتصفية الحسابات بشكل لم يسبق له مثيل، ممهدة لحالة من التفاني الذي سيستفيد منه الأعداء بلا شك لخرق المجتمع وتفكيكه من داخله واستخدام حالة الشقاق لتمرير كل الأجندات التي تحاول العبث في مجتمعنا وإلحاقه بالمجتمعات المحيطة التي دخلت في نفق مظلم لا تدري كيف الخروج منه.
في توجيه عظيم من الله تعالى لعباده المؤمنين يقول: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)، فالتنازع هو طريق الفشل الشامل الذي يجعل الناس يدمرون بعضهم بعضاً وهم في بلد واحد وفي سفينة واحدة، ثم تذهب الريح فلا يكون للناس قيمة تذكر بين الناس، ويتسلط عليهم أعداؤهم بسبب الشقاق الذي يحدثونه بأنفسهم، وعدوهم يتفرج عليهم، قد جلس على كرسي عريض ينظر إليهم كيف يفني بعضهم بعضاً، وكيف يقومون هم بدور الوكالة في تحقيق كل ما يرغب وهو لم ينفق في سبيل ذلك رصاصة واحدة ـ وهكذا هو الكيد الكبير والمكر العظيم الذي توجه إليه الأعداء على حين غفلة من الناس والتهاء بحالة الصراع والخصومة والتحزبات، ولذا ختمت الآية بالأمر بـ"الصبر" الذي يشمل الصبر على ضبط النفس في الحوار والصبر على عدم الانتقام للنفس والصبر على الأذى الذي يناله الإنسان في كل حالاته، والصبر على الحوار والنقاش الهادئ، فمن فقد الصبر تحول إلى كائن متوحش في ألفاظه وفي طريقة تعامله مع الآخرين.
وللأسف الكبير فإن كل دعوة إلى الحوار أو سعي إلى التدريب في موضوعه أو خلق المراكز التي تحاول إدارة حالة الصراع بشكل يؤدي إلى النفع نجد أن الحالة تزداد سوءاً، وأصبح هذا الأمر سمة للمجتمع السعودي والناس من حولنا تتفرج على هذه المسالخ والمجازر الحوارية في النت، وكل أمة تلعن أختها وتحاول الكيد لها وتحشد كل قدراتها اللفظية والعلمية للنكاية بالآخر والنيل منه، وقد وصل الحال إلى وجوب إعلان حالة الطوارئ تجاه الأمر، وأن يتداعى الولاة والعلماء والمفكرون والمثقفون إلى تدارك هذا الأمر حتى لا يستفحل فيتضرر منه الجميع، وهذا يعني صياغة استراتيجية واضحة وسريعة لتخفيف أوار ما يجري ودراسة أسبابه وآثاره على المجتمع الذي يقوم في أساسه على احترام قيم الشريعة وتبنيها، التي تؤكد على القيم الراقية في إدارة الحوار والخلاف وتحريم التعدي والبغي والظلم واحترام العلم والمنهج في الحوار؛ الأمر الذي بدأ يتقلص ويضمحل لصالح الحالة العبثية التي تزداد وتذكيها الوسائل الحديثة التي تنفخ في نار الفتنة وتوقد حطب الضلالة ... أصلح الله الجميع.
المصدر: http://www.amnfkri.com/news.php?action=show&id=26131