مذكرات بلعيد عبد السلام | فضائح الجنرالات الحركى بالجملة

قناة الجزائر – نُشرت هذه المذكرات على موقع بلعيد عبد السلام رئيس الحكومة الجزائرية السابق باللغة الفرنسية، وقد قامت جريدة الشروق بنشر ترجمة عربية متسلسلة لها في شهر أوت 2007، ونظرا لأهمية هذه المذكرات نعيد نشرها حتى يستفيد منها المهتمون بالشأن السياسي في الجزائر.

النسخة المترجمة على هيئة PDF من تنسيق ونشر منتدى الأخضرية

لتنزيل المذكرات الأصلية بالفرنسية، كما نُشرت في الموقع الأصلي.

المصادر المعتمدة في إعادة تدقيق المذكرات:

http://www.belaidabdesselam.com/

http://www.lakhdaria.net/vb/showthread.php?t=628

http://bilahoudoud.net/showthread.php?t=425&page=15

مذكرات بلعيد عبد السلام (28 حلقة من جريدة الشروق 2007)

 

-1-

بلعيد عبد السلام يرخص لـ ”الشروق اليومي” نشر مذكراته
تاريخ المقال 17/07/2007
تحصلت “الشروق اليومي”، أمس، على تصريح من السيد بلعيد عبد السلام رئيس الحكومة السابق بنشر مذكراته التي وضعها على الإنترنيت باللغة الفرنسية. وحرص السيد بلعيد عبد السلام على التأكيد بأن الوثائق الملحقة بالمذكرات تبرز صحة روايته للأحداث وتعرض أيضا راوية الخصوم بشكل موضوعي. وسيكون بمقدور السادة القراء متابعة مذكرات السيد بلعيد عبد السلام يوميا يتناول فيها قصة التعيين على رأس الحكومة وأيضا الصراعات التي فجرها مع خصومه في الحكم وأيضا ظروف تنحيته.. فمتابعة شيقة……………. التحرير

لهذه الأسباب قبلت تولي رئاسة الحكومة في جويلية 1992
في اليوم الثاني من شهر جويلية، غداة مراسيم دفن الراحل الرئيس بوضياف، تم اختيار السيد علي كافي من طرف زملائه لخلافة الفقيد على رأس المجلس الأعلى للدولة بعد إخفاق تلك المساعي الحثيثة التي كان الجنرال تواتي يقوم بها في الكواليس من أجل تعيين شخص آخر في المنصب. فلم ينجح الجنرال إلا في تزكية السيد رضا مالك بصفته عضوا خامسا في المجلس الأعلى للدولة لشغل المكان الشاغر الذي تركه رحيل بوضياف.

في اليوم الموالي، يوم الجمعة 3 جويلية، قمت بزيارة إلى الأخ رضا مالك لتهنئته بعد ترقيته عضوا في الهيأة العليا للدولة. وقد طلب مني ما إذا كنت، من جانبي، مستعدا للالتزام إزاء الإجراءات المتخذة تحت إشراف المجلس الأعلى للدولة مؤكدا لي أنه في حالة الإجابة بنعم، سيكون هو أيضا مستعدا لنفس الالتزام. أجبته أنني لم أرفض أبدا تحمل مسؤولياتي، غير أن التزامي لا يمكن أن يقع إلا في سياق خدمة سياسة مطابقة لقناعاتي. “كلا ! رد عي. ينبغي أن تعرف كيف تتطور وتقبل بالتسويات الوسطى”، فما كان لي إلا أن أجبته أنني لم أكن أبدا أرفض الحلول الوسطى شريطة ألا تأتي هذه الأخيرة لتطعن في ما يعتبر مبادئ جوهرية وإلا فقدت كل تسوية من هذا القبيل معناه وصارت نكرانا للذات. فعلا، لم أكن أدري في ذلك اليوم من شهر جويلية 1992 أنني كنت بصدد نكران للذات كنت قد رفضته منذ نحو عشر سنوات كثمن له عندما عرض علي الرئيس الشادلي الاحتفاظ بي إلى جانبه في “التسيير”.

في الحقيقة، لقد وجدت نفسي بصحبة رضا مالك غداة أحداث 5 أكتوبر 1988 بهدف التوقيع على ما سمي بـ “تصريح الثمانية عشر” الذي دعا فيه أصحابه الرئيس الشاذلي إلى تأجيل الانتخابات الرئاسية والقيام بتنظيم ندوة وطنية بغرض وضع قواعد لانفتاح نظام الحكم في الجزائر في اتجاه الديمقراطية التعددية. غير أن مسارينا السياسيين اللذين التقيا نوعا ما في أكثر من مرة إلى ذلك الحين سرعان ما بدءا يأخذان اتجاهين مختلفين بل ومتناقضين في أغلب الأحيان ومتعاديين في أحيان أخرى لكن من دون أن يؤدي ذلك إلى التأثير في علاقاتنا الشخصية كصديقين. لقد افترقنا، بعد اللقاء المذكور، مسجلين خلافاتنا. ولم أتوقع أنا، ولا هو على ما أظن، أننا سنلتقي من جديد، أسبوعا من بعد، حول طاولة الاجتماع للمجلس الأعلى للدولة. يوم السبت الموالي، أي 4 جويلية، أعلنت برقية صادرة عن وكالة إعلامية أن المجلس الأعلى للدولة كان بصدد القيام بمشاورات سياسية حول الأوضاع السائدة في البلاد. وفي منتصف النهار تقريبا، أخبرني الأمين العام للرئاسة أن الرئيس على كافي والجنرال خالد نزار يريدان مقابلتي في إطار نفس المشاورات وحدد لي موعدا في نفس اليوم، أي 4 جويلية الساعة الخامسة بعد الزوال، بفيلا تابعة لوزارة الدفاع الوطني. قلت لهذا الأمين العام إن أفكاري حول المشكلات المطروحة في البلد وحلولها معروفة وأنه لم يكن لدي أي شيء آخر تقريبا أريد قوله للمسؤولين اللذين يريدان استشارتي. أثناء هذا اللقاء، قام الجنرال خالد نزار بإعطاء نظرة شاملة حول الأوضاع السائدة في البلد، لاسيما الأمور المتعلقة بالجوانب الأمنية. وقد قدمت ردا مستفيضا عارضا تحليلي في ما يخص أسباب الأزمة التي كانت تعيشها بلادنا وكذا السبل الكفيلة، في نظري، بإخراج الجزائر من هذه الأزمة. في ما يتعلق بقمع أفعال التقتيل والتخريب، اقترحت فكرة إنشاء سلطة قضائية متخصصة وتسريع إجراءات التحقيق توخيا، في الوقت ذاته، لفعالية عمل قوات الأمن وتجنبا – بسبب ضغط انفعالات المواطنين الساخطين على الاعتداءات الإرهابية – اللجوء، مثلما حدث ذلك في بلدان أخرى، إلى الأحكام العرفية وما يترتب عليها من إجراءات متسرعة. في ما يخص الأزمة الاقتصادية، اكتفيت بإعادة ذكر تلك التصورات التي سمحت لي الفرصة من قبل لاقترحتها على العموم. وفي هذا الصدد، أعدت، على وجه الخصوص، ذكر فحوى الإجراءات التي سبق لي أن اقترحتها في سبيل التخفيف من وطأة المديونية الخارجية للجزائر من دون اللجوء إلى تلك الحلول التي تتضمن قبول الشروط المملاة من طرف صندوق النقد الدولي والمتضمنة، على وجه الخصوص : تخفيض جذري لقيمة العملة الوطنية، التحرير المتوحش للتجارة الخارجية ، تصفية المؤسسات الاقتصادية الوطنية بثمن بخس.

في الواقع، لم أجد نفسي إلا مكررا، على مسامع الرئيس على كافي والجنرال خالد نزار، أفكارا قلتها ستة شهور من قبل، أي في أوائل شهر جانفي 1992، لشخص آخر زارني للتحدث إلي. في ذات الوقت، كان النقاش حول الشروط التي ينبغي أن يغادر الرئيس الشاذلي منصبه فيها قد بدأ. وقد أخبرني زائري أن الأمر كان متعلقا بإنشاء “مجلس دولة” لخلافة رئيس الجمهورية وأن اسمي ورد في سياق ذلك. بالنسبة إلي، لم يتجاوز الحديث حدود علاقات الصداقة الشخصية، ولم يتم إبلاغي أبدا – ولم يكن ذلك ليخطر لي على بال أبدا – أنني كنت، من خلال تلك الزيارة، حلقة من تلك الخطة التي كان بصدد وضعها ما كنا نسميهم، حتى في ذلك الوقت، بـ “أصحاب القرار”. وقد كانت لي أدلة في ما بعد جعلتني أظن أن أقوالي قد بلغت من كانوا منهمكين في إعداد الخطة لتنفيذ ما سُجل في التاريخ من “استقالة للرئيس الشاذلي” و”توقيف للمسار الانتخابي” وإنشاء للمجلس الأعلى للدولة. إنني لأذكر بهذه الواقعة – التي اكتست، بالنسبة إلى، طابعا خصوصيا– كي أؤكد أن الأفكار التي عرضتها على الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار، أثناء لقائنا بتاريخ 4 جويلية 1992، لم تكن جديدة بالنسبة إلى مخاطبي لاسيما عندما أشرت إلى أن أسباب الأزمة تعود إلى تلك الآثار التي خلفتها السياسة المتبعة في الجزائر أثناء “العشرية السوداء” وأن حل هذه الأزمة مرهون باعتماد سياسة تقويمية ذات نفس طويل، تتضمن – موازاة مع الإجراءات التي تمليها مكافحة الأفعال الإرهابية وحماية النظام والأمن العموميين – تدابير عميقة بهدف إصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بكل قوة وبصورة معتبرة وأن هذا الإصلاح يتطلب فترة استقرار مدتها خمس سنوات على أقل تقدير. كما أضفت أنه – بالنظر إلى توقيف المسار الانتخابي الذي عبر فيه الناخبون صراحة عن رفضهم لنظام الحكم من خلال تصويت مكثف على تيار سياسي هدفه القضاء على الدولة الوطنية التي بنتها الجزائر بعد الاستقلال– لا يمكن للاستقرار أن يتحقق إلا من خلال تطبيق المادة 120 من الدستور التي تنص على حالة الطوارئ “عندما يكون البلد مهددا بخطر وشيك على مؤسساته…”، وإلا فليس هناك ما يبرر، بحكم القانون والدستور، تأجيل العمليات الانتخابية وجعل الناخبين في عطلة إلى أجل غير مسمى. وعليه، عكس ما يدعيه الجنرال تواتي ، بطريقة ماكرة، ، فكرة مرحلة انتقالية من خمس سنوات، في شكل نظام يعمل بحسب قواعد حالة الطوارئ المنصوص عليها في دستورنا الساري المفعول آنذاك، لم تكن لها صلة بتعييني على رأس الحكومة وبوجود هذه الحكومة. لقد أفصحت عن هذه الفكرة ستة شهور من قبل أن يتم تعييني كرئيس للحكومة. أكثر من ذلك، أدليت بهذه الفكرة علنيا في مقابلة أجرتها معي يومية Quotidien d’Algérie وصدرت في اليوم الموالي بتاريخ 3 جانفي 1992، أي قبل إعلان “استقالة” الرئيس الشاذلي ذاتها وتوقيف المسار الانتخابي. كما عدت، بصورة ضمنية، إلى نفس الفكرة في مقابلة صحفية أجرتها معي أسبوعية Parcours Maghrébin وصدرت في العدد 105 منها للأسبوع الممتد من 17 إلى 23 فيفري 1992.

في الأخير، هل علي أن أؤكد، مرة أخرى، أنه أثناء المقابلة التي دعاني إليها الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار اقترحت اللجوء إلى حالة الطوارئ قبل إعلان هاذين الأخيرين قرارهما بدعوتي الاضطلاع بمهام رئيس الحكومة. بالنسبة إلي، في تلك الفترة كما اليوم، حالة الطوارئ كانت تمثل ضرورة أملتها أوضاع البلاد ونجاح عملية إصلاح أحواله. فلم تشكل، بالنسبة إلي أبدا، شرطا وضعته لقبولي المنصب ولا لمواصلة المهمة التي أسندت إلي آنذاك. بعد هذه المقابلة التي تبادلنا فيها جملة من الأفكار، أعلن السيد علي كافي – بطبيعة الحال باسمه الخاص واسم الجنرال خالد نزار – عرضه لي لترؤس الحكومة. لا أخفي أن نوعا من الحيرة تملكني وأنا أشهد المنحى الذي اتخذته المقابلة علما أنني ما دعيت إليها إلا في سياق “المشاورات”. الآراء التي سبق لي أن عبرت عنها علانية منذ أكتوبر 1988، الانتقادات التي وجهتها بصورة صريحة جدا، لاسيما داخل اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، ضد الإصلاحات الاقتصادية التي شرع فيها الرئيس الشادلي، خصوصا في السنوات الأخيرة من عهده وكذا التصورات التي اقترحتها، ولو عن انفراد، في تلك الفترة التي بدأت تتخذ فيها قرارات كان من شأنها أن تؤدي إلى توقيف المسار الانتخابي في جانفي 1992 كلها أمور لم تجعلني أفكر في إمكانية دعوتي، يوما ما، إلى ترؤس الحكومة. ولأن الدعوة التي عرضت علي لترؤس الحكومة لم تأت إلا بعد الاستماع إلى تحليلي لأوضاع البلد وأرائي في ما يخص الطريقة الكفيلة بإخراج الجزائر من الأزمة عن طريق إجراء إصلاحات في اقتصادنا لم يبق لي خيار في الرد. فلو رفضت العرض أو طلبت مهلة للتفكير لكان من الممكن أن يؤوَّل ذلك على أساس أنه تهرب من المسؤولية في ظرف عصيب بالنسبة إلى تطور الأوضاع في الجزائر حيث كان قبول المسؤوليات يعرض صاحبه إلى خطر حقيقي. لذلك، لم أجد خيارا آخر غير إجابة مخاطبي أنني كمناضل في سبيل القضية الجزائرية منذ نعومة أظافري، لم يكن أمامي سوى القبول. لم أشفع قبولي هذا بأي شرط لأنني، كمناضل، كنت متعودا على اعتبار الثقة المتبادلة بمثابة القاعدة التي تحكم العلاقات بين المسؤولين، لاسيما في الظروف الصعبة حيث كان مصير البلد معرضا لخطر الهلاك. كان من حقي أن أحسب من كنت أسهم معهم بالتزامي من دون حسابات ثانوية وفي ظرف كان قبول مسؤوليات في مثل تلك الجسامة محفوفا بالمخاطر – كما أثبت ذلك المصير الذي كان من نصيب محمد بوضياف ذاته – رجالا قادرين، بأنفسهم، على إدراك قيمة ذلك الالتزام. كما أظل متأكدا أن روح التضحية هذه هي التي جعلت الأخ محمد بوضياف يقبل، على الرغم من الأخطار المحدقة، منصب رئيس الدولة في وقت كانت الجزائر معرضة لخطر مؤكد، خطر أودى بحياته في نهاية المطاف. لقد اكتفى الرجل بالتأكد من أن عودته إلى الجزائر في تلك الظروف كانت استجابة لنداء الجيش الوطني الشعبي وأن هذا الأخير سيدعمه بتأييده.

 

-2-

الظروف التي قبلت فيها تولي رئاسة الحكومة في جويلية 1992 (تتمة)
تاريخ المقال 18/07/2007
حينئذ، أخبرني الجنرال خالد نزار أن اختيار الوزراء في الحكومة الجديدة كان من مسؤوليتي التامة ماعدا وزير الداخلية الذي كان ينبغي أن يحظى تعيينه بموافقته، هو أيضا، نظرا لكون القوات الموضوعة تحت سلطة وزارة الداخلية والقوات التابعة لوزارة الدفاع كانت في اتصال دائم ؛ مما يستدعي تنسيق عملها بانسجام وتفاهم تامين ما بين الوزيرين المشرفين على هاتين الوزارتين الأساسيتين في مجال محاربة الإرهاب وضمان سلامة البلد. وقد وافقت على ذلك من دون صعوبة.

هكذا، وباقتراح من الجنرال خالد نزار، تم تعيين السيد امحمد طولبة وزيرا منتدبا مكلفا الأمن العمومي. كما وقع الاتفاق، من دون صعوبة أيضا، على اسم الراحل حمد حردي الذي كلفته بتلك المهمات الصعبة، مهمات وزير الداخلية والجماعات المحلية. أثناء تبادل الآراء في هذا اللقاء، أُخبرت أن الاضطرابات الواقعة في البلد كانت تحصل بفضل نحو مائتين قطعة سلاح في حوزة عناصر تمارس الاعتداءات الإرهابية وأن قوات الأمن تعرف طبيعة هذه الأسلحة وتحاول جادة استعادتها من أجل وضع حد للاعتداءات التي كانت تنال من النظام العمومي. كما علمت، في ما بعد، أن الدعوة وجهت للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي في الخارج من أجل تبليغ قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، النشطة في ذلك الوقت، رسالة تدعوهم إلى الهدوء وتجنب، على الأقل، كل ما كان من شأنه التسبب في تصعيد اللجوء إلى العنف. الشخص أو الأشخاص الذين اتصل بهم الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي أجابوه أنه لم تكن لهم أية سيطرة على هؤلاء الذين لجأوا إلى أعمال التخريب. لقد جاء هذا الرد أسابيع بعد ذلك المسعى في شكل قنابل من بينها تلك التي تسببت في كارثة مطار الجزائر العاصمة. أضف إلى ذلك أنه في الوقت الذي كنت مجتمعا بالرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار، كانت تجري وقائع محاكمة قادة الجبهة الإسلامية بالبليدة. وقد كانت وسائل الإعلام توحي أن طلب الحكم بالإعدام وإقراره كانا واردين من دون شك ضد هؤلاء المسؤولين السياسيين. لذلك، نبهت إلى أن إمكانية من هذا القبيل لم تكن، فقط، مبالغ فيها وإنما كانت أيضا غير مناسبة فما لبث الجنرال خالد نزار أن أجابني أن المعلومات الصادرة على صفحات الجرائد لم يكن لها أساس من الصحة وأن طلب محافظ الحكومة ضد قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ كان في حدود من اثنتي عشرة إلى خمسة عشرة سنة سجنا وأن المعنيين قد تم إبلاغهم بذلك.

ونحن نهم بالانصراف، خاطبني الجنرال خالد نزار، وعلامات الغبطة مرتسمة على وجهه بعدما قبلت ترؤس الحكومة، بهذه العبارة : “هناك عدد من الضباط سيشعرون بالسعادة هذا المساء”. وبما أنني لم أكن من مقربيه امتنعت، حياء، عن توجيه سؤال له حول هؤلاء الضباط وحول سبب سعادتهم. ومع ذلك، وكما قلت ذلك نحو سنة تقريبا من بعد بمناسبة خطاب ألقيته بمقر المجلس الشعبي البلدي لمدينة الجزائر، ظننت أن من بين هؤلاء الضباط كان : – الكثير منهم كان في صفوف جيش التحرير الوطني أو ممن كانوا متمسكين بذات المُثل التي كانت تحدو دوما الحركة الوطنية وثورة نوفمبر 1954. هؤلاء يمكن أن يسعدوا لرؤية مناضل قديم في الحركة الوطنية الجزائرية، أي واحد من ذويهم، أو، بعبارة أخرى، واحد من عائلتهم السياسية، وهو يرأس الحكومة ويعيد الشرف والاعتبار إلى تلك الأفكار التي كانوا يؤمنون بها. لكن، للأسف، إذا كانت العناصر الحاملة لهذه الأفكار تشكل، من دون شك، الأغلبية في صفوف الجيش الوطني الشعبي إلا أنها ليست من بين هؤلاء الكثيرين ممن يتحدثون باسم هذا المؤسسة. في الكثير من الأحيان، وباسم الانضباط الذي يشكل قوة الجيوش، يعاني هؤلاء في صمت بينما يتكلم آخرون باسمهم مقدمين أفكارا وخيارات ليست أفكارهم وخياراتهم.

- هناك آخرون، دائما داخل الجيش الوطني الشعبي، وتماشيا مع أوساط أخرى في مجتمعنا، من الممكن أنهم شعروا بالرغبة – كمؤيدين لفكرة “اجعله يقبل ثم سنرى” – في محاولة كسب شخص اشتهر، صوابا أو خطأ، بكونه معارضا للسلطة وسياسة العشرية السوداء باعتبار أن كسب شخص من هذا القبيل سيكون فرصة للنجاح وذريعة مقبولة من أجل المضي قدما في سياسية الانفتاح والتحرير الاقتصادي الذي كانوا يريدون بقوة انتصاره في البلد. بالفعل، وفي أوائل شهر جويلية 1992، كانت بنود اتفاق مع صندوق النقد الدولي قد تم التفاوض بشأنها وتحديدها. هذا الاتفاق كان ينتظر الموافقة السياسية والقبول الرسمي له قبل التوقيع عليه والشروع في تطبيقه. في لحظة معينة من حديثنا أثناء لقاء 4 جويلية 1992، وبعد موافقتي على ترؤس الحكومة، قال لي الجنرال خالد نزار، في سياق الحديث عن النشاط الاقتصادي الذي كان علي أن أباشره في منصبي الجديد، إن الأموال ستكون متوفرة وأن المهمة ستكون سهلة. الظاهر أنه كان يعني أن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، كان أمرا مقضيا وأن الجزائر كانت، تبعا لذلك، بصدد الحصول على موارد مالية معتبرة.

بالنسبة إلى هؤلاء ممن أملوا في تزكية من الرئيس بوضياف بغرض المضي قدما في تطبيق سياستهم الهادفة إلى تجاوز توجهات ثورتنا، كانت الفرصة سانحة لإقحامي في حساباتهم وحملي على “رفع راية” سمسرتهم السياسية والاقتصادية ! وكما تذهب العبارة الشائعة، لقد “وضعوا أصابعهم في عيونهم” حقيقة عندما ظنوا أن عرضهم علي بترؤس الحكومة سيجعلني أبادلهم الجميل بالتخلي، بسهولة، عن قناعاتي وأسمح بأن تتحول مواقفي المعلنة إلى مجرد ادعاءات مزعومة الهدف منها الحصول على شهرة سياسية باسم عدد من القيم الأساسية التي قد أتخلي عنها سرا من أجل الحصول على ترقية زائفة، أي من أجل مجرد “طبق من العدس” في نهاية الأمر. ومع ذلك، يمكن أن نتصور رجالا مثل الجنرال تواتي – الذي دفعته الأوضاع السياسية للبلد، بعد جانفي 1992، إلى تقلد ذلك الدور المدوِّخ في “صنع الملوك” و “الدوقات” – أنهم أخطأوا في الحساب إلى درجة اعتبار كافة المناضلين في الحركة الوطنية الجزائرية مختلطين بالساسة المزعومين ممن تجدهم دائما يستسلمون لأوهامهم من أجل الوصول إلى مناصب يتمناها الجميع.

لقد راود أنصار تحرير اقتصادنا الأمل في أن حظوة الرئيس بوضياف والسمعة التي كانت له كشخصية تاريخية ستسهم في تغطية وتخفيف الآثار التي كانت ستترتب على تطبيق الشروط المفروضة من طرف صندوق النقد الدولي. وبعدما اغتيل الرئيس بوضياف، ظن البعض أنه من الممكن أن أشكل، بالنسبة إليهم، بصفتي مناضلا قديما في الحركة الوطنية وكذا بحكم منصبي في عهد الرئيس بومدين ومعارضتي المعروفة لنظام الرئيس الشاذلي وإصلاحاته “عوضا” عن الخسارة المترتبة بسبب فقدان الرئيس بوضياف. – وأخيرا، كان البعض ربما يعتبر أنه نظرا لمواقفي السابقة، لاسيما في عهد الرئيس الشاذلي، وتصريحاتي العمومية، صرت، كما قيل لي في ما بعد، نوعا من الأسطورة وأن هذه الأسطورة يجب أن يقضى عليها، من خلال توريطي في مسؤوليات حكومية، في متاهات التسيير موفرا بذلك المناسبة لخصومي بإقحام نفسي في التدمير الذي أريد لي أن أقوم به تاركا لهم، هكذا، الفرصة لجري إلى ساحة المكائد والمكر فيقضى على سمعتي وتُحبط مساعي بغرض إقامة الحجة الدامغة على بطلان الأفكار التي كنت أدافع عنها.

تلك هي، إذاً، الظروف التي دعيت فيها إلى ترؤس الحكومة في 4 جويلية 1992. قبل أن نفترق في الاجتماع المذكور، اتفقنا على أن إعلان تعييني سيقع في يوم 8 جويلية 1992، غداة إحياء ذكرى اليوم السابع بعد دفن الفقيد الرئيس بوضياف. وقد تعهد الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار القيام بالمهمة على أحسن وجه في ما يخص طريقة إجراء التغيير الحكومي. تطور الأمور أثناء الشهور الثلاث عشرة الأخيرة التي قضيتها على رأس حكومتنا قد أبرزت تصرفات من كانت أفكارهم السياسية المسبقة أو مصالحهم متعارضة مع توجهات برنامجي الحكومي والأهداف المسطرة فيه. ومن أجل فهم تلك “الأمور” التي يزعم الجنرال تواتي أن له رواية بشأنها، وأنا لا أقبلها، أؤكد مرة أخرى أن العرض الذي قدم إلي بخصوص تولي رئاسة الحكومة قد تم بعد تبادل للآراء جرى بيني وبين مخاطبي وأنني، على هذا الأساس، كنت أعتبر، من جانبي، أن الدعوة لترؤس هذه الحكومة كانت تعني موافقة على الأفكار التي استعرضتها والتي ظننت أنها ستشكل الأساس في تحديد سياسة حكومتي.

للتذكير، لقد تم استعراض هذه الأفكار في مناسبات عديدة قبل لقاء جويلية 1992 مع الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار، كما أفصحت عن هذه الأفكار علانية في ندوات عمومية، داخل اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني وكذا في التصريحات التي أدليت بها في الصحف طيلة سنة 1991 وأثناء السداسي الأول من سنة 1992. ثم تمت بلورة وتطوير هذه الأفكار في البرنامج الذي أعدته حكومتي ونال موافقة المجلس الأعلى للدولة.

 

-3-

مذكرات بلعيد عبد السلام: الرد على مزاعم الجنرال تواتي (3)
تاريخ المقال 20/07/2007
في الواقع، لقد ذهب الجنرال تواتي في كلامه إلى أبعد من تأكيد مزاعم يمكن أن نجد لها ما يبررها نوعا ما. غير أنه لا يتردد في الإدلاء بأكاذيب لا يمكنه أن يجهل طبيعتها، أي إنه، بعبارة أخرى، يسمح لنفسه بتشويه مقصود للحقيقة. فلم يكتف بتقديم نفسه آنذاك على أنه الناطق المأذون للجيش الوطني الشعبي وإنما قدم نفسه أيضا على أنه “دماغه المدبر” (أو “المخ” كما صار متداولا في الأوساط السياسية العاصمية) تاركا كافة الملاحظين المطلعين يظنون أن الشطط الذي كان يرتكبه في كلامه على حساب الحقيقة كان بمثابة جملة من الأفكار زعم أنه يدلي بها باسم الجيش الوطني الشعبي.

أي باسم المؤسسة التي تبقى، في عيون الجزائريين والملاحظين الأجانب على السواء، ركيزة الدولة الجزائرية والضامنة للتماسك الوطني لشعبنا. كل هذا للإشارة إلى ذلك الدور الشائن الذي سمح الجنرال تواتي لنفسه بأدائه أو أسند إليه خلال السنوات الأخيرة في أحلك فترة وأكثرها مأساة تمر بها أمتنا منذ استعادة سيادتها سنة 1962. إن الأضرار المترتبة على هذا الدور بالنسبة إلى سمعة الثورة الجزائرية لتتجاوز بكثير تلك الأضرار القليلة التي ظن الجنرال أنه قادر على تكبيدي إياها. كل مدرك لشؤوننا العمومية وطريقة سير مؤسساتنا يقرأ النص الذي نُشر للجنرال تواتي لن يندهش فقط وإنما سيشعر أيضا بالتقزز وهو يطالع أكاذيب وتشويهات مغرضة للوقائع أصر على التفوه بها شخص يحمل رتبة لواء في قيادتنا العسكرية وهو لا يستحق أكثر من وصفه بالجنرال الماكر، بالإضافة إلى تلك الخسة التي سقط فيها تعويضا عن الحجة الدامغة. وعليه، من البديهي أن أظل، في دحضي للمزاعم التي أراد أن يقنع الناس بها حولي، مدركا أن محاولات النيل من شخصي تبقى أمورا ثانوية نسبيا مقارنة بتلك الأضرار التي تسبب فيها هذا الرجل للبلد. ومع ذلك، لابد من فضح الطابع المغرض لتلك المزاعم التي أدلى بها الجنرال تواتي في ما يخصني من باب خدمة الحقيقة لا غير.

من أجل وضوح الرد على هذه المزاعم – التي لم تكن في أغلب الأحيان سوى مجرد أكاذيب افتراها علي الجنرال تواتي – يبدو لي أنه من الأحسن الرجوع إلى نص الحوار من بدايته إلى نهايته كي يتسنى للقارئ أن يكون على بينة من أمره بسهولة مع شفع كل ادعاء تفوه به هذا الجنرال الماكر بسرد للوقائع والأفكار التي تدحضه أو تفضح التشويهات التي جاء حاملا لها.

1. “أنا، أيضا، أرغب في تقديم روايتي للأمور. وهذه الرواية لا تروق بالضرورة السيد عبد السلام” كما أشرت في بداية هذا المقال، لا يكمن المشكل في معرفة الرواية التي يمكن أن تروقني وإنما في تبيين الفكرة التي يتصور بها هذا الرجل – الذي يريد أن يكون “مخا” لأهم مؤسسة وطنية، ألا وهي الجيش الوطني الشعبي– شرف الوظيفة التي يدعيها والرتبة التي يحملها على أساس تصرفه إزاء الحقيقة. إن تصرفه هذا من المفروض أن يكون أيضا قائما على الاحترام المطلوب تجاه المواطنين الذين يزعم أنه يفيدهم بأخبار والذين ينتظرون منه، على الأقل، ألا يغلطهم لاسيما وأنه قدم نفسه دائما ليس فقط على أساس أنه الناطق الرسمي للجيش الوطني الشعبي وإنما أيضا بوصفه مصدرا إلهام بالنسبة إلى القرارات المتخذة. أما ماعدا ذلك، فليس إلا هراء لا طائل من ورائه.

2. “…كانت هناك جملة من التقديرات والشكوك أبداها العديد من الإطارات في ما يخص مقدرة السيد عبد السلام واستعداده للتكيف مع السياق السياسي والاقتصادي الجديد”. أ. هل أنا في حاجة إلى تأكيد أن “الإطارات” التي يشير إليها الجنرال تواتي ينتمون، معظمهم إن لم يكن كلهم، إلى ذلك التيار الذي يسميه هو نفسه بالتيار “الديمقراطي” من أمثال مناضلي التجمع الوطني من أجل الثقافة والديمقراطية الذي، كما يعلم الجميع، له صلة به. وهؤلاء ليسوا شيئا آخر غير ورثة هؤلاء ممن حاربوا الحركة الوطنية الجزائرية بالأمس وحاولوا الاستخفاف بالقيم التي قامت عليها ولازالت دائما هذه الحركة. هؤلاء “الإطارات” أفرح لأنني خيبت، ولازلت، ظنهم مثلما أشعر بالسعادة بعد قيام الشعب الجزائري، بأغلبيته الساحقة، بفضح هؤلاء “الإطارات” ومن يؤيدون أو يؤيدونهم أنهم، بالفعل، “أخطأوا الشعب” كما اعترف بذلك صراحة، ذات يوم، أبرز ناطق رسمي لهم. ب. في ما يخص قدرتي على التكيف مع “السياق الاقتصادي الجديد”، أكتفي بإحالة الجنرال تواتي على برنامج العمل المقدم من طرف حكومتي وكذا على الإصلاحات التي جعلتُ هذه الحكومة تعتمدها أو حملت المجلس الأعلى للدولة على إقرارها، لاسيما قانون الاستثمارات. كما أود، هنا، تذكير الجنرال تواتي وكل من شرفني بقراءة هذا النص أنني، خلال الفترة التي كنت فيها رئيسا للجنة الشؤون الاقتصادية لدى اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، أثناء العهدة الأولى للرئيس الشادلي، قمت بإعداد مشاريع نصوص، اعتبرت جد متقدمة في وقتها، من أجل النهوض بالقطاع الخاص الوطني لاسيما من خلال إعطاء معنى أوسع لمفهوم “القطاع الخاص الوطني غير المستغِل” الذي تضمنه الميثاق الوطني المعتمد سنة 1976 في عهد الرئيس بومدين. هذا العمل كنت قد شرعت فيه في سنواتي الأخيرة على مستوى وزارة الصناعة بمعية بعض من مساعدي في نفس الوزارة مستندا في ذلك إلى أجهزة المعهد الوطني للإنتاجية والتنمية الصناعية (INPED). وقد تمثل هذا العمل أساسا في صياغة عدد كبير من المشروعات الاستثمارية الصغيرة والمتوسطة في المجال الصناعي توكل إلى القطاع الخاص وكذا في صياغة نصوص تبين الشروط التي تتم بها الاستثمارات في هذا القطاع مع رسم معالم النصوص القانونية المتصلة بالأشكال التي ينبغي أن تتخذها المؤسسات الخاصة فردية كانت أو جماعية. لعل أرشيف اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني في عهد الحزب الواحد وأرشيف وزارة الصناعات الخفيفة والمعهد الوطني للإنتاجية والتنمية الصناعية زاخر بالكثير من النسخ لمختلف هذه النصوص.

موازاة مع العمل على صياغة مشاريع النصوص المذكورة أعلاه، قمت أيضا بطلب مقترحات في مجال تطبيق ما قدم في وقته على أنه عملية لـ “مراقبة الثروات الخاصة” بهدف وضع حد لانتشار تلك الآفة التي بدأت آنذاك تنال، فعلا، من معنويات مجتمعنا ومن مصداقية دولتنا بصورة خطيرة. لعله من نافلة القول إن انتشار هذه الآفة وما تسببت فيه من أضرار لم تكن غريبة عن تفسخ أوضاعنا السياسية في أواخر الثمانينيات وظهور تيارات أيديولوجية مؤذية أدت إلى تلك النتائج الانتخابية في جوان 1990 وديسمبر 1991 وإلى تلك الأحداث المفجعة التي عرضت وجود دولتنا وتماسك مجتمعنا إلى الخطر في تلك العشرية. كل ذلك لأبين أنه في ما يخص الانفتاح والتكيف مع المستجدات في بلدنا وعلى مستوى العالم ليس هناك أي درس يمكن أن أتلقاه من الجنرال تواتي وهؤلاء الإطارات الدائرين في فلكه. بطبيعة الحال، بالنسبة إلي، كل تكيف لا يمكن أن يكون له معنى إلا إذا كان مندرجا في سياق تطور مجتمعنا واقتصادنا وعلى أساس أنه تقدم في مجال تجسيد وتعميق مبادئ ثورتنا لا من حيث هو تنكر لهذه المبادئ وسعي للقضاء على ما تحقق من منجزات في مجال تحسين أحوال جماهيرنا الشعبية بالإضافة إلى تلك النتائج التي استطعنا أن نحققها بفضل تلك الجهود التي بذلناها في سبيل تنمية البلاد.

مما تقدم، لا أرى كيف استطاعت الإطارات العديدة التي تحدث عنها الجنرال تواتي أن تساورها “شكوك” حول مقدرتي واستعدادي للتكيف مع المستجدات السياسية والاقتصادية مادمت لم أخف أبدا، منذ أكتوبر 1988، في الكثير من الكتابات والتصريحات العمومية وكذا في تلك اللقاءات والندوات التي جمعتني بإطارات، أفكاري وتصوراتي إزاء جميع المسائل المطروحة على بلدنا في أواخر الثمانينيات والعشرية التي جاءت بعدها. إن الذين طلبوا مني ترؤس الحكومة كانوا على علم بأفكاري وتصوراتي جيدا لاسيما وأنني أعربت عنها وذكرت بها مباشرة حتى قبل إعلان قرار تعييني على رأس هذه الحكومة. 3. “في تصريحاته الصحفية، يتهمني السيد عبد السلام بالتدخل في أنشطته موحيا أنني كنت أقتحم ديوانه” لا أظن أنني صرحت أن الجنرال تواتي كان يقتحم ديواني. لكن هذا الأخير ذاته هو الذي قال لي إنه حضر ذات يوم، في شكل اقتحام تقريا، إلى مكتب مدير ديواني للاحتجاج ضد قرار التعليق الذي اتخذته ضد يومية El Watan؛ وهو ما يعني، على أية حال، شكلا من أشكال التدخل في عملي لأن تدخلا أو احتجاجا من هذا القبيل على مستواي بوصفي رئيس حكومة كان لا بد أن يمر صاحبه عبر الوزير المعني، أي وزير الدفاع في هذه الحالة، والذي كان الجنرال خالد نزار، لأن هذا الأخير هو المخول لذلك. ومع ذلك، وانطلاقا من نفس العبارات التي استعملها الجنرال تواتي تجاهي، سيكون لي حديث في ما بعد عن هذه الواقعة المتعلقة بتعليق صدور يومية El Watan لأسرد روايتي في هذا الشأن والتي لن “تروق بالضرورة” الجنرال تواتي هذا.

وكيلا أتجاوز ما ينسبه إلي الجنرال تواتي من كلام أكون قد اتهمته فيه بالتدخل في أنشطتي، سأكتفي، عند هذا الحد، بذكر ما قاله في تدخله بخصوص قانون الاستثمارات وزعمه أنه كان ملاذا بالنسبة إلى الوزراء في حكومتي ممن كان يدعي آراء لم يجرؤ على الإفصاح عنها في حضرتي وكذا الدور الذي اعترف به في حواره مع جريدة El Watan في حبك تلك المؤامرة التي أدت بالجزائر إلى اللجوء إلى إعادة هيكلة مديونيتها الخارجية وأخيرا موقفه القاضي باللجوء إلى الخزينة الفرنسية للتحقق من الأرقام التي كنت قد قدمتها في تصريح عمومي. هذا، وهناك اعتبارات أخرى سيتم التعرض لها، في ما بعد، حول هذه النقطة من مزاعم الجنرال تواتي.

* في الحوار الذي أجرته معه جريدة El Watan الصادرة بتاريخ 27-09-2001

-4-

مذكرات بلعيد عبد السلام: حقيقة الخلاف بيني وبين الجنرال محمد تواتي
تاريخ المقال 21/07/2007
4. “كنا في سنة 1992… وبما أننا كنا تحت نظام حالة الطوارئ بدا لنا، بحكم التجربة، من الضروري اللجوء إلى إنشاء خلية تنسيق، تفكير واقتراح في ما يخص جميع التدابير الممكن أن تترتب على حالة الطوارئ هذه لكن في اتجاه استعادة النظام العمومي وضمان أمن الأشخاص والممتلكات. كانت هناك، إذاً، مجموعة متكونة من خمسة وزراء، موظفين ساميين اثنين والمتحدث بوصفي ضابط اتصال لوزارة الدفاع الوطني”.

صحيح، خلال الفترة الأولى من عمر حكومتي – فترة تزامنت تقريبا مع السداسي الثاني من 1992 والشهور الأولى من سنة 1993– كانت علاقاتي بالجنرال تواتي تجري في جو من الانسجام. كنا، حينئذ، منهمكين في محاربة الأنشطة الانقلابية التي كانت تمس، بصورة خطيرة، استقرار بلادنا. كما كان علينا، بوجه أخص، تحديد صيغ الرد في هذه المحاربة على الاغتيالات التي كانت تدمي مجتمعنا وترهب سكاننا. لقد اضطررنا إلى مواجهة وضع لم يسبق له مثيل في المجال الأمني منذ استقلال الجزائر. كما كان علينا أن نفكر في الإمكانيات ونوفرها وفي أجهزة وإجراءات ذات طبيعة لم تعهدها من قبل أبدا أجهزة أمننا المكلفة بحفظ النظام العام. وقد استطعنا أن ننجز أعمالا معتبرة في هذا المجال بفضل ذلك التعاون الذي صار بين الوزارات المعنية. لقد كانت هناك اجتماعات تنسيق تقع بديواني، تارة بحضوري وتحت رئاستي وتارة لدى مدير ديواني. كانت المناقشات تجري في جو حميمي ميزته إرادة كل واحد واستعداده لبذل الجهد والقيام بمهماته على أكمل وجه من أجل تزويد البلاد بأدوات كفيلة بتمكينه من تجاوز الأخطار المحدقة به. من جانبي، لا يمكن إلا أن أحيي ذلك الإسهام الذي قدمه الجنرال تواتي إلى هذا العمل وكنت أفكر في إقامة، ليس فقط علاقات تعاون منسجم بيننا، وإنما أيضا علاقات ثقة ظننتها قائمة على تبنٍّ لقيم مشتركة. صحيح، قبل مجيئي على رأس الحكومة، لم أكن أعرف الجنرال تواتي ولم أكن أدرك الفروق الجوهرية الموجودة بيننا على مستوى ما يمكن تسميته بميول كل منا من الناحية الأيديولوجية والتاريخية. لذلك، ابتداء من أواخر الفصل الأول من سنة 1993 ولأسباب سأتعرض لها في ما بعد، أخذت علاقات الثقة تتضاءل بيننا ليتبعها نوع من الارتياب ثم عداوة صريحة في آخر الأمر.

5. ” مافتئ السيد عبد السلام يعلن للملأ أنني في خدمة بعض المصالح لا لسبب إلا لأنني سمحت لنفسي بإبداء ملاحظة له حول مشروع قانون الاستثمارات الذي أفرغه من كل محتواه عندما أضاف بندا أو فقرة تفرض على كل مستثمر جزائري، مقيما كان أو غير مقيم، التصريح أمام موثق بمصدر الأموال التي ينوي استثمارها”.

أ‌. مجرد الادعاء أن مشروع قانون الاستثمار الذي أمرت بصياغته أُفرغ من محتواه لأنني أدرجت في نصه بندا يفرض على المستثمر التصريح بمصدر الأموال التي بحوزته لا يمكن أن يؤوًّل بصورة أخرى غير كونه دعما مقدما لهؤلاء المعروفين من الجميع ممن كسبوا ثروات معتبرة على حساب الدولة، سواء عن طريق الغش الضريبي أو عن طريق مختلف أشكال الرشوة لاسيما العمولات المقتطعة من الصفقات العمومية للإدارة أو المؤسسات الاقتصادية الوطنية أو، أخيرا، عن طريق الغش في العمليات التجارية على حساب المستهلكين.

ب‌. أضف إلى ما سبق، الدور الذي لا يخفي الجنرال تواتي قيامه به في نصب المكائد ورسم خطط التدخلات التي أدت بالجزائر إلى اللجوء إلى إعادة هيكلة مديونيتها الخارجية هو (أي الدور)، في حد ذاته، طريقة جديدة في تقديم الدعم لبعض المصالح أو في إثبات صلته بها مادامت الحملة التي شنت، لاسيما من طرف الجنرال تواتي، كما يقر هو ذاته بذلك، كانت تستهدف، بصفة خاصة، الحصول – تحت غطاء ضرورة الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي – على تحرير التجارة الخارجية وكذا تمكين المتعاملين الخواص من صفقات تجارة الاستيراد-التصدير (import-export) التي تخص، أساسا، استيراد المواد الواسعة الاستهلاك. ودائما في سياق تطبيق شروط صندوق النقد الدولي، كان لهؤلاء المتعاملين الخواص الحق في الاستفادة من قروض خارجية حصلت عليها الدولة أو مضمونة من طرفها لتمويل المواد التي كانوا يستوردونها. وعليه، هل أنا في حاجة إلى التذكير، مرة أخرى، بالروابط التي تربط الجنرال تواتي بمجموعة التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية وأن زعيم هذه المجموعة لامني، في مقال صدر له بعد حل حكومتي، بعدما أشرت إلى أنه من بين مدبري حملات القدح ضد السياسة الاقتصادية المعتمدة من طرف حكومتي لاسيما عبر بعض الصحف التي تدعي أنها مستقلة، كان هناك مستوردون كبار معروفون على مستوى الساحة التجارية الجزائرية بتلك العمليات المربحة التي أنجزوها في مجالي حديد البناء والأدوية. ليس هناك ما يثبت أن الجنرال تواتي له أسهم في مجموعات المصالح ممن استفادوا من امتيازات أكيدة تأتت لهم بفضل التوجهات التي لا يخفي أنه كان وراءها في مجال السياسة الاقتصادية للجزائر بعد تصفيتي من على رأس الحكومة. ثم إنني لم أصرح أبدا أنه استفاد شخصيا من أنشطة مجموعات المصالح ممن نفعهم نشاطه لدى الدوائر القيادية في الدولة.

ج. لكن، وبصرف النظر عن مختلف الاعتبارات التي يمكن أن تجعل الجنرال تواتي يصدر أحكاما على البند الذي أدرجته في مشروع قانون الاستثمارات في ما يتعلق مراقبة مصادر الأموال التي يوفرها المستثمرون المحتملون، يبقى السؤال الأساسي المطروح حول نقطة الخلاف كالآتي : كيف استطاع الجنرال تواتي – وهو يتصرف بوصفه ممثلا لواحدة من أبرز السلطات في الدولة – وكذا هؤلاء ممن يدعي أنهم أسروا له بأشياء، أن يروا غرابة، بل أمرا غير مقبول، أن يتساءل وكلاء مؤهلين للدولة، أي موثقين، عن مصدر رؤوس الأموال المزمع استثمارها لاسيما وأن هؤلاء المستثمرين كانوا يستفيدون من امتيازات وضمانات من طرف الدولة ؟ يعلم جميع الملاحظين لساحتنا السياسية الوطنية أن تلك العناصر التي اغتنت بطريقة غير شرعية، وفي الكثير من الأحيان على حساب الجماعة الوطنية، هي التي كانت تتمنى الحصول على إقرار قانوني بالمنافع التي تحققت لها جراء النهب وتسعى في هذا الاتجاه لدى كافة الفاعلين المشرفين على أنشطتنا السياسية الوطنية من أجل ضمان عدم تعرضها أبدا للعقاب ومن أجل الحصول على الصفة القانونية لما كسبته بوسائل كانت غير قانونية بمثل ما كانت غير أخلاقية. ذلك هو الرهان كله بالنسبة إلى هؤلاء الذين ما فتئوا، منذ سنوات، يظهرون بين الفينة والأخرى في صورة مطالبة بالعفو الضريبي بحجة أن الجزائر في حاجة إلى رؤوس أموال من أجل خلق مناصب شغل وتقليص البطالة.

الكل يعرف أيضا أن البلدان المتطورة في العالم الغربي ذي الاقتصاد المحكوم بقواعد الرأسمالية واقتصاد السوق تفرض مراقبة صارمة على مصدر الأموال المتداولة أو المستثمرة في أنشطتها الاقتصادية. هل أنا في حاجة إلى التذكير هنا أنه في البلدان الغربية، كل إيداع للأموال في بنك – حتى ولو كان المبلغ ضئيلا نسبيا مقارنة بتلك الأعداد الضخمة من الأوراق النقدية المتداولة لدينا في أكياس القمامة – يفرض على صاحبه تقديم إثباتات صارمة في ما يخص مصدر الأموال المودعة ؟ في الولايات المتحدة الأمريكية، مسافر قادم من الخارج يصرح أن بحوزته مبلغا مساويا أو أكثر من 5000 دولار أمريكي يجد نفسه أمام استنطاق مشدد من طرف مصالح الأمن. هذه القواعد كانت موجودة قبل الإجراءات المفروضة هناك في السنوات الأخيرة بكثير من أجل ملاحقة الأموال المخصصة لتمويل ما يسمى بالإرهاب الدولي. وقد كان الهدف منها محاربة الأموال القذرة، أي المحصل عليها، أساس، عن طريق المتاجرة بالمخدرات، أنشطة الدعارة والجريمة المنظمة. فكيف يمكن للدولة الجزائرية، المتمخضة عن ثورة كلفت شعبنا مئات الألوف من الشهداء والتي أشعت على العالم بأسره، أن تغض الطرف عن إصدار قوانين باسمها تفتح الباب واسعا لتبييض الأموال القذرة التي تدينها جميع الدول المتحضرة والجادة على أنها جريمة بائنة ومساسا بسمعة المؤسسات التي تحكم هذه الدول ؟ ليس هناك سوى تلك البلدان التي تسود فيها مختلف الجماعات المافياوية النشطة على مستوى العالم التي ترضى بالتحول إلى فراديس ضريبية للأرباح الهاربة من قوانين الدول التي تحققت فيها. لقد تحولت هذه الدول إلى ملاذ طيب لرؤوس الأموال ذات المصادر المشبوهة التي كثيرا ما تكون مرتبطة بجرائم وتصرفات أشخاص لا دين لهم ولا ملة.

د. يبدو أن الجنرال تواتي قد نسي، مثلما يبدو الكثير من مسؤولينا السياسيين معه، أن أحد الموضوعات الكبرى المستعملة كتبرير وهدف للعمل الذي تم القيام به تحت إشراف الجيش الوطني الشعبي غداة إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 1991 وتوقيف المسار الانتخابي الناجم عنه كان استعادة مصداقية الدولة. في ما يخصني، وفي برنامج العمل الذي سطرته لحكومتي بموافقة من المجلس الأعلى للدولة، احتلت هذه المسألة مكانا مرموقا وتضمنت جانبين : محاربة الأنشطة التخريبية واتخاذ تدابير ضد الفساد وضد ما كنا آنذاك نسميه بالآفات الاجتماعية التي كانت السبب الرئيسي في تدهور الأوضاع السياسية في البلاد. حكومتي هي التي صاغت جميع الأحكام التشريعية والتنظيمية من أجل تمكين قوات الأمن من التدخل بفعالية وجهازنا القضائي من العمل بالصرامة والسرعة المطلوبتين بغرض احتواء ومحاربة الهجومات المستهدفة لمؤسسات الدولة وكذا حماية الأشخاص والممتلكات من الخطر المتزايد شدة واتساعا. وبعد موافقتي الاضطلاع بمسؤولية لم أبحث عنها ولم أطلبها أبدا وفي تلك الظروف الأليمة التي كانت الجزائر تعيشها في تلك الفترة (2 جويلية 1992) والشهور التي تلتها، لم يكن بإمكاني، بأي حال من الأحوال، أن أخضع لإرادة من كانوا، على شاكلة الجنرال تواتي، يظنون أنفسهم أصحاب رسالة سامية تخولهم، دون سواهم، تحديد ما كان صالحا للبلد وما لم يكن وأن أترك اسمي يسجل في صفحات تلك المرحلة الغامضة من تاريخنا على أنني كنت فقط ذلك الرجل صاحب قانون مكافحة الإرهاب، المحاكم الخاصة والتدابير الهادفة إلى تخليص مساجدنا من الأنشطة الانقلابية التي بدأت تعشش فيها منذ السنوات التي سبقت تلك الفترة التي بدأت مع توقيف المسار الانتخابي مطلع 1992. وإضافة إلى أثره من حيث كونه حكما تشريعيا ضروريا لتنقية المناخ الأخلاقي في البلاد واستعادة مصداقية الدولة، جاء البند المتعلق بمراقبة رؤوس الأموال الذي أدرجته في مشروعي لقانون الاستثمارات كواجب أخلاقي لم يكن بإمكاني التخلي عنه من دون النيل من شرف المهمة التي عهد بها إلي ومن طابع المخلِّص. لقد تمثل دوري في تجهيز البلاد بقانون للاستثمارات كفيل بالإسهام في مواصلة تنميتها وتعزيزها، في كنف احترام القيم السوية لثورتنا. كلا، لم يتمثل دوري في توفير قانون لتبييض أموال غير مستحقة استحوذ عليها من لا دين لهم ولا ملة على حساب شعبنا.

-5-

البند الذي هممت بسببه قطع الغضن الذي كنت وأعضاء حكومتي جالسين عليه
تاريخ المقال 22/07/2007
6. أغلب مساعديه (المقصود أنا) كانوا ضد هذا البند لكنهم لم يجرؤوا على مصارحته لأن – وهذا أمر ينبغي أن نقوله – حتى أعضاء الحكومة لم يكونوا يدخلون مكتبه إلا وهم متوجسين خيفة. ومهما يكن من أمر، أحد الوزراء هو الذي أعرب لي عن مخاوفه بخصوص هذا البند الذي قد يجعل قانون الاستثمارات يبدو وكأنه قانون عقوبات. أما ماعدا ذلك، فنص مشروع القانون كان ممتازا.

أ‌. في ما يخص طريقة التعامل مع مساعديًّ في إطار ممارسة مختلف المسؤوليات التي عهد بها إلي طيلة حياتي، أفضل ترك الإجابة لهؤلاء، ولو في قرارة أنفسهم، عن المزاعم الواردة على لسان الجنرال تواتي. من جانبي، أكتفي بالقول، ببساطة، إنه لشرف لي أنني حظيت بالاحترام والتقدير، الممتزجين بالعاطفة الأخوية في بعض الأحيان، من طرف مساعدي دائما، أو على الأقل البعض منهم، بما في ذلك أثناء الفترات التي لم أكن أمارس فيها إلا مسؤوليات نضالية لم تمنحني أية قدرة على ترهيبهم إلى درجة جعلهم لا يدلون لي بآرائهم ولا يقتربون مني إلا بحذر. ثم إنني لا أجهل أن هذا التقدير وهذا الاحترام التلقائيين قد جعلا الملاحظين الخارجيين الذين لم يخلوا دائما من سوء النية، يظنون أن السلطة التي كانت لي من المستحيل ألا تكون حاصلة بفعل الإكراه المتصل بمسؤولياتي. ومع ذلك، فإن إرادة التغلب كما لو كنا في لعبة الضامة على من كالوا لي التهم – تهما كانت وهمية مثلما اكتست ربما طابع الحسد لأنهم لم يستطيعوا الظفر بنفس السلطة مثلي مع مساعديهم – لا تجعلني أذهب إلى أبعد من هذا الحد في ردي على مثل هذه المزاعم.

ب‌. ليس من الغريب، لاسيما بالنظر إلى جو المكائد والتصرفات الانتهازية المميزة لأوضاعنا السياسية منذ أوائل الثمانينيات، أن يكون بعض من مساعدي أو أعضاء في حكومتي قد أعربوا للجنرال تواتي عن تحفظاتهم، إن لم نقل معارضتهم، بخصوص البند المدرج في مشروع قانون الاستثمارات في مجال مراقبة رؤوس الأموال. لم تكن حكومتي لتخلو من مساعدين ووزراء ممن كانت لهم لغة مزدوجة ويظهرون بمظاهر مختلفة بحسب الفكرة التي يحملونها عن مخاطبهم. في هذا السياق، من المعروف أنه سواء أمامي أو في إطار اجتماع مجلس الحكومة بحضور جميع الأعضاء، كان يحدث أن يقوم البعض ممن كان همهم الأول الإدلاء بأكثر الآراء راديكالية ومواقف كانت تضعهم في خانة أشد العناصر صرامة في مجال تسيير شؤون الدولة ومعالجة المسائل المتصلة ببعض الجوانب من حياتنا الاجتماعية مثل الرشوة والإثراء غير المشروع. هكذا كان هؤلاء يلجأون إلى من كانوا يعتبرونهم “أصحاب القرار الحقيقيين” لتقويم الأمور في اتجاه ما كان يناسب خياراتهم الفعلية التي لم يجرؤوا على الإفصاح عنها والدفاع عنها أمام الملأ. إن من أسروا إلى الجنرال تواتي، حسب زعمه، بمعارضتهم لبند مراقبة مصدر الأموال المعدة للاستثمار كانوا ربما نفس الأشخاص ممن أكدوا لي أن العسكر لا يمكن أبدا أن يتركوا مثل هذا البند يمر ولم يترددوا في البوح لي صراحة أن هؤلاء العسكر أو أصدقاءهم سيكونون أول من يعاني جراء هذه المراقبة. في ما يخصني، وانطلاقا من الموقف الذي التزمته عندما أمرت بإدراج البند القاضي بالتأكد من نزاهة مصدر الاستثمارات المستفيدة من الامتيازات المنصوص عليها في قانون الاستثمارات، كنت أحسب أن أصحاب القرار المنتمين إلى الجيش الوطني الشعبي لم تكن لهم مصالح خفية يريدون حمايتها من مراقبة الدولة ولا يقبلون أبدا أن يتحولوا إلى شركاء للمتعاملين الخواص المستنزفين للاقتصاد الوطني. وعليه، فالقلوب الطيبة التي يحلو للجنرال تواتي الحصول منها على أسرار كانوا ربما نفس الأشخاص ممن ادعوا تنويري ومساعدتي بنصائحهم مشيرين لي أن بعضا من مواقفي، لاسيما البند المتعلق بمراقبة مصدر الأموال في مشروع قانون الاستثمارات، جعلتني أهم بقطع الغصن الذي كنت وأعضاء حكومتي جالسين عليه.

في نهاية الأمر، الدرس الذي يجب استخلاصه من هذه الواقعة المتعلقة بمسار مشروع قانون الاستثمارات الذي طلبت إعداده وتم اعتماده، بعد تنحيتي، هو– لاسيما أثناء فترة معينة متأخرة من الحياة السياسية في بلدنا – أن من كانوا يظهرون في عيون الرأي العام الوطني والدولي بوصفهم المشرفين على مصالح البلد لم يكونوا، في الواقع، مصدر القرارات المتخذة حتى وإن بقوا مسؤولين عنها في نظر العامة. كانت هناك مساعي سرية لدى دوائر سلطة خفية من شأنها عرقلة عملهم والقضاء على نجاعته بل وفرض قرارات عليهم لم تكن متفقة مع خياراتهم هم. يبدو أن الجنرال تواتي ممتاز في هذا النوع من الممارسات بل ويجد فيها متعة حتى أضحى من غير النادر سماع بعض الأصوات في أوساط عاصمية تقول إنه كان يتلذذ بالتنقل ما بين السفارات حيث كان يُظن أنه “المخ” أي “الملهم” المحدد لكيفية تدبير شؤون البلاد ووسيط الوحي الذي كان الناس يعرفون بفضله الاتجاه الذي كان أولو أمرنا بصدد اتخاذه.

7. “لقد كانت علاقاتنا، بالعكس، ممتازة ومحل ثقة كبيرة إلى درجة أنني سمحت لنفسي بالتدخل لديه (المقصود أنا) بعد تعليق صدور يومية El Watan في 1992 وتوقيف خمسة من صحفييها. كنت أعتبر أن هذه اليومية لم ترتكب أية مخالفة ولم تخرق أي سر عسكري عندما نشرت خبر الهجوم الإرهابي على مقر الدرك الوطني بقصر الحيران. لم يقل لي أي شيء على التو، لكنه، لم يتردد، في ما بعد، في الادعاء أنني كنت في خدمة الصحافة الخاصة”.

أ‌. ذات يوم من شهر جانفي 1993 – يوم السبت 2 من الشهر على وجه التحديد – وبعد وصولي إلى المكتب، اطلعت على فحوى مقال يومية El Watan التي نشرت على عرض صفحته الأولى كلها خبر موت خمسة دركيين بالقرب من الأغواط. وقد أثار الخبر حفيظتي لسببين : أولا، لأننا كنا قد اتفقنا، لاسيما مع مسؤولي الصحف، على الامتناع عن المبالغة في توفير إشهار لمحاولات الاغتيال الإرهابية التي كان من بين أهداف أصحابها ضرب الرأي العام وذيوع أفعالهم ؛ ثانيا، بالنسبة إلي كان من الفاحشة أن تقدم صحيفة، تدعي الجدية، على استغلال تجاري لمأساة تسببت فيها أيادي إرهابية. كنت أجهل آنذاك بعض الاعتبارات الخفية التي يمكن أن تفسر الإشهار الذي حظيت به هذه الواقعة. وأنا أطلع على فحوى الخبر في El Watan، علمت أن مدير هذه اليومية وبعضا من مساعديه من الصحفيين أوقفوا في الصباح المبكر من طرف رجال الدرك الوطني بحجة عرقلة التحقيق الذي كانوا بصدده في هذه الواقعة عندما أذاعوا الخبر قبل الأوان. لقد كنا، في تلك الفترة، في حالة طوارئ، وكانت الأوضاع الداخلية متأثرة كثيرا بالاغتيالات الإرهابية. بناء على ذلك، اتخذت على الفور قرارا بتعليق صدور اليومية المذكورة إلى “أجل غير مسمى”.

بعد ذلك بأيام قليلة، وبعد عدد من التدخلات، لاسيما من جانب الجنرال خالد نزار الذي أكد لي أنه قام بتوبيخ شديد اللهجة لمدير El Watan، قمت برفع التعليق على اليومية. في هذه الأثناء، أفرج الدرك الوطني عن مدير اليومية والصحفيين الذين كانوا معه. أما في ما يخص الجنرال تواتي، لم أكن أبدا على علم بتدخله بشأن هذه الواقعة. ولم أعرف إلا في ما بعد بكثير ، كما أخبرني هو نفسه بمناسبة لقاء بمكتبي، أنه اقتحم تقريبا، كما قال، مكتب مدير ديواني للاحتجاج على قرار تعليق صدور اليومية المذكورة. لعله أحس، آنذاك، أنه لم يكن من المناسب إخطاري مباشرة برد فعله ولعله فضل التوجه إلى الجنرال خالد نزار ليطلب منه التدخل لدي من أجل رفع التعليق. الجنرال خالد نزار، بصفته عضوا في المجلس الأعلى للدولة، لكن أيضا بحكم وضعه كقائد الجيش الوطني الشعبي، كان يُعتبر آنذاك على أنه صاحب السلطة العليا الحقيقي في البلاد ؛ مما جعله في منصب أسمى من منصبي. ثم إن العلاقات بيننا كانت لائقة جدا وفيها من الثقة والكياسة ما جعلني أشعر بالغبطة نحوها.

لعل الجنرال تواتي قد أحس بالإحباط بعدما لم يستطع الحصول على رفع فوري لتعليق صدور الجريدة المذكورة التي كان حاميها نوعا ما. كما أنه لابد وأن تكون لهذه الواقعة علاقة بتلك الاتهامات، الناجمة عن حقد غير معلن، الموجهة ضدي، لاسيما عبر تلك الأقاويل الباطلة حول نزعتي “القيصرية” المزعومة في ممارسة السلطة.

-6-

مذكرات بلعيد عبد السلام: خلفيات توقيف صحيفة الوطن (6)
تاريخ المقال 23/07/2007
في الواقع، ولأنني اعتدا البقاء بعيدا دائما عن دوائر اللقاءات والصداقات التي كانت، ولا زالت، تنشِّط الحياة الاجتماعية والسياسة بعاصمتنا، كنت أجهل، آنذاك، ما يمكن أن يفسر تلك الحماسة التي أبداها الجنرال تواتي في صالح يومية El Watan. وبالفعل، لقد علمت في ما بعد، أي مع تطور مسيرتي القصيرة كرئيس حكومة، وبعد تنحيتي خاصة، أن الجنرال تواتي كان يحمل للجنرال عباس غزيل، قائد الدرك الوطني آنذاك، عداء يكاد يصعب وصفه.

لعل الجنرال تواتي كان يعتبر نفسه أحق من الجنرال غزيل بقيادة دركنا الوطني لأنه سبق له أن درس بمدرسة فرنسية للدرك ضمن الجيش الفرنسي قبل التحاقه بصفوف جبهة التحرير الوطني. لكن، أكثر من ذلك، ما علمته من خلال الجنرال تواتي حول ميوله الأيديولوجية وأفكاره المسبقة بشأن القيم المميزة للحركة الوطنية الجزائرية يجعلني أعتقد أن عداءه للجنرال غزيل تجاوز حدود مجرد الخصومة في ما يتعلق بقيادة الدرك الوطني. في اعتقادي، يتعلق الأمر باختلافات جوهرية في المسيرة ذات الصلة بالأصول التنظيمية والأيديولوجية لكل من الجنرالين. أحدهما، الجنرال غزيل، وهو مناضل قديم في صفوف حزب الشعب الجزائري وكان التحاقه بصفوف جيش التحرير الوطني نتيجة بديهية لالتزامه بالقضية الوطنية منذ شبابه. ثانيهما، الجنرال تواتي، وهو لم يسمع، قبل التحاقه بصفوف الجيش الفرنسي، أبدا بالحركة الوطنية ولم يشعر قط بالحس الوطني يختلج في أحشائه. الجنرال غزيل كان تلميذا بثانوية سكيكدة التي درست بها قبله أثناء السنة الدراسية 1948-1949. ولما كان أصغر مني سنا، لابد وأنه كان في قسم أدنى من القسم الذي كنت فيه. لكن، وعلى غرار بعض من الزملاء في الثانوية المذكورة، كان غزيل مناضلا في حزب الشعب. ذات يوم وهو يشارك في مظاهرة نظمها حزبه في المدينة، وقعت له مشاكل مع الشرطة ؛ مما أدى إلى كشف أمر انتمائه إلى حزب الشعب ومشاعره الوطنية لدى مدير الثانوية فكان ذلك سببا في طرده من هذه الثانوية. بعد عودته إلى منزله بباتنة، حثه أهله، بهدف حمايته لاشك، على التطوع في الجيش الفرنسي الذي التحق به عن طريق مدرسة الإشارة العسكرية بفرنسا.

بعد أول نوفمبر 1954 بفترة قصيرة وبعد استعادة اتصاله بخلايا حزب الشعب بباتنة بمناسبة عطلة أتي ليقضيها بالجزائر، التحق برفاقه القدامى في الحزب بجبال الأوراس منخرطا هكذا في صفوف جيش التحرير الوطني. لقد كانت حياته، من بعد، حياة أي فرد من أفراد جيش التحرير الوطني، أولا في الداخل ثم في الخارج، يقاسم إخوانه في الكفاح أوقات السراء وأوقات الضراء وكذا تلك التقلبات التي شهدها من عايش مسيرة حربنا التحريرية إلى ذلك اليوم الذي تحقق لها النصر فيه بإعلان استقلال الجزائر. فحتى وإن مر عباس غزيل بالجيش الفرنسي قبل مغادرته له ملتحقا بصفوف جيش التحرير الوطني، إلا أنه لا يوضع في خانة ما اعتدنا تسميتهم بـ “الفارين من الجيش الفرنسي” نحو جبهة التحرير الوطني على الحدود مع تونس والمغرب بعد فرارهم من الأماكن التي عينوا فيها من طرف الجيش الفرنسي. أما الجنرال تواتي، فقد التحق بجبهة التحرير الوطني بالخارج في شهر فيفري 1961. قبل ذلك، درس بمركز التكوين الإداري الذي أنشأه جاك سوستال سنة 1955 بهدف توفير تكوين سريع لإطارات جزائرية موجهة لتعزيز الإدارة الاستعمارية في الجزائر كي تحكم قبضتها على سكاننا. لعلنا نتذكر أن واحدة من الملاحظات التي أبداها الحاكم العام سوستال بعد تنصيبه سنة 1955 كحاكم عام في الجزائر، هي اعتباره أن إدارة السكان الجزائريين كانت ناقصة، أي أن الأجهزة الاستعمارية المكلفة بتأطير هؤلاء كانت في حاجة إلى إحكام. لقد كان سوستال يريد ضرب عصفورين بحجر : إحكام القبضة أكثر لإدارته على شعبنا وكسب إطارات جزائرية بغرض استخدامهم كعناصر لدعم النظام القمعي الذي كان ينوي إقامته في سبيل محاربة ثورتنا آملا في الحيلولة دون انتشار هذه الثورة بعدما أخذ نموها يتزايد في عهد سوستال (1) .

من جانبي، لقد استطعت أن أفهم، في ما بعد، أن الأمر كان متعلقا بـ “رواية للأمور” تفسر سبب تلك الحيوية والحماسة اللتين ميزتا رد فعل الجنرال تواتي بخصوص قراري تعليق صدور يومية El Watan. حينما اتخذت هذا القرار، لم تكن بحوزتي معلومات حول الخصومات الداخلية بين الجنرال تواتي وقائد الدرك الوطني. وعليه، لا أستغرب أن يكون الجنرال تواتي ذاته هو مصدر تلك المعلومة التي انفردت يومية El Watan بنشرها حول الاغتيال الذي أودى بحياة عدد من أفراد الدرك الوطني بالقرب من الأغواط، وكانت معلومات أرادت قيادة الدرك الوطني تأخير نشرها لضرورات التحقيق. إن لدي من الأسباب ما يجعلني أظن أن الكشف عن هذه الواقعة لم يكن أبدا بنية “إعلام الجمهور” كما يدعي بعض الصحفيين لتبرير مبادراتهم أحيانا. فقد يكون الهدف من نشرها النيل من سمعة الجنرال غزيل ومقدرته كقائد لدركنا الوطني. كما يمكن أن يكون الهدف الحط من شأن هذا الضابط السامي وكفاءته لخلافة الجنرال خالد نزار على رأس وزارة الدفاع الوطني لأنني لا أظن أني أفشي سرا عندما أشير إلى تلك الإيحاءات التي أفادت، في أواخر 1992 أو أوائل 1993 على ما أظن، أن الجنرال خالد نزار كان يفكر في تقليص أنشطته، لأسباب صحية، بل وربما في تقاعده وأن الخيار قد وقع على الجنرال غزيل لخلافته كوزير للدفاع الوطني. بطبيعة الحال، لم يكن من شأن هذه الإيحاءات أن ترضي الجنرال تواتي.

ومهما يكن من أمر، من المعلوم أن يومية El Watan لتعوي عندما أثير مسألة علاقاتها بأوساط تابعة لوزارة الدفاع الوطني. غير أن بعضا من صحفييها، في تلك الفترة، أسروا إلى أعضاء في حكومتي كانت تربطهم بهم علاقات شخصية تعود، في بعض الأحيان، إلى فترة الدراسة، قائلين : “هل تظنون أننا كنا قادرين على نشر مثل هذا الخبر من دون موافقة الجيش ؟”. بطبيعة الحال، بالنسبة إلى رجال El Watan، إشارة من الجنرال تواتي كانت بمثابة الموافقة من طرف الجيش الوطني الشعبي. المبادرة التي اتخذتها شخصيا بتعليق صدور اليومية إلى أجل غير مسمى، كانت إشارة مني، ومن دون أن أشعر، إلى أن الجنرال تواتي لم يكن، بالضرورة، يعكس وجهة نظر الجيش كله. في نهاية الأمر، ومن دون أن أريد ذلك أو تنبهت إليه على الفور، وجدت نفسي متورطا في شقاق كان رهانه، على مستوى مؤسستنا العسكرية، سيادة التيار الفكري النابع من أعماق حركتنا الوطنية والذي شكل العامل الحاسم في اندلاع ثورتنا وانتصارها وكذا في قيام جيش التحرير الوطني الذي انبثق منه سليله الجيش الوطن الشعبي. أما في ما يخص الكلام الذي ينسبه الجنرال تواتي إلي بشأن علاقاتي بالصحافة الخاصة، الرأي عندي أن هذا الجنرال ليس هو الذي كان في خدمة الصحافة الخاصة وإنما، بالعكس، هذه الصحافة – التي تزعم أنها حرة ومستقلة – هي التي كانت في خدمته، أي في تنصتها للسلطة من خلاله باعتباره “المخ” بالنسبة إليها.

8. “ما لبثت أن أدركت أن السيد عبد السلام كان له تصور ‘قيصري‘ للسلطة : ‘من القائد وإلى القائد…‘. عندما يقول (عبد السلام) أنا الذي تسببت في تنحيته إنما يقوم بعملية إسقاط بمعنى الطب النفسي للكلمة. الاعتراف أن المجلس الأعلى للدولة هو الذي أقاله سيكون بالنسبة إليه بمثابة الاعتراف بصحة مبادرة تنحيته. لقد كان المجلس الأعلى للدولة هو الهيئة المخولة في الحكم على نشاطه. لكن السيد عبد السلام لا يستطيع أن يقر بأخطائه مع مرور الزمن”. سأعود، في ما بعد، إلى هذيان الجنرال تواتي بخصوص ما يسميه بـ “تصوري القيصري للسلطة”. لنتحدث، قبل ذلك، عن “الطب النفسي” ودور المجلس الأعلى للدولة.

أ‌. ليس من المستبعد أن يكون المرور بمخابر الجيش الاستعماري وربما أيضا بما كنا نسميه أثناء حرب التحرير بـ “مركز سوستال” هو الذي سمح للجنرال تواتي بتلقي أسرار ما يسمى بـ “الحرب النفسية” حيث يكون قد تعلم كيفية اللجوء إلى صيغ من الطب النفسي عندما يتعلق الأمر بالتأثير في السامعين وحملهم على تقبل سخافات نسعى لتقديمها كحقائق لا تقبل النقاش. هكذا، يحاول الجنرال تواتي حمل الناس اليوم على الاعتقاد أن المجلس الأعلى للدولة، وبعد رحيل الفقيد محمد بوضياف، أول رئيس له، هو الذي كان يمارس السلطة فعلا وأنه هو ذاته (أي الجنرال) لم يكن له أي دور ولم يكن أبدا يتدخل في نشاطات هذا المجلس. بالنسبة إلى هذه النقطة، أود أن أسمح لنفسي بتذكيره، فقط، بتلك الأمور التي أسر لي بها ذات يوم، عندما كانت علاقاتنا جيدة، حول الدور الذي قام به أو زعم أنه قام به في تسوية مسألة خلافة الرئيس بوضياف وفي اختيار أعضاء المجلس الاستشاري الذي أسسه الراحل من قبل. هل أنا في حاجة أيضا إلى تذكيره أنه بتاريخ 8 ماي 1993، أرسل إلي، ساعات قبل إذاعته في التلفزة، نص الخطاب الذي كان الرئيس علي كافي بصدد إلقائه بمناسبة إحياء ذكرى 8 ماي 1945 ؟ صحيح، كان الرئيس علي كافي يتحرك في إطار رئاسة ذات طابع جماعي. أحد أعضاء هذه الرئاسة كان، بطبيعة الحال، الجنرال خالد نزار الذي كان الجنرال تواتي مستشارا سياسيا له والممثل لوزارة الدفاع الوطني في الاجتماعات الوزارية التي تعنيها. على هذا الأساس، كان له، من دون شك، أن يطلع، لحساب الجنرال خالد نزار باعتباره عضوا في المجلس الأعلى للدولة، على نص الخطاب المذكور قبل إلقائه من طرف الرئيس على كافي على شاشة التلفزيون. ومع ذلك، فإنه عندما أرسل إلي، هو نفسه، بنص هذا الخطاب قبل إذاعته لعله كان يريد أن يشير لي أن وراء الجنرال خالد نزار كان هو الذي يعطي الإذن لنص خطاب رئيس المجلس الأعلى للدولة ؛ مما يوحي أيضا أنه كان الملهم والمتمم للقرارات الصادرة عن المجلس الأعلى للدولة. أكثر من ذلك، أثناء لقاء وقع في 3 ماي 1993 مع الرئيس على كافي والجنرال خالد نزار – أي ذلك اللقاء الذي سأتعرض له من بعد والذي كان من المتوقع، حسب ما رواه لي رضا مالك، أن أتلقى توبيخا بسبب المبادرة بعدد من الإجراءات إثر كشف الصحافة الدولية عن عملية رشوة متصلة بعقد بيع للغاز الطبيعي الجزائري إلى إيطاليا – خاطبني الجنرال خالد نزار صراحة بهذه العبارات : “سي علي سيلقى على الأمة خطابا يوم 8 ماي القادم بمناسبة إحياء ذكرى مجازر 8 ماي 1945. ماذا يجب أن يقول بشأن الحكومة ؟”.

(1) – تؤكد بعض المصادر أن الجنرال تواتي التحق بجيش التحرير الوطني في فيفري 1961. كما أنه ليس هناك ما يثبت أنه درس، قبل ذلك، بمركز التكوين الإداري الذي أنشأه سوستال.

-7-

مذكراتى بلعيد عبد السلام: خطاب 8 ماي وإقالة الحكومة (7)
تاريخ المقال 24/07/2007
أجبت أنه بإمكانه أن يشير، في خطابه، إلى أن المجلس الأعلى للدولة – عند نهاية عهدته المقررة لأواخر سنة 1993 ومن خلال الصيغ التي ستتم بلورتها من أجل تنظيم فترة انتقالية بعد ذلك – سيسهر على اتخاذ التدابير اللازمة بهدف ضمان استمرار السياسة المطبقة من طرف الحكومة على أساس البرنامج الذي أقرته. حينئذ، طلب مني الجنرال خالد نزار بإرسال نص إلى رئيس المجلس الأعلى للدولة يمحل الصيغة التي يجب بواسطتها تأكيد وضمان استمرار السياسة المتبعة من طرف حكومتي.

كان ذلك غداة تبني مجلس الوزراء للمرسوم التشريعي المتعلق بالخطة الوطنية لسنة 1993 والأهداف العامة للفترة الممتدة من 1993 إلى 1997 وصدور هذا المرسوم بالجريدة الرسمية. وقد تزامن ذلك أيضا مع بداية الحديث عن نتائج الحوار الذي بادر به المجلس الأعلى للدولة مع بعض الأحزاب السياسية والحركات الجمعوية. كما انتشرت آنذاك شائعات تفيد، في سياق هذا الحوار، بتنظيم المرحلة الانتقالية التي ستأتي بعد انتهاء عهدة المجلس الأعلى للدولة. استجابة، إذاً، لطلب الجنرال خالد نزار شخصيا، بحضور رئيس المجلس الأعلى للدولة، كلفت عضوا في الحكومة تحرير النص المطلوب مني في اتجاه ما قلته للجنرال خالد نزار، أي قيام الرئيس علي كافي في خطابه على الأمة بمناسبة 8 ماي بتأكيد استمرار السياسة المتبعة من طرف الحكومة بعد انتهاء عهدة المجلس الأعلى للدولة. وقد تم تسليم هذا النص، كما اتفق عليه، لرئاسة المجلس الأعلى للدولة. غير نص الخطاب الذي ألقاه الرئيس علي كافي على شاشة التلفزيون يوم 8 ماي 1993، والذي وصلتني نسخة منه من طرف الجنرال تواتي قبل إلقائه، لم يشر البتة لا إلى الحكومة ولا إلى سياستها خلافا للإرادة التي عبر عنها الجنرال خالد نزار الذي لم يكن الجنرال تواتي إلا أحد مرؤوسيه. ومنذ اليوم الموالي من إلقاء هذا الخطاب، أجهزت الصحافة المأمورة، “الحرة والمستقلة”، بتعليقات متفاوتة الحدة حول صمت رئيس المجلس الأعلى للدولة في ما يخص الحكومة. وقد قدم هذا الصمت على أنه كان علامة على خلاف بين الجهاز التنفيذي وهيأة الرئاسة الجماعية وأنه، على وجه الخصوص، إشارة إلى سحب هذه الهيأة لتأييدها لعمل الحكومة. لست في حاجة، هنا، إلى إضافة أن هذه الصحافة كانت معروفة بعلاقاتها بالجنرال تواتي والأوساط السياسية التي كانت تدعي حظوتها لدى هذا الأخير. ثم هل أنا في حاجة إلى أن أضيف أن تاريخ 8 ماي كان يطابق تلك الفترة التي قدمها الجنرال تواتي، في حواره مع يومية El Watan الصادر بتاريخ 27 سبتمبر 2001، على أنها كانت الفترة التي بدأ، حسب قوله دائما، يرى فيها أن حكومتي أخفقت في مهمتها. وعليه، هذا الرجل الذي يدعي أنه لم يقم بأي دور في تحديد سياسة البلاد وقيادتها هل كان بإمكانه أن يتجاهل أمرا صادرا عن الجنرال خالد نزار شخصيا ؟ فلم ينقصه، إذاً، إلا ادعاء القدرة على حمل هذا الأخير على التراجع على ما وعد وأوصى به شخصيا.

وعليه، أليس من حقي أن أظن أن الجنرال تواتي لم يكن غريبا عن الحملة العدائية والحقودة التي شنتها الصحافة المعروفة بعلاقاتها بالأوساط المسماة بـ “الديمقراطية” ومجموعات المصالح المعارضة للسياسة الاقتصادية لحكومتي ؟ الأطروحة التي تبنتها هذه الصحافة في حملتها الحاقدة استغلت الصمت المذكور أعلاه في ما يخص حكومتي في خطاب الرئيس على كافي يوم 8 ماي. هذا الصمت، كما تبينا منذ حين، كان بفعل مكيدة دبرها الجنرال تواتي الذي جاء تصرفه مناقضا لتوصية أصدرها الجنرال خالد نزار بكل تلقائية. الصحافة التي كانت تحمل لي العداء أعطت لهذا الصمت بعد الرسالة التي يكون المجلس الأعلى للدولة قد أراد بها الإيحاء أن حكومتي كانت أيامها معدودة وعملها محكوما عليه بالفشل. لقد وجدت هذه الصحافة متعة في لفت الانتباه إلى أن خطاب الرئيس علي كافي في 8 ماي، وخلافا للخطاب الذي ألقاه من قبل أمام إطارات الأمة بنادي الصنوبر في 14 جانفي، لم يتحدث عن الوقت الذي كانت الحكومة في حاجة إليه من أجل تطبيق برنامجها. ومهما يكن من أمر، هذه الواقعة تذكرني بتصرف آخر كشف إرادة الجنرال تواتي لضبط الحياة السياسية في البلاد وإخضاعها لأطروحاته الاندماجية الجديدة المغلفة بغطاء الديمقراطية، الجمهورية، العلمانية وبحداثة زائفة. بالفعل، لقد أخبرني مدير ديواني أن الجنرال تواتي سأله ذات يوم عن سبب امتناعي عن إخضاع نص تصريحاتي لموافقة المجلس الأعلى للدولة قبل مخاطبة الرأي العام الوطني عبر التلفزيون، أي لمراقبته هو. كما أنه لم يكن يتردد، في تصرفاته، في التحلي بثوب “الشيخ” (gourou) في مجال قيادة سياسة البلاد، مقتنعا أنه كان الوحيد القادر على وضع القواعد والقيم الأساسية التي تنبني عليها هذه السياسية.

ستكون لي، في ما بعد، المناسبة للتعرض إلى جانب آخر يؤكد مثل هذا الادعاء الذي يجعل الجنرال تواتي ينسب إلى نفسه دور الملهم الأكبر للخيارات المحددة للمؤسسات السياسية في الجزائر ولتوجيه عمل حكومتها. هذا الرجل ذاته هو الذي يلومني في حوار له مع يومية El Watan الصادرة في 27 سبتمبر 2001، على اتهامه ظلما على “تدخله في شؤوني”. وبتلاعب بالألفاظ، يدعي اليوم أن المجلس الأعلى للدولة كان الهيئة المخولة الحكم على نشاطي. بطبيعة الحال، وعلى المستوى القانوني المحض، كان هذا المجلس الهيئة الوحيدة المخولة الحكم على نشاط الحكومة وتقرير مصيرها. من كان، في تلك الفترة، لاسيما من بين المسؤولين بل وحتى على مستوى الرأي العام الوطني، لا يستطيع أن يظن أن الأمور لم تكن إلا صورية من هذا الجانب وأن واقع السلطة وقراراتها كان على مستوى آخر، أي بالضبط على ذات المستوى الذي كان الجنرال تواتي ينشط فيه ؟ ثم إن الجنرال تواتي لم يكن أبدا يخفي الدور الذي كان له على مستوى قيادة سياستنا الوطنية. أكثر من ذلك، لم يفته التبجح بمثل هذا الدور أمام “زبائنه” ومداحيه، لاسيما أمام الملاحظين الخارجيين. أما في ما يخص إقالتي، الكثير من دوائرنا العاصمية لم يفتها الإيحاء أنها كانت صدى لما كان الجنرال تواتي يقوله مدعيا الدور الذي قام به في إقالة حكومتي. هذا، وأعتقد أننا لسنا في حاجة إلى العودة إلى تلك الأصداء التي انتشرت عقب رحيل حكومتي لمعرفة الدور الذي قام به الجنرال تواتي في تلك الفترة من حياتنا السياسية الوطنية. إننا لنستشف هذا الدور من خلال ما قاله الرجل ذاته في الحوار المذكور الذي خص به يومية El Watan.

ب. لعلنا نتذكر ذلك السخط الذي أبدته بعض صحفنا بعدما أشرت، أثناء عرض ألقيته ببلدية مدينة الجزائر، إلى أن قبولي بمسؤولية قيادة الحكومة كان التزاما إزاء جيشنا. وقد كانت هناك محاولات سعت لتقديم تصريحي كضربة ضد الرئيس علي كافي بحجة أنه كان نكرانا علنيا لدور المجلس الأعلى للدولة ورئيسه. علما أنني، في تدخل سابق أمام إطارات الدولة المجتمعين بنادي الصنوبر في شهر فيفري 1993، قلت كلاما أكدت فيه أكثر دور الجيش الوطني الشعبي في تدبير شؤون البلاد وفي وجود حكومتي. عندما قلت ذلك الكلام، لم أكن قط أفكر أنني كنت بصدد إفشاء أسرار دولة أو المساس بصلاحيات المجلس الأعلى للدولة لأن الجميع كان يعلم أن هذا المجلس قد تحول، منذ رحيل الرئيس بوضياف، إلى مجرد غرفة تسجيل وجهاز للصدور الرسمي لقرارات متخذة في مكان آخر. ثم إن الرئيس على كافي ذاته قال لي، في العديد من لقاءاتنا، أنه وأنا لم نكن إلا “خضرة فوق عشا”، كما نقول عندنا، من ناحية حيازة السلطة الفعلية وممارستها وأنه، مثلي، نعمل من أجل مساعدة الجيش الوطني الشعبي في أداء المهمة الثقيلة التي أخذها على عاتقه من أجل خلاص الدولة وتقويم أوضاع البلد. كل ذلك للدلالة على أنه لم يكن هناك طائل من وراء مواصلة الادعاء، مثلما فعل الجنرال تواتي في حواره الصحفي المذكور، أن المجلس الأعلى للدولة هو الذي كان يحكم على نشاط الحكومة وهو الذي انهي مهامي على رأس هذه الحكومة.

ج. أما في ما يتعلق بما أكون قد ارتكبته من أخطاء، فأنا لا أنكرها أبدا عندما تتبين لي لأنني أعتبر أنه من الممكن الاعتزاز بهذه الأخطاء مثلما أعتز بنجاحاتي. إن كلا من الأخطاء والنجاحات نتاج حياتي في خدمة بلدي. إلا أن اعتراف المرء بأخطائه لا يعني تنكره لقناعاته في سبيل تبني قناعات الآخرين، أي الخصوم ممن حاربهم أو اختلف معهم في المواقف بشأن كيفية تصور حياتنا الاجتماعية، تنمية اقتصادنا الوطني وبناء صرح أجهزة دولتنا ومؤسساتها. إن من يطلبون مني، مثل الجنرال تواتي، الاعتراف بما يعتبرونه أخطاء عندي ويلومونني على عدم الاكتراث بمطالبهم الملحة هم، ببساطة، من لم ترقهم الخيارات المعتمدة من طرف بلدنا قبلما تسمح لهم المآسي التي ألمت بالجزائر بالوصول إلى الاستحواذ على السلطة. في بعض الأحيان، يتعلق الأمر بعناصر لم تستطع أن تقبل قيام ثورتنا بنصرة أفكار غير أفكارهم. هذه العناصر لا تخفي إرادتها في الثأر لنفسها على ثورتنا تحت غطاء محاربة التخريب والجرائم المرتكبة باسم تصور معين للإسلام. فلو قيلت لي الأخطاء التي ارتكبتها في نشاطي الحكومي لما وجدت في ذلك أي حرج عندما توجد، ومنها ما هو موجود حقا. أما في ما يتعلق بالمجال الأيديولوجي والأفكار الجوهرية، فقد اندرج نشاطي في إطار الخيارات المذهبية والتوجهات التي كانت، أولا توجهات الحزب الذي انتميت إليه منذ شبابي المبكر إلى غاية أول نوفمبر 1954، ثم الخيارات والتوجهات المعتمدة من طرف جبهة التحرير الوطني منذ اندلاع ثورتنا. إن من يطلب مني، مثل الجنرال تواتي، “التطور” و”التكيف” مع العالم الجديد هم، ببساطة، نفسهم ممن يحملون لثورتنا ضغينة دفينة لأن هذه الثورة كانت كما كانت. أضف إلى ذلك أنني أشعر بالغبطة لـ “عدم إقراري بأخطائي مع الزمن” كما قال الجنرال تواتي في الحوار المذكور الذي خص به جريدة El Watan.

الاستمرار في الدفاع عن خيارات في ما يخص الرقي الاجتماعي والأولوية التي ينبغي أن يكتسيها هذا الرقي في فائدة الطبقات المحرومة حتى عندما نسجل قصورا، بل وسقوطا تاما، في أجهزة السلطة، لا يعني رفض المرء الاعتراف بأخطائه وإنما البقاء وفيا لنفسه أمينا تجاه التزاماته الأساسية في حياته والتعفف عن ذلك الرضا الزائف الناجم عن نهج الانتهازية. ومهما ظن الجنرال تواتي وأتباعه، فهؤلاء لم يستطيعوا اجتثاث القيم الوطنية من روح شعبنا وحمل جماهيرنا الشعبية على نسيان تلك التوجهات الثورية التي أثارت حماستها وأسندت آمالها. صحيح، بالنسبة إلى الجنرال تواتي، عبارة “الجماهير الشعبية” هي ضرب من الشتم أو هي على الأقل، كما قال رجل سياسة فرنسي، “كلمة بذيئة”. فالكلام عنها هو عناد في الخطأ كما جاء في كلام الجنرال تواتي.

الجنرال نزار، مثله مثل الجنرال تواتي، ضابط سام سابق في الجيش الفرنسي إلا أنه التحق بصفوف جيش التحرير الوطني قبل هذا الأخير بكثير. وكما يقول هو نفسه، لم يناضل في صفوف الحركة الوطنية قبل أول نوفمبر 1954، إلا أن تصرفه – عكس تصرف الجنرال تواتي الذي نستشف لديه أطروحات الاندماجية الجديدة المنبثقة من مذاهب لم تعترف، في السابق، بوجود أمتنا ذاته – نشعر فيه علامات الانتماء إلى هذه الأرض وانعكاسا لتلك الخصوصيات العميقة التي تحدد هوية شعبنا. لذلك نجد الجنرال خالد نزار، في مذكراته الصادرة سنة 1999 عن دار الشهاب، يتفهم ، بصورة طبيعية، كيف أن مواقفي لم يكن لها معنى التمادي في الخطأ وإنما كانت، بكل بساطة، تعبيرا عن تعلق مخلص لتلك الأفكار التي تبنيتها منذ شبابي المبكر. يقول : “أما في ما يخص بلعيد عبد السلام، ومهما قيل عن أفكاره، هو رجل مبادئ، يدافع دائما عن أفكاره بقناعة كبيرة، وهو وطني تام لا يمكن لأحد أن يشك في وطنيته. إني لأحيي، بهذه المناسبة، شجاعته ونضاله” (ص. 214).

-8-

مذكرات بلعيد عبد السلام: عن اقتصاد الحرب وإعادة الجدولة
تاريخ المقال 25/07/2007
“لا تحق له المطالبة باقتصاد حرب أو تطبيقها مثلما أوحى بذلك في فترة ما. من باب التذكير فقط، أشير إلى أننا كنا نعيش التقشف منذ 1987 إثر انهيار أسعار البترول سنة 1986. الرهان الذي راهن عليه السيد عبد السلام في البرنامج المعروض على المجلس الاستشاري الوطني تمثل في سعر قُدِّر بـ 22 دولار للبرميل ! في حين لم يلبث هذا السعر أن انهار إلى مستوى 14 دولار.

وتبعا لذلك، بلغت خدمة مديونيتنا الخارجية نحو 80% من قيمة العائدات النفطية، فكانت وضعية استحال على البلاد أن تواصل تحملها”. من خلال هذا الكلام وحده، الوارد على لسان الجنرال تواتي، نستشف، مرة أخرى، أن صاحبه كان فعلا يتدخل في عمل الحكومة. لا أعارضه في هذا الدور أبدا خصوصا بوصفه مستشارا لوزير الدفاع الذي كان، على الأقل من الناحية النظرية، عضوا في حكومتي إضافة إلى عضويته في المجلس الأعلى للدولة. ما أعارضه فيه، فعلا، هو تلك الأفكار التي مفادها أنه من خلال ممارسة صلاحياته كمستشار لعضو مهم في الهيئات القيادية للدولة حاول، عن طريق حجج واهية في بعض الأحيان وباستعماله، في أحيان أخرى، لأخبار غير صحيحة بُثت بهدف تغليط بعض المسؤولين لتحقيق غايات معينة. كما أندد بلجوئه، كسبا للتأييد الذي كان في حاجة إليه لإنجاح مكائده، إلى صيغ كانت تتجاهل المصالح المؤهلة في الدولة علما أن هذه المصالح هي وحدها المخولة نشر معطيات ومعلومات موثوقة لأنها حقيقية وواضحة ومناقضة أيضا كلما دعت الضرورة إلى ذلك.

أ‌. في الخطة المتعددة السنوات المعدة للخروج من الأزمة والتي قدمتها حكومتي ونالت موافقة مجلس الوزراء برئاسة رئيس المجلس الأعلى للدولة ونشرت بالجريدة الرسمية للجمهورية، لم يتعلق الأمر بقيامي بتطبيق صارم لما عرف باقتصاد الحرب الذي كان من شأنه فرض تدابير قاسية في مجال توفير المواد ذات الاستهلاك الشعبي الواسع وبعض المواد المخصصة لسير بعض النشاطات الاقتصادية لسبب بسيط هو أن وضع اقتصادنا، آنذاك، لم يفرض علينا اللجوء إلى مثل هذه التدابير. ومهما كانت صعوبة هذه الوضعية، فإنها لم تكن خطيرة إلى ذلك الحد الذي أوحى به من كانوا، على غرار الجنرال تواتي، يسعون بجد من أجل اللجوء إلى صندوق النقد الدولي وفرض إصلاحات قاسية على بلدنا كما كانت تتمنى بعض مجموعات المصالح التي لم تجرؤ آنذاك على البوح صراحة بمطالبها ذات الطابع المضاد، بكل قوة، للوطن وللمجتمع. لكن أود التذكير هنا بما سبقت الإشارة إليه في هذا النص أن خطة عمل الحكومة المعلن للجمهور بعد الموافقة عليه من طرف المجلس الأعلى للدولة تضمن صراحة ما يلي :

“…اعتماد سياسة تقشف صارمة بهدف التخفيض، بصورة جذرية، من اللجوء إلى الاستيراد يفرض نفسه كضرورة باتة من أجل نجاح التقويم الاقتصادي. وفرة الموارد بالدينار لن تكون، من الآن فصاعدا، مقياسا أساسيا في الحصول على مبالغ بالعملة الصعبة”. كما تمت الإشارة إلى أنه عند الحاجة، “ستكون الحكومة مطالبة بقبول مزيد من التقشف من أجل الحد من وارداتنا إلى مستوى ما هو ضروري بالنسبة إلى حياة البلد”. العبارات المستعملة في هذا النص لم تكن من ذلك النوع الذي لا يتردد بعض القادة في اللجوء إليه لتخويف المواطنين وإنما كانت عبارات توحي بتطبيق إجراءات تقشفية أكثر صرامة وأقرب منها إلى اقتصاد حرب باعتماد تدابير في اتجاه تقنين الاستهلاك الشعبي. أؤكد، مرة أخرى، أن الأولية المحددة من طرف حكومتي في مجال الاستيراد كُرِّست للاحتياجات الأساسية والحيوية للسكان على أن تسجل الكماليات في أسفل القائمة، أي ما كان يطالب به من وقفوا ضد حكومتي.

ب‌. يصرح الجنرال تواتي، في حواره الصحفي المذكور، أنني في برنامجي المعروض على المجلس الاستشاري الوطني “عولت على سعر 22 دولار للبرميل وأن هذا السعر تقهقر إلى مستوى 14 دولار؛ مما نجم عنه بلوغ خدمة مديونيتنا مستوى يقارب 80 % من عائداتنا النفطية”. البرنامج الذي يتحدث عنه الجنرال تواتي تضمنه مرسوم تشريعي، أي، في السياق السياسي لتلك الفترة، نصا يرقى إلى مستوى القانون. وقد أمضاه الرئيس علي كافي وصدر بالجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، العدد 26 المؤرخ في 26 أفريل 1993. التوقعات المتصلة بسعر البترول صيغت في هذا النص كالآتي : “نظرا إلى توقعات سعر البترول عند التصدير، أي ما بين 20 و 21 دولار للبرميل في 1993-1994 وما بين22 و23 دولار في 1996-1997 وإلى حجم الصادرات المعتمد، من المتوقع أن تبلغ عائدات صادراتنا من المحروقات مستوى 11 مليار دولار ما بين 1993-1994، مواصلة ارتفاعها لتبلغ مستوى 15 دولار في سنة 1997″.

التوقعات في ما يخص الأسعار شفعت بالملاحظة الآتية :
“الأسعار المذكورة أعلاه هي أسعار البترول الجزائري ويمكن أن تبدو مرتفعة بعض الشيء بالنسبة إلى سنة 1993 لو اعتمدنا على مؤشرات السوق خلال شهر ديسمبر 1992. غير أن هذه السوق تبقى غير مستقرة والأسعار متقلبة. أما على المدى المتوسط، فيمكن أن تبدو معقولة نسبيا. شكل الصادرات المعتمد في هذه التوقعات انطلاقا من المعطيات المقدمة من طرف وزارة الطاقة يبين انخفاضا في الحجم لسنة 1994 استطاع ارتفاع الأسعار أن يعوضه  أي الانخفاض بعض الشيء”. (الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، العدد 26 المؤرخ في 26 أفريل 1993، ص. 14). وفي نفس الصفحة من الجريدة الرسمية، تمت الإشارة أيضا إلى التوقعات الآتية في ما يخص صادراتنا من المحروقات : “أضف إلى ذلك، برنامج تطوير الصادرات من المحروقات الذي شرع في تطبيقه لا تبدأ آثاره تظهر على مستوى العائدات إلا مع نهاية 1995، بعد تشغيل الأنبوب الثاني للغاز في اتجاه إيطاليا وإصلاح وحدات الغاز الطبيعي المميع بالإضافة إلى فتح أنبوب الغاز للغرب وانطلاق وحدة Jumbo G.P.L.”. التذكير بهذه التوقعات في وثيقة رسمية يبين، أولا وقبل كل شيء، أن الخطة المتعددة السنوات التي قدمتها لم تكن أبدا تحمل صفة التحايل من طرف تاجر للأوهام. الأرقام المعتمدة هي أرقام صادرة عن المصالح المكلفة بالتدخل على مستوى سوق البترول ومتابعة تطوره. من السهل العثور على وثائق تبين كيف أن خبراء العالم بأسره كانوا، في تلك الفترة، يعيشون حالة من الشك في ما يخص تقلبات أسعار البترول يوما بعد يوم. غير أنه، على المدى الأبعد، كان جميع هؤلاء الخبراء تقريبا متفقين على اعتبار أن هذه الأسعار كانت متجهة نحو الارتفاع. وكما سنرى في ما بعد، أخذت أسعار البترول في الارتفاع منذ أوائل شهر أفريل 1994، أي نفس الشهر الذي استطاع فيه الجنرال تواتي أن يحقق ما أراد بفضل الحكومة التي خلفت حكومتي التي صدقت “توقعاته هو” : التوقيع على اتفاق إعادة الجدولة مع صندوق النقد الدولي. هذا، وقد ظلت الأسعار مواصلة ارتفاعها إلى أن بلغت المستوى الذي تعرفه اليوم بعدما سجلت انخفاضا عابرا في 1997-1998. على المديين المتوسط والبعيد، التوقعات التي تبنتها حكومتي كانت، إذاً، أبعد مما تكون خيالية كما يريد الجنرال تواتي أن يروج له في حواره الصحفي السابق الذكر.

إضافة إلى ما تقدم، الشكوك التي كانت تحوم حول سعر البترول سنة 1993، لم يقع أبدا إخفاؤها في الخطة المتعددة السنوات المعتمدة من طرف حكومتي. ثم إن التوقعات المعلنة من طرف هذه الحكومة كان عليها ألا تكتف، ولم تكتف فعلا، بالاستناد إلى المعطيات المتصلة بأسعار المحروقات في تقويم عائداتنا النفطية وإنما أخذت في الحسبان تطور حجم صادراتنا أيضا. كي نستطيع، اليوم، أي بعد وقوع ما وقع، الحكم على مدى صدق التوقعات في مجال العائدات من العملة الصعبة المتأتية للجزائر، ينبغي الأخذ في الحسبان جميع المؤشرات المذكورة في الخطة المتعددة السنوات. من هذه الناحية، يمكننا أن نلاحظ بسهولة أن النتائج المسجلة فعلا أثناء السنوات التي شملتها هذه الخطة لم تحِد كثيرا عن التوقعات المعتمدة في البداية. وهذا هو الأهم لأن الجميع يعرف أن التوقع في مجال الاقتصاد هو أبعد ما يكون علما دقيقا. أما ماعدا ذلك، فيبقى دائما خاضعا لتقلبات الحياة الاقتصادية وأن هذه التقلبات كما قُدّرت آنذاك وكما تجسدت من بعد فعلا تبين اليوم أنه لم يكن هناك داع إلى التخوف أكثر من اللزوم في ماي 1993 وزرع تلك البلبلة التي أفضت بالجزائر إلى الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي فرضت على سكاننا إفقارا لا رحمة فيه. أضف إلى ذلك، ومثلما سبق ذكره بالنسبة إلى سنة 1993 على أية حال، عندما أقيلت حكومتي، كانت الجزائر تتوفر، علاوة على عائداتها من الصادرات، على أدوات حقيقية ومتينة كانت تسمح لها بالتجاوز، إيجابيا، لمزيد من الصعوبات في تسيير ميزان مدفوعاتها الخارجية.

ختاما، ليس من نافلة القول الإشارة إلى تلك الطريقة التي استعملها الجنرال تواتي في البرهنة على ما كان يدعيه من خلال تصريحاته ليومية El Watan حيث اختار، عمدا، رقما مرتفعا من التوقعات المتضمنة في خطة حكومتي المتعددة السنوات لعام 1993 ورقما آخر يوافق أدنى مستوى بلغه انخفاض أسعار البترول خلال السنوات الأولى من التسعينيات بهدف حمل القارئ أو السامع على تقدير الفرق الشاسع ما بين الواقع والتوقعات التي جاءت بها الخطة المذكورة. لا يمكننا أن نتخيل برهنة أخرى أشد على سوء نية الجنرال تواتي إزائي من مدى تصديق كل من كان مستعدا لتصديقه، لاسيما على مستوى الجيش الوطني الشعبي. إن الكثير من إطارات هذا الجيش الوطني الشعبي، لاسيما من بين الرتب العليا، ظنوا أن الجزائر كانت على حافة العجز عن التسديد في علاقاتها بالخارج عندما أقيلت حكومتي. غير أن واقع الحال كان يدل أن الجزائر، في شهر أوت 1993، لم تكن فقط ملتزمة بواجباتها المترتبة على المديونية وإنما كانت أيضا بصدد استعادة معتبرة لمصداقيتها لدى الأوساط الاقتصادية الأجنبية والمؤسسات المالية الدولية. الحقيقة كما تبدو من مختلف العناصر المتضمنة في نص البرنامج تشير إلى أن من كان، على غرار الجنرال تواتي، يظن، خلال السداسي الأول من سنة 1993، أن السياسة الاقتصادية لحكومتي كانت تمدهم بالحجة المبينة لفشل محاولة التقويم الوطني التي تعهدت القيام بها عندما قبلت ترؤس الحكومة كان هدفهم من استخلاص هذا الفشل الادعاء في ما بعد عدم وجود حل آخر غير اللجوء إلى صندوق النقد الدولي والرضا الاضطراري المزعوم بتطبيق الإصلاحات التي كان يطالب بها هذا الصندوق مقابل إسهامه في تخفيف عبء مديونيتنا الخارجية. تلك الإصلاحات جاءت متفقة تماما وأطماع بعض مجموعات المصالح ومن كانوا يؤيدونهم على مستوى أجهزة السلطة والإدارة، بل ومؤسساتنا الاقتصادية الوطنية. بيد أن غياب الشجاعة السياسية لدى هؤلاء للتعبير علانية عما كانوا يريدونه على الصعيد الاقتصادي جعلهم يلجأون إلى تدبير الحيل بهدف الاستفادة من الإصلاحات المذكورة بفضل العواقب المترتبة على الشروط المفروضة من طرف صندوق النقد الدولي. وبعبارة أخرى، سعي هؤلاء لإرضاء جشعهم بفضل الأرباح المغرية، لاسيما من خلال ممارسات أنشطة “الاستيراد-التصدير” – المقتصرة، في الحقيقة، على الاستيراد وحده – جعلهم لا يترددون في الزج بالبلد نحو تجويع سكاننا، الحط من مصداقية دولتنا في نظر الخارج والقضاء على إشعاع ثورتنا. الجميع يعرف، اليوم، أن إعادة جدولة مديونيتنا الخارجية لم تمنح الجزائر تلك الأموال التي كان من شأنها، في نظر دعاة هذا التدبير، أن تؤدي إلى انطلاقة اقتصادنا وتقليص لما نعانيه من بطالة. لكن من ناحية أخرى، الأموال التي أسهم بها صندوق النقد الدولي قد وفرت موارد ضخمة في فائدة مضاربي “الاستيراد-التصدير”. لعل هؤلاء ممن لم ينقطعوا عن الهتاف، في صفحات جرائدنا الحرة والمستقلة المزعومة، بـ “اقتصاد السوق” قد وجدوا بفضل إعادة الجدولة هذه ما يهدئ من حماستهم في خدمة هذا النمط من الاقتصاد.

-9-

مذكرات بلعيد عبد السلام: التمهيد لإقالة الحكومة (9)
تاريخ المقال 27/07/2007
ج. حقيقة، منذ انهيار أسعار البترول سنة 1986، فُرض نوع من التقشف على وارداتنا. في هذا الصدد، من المفيد التنبيه إلى صمت الجنرال تواتي، ربما بصورة ليست غير مقصودة أو بريئة، عن كون الجزائر سجلت في تلك الفترة التي شهدت هذا الانهيار خسارة معتبرة في عائداتها النفطية من العملة الصعبة جراء قرارات اتخذت، في أوائل الثمانينيات، من أجل إلغاء عقود بيع الغاز المميع للولايات المتحدة الأمريكية بحكم العملية المعروفة بـ “El Paso” ولجمهورية ألمانيا الفدرالية بالاشتراك مع هولندا من ناحية، ومن ناحية ثانية، من أجل التوقف عن تطوير إنتاجنا من البترول بحجة ترك قسم من ثرواتنا من المحروقات للأجيال القادمة.

في ما يخص فقط العقدين المتعلقين ببيع الغاز المميع للولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية ألمانيا الاتحادية، بلغت خسارة الجزائر، في نهاية الثمانينيات، وبصرف النظر عن انهيار أسعار البترول آنذاك، ملياري دولار أمريكي في السنة. هذه الخسارة كانت هي السبب الحقيقي في الأزمة المالية التي استعملت كذريعة للجوء إلى صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على إعادة جدولة مديونيتنا الخارجية ومن ثمة إلى استغلال الشروط المفروضة من طرف هذه المؤسسة المالية الدولية في تفكيك النظام الاقتصادي الوطني كله الذي شيدته الجزائر بعد استعادة استقلالها. على أية حال، مثل هذا التذكير كاف بمفرده لإدراك كيف أن عملية تدمير ما حققته ثورتنا من منجزات منذ استقلال البلاد لا تعود إلى تلك الفترة التي تمكن فيها الجنرال تواتي من القدرة على التأثير في القرارات المتخذة من طرف هيئاتنا القيادية. فلم يكن الجنرال تواتي، إذاً، إلا المواصل لهذه العملية و، من دون شك، المدبر أو أحد المدبرين للوصول بها إلى نهايتها. التقشف المطبق منذ 1987، كما يقول الجنرال تواتي، لم يضع حدا لتبديد مخزوننا من الصرف. لهذا السبب، تضمن برنامج عمل حكومتي فرض تقشف أكثر صرامة على وارداتنا، بل وأكثر مناسبة بالنظر إلى الاحتياجات الحيوية لاقتصادنا وحماية مخزوننا من العملة الصعبة من أجل مواجهة خدمة مديونيتنا الخارجية من دون المساس بسيادتنا على المستوى الاقتصادي. هذا ما نستطيع قراءته من خلال التدابير الآتية : “لا يمكن، بحجة التماشي مع قواعد اقتصاد السوق، ترك الحرية لمسيري المؤسسات العمومية أو الخاصة ولوكلاء البنوك في التصرف في مديونية الدولة من خلال اللجوء، بحسب إرادتهم وحدها، إلى القروض الخارجية المضمونة من طرف الجزائر، ولا صلاحية الحكم على فائدة استعمال احتياطات البلد من العملة الصعبة التي يمكن أن تُخصَّص لامتصاص مديونيتنا في المقام الأول”.

تطبيق هذا التدبير هو الذي أدى إلى إنشاء لجنة خاصة على مستواي لمراقبة جميع عقود الاستيراد المتجاوزة لقيمة معينة. هل أنا في حاجة إلى التذكير، هنا، أن إقامة هذه اللجنة ومباشرة أعمالها خاصة هو الذي أدى بمجموعات المصالح إلى التكالب علي في زمن كان أفرادها متلهفين على التمتع بمنافع عمليات “الاستيراد-التصدير” عبر المضاربة على وارداتنا. هذا التكالب اكتسى صيغا عديدة، ابتداء من حملة الحقد التي انطلقت ضد سياسة “الرحمة” التي طرحتُ فكرتها في شهر فيفري 1993 بنادي الصنوبر إلى محاولات شل اقتصادنا الوطني عن طريق مبادرات إثارة مختلف الإضرابات بتواطؤ من بعض العناصر اليسارية التي أضحت من المدافعين الأشداء على اقتصاد السوق. من كانوا، على مستوى أجهزة السلطة، المدبرين الحقيقيين لهذا التكالب وما تبعه من تحامل علي، لم تكن لهم، في نهاية الأمر، حجة أخرى للوصول إلى ما كانوا يريدون غير التبجح بحجة فشل حكومتي في المجال الاقتصادي من أجل التخلص مني ولي الرقبة لسياسة التقويم الوطني التي كان خطؤها الوحيد زعزعة مصالح المجموعات التي استطاعت، هكذا، أن تجد أمامها الباب مفتوحا على مصراعيه من أجل استنزاف الاقتصاد الوطني كما طاب لها.

10. “في ما يتعلق بانتهاء مهامه على رأس الحكومة، لدي رواية أخرى أقدمها. منذ أيام فقط، طلبت من الجنرال خالد نزار تذكيري بظروف إقالة السيد عبد السلام. القرار المتخذ بشأن إنهاء مهامه تم في أواخر شهر جوان أو أوائل شهر جويلية عندما أكد للمجلس الأعلى للدولة أنه كان بحوزته ما قيمته 600 مليون دولار ظن أنه كان قادرا على مواجهة المديونية به وربما حتى النفقات غير القابلة للتقليص. غير أن المستشار الاقتصادي للرئاسة قدم للمجلس الأعلى توضيحا في غاية الأهمية : مبلغ 600 مليون دولار المذكور كان معظمه متكونا من ودائع خاصة (dépôts privés). وقد أخطأ السيد عبد السلام عندما نسب إلي هذه المعلومة. ما وقع هو أنه انطلاقا من هذه المعلومة، دعا رئيس المجلس الأعلى للدولة والجنرال خالد نزار السيد عبد السلام من أجل مناقشة المسألة فما كان لهذا الأخير إلا الاعتذار بحجة أنه لم يكن خبيرا في مجال الاقتصاد. ولعله يكون قد وافق على اقتراح خالد نزار بتعيين وزير للاقتصاد. لكن، في اليوم الموالي، تراجع عن موقفه بحجة أن مثل هذا التعيين كان من شأنه اكتساء دلالة سياسية. وانطلاقا من الاعتبارين الآتيين :
أولا، المعطيات التي قدمها المستشار الاقتصادي لرئاسة المجلس الأعلى للدولة، ألا وهو السيد بوزيدي ؛
ثانيا، رفض السيد عبد السلام تعيين وزير للاقتصاد.

اقترح الجنرال خالد نزار على السيد علي كافي، رئيس المجلس الأعلى للدولة، عدم التعويل على رهان السيد عبد السلام في ما يخص تجنيبنا اللجوء إلى إعادة جدولة مديونيتنا الخارجية”. عند قراءة هذه السطور من تصريحات الجنرال تواتي في الحوار الذي خص به يومية El Watan الصادرة يوم 27 سبتمبر 2001، يصيبني الذهول وفي نفس الوقت الحزن وأنا أرى مثل هذا الكلام يصدر عن شخص يريد أو يراد له أن يظهر بمظهر “المخ” بالنسبة إلى جيشنا الوطني الشعبي. لا يمكننا أن نتصور وقاحة أكبر في الإقدام على مثل هذه الأكاذيب وهذه التشويهات للحقيقة وهذه التصريحات التي لا تأتي إلا من باب الغباوة. ينبغي ألا ننسى أن الأمر متعلق برجل كان واحدا من أقرب المستشارين للجنرال خالد نزار الذي تقلد زمام الأمور في أصعب فترة من تاريخنا منذ استقلال البلاد. كما يتعلق بشخص كان يظهر بمظهر مصدر الأخبار والمعطيات الاقتصادية الموجهة لإطارات الجيش الوطني الشعبي، لاسيما الجنرالات، من أجل تكوين رأي حول مسيرة البلد الذي كان مصيره مرهونا بهذا الرأي بالذات لفترة طويلة، وإلى غاية اليوم من دون شك، على الرغم من التقدم الحاصل في مجال تطبيع حياتنا السياسية الوطنية بعد تلك العواقب التي خلفتها الأحداث المتتابعة منذ تلك القرارات التي اتخذت في جانفي 1992.

إن من شارك في مناقشات اللجنة التي شُكّلت في الفصل الأخير من سنة 1993، من أجل النظر في التدابير الواجب اتخاذها في البلد على المستوى السياسي والمؤسساتي عند انتهاء عهدة الرئيس الشادلي في أواخر 1993 بعد مواصلتها من طرف المجلس الأعلى للدولة بعد إنشائه في جانفي 1992، يتذكرون أنه كلما كانت تطرح مسألة جوهرية في هذه المناقشات كانت أنظار كل الحاضرين متجهة، بصورة آلية وتلقائية، صوب رأس الجنرال تواتي الذي كان، بوصفه ممثلا لوزارة الدفاع الوطني، نوعا من وسيط الوحي الذي كان الجميع ينتظر ما يتفوه به من كلمات طيبة أو، بالأحرى، كلمات حاسمة. ذلك هو الرجل الذي لا يتردد، في تصريح عمومي، في الإدلاء بأكاذيب – كي لا نذهب إلى أبعد من ذلك – أكاذيب تكشف مدى جدية وقيمة الطريقة التي عوملت بها إدارة شؤون أمتنا في مرحلة حرجة من التطور السياسي للجزائر المستقلة، ثمرة ثورة أول نوفمبر 1954.

وأخيرا، ذلك هو الرجل الذي كان من المفروض أن ينتظر منه الآلاف من الجنود والضباط – ممن كانوا يبذلون النفس والنفيس في مواجهة قوى التدمير والإرهاب أثناء السنوات الأخيرة – إفادتهم بالمعلومات والتوضيحات المبررة لتضحياتهم في خدمة الدفاع عن الجمهورية، تلك الجمهورية التي أراد الجنرال تواتي أن يكون رايتها بامتياز. الفقرات التي تنتشر فيها هذه الأكاذيب والتشويهات على حساب واقع الأحداث تتطلب، للأسف، إفاضة طويلة من أجل تنوير الرأي العام وتمكينه من فهم الحيثيات التي وقع حجبها عنه في ما يخص تطور الأحداث التي طبعت تلك المسيرة المفصية إلى إقالة حكومتي واللجوء إلى إعادة جدولة مديونيتنا الخارجية مع كل ما ترتب على هذا اللجوء من عواقب يعرفها الجميع. نجد الجنرال تواتي يتظاهر باللجوء إلى ذاكرة الجنرال خالد نزار في ما يخص الظروف التي تم فيها، كما قال، إنهاء مهامي كرئيس حكومة. لا أحد يستطيع أن يصدق مثل هذا الزعم عندما يعلم ذلك الاندفاع الذي أبداه الجنرال تواتي في الظهور بمظهر الفاعلين الأكثر دراية وحظوة في تدبير شؤون البلد. ثم إنني، وبعد إقالة حكومتي، لا أظن أنني سأفاجئ الكثير من الناس إن ذكرتهم بما ادعاه لنفسه من دور في هذه الإقالة.

-10-

مذكرات بلعيد عبد السلام: جدل حول المديونية الخارجية
تاريخ المقال 28/07/2007
في الحقيقة، لقد جرت الأمور بالطريقة الآتية : في المرحلة الأخيرة من عمر حكومتي، بدأ كل شيء، بالنسبة إلي، يوم الاثنين 3 ماي 1993. في هذا اليوم، وكما أشرت إلى ذلك أعلاه، مثل سائر أيام الاثنين غداة الاجتماع الأسبوعي للمجلس الأعلى للدولة المقرر لكل أحد، كان لي موعد مع الرئيس علي كافي. وكان رضا مالك، كما أشرت، قد أخبرني بحضور الجنرال خالد نزار في هذا اللقاء في حين جرت العادة أن يستقبلني الرئيس بمفرده.

كما أخبرني أن الرئيس على كافي، مثله مثل الجنرال خالد نزار لم يرقهما البلاغ المقتضب الذي كنت قد أذعته لإعلان إجراءات وتدابير مختلفة عقب كشف الصحافة الإيطالية والدولية عن وجود عمولات مهمة دفعت في عملية إبرام عقد بيع الغاز الطبيعي لإيطاليا. تصرفي بهذا الشكل جعلني أُتهم بوضع المجلس الأعلى للدولة أمام الأمر الواقع على أساس أنه كان من واجبي إخطار هذا الأخير، أولا، قبل إذاعة بلاغي المتعلق بردود فعل حكومتي للفضيحة المذكورة التي لطخت سمعة الجزائر أمام العالم بأسره. لذلك، أشار إلي رضا ملك بتوقع توبيخ في هذا الشأن. يوم الاثنين 3 ماي 1993، كنت بمكتب الرئيس علي كافي الذي كان مصحوبا، فعلا، بالجنرال خالج نزار. لم نتحدث كثيرا عن قضية أنبوب الغاز الطبيعي الجزائري الإيطالي. لكن، أثناء حديثنا، وبطلب من الجنرال خالد نزار، تعرضت للخطوط العريضة في السياسة الاقتصادية لحكومتي. وفي نهاية العرض، خاطبني هذا الأخير بنوع من الإلحاح قائلا : “ينبغي أن تعرض، في التلفزيون، ما قلته لنا منذ حين. ينبغي على الشعب أن يعرفه”. وقد أجبته أنني كنت أفكر في مثل ذلك التدخل، لكن بما أن الأمر تعلق في هذه المرة بمسألة حيوية أردت، أولا وقبل كل شيء، أن أطلب من مصالحي المؤهلة تحرير وثيقة لنشرها كسند لتصريحاتي مع ذكر كافة الأرقام والمعطيات التي تقوم عليها كل من إشكالية مديونيتنا الخارجية والتدابير المتبعة من طرف حكومتي من أجل الخروج من الأزمة التي تسببت فيها هذه المديونية. لقد لمست بعض التعاطف لدى الجنرال خالد نزار كي لا أقول تأييدا لسياستي كما أحسست أن إلحاحه علي بالتدخل في التلفزيون كما لو كان يشعر بنوع من الإزعاج جراء بعض التدخلات التي أعطته صورة متعارضة مع عمل حكومتي في هذا المجال. لقد كان من الواضح أن البعض، من بينهم ربما الجنرال تواتي، قد بدأوا محاولات التأثير عليه من أجل حمله على جعلي أغير سياستي أو يقدم على وضع حد لمهامي على رأس الحكومة. لقد تزامنت هذه الفترة بقيام الصحافة الخاصة، “الحرة والمستقلة” المزعومة، بالإجهاز بكل قوة على شخصي وعلى تلك السياسة التي كنت أنتهجها في المجال الاقتصادي. كلنا نعرف العلاقات الوثيقة بين هذه الصحافة والجنرال تواتي وأظن ألا أحد نسي تلك الهستيريا التي شنت بها هذه الصحافة حملتها على حكومتي معلنة، في كل مرة، أن المجلس الأعلى للدولة كان على وشك استدعائي ومطالبتي بتغيير سياستي.

ج. في أواخر شهر جوان 1993، الوثيقة التي كنت طلبتها حول عرض السياسة الاقتصادية للحكومة كانت جاهزة بعدما تطلب إعدادها أكثر من شهرين لأن، أولا، نصها كان طويلا نسبيا وثانيا لأنه كان من اللازم أن تُحرر بلغة تجعلها مفهومة من طرف أكبر عدد من الناس. وأخيرا، ينبغي قول ذلك، كان علي أو أواجه، حينئذ، مؤامرة حقيقية على مستوى مصالحي، لاسيما على مستوى من كانوا في اتصال مع صندوق النقد الدولي والبنك العالمي. كان يُطلب مني عدم عرقلة المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي بنقل النقاش إلى الساحة العمومية. في الواقع، لم يكن البعض يريدون أن يُكشف، أمام كافة الجزائريين والجزائريات، أمر تلك الشروط الشهيرة التي كانت هذه المؤسسة تطالب بها من أجل التخفيف من وطأة مديونيتنا الخارجية على ميزان مدفوعاتنا. كما اتخذ بعض إطاراتنا من ضرورة عدم إزعاج ممثلي صندوق النقد الدولي ذريعة لمخاوفهم من مغبة ردود أفعال مواطنينا بإعلان تلك التدابير القاسية التي كانوا يهمون بتسليطها على شعبنا.

د. يوم الخمس 24 جوان 1993، استغللت زيارة عمل قادتني إلى ولاية الجزائر للقاء إطاراتها المجتمعين بقاعة المجلس الشعبي البلدي لعاصمتنا، وبحضور ممثلي الصحافة، تناولت بإسهاب التوجهات المعتمدة في السياسة الاقتصادية لحكومتي. وقد ركزت عرضي على أنه كان هناك سبيلان للخروج من الأزمة : السبيل الذي انتهجته حكومتي والسبيل الآخر – الذي لم يكن آنذاك إلا احتمالا من بين الاحتمالات – المترتب على اللجوء إلى صندوق النقد الدولي من أجل إعادة جدولة مديونيتنا الخارجية مع كل ما كان ينجم عنه من عواقب على مستوى معيشة سكاننا، سيادتنا وحرية عملنا على الصعيد الاقتصادي. كما حددت، بصفة خاصة، الإجراءات المزمع اتخاذها في إطار نشاط حكومتي مبينا كذلك، وبطريقة موضوعية قدر الإمكان، حقيقة تلك المساعدات التي يمكن أن نتوقعها من تدخل صندوق النقد الدولي وكذا طبيعة وبعد الشروط التي كانت هذه المؤسسة الدولية تفرضها مقابل مساعدتها للجزائر. كنت، بطبيعة الحال، أقصد من وراء الحاضرين في الاجتماع كافة الجزائريين لاسيما شرائحنا الشعبية التي كان مصيرها عرضة للآثار السلبية لما كان، آنذاك سوى تدخل محتمل لصندوق النقد الدولي. وسعيا مني للتأكد من فهم جميع الجزائريين لما كنت بصدده، حرصت على التعبير بلغة سهلة وسليمة في متناول الجميع بما في ذلك الجماهير العريضة. وبكلمة واحدة، حاولت – بصيغة مبسطة وبكلمات من الحياة اليومية العامة – أن أعمم الفائدة بتناول موضوعات جرت العادة لدى مسؤولينا السياسيين ومصالحنا التقنية وكذا صحافتنا بصفة أخص على تناولها بلغة مبهمة كثيرا ما وجد المختصون أنفسهم صعوبة في فهم فحواها. غالبا ما كان أكثر الناس يجد مشقة في إدراك معنى المفردات، العبارات أو المفاهيم المستعملة في إطلاع رأينا العام الوطني على الخيارات والتوجهات التي من شانها ترك آثار عميقة في الحياة اليومية للسكان.

هذا الحرص على تعميم الفائدة هو الذي جعلني أقول إنني لم أكن خبيرا في الاقتصاد أو أنني لم أكن أكتفي، في الشروح التي كانت مصالحي تفيدني بها، بلغة الاقتصادي. في تصريحه لجريدة El Watan، نجد الجنرال تواتي يستغل العبارة التي استعملتها ، في عرضي أمام إطارات ولاية الجزائر، بطريقة خبيثة سعيا منه للقيام بعملية فيها سوء نية فكرية موصوف إذ قال إنني أجبت رئيس المجلس الأعلى للدولة والجنرال خالد نزار أنني لم أكن خبيرا اقتصاديا، معترفا، هكذا حسب زعمه، بالعجز عن تقديم توضيح بخصوص معطى يكون المستشار الاقتصادي للرئاسة قد كشف عنه للمجلس الأعلى للدولة بهدف التنديد بعدم صحة المعلومة وتوضيحها لهذا الأخير الذي أعلنتها له بوصفه الهيئة العليا في الدولة الجزائرية. هكذا يسعى الجنرال تواتي، بطريقة لا حياء فيها إلى حمل السامع على أنني لم أكن فقط عاجزا وإنما سيئ النية إزاء أعلى هيئة في الدولة.

إن المكر – وليسمحْ لي القارئ استعمال هذه المفردة التي لا أرى لها بديلا في وصف تصرف الجنرال تواتي من خلال الحوار الصحفي المذكور – لا ينتهي عند حد تقديمي على أنني شخص غير مخلص أمام المجلس الأعلى للدولة وإنما يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير حينما ينسب إلي القول أمام هذه الهيئة إنني “ظننت أنني كنت قادرا على مواجهة المديونية وربما حتى على مواجهة النفقات غير القابلة للتقليص” و بـ “مخزون من العملة الصعبة ما قيمته 600 مليون دولار”. أعتقد أنني لست في حاجة هنا إلى تذكير كل متتبع لشؤون الجزائر، أن لا أعضاء المجلس الأعلى للدولة ولا أنا كنا قادرين، في 1993، أن نكون خبراء اقتصاديين. ثم إن من سألني من الحاضرين في الاجتماع بالمجلس الأعلى للدولة المنعقد بتاريخ 18-07-1993 حول المشاكل الاقتصادية، اكتفى بتكرار هذه العبارات : “نعلم أن…يقال إن…هناك أفكار كثيرة…” كما لو كان في حيرة من أمره في ما يتعلق بالطريق الواجب اتّباعه لاسيما في مجال حل المشكل المطروح بسبب مديونيتنا الخارجية. لكن، مهما كان عدم درايتنا، أي أعضاء المجلس الأعلى للدولة وشخصي، بالشأن الاقتصادي، لم يكن من الممكن أن يفوت أحدنا الانتباه إلى سخافة ادعاء القدرة على “مواجهة المديونية وربما أيضا النفقات غير القابلة للتقليص وأن لنا احتياطيا من الصرف بلغ ما قيمته 600 مليون من الدولارات”. لو تفوهت بمثل هذه السخافة، لاستطاع كل عضو في المجلس الأعلى للدولة أن يكون له من العقل ما يعفيه من الشعور بالحاجة إلى الخبرة الاقتصادية أو اللجوء إلى خدمات مستشار اقتصادي على مستوى الرئاسة لإدراك بطلان مثل هذا الادعاء لأن السفهاء وحدهم هم القادرون على اعتبار المبلغ 600 مليون دولار كافيا لمواجهة خدمة مديونية ونفقات غير قابلة للتقليص بلغت قيمتها أزيد من نحو عشرة مليارات من الدولارات. وعليه، تجدني أتساءل عن السبب الذي دفع الجنرال تواتي، في الحوار الذي خص به جريدة El Watan، إلى ادعاءات سخيفة من هذا القبيل، ادعاءات لم تخطر إلا باله. وحينما يتحدث عن “الطب النفسي” في ما يخصني، أظن أنه كان أحرى به أن يزور مصلحة من هذا الطب لمعالجة حالته هو.

-11-

 

مذكرات بلعيد عبد السلام: ماوراء زيارة الجنرال تواتي إلى باريس؟
تاريخ المقال 29/07/2007
أما في ما يتعلق بـ “التقدير المهم” الذي يكون المستشار الاقتصادي للرئاسة قد قدمه والذي دل على أن 600 مليون دولار – التي ينسب الجنرال تواتي إلي مصدرها خطأ – كانت تمثل، في تلك الفترة، قيمة الودائع الخاصة من العملة الصعبة، لم أعلم أبدا بوجوده وأظن ألا أحد سمع به على الإطلاق إلى غاية ذلك اليوم التي طلعت يومية El Watan به في الحوار الذي خصها به الجنرال تواتي.وأخيرا، وبما أن الجنرال تواتي وجد، في المقابلة الصحفية المذكورة، من الواجب الكشف عن موضوع احتياطنا من العملة الصعبة بعدما استمع إلي المجلس الأعلى للدولة حسب زعمه، أي في يوم 18 جويلية 1993، أؤكد أنه منذ تولي مهامي كرئيس حكومة في شهر جويلية 1992، بقيت عيناي معلقتين بمخزوننا من الصرف، كما كان يصلني كل أسبوع عرض لحالته من طرف بنك الجزائر الذي هو، كما يعرف الجميع، بنك البلاد المركزي. لا أظنني في حاجة إلى تأكيد أن هذا البنك وحده هو الذي كان مخولا حيازة احتياطاتنا من العملة الصعبة والذهب وإدارتها. ولو طلب مني أعضاء المجلس الأعلى للدولة إطلاعهم على المبلغ إلى يوم 18 جويلية 1993، تاريخ مشاركتي في اجتماع هذه الهيئة، لأحلت مخاطبي، ببساطة، على الرقم المعلن من طرف بنك الجزائر والذي بلغ مستواه آنذاك 1.580 مليون دولار، مع وجوب إضافة قيمة الجزء الباقي من مخزون الذهب غير “المبادَل” (non “swapé”) الموروث عن عهد الرئيس بومدين. كما أشير كذلك إلى أن رقم هذا المخزون، إلى غاية 20 أوت 1993، أي عشية إنهاء مهامي على رأس الحكومة، كان في حدود 2,0455 مليار دولار ، منها 1,2765 مليار دولار احتياطي صاف و709,5 مليون دولار كقيمة ممثلة لقيمة الجزء “المبادَل” من مخزون الذهب و59,5 مليون دولار ممثلة لمبلغ قرض قصير المدى. كانت تلك هي الأرقام المقدمة من طرف بنك الجزائر عند إقالة حكومتي. وعليه، نحن أبعد ما نكون عن ذلك الهذيان الذي تفوه به الجنرال تواتي على أعمدة يومية El Watan. ولختم هذه الإفاضة الطويلة التي بدت لي من المفيد الاسترسال فيها من أجل تنوير الرأي العام الوطني وتجنيبه الوقوع في الخطأ بسبب مزاعم الجنرال تواتي، أذكر أنه غداة تدخلي أمام إطارات ولاية الجزائر، يوم 24 جوان 1993، الوثيقة التي كنت قد أمرت بتحريرها حول السياسة الاقتصادية لحكومتي صدرت، يوم 29 جوان 1993 باللغتين العربية والفرنسية، في جميع الصحف التابعة للقطاع العام وكذا محطاتنا الإذاعية ومحطة التلفزيون. لقد كان هناك حرص على أن يتم التوزيع على نطاق واسع ومتكرر عدة أيام. كما تم إعلان عرضي أمام إطارات ولاية الجزائر على شاشة التلفزيون. الصحافة الخاصة – التي تدعي أنها حرة ومستقلة والتي هي، في الواقع، خاضعة لأوامر مجموعات مصالح معينة تتحرك في الخفاء – امتنعت عن نشر الوثيقة، بل ولم تذكر، أحيانا، وجودها وصدورها أصلا، في حين لم تنقطع عن التأكيد أن مهمتها هو إعلام الرأي العام الوطني من خلال قرائها وأن علة وجودها هي في إعطاء معنى ومحتوى ملموسا للحق في الإعلام. إن وثيقة تحمل توجهات سياسة اقتصادية ذات الصلة بحياة المواطنين جميعا لَتتعدى حدود كونها مجرد دعاية في صالح الحكومة يمكن للصحافة أن ترفض نشرها باسم تصورها لحرية الإعلام.

في 18 جويلية 1993، وفي الوقت الذي دعيت إلى حضور اجتماع المجلس الأعلى للدولة، كان أعضاء هذا الأخير كلهم على علم، أو من المفروض أن يكونوا على علم، بكافة معطيات السياسة الاقتصادية لحكومتي من أجل الخروج من الأزمة التي سببها المستوى الذي بلغته مديونيتنا الخارجية. لعل القارئ لاحظ كيف أن الجنرال تواتي قد تجاهل تماما، في حواره مع يومية El Watan ، وجود هذه الوثيقة وتوزيعها لدى الجمهور العريض وكذا محتوى عرضي المذاع للجمهور على أمواج الأثير. في الحقيقة، الجنرال تواتي يؤلمه أن يرى التصريحات المغلوطة – كيلا نقول الكاذبة – التي كان يبثها هنا وهناك وهي تتهاوى أمام وثائق مكتوبة، ومعلومات حقيقية، وفيها برهنة، كما هي قابلة للاعتراض عليها شرط أن يكون ذلك على المكشوف. أود أن أشير، هنا، بإلحاح أنه لا علم لي بأي تحليل أو أي رد فعل من جانب الجنرال تواتي ومن يقاسمه خياراته حول الوثيقة التي أمرت بنشرها تحت عنوان : “مذكرة لأهم التوجهات في برنامج الحكومة الاقتصادي”. وعندما طلبت، أولا، من الجنرال تواتي رأيه في مسألة تعيين وزير للداخلية إثر المقابلة التي جرت بيني وبين الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار، أجابني، أولا، أنني لم أقنعه ثم أردف لي بهذا النبأ المدهش : “بمناسبة سفري الأخير إلى باريس، اتصلت بالخزينة الفرنسية التي أخبرتني أنه في حالة اللجوء إلى إعادة جدولة مديونيتنا الخارجية، لن يتجاوز تخفيض بعض القروض التجارية التي كانت الجزائر تستفيد منها إلى ذلك الوقت نحو نسبة 20% “! فلو كان اتصاله بالخزينة الفرنسية وزيارته إلى باريس إلا بغرض الحصول على معلومات بخصوص مستوى القروض التجارية التي كانت الجزائر قادرة على مواصلة الحصول عليها بعد إعادة جدولة المديونية في حالة وقوعها، لم يكن مضطرا إلى عبور البحر الأبيض المتوسط والذهاب إلى تلك الخزينة لمعرفة الأمر إذ كان يكفيه قراءة نص الوثيقة التي أصدرتُها أو الاستماع إلى تصريحاتي عبر شاشة التلفزيون وأمواج الإذاعة كي يلاحظ أنها لم تكن تقول شيئا آخر غير ما ذكر. ثم إنني أجبته، على التو، أنه كانت بحوزتنا مراسلة في هذا الشأن من مسؤولي صندوق النقد الدولي. الحقيقة، في تدخلي كما في المذكرة المتعلقة بتوجهات برنامج حكومتي الاقتصادي، السؤال الذي كان مطروحا هو معرفة ما هي القدرة الإضافية للاستيراد التي كانت ستتأتى للجزائر في حالة الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. لقد برهنا، بالأرقام، على أن الكنز الذي توقعه الجنرال تواتي، ومن حذا حذوه، من صندوق النقد الدولي لم يكن إلا خديعة وأنه لن يرفع من قدرة الجزائر على الاستيراد بصورة محسوسة. وبالفعل، هذه الزيادة في قدرتنا على الاستيراد قدمها ممثلو صندوق النقد الدولي، من بينهم السيد ميشال كامديسوس ذاته، على أنها المفتاح لانطلاقتنا الاقتصادية، انطلاقة كفيلة بأن تكون الأداة السحرية التي ستمكننا من تقليص البطالة بصورة معتبرة كي نجنب شبابنا الالتحاق بصفوف الإرهاب. الجديد الذي أتت به وثيقة الحكومة أثار هلع جميع تلك العناصر التي كانت، مثل الجنرال تواتي، تنشط من أجل حمل الجميع على الاقتناع بأنه لم يكن هناك حل آخر لمشكل مديونيتنا الخارجية عدا اللجوء إلى صندوق النقد الدولي وأنه كان يكفي الجزائر الحصول على مساعدات من هذا الصندوق للعودة إلى الرخاء بفضل انطلاقتها الاقتصادية. من كان يمدح صندوق النقد الدولي واللجوء إلى إعادة جدولة مديونيتنا، لاسيما من بين مسؤولينا السامين في الجيش الوطني الشعبي، كانوا يأملون تراجع البطالة أو على الأقل امتصاصها، هذه البطالة التي، وللتذكير، قدمت على أساس أنها كانت السبب الرئيسي في انخراط قسم كبير من شبابنا في صفوف المخربين تحت لواء الجبهة الإسلامية للإنقاذ.

الجنرال خالد نزار، وأثناء اللقاء الذي جمعني به والرئيس على كافي، بعد جلسة المجلس الأعلى للدولة المنعقدة في 18 جويلية 1993 التي دعيت إليها، أخبرني أن الجنرال تواتي الذي تم التفكير في تعيينه وزيرا للداخلية سافر إلى باريس بغرض الراحة مدة ثمان وأربعين ساعة. الذهاب إلى باريس وقطع مسافة 2000 كلم بالطائرة من أجل راحة مدتها ثمان وأربعين ساعة بدا لي أمرا غريبا نوعا ما. لكن، ونظرا إلى ما قاله لي الجنرال تواتي بعد عودته من باريس، أجدني أتساء ما إذا لم يكن للرحلة المذكورة غرض آخر غير الغرض المعلن لي. لذلك وكما ذكرت، لو تعلق الأمر فقط بالتأكد من مبلغ الأموال التي كانت الجزائر ستستفيد منها جراء إعادة جدولة مديونيتها، كان باستطاعة الجنرال تواتي أو آمريه المحتملين الحصول، في عين المكان، بالجزائر العاصمة، على جميع المعلومات المطلوبة، مشفوعة بكافة الضمانات المهدئة من مخاوفهم. على أية حال، لقد أيد تطور الأحداث تلك الأطروحة التي اعتمدتها حكومتي والقاضية باعتبار اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لم يكن من شأنه أبدا إفادة الجزائر بأموال كبيرة مثلما كان يدعي أنصار إعادة الجدولة. الكل يرى اليوم العواقب الوخيمة التي تسببت فيها إعادة الجدولة هذه لشعبنا كما يرى ذلك الإفقار الذي طال سكاننا بادئا تطوره منذ الثمانينيات بسبب تلك السياسية الانتكاسية التي طبقها الرئيس الشادلي ثم تسارعت وتيرتها بعد تدخل صندوق النقد الدولي ليرتفع معدل البطالة بقوة عوض أن ينخفض بينما لم تلق مؤسساتنا الاقتصادية العمومية والخاصة، ليس فقط أي دعم من أجل انطلاق نشاطاتها أو نموه وإنما وجدت نفسها مضطرة إلى تخفيض هذه النشاطات أو توقيفها نهائيا. إن الجميع ليعلم اليوم ما وقع بعد الاتفاق الخاص بإعادة الجدولة مع صندوق النقد الدولي حيث ما لبثت مخابر الاستيراد-التصدير أن تكاثرت في بلدنا وكيف اجتاحت الموارد الإضافية من العملة الصعبة التي أتى بها هذا الاتفاق السوق الوطنية من دون أن تترك أي أثر إيجابي في الانطلاقة الاقتصادية وكيف اختُصر اقتصاد السوق الذي كانت بعض الأصوات تهتف به ، بكل بساطة، في فتح حدودنا لتمكين نسور الاستيراد –التصدير من الاستيلاء على ثروات البلاد دافعين بشعبنا إلى هاوية البؤس، الحرمان وفقدان الأمل. هل نحن في حاجة، أيضا، إلى التذكير أنه بعد القرار الذي أذل الجزائر واضطرها إلى الخضوع إلى الخيارات المفروضة من طرف صندوق النقد الدولي، ظهرت الكثير من الأصوات عبر العالم الرأسمالي، لا سميا في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، منددة بمضار ما سمي بالعلاج المطبق من طرف صندوق النقد الدولي على تلك البلدان التي لجأت إليه لحل مشكلاتها المالية المترتبة على مديونيتها الخارجية ؟ في ما يتعلق بالجزائر والأضرار التي سلطت عليها بعد إعادة جدولة مديونيتها، لم يجد ممثلو صندوق النقد الدولي ما يقولونه بهذا الشأن سوى إن سبب المصاعب التي كانت بلادنا تواجهها لم يكمن في التدابير المطلوبة من طرف مؤسستهم وإنما في سوء تطبيق هذه التدابير من طرف الإدارة والسلطات الجزائرية!

-12-

مذكرات بلعيد عبد السلام: لقاءاتي مع المجلس الأعلى للدولة
تاريخ المقال 30/07/2007
لكن ما هو أدهى وأمر، بالنسبة إلي، في تصرف الجنرال تواتي عندما قام بزيارة إلى باريس هو أن يسمح لنفسه – كضابط برتبة جنرال، في الخدمة، ومعروف، فوق ذلك، بكونه مستشارا مقربا جدا من عضو يعتبر الأكثر تأثيرا على مستوى المجلس الأعلى للدولة – بالتحقق لدى مصلحة أجنبية من معطيات متوفرة لدى حكومة بلده ذاتها. لا يمكن إلا أن أظن أن الجنرال تواتي لم يكتف بالاستفسار عن صحة معلومات وردت في مذكرة التوجهات التي أصدرتها حكومتي وأنه يكون قد أخبر الحكومة الفرنسية أن السياسة المتبعة من طرف حكومتي لم تكن تحظى بالمصداقية والتأييد من طرف من كانوا، في تلك الفترة، أصحاب القرار الفعلي في الجزائر.

لم يكن أحد ليجهل، بالجزائر كما بباريس، أن إدلاء الجنرال تواتي برأي أو القيام بتصرف ما لم يكن يتم باسمه الخاص فقط. ثم إنه كان من الثقة في نفسه ما جعله لا يشعر بأي حرج في أن يسر إلي شخصيا بالزيارة التي قادته إلى باريس للتأكد، على مستوى الخزينة الفرنسة، من صحة وثيقة صادرة عن حكومتي. هذا تصرف مشين إزاء رئيس الحكومة. لقد سمحت لي هذه الواقعة المحزنة بتقدير قلة القيمة التي كانت تولى لتلك المهمة السامية التي عهد إلي بها. هذا التصرف من جانب الجنرال تواتي كان دلالة على طابع الوقاحة ميز سياسة معينة، سياسة كانت، من ناحية، تعلن سيادة مؤسسات الجمهورية دافعة بخيرة شبابنا، في إطار الجيش الوطني الشعبي والأجهزة الأمنية، إلى بذل النفس والنفيس، ومن ناحية أخرى، تعامل نفس المؤسسات بخفة بلغت حد عدم التردد في بخسها أمام الأجانب. بعد هذا الإسهاب الطويل – الذي أملته ضرورة تعرية بعض من الأكاذيب التي وردت على لسان الجنرال تواتي وإبراز الطرق غير النزيهة التي استعملها لدى من كان يلقى لديه آذانا صاغية أو يصدقون ما كان يكتب أو يقول – يجب الآن الخوض في تلك الطريقة التي ادعي بها قدرته على سرد الوقائع في ما يخص مختلف لقاءاتي على مستوى المجلس الأعلى للدولة أو ببعض أعضائه، لاسيما الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار.

هـ. مشاركتي في اجتماع المجلس الأعلى للدولة يوم 18 جويلية 1993.
إثر عودتي من زيارة عمل قادتني إلى ولايات أقصى الجنوب من ترابنا الوطني دامت من 11 إلى 15 جويلية 1993، دعاني المجلس الأعلى للدولة إلى المشاركة في اجتماعه المنعقد في 18 جويلية من دون إخطاري بجدول أعمال ذلك الاجتماع. طيلة هذه الزيارة كلها وأثناء جلسة العمل الختامية المنعقدة بإيليزي، طرح علي بعض الصحفيين أسئلة لمعرفة ما إذا كنت أنوي فعلا المواصلة طويلا على رأس الحكومة. وقد اكتفيت بإجابتهم أنه، من جانبي، سأواصل المهمة ما لم يُضع لها حدا من كلفني إياها. عند افتتاح اجتماع مجلس الأعلى للدولة – وبعد كلمات الترحيب لأنني لم أكن هناك إلا كضيف – أعلن الرئيس على كافي نقاط جدول الأعمال، وكانت كالآتي :
- القيام بحصيلة لنشاطات الحكومة سنة بعد إنشائها ؛
- النظر في الفترة الانتقالية المقبلة بعد انتهاء مهام المجلس الأعلى للدولة، لاسيما فكرة ما إذا كان من اللازم أولا عقد ندوة وطنية لهذا الغرض ؛
- إعادة النظر في الخيارات الاقتصادية في ضوء المعطيات المستجدة.

وقد شفع الرئيس على كافي هذه المسائل بملاحظات يمكن اختصراها كالآتي :
- تمر البلاد بأزمة صعبة ؛
- علينا أن نواجه هذه المرحلة كرجال يؤلفون سلطة متينة ومنسجمة، أي :
• يجب علينا أن نتفق على قاعدة متينة ؛
• يجب علينا أن نتشاور ؛
• المرحلة الانتقالية يجب أن تُطبق بكل حزم ؛
• يجب علينا أن نتفاهم حول الخيارات الاقتصادية ؛
• إعادة النظر في الخيارات الاقتصادية في ضوء المعطيات المستجدة.

بعد هذا التقديم الوجيز من طرف الرئيس علي كافي، أخذ الجنرال خالد نزار الكلمة مركزا على العناصر الآتية :
- التوجه نحو الانسجام ؛
- في ما يخص المسائل الاقتصادية، هناك أفكار عديدة. هل هناك سبيل آخر مقارنة بالسياسة المتبعة حاليا ؟
- ما هي نتائج هذه السياسة ؟
- ما الذي يمكن أن نفعله بخصوص الحوار المنطلق مع الأحزاب السياسية ؟
- هل يجب علينا أن نواصل هذا الحوار أم لا ؟

بدا لي أنني لم أكن مجرد ضيف هناك وما لبثت أن أدركت أنني كنت محط أنظار الجميع ومحط الكثير مما كان يقال من تصريحات وتلميحات. هكذا بدت لي الهيئة – التي كانت تمارس، بصفة جماعية، السلطة العليا في البلاد وتحتكر كافة الصلاحيات التشريعية والتنفيذية المنصوص عليها في الدستور – وهي تريد القيام بحصيلة سنة من النشاط الحكومي والبت بشأن مستقبل البلاد في فترة حرجة من تاريخها كما لو تعلق الأمر بتفاهم بين خلان قرروا، فجأة، خلال نزهة أو تسلية ما التوجه لتناول مشروب حول طاولة مقهى أو تناول وجبة غداء سريعة مواصلين خوضهم في شؤون البلاد. لقد عادت بي هذه الملاحظات إلى أربعين سنة من قبل عندما كنا، على مستوى اللجنة المركزية لحزب الشعب-حركة انتصار الحريات الديمقراطية، نعيش أزمة حزب شعبي طلائعي بسبب عجز قيادته التي سرعان ما سقطت بسبب ممارساتها في مجال تنظيم العمل. طيلة سنوات قبيل الفترة التي انفجرت فيها الأزمة وقضي على التنظيم كحزب، كانت اجتماعات قيادة ما كان آنذاك يعتبر الحزب الثوري الطلائعي من دون جدول أعمال محدد سلفا، وكانت المحادثات تتم من دون الاستناد إلى ملفات ومشاريع مُعدَّة من قبل لهذا الغرض. هكذا ، إذاً، انعقد اجتماع المجلس الأعلى للدولة بهدف مناقشة حصيلة نشاطات الحكومة (أي، في الحقيقة، نشاطاتها الاقتصادية) ولاتخاذ قرارات حول مسيرة البلاد في المستقبل على المستوى السياسي، وذلك من دون تحضير الوثائق المتضمنة للمعطيات اللازمة لهذه المناقشات والمحددة للآفاق أو المقترحات الواجب اعتمادها في نهاية الاجتماع. بعد ذلك، جاء دوري لأخذ الكلمة. بدأت بإعطاء نظرة شاملة مختصرة عن زيارة العمل التي قمت بها إلى ولايات الجنوب الأقصى ملحا على بعض المشاكل المطروحة هناك والتي كان حلها يستدعي تدابير مستعجلة وواسعة النطاق. بدا لي أن كلمتي لم تثر اهتماما كبيرا وأن الأذهان كانت متجهة إلى موضوعات أخرى. وفي تناولي لما أدلى به كل من الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار، ركزت على النقاط الآتية :

- نشاط حكومتي مندرج في سياق برنامج عمل وافق عليه المجلس الأعلى للدولة بموجب المراسيم التشريعية المعتمدة من طرف مجلس الوزراء والتي هي مساوية لقوانين المالية التقليدية وكذا بموجب مرسوم تشريعي آخر متعلق بالخطة الوطنية لسنة 1993 والمحدد للأهداف العامة بالنسبة إلى الفترة الممتدة من 1993 إلى 1997.

- في ما يتعلق بالمديونية الخارجية، خدمتها تمت في ظروف عادية واستطعنا أن نسدد في الموعد الصعب المقرر لدفع 500 مليون دولار، دفع كانت الجزائر فيه محط الأنظار على مستوى الأسواق المالية الدولية.
- في ما يخص تعبئة موارد إضافية من العملة الصعبة خارج الدوائر الخاضعة لقواعد صندوق النقد الدولي، هناك جهود تبذل حاليا. غير أن نجاح مثل هذه الجهود يبقى مرهونا بالوقت لاسيما وأننا في حاجة إلى إعادة تشكيل شبكة من الأصدقاء ومن المستشارين والمؤسسات لمساعدتنا في ترتيب عمليات من شأنها توفير أموال لنا من دون أن نضطر إلى اللجوء إلى تقبل شروط صندوق النقد الدولي.

- وفي هذا السياق، أشرت إلى أن عملية التنازل عن عدد من حصصنا في أحد آبارنا البترولية كانت على وشك التتويج. لقد وافقتُ على صيغها المقترحة من طرف سوناطراك إلا أن إبرامها تأخر لأسباب أجهل طبيعتها. كما اغتنمت الفرصة لأكشف أمام كافة أعضاء المجلس الأعلى للدولة عن أن هناك أصداء وصلتني لإشاعات من النوع “لا يمكن أن تهدى إليه هذه الهدية” ؛ وهو يعني أن هناك أشخاصا كانوا يتحركون على مستوى ما لمنعي من تسجيل نتائج مالية معتبرة من شأنها جلب المصداقية لحكومتي. وبعد الإدلاء بهذه المعلومة، أعرب الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار عن اندهاشهما وسخطهما. في ما بعد، علمت من مصالح متخصصة بأن الشائعات المتعلقة بمحاولة منع العقد من الإبرام في العملية السابقة الذكر لم تكن خالية من الصحة ؛ وهو ما كان يؤكد وجود مكائد كانت تحاك من طرف بعض الأوساط التي كان همها إحباط السياسة الاقتصادية لحكومتي. كما يجب أن أؤكد اليوم أن هذه العملية – التي تمت كلها في ظل حكومتي وبموافقتي – لم يبرم العقد الخاص بها إلا بعد اتفاق إعادة جدولة المديونية مع صندوق النقد الدولي، أي في ذات الوقت التي لم يعد فيه لها أي نفع وأثر في تمكين الجزائر من الحصول، من خلال التنازل عن قسم من ثرواتها، على موارد كان صندوق النقد الدولي يرفضها لها. كل ذلك يبين أن المناورات التي حيكت من أجل تأخير هذه العملية لم يتمثل غرضها فقط في حرمان حكومتي من الحصول على أموال جديدة وإصدار إشارات إيجابية في اتجاه أوساط الأعمال الدولية التي كان من الممكن أن تفيد بلادنا باستثماراتها، وإنما استهدفت كذلك غلق كل سبيل كان من شأنه أن يجنب الجزائر السقوط في قبضة صندوق النقد الدولي وتحمُّل العواقب الوخيمة جراء تلك الشروط القاسية التي يقر بقسوتها كل قاص ودان، اليوم، على المستوى الكون.

- كما لفتُّ انتباه الحاضرين أنه لا يمكن الحكم على حصيلة نشاطات ما على أساس ما يمكن أن توفره من موارد مالية جديدة فقط وإنما ينبغي أيضا الأخذ بعين الاعتبار كل تلك الأضرار والكوارث التي منعت من تحقيق النتائج المرجوة. وفي هذا الصدد، ذكرت أنه عند تأسيس حكومتي، في جولية 1992، كانت هناك محاولات أراد أصحابها أن يقنعوني أنني لو لم أجد الأموال اللازمة قبل شهر سبتمبر، سيكون لدي 600.000 عاطل إضافي عن العمل في شوارع مدننا في وقت كانت الجزائر تعيش اضطرابات متفاقمة لم تعرفها أبدا في تاريخها منذ الاستقلال. حينئذ، رد الجنرال خالد نزار أنه، بحكم كونه عضوا في الحكومة قبل شهر جويلية 1992، سمع عن هذا التقدير المشؤوم الذي كان يُشهر في وجه تدبير شؤون البلاد ؛ علما أنه لم يكن من أهون الأمور أن استطاعت حكومتي أن تبعد شبح رؤية قواتنا الأمنية وهي تواجه الجماهير الجائعة في شوارع مدننا في وقت كانت مجندة كلها للقضاء على العنف الإرهابي وضمان سلامة الأشخاص والممتلكات.

- في ما يتعلق بانسجام السلطة، خضتُ في المشكل صراحة من دون لف أو دوران مشيرا إلى أنه، منذ شهور، وحكومتي وشخصي محل هجمات مسعورة وحملة مغرضة من التضليل الإعلامي والقدح كانت تغذيها مصادر موجودة على مستوى الرئاسة وأعضاء المجلس الأعلى للدولة. وقد ذكرت صراحة علي هارون على أنه واحد ممن كانوا يغذون تلك الحملة عن طريق الإشاعات وعلى صفحات الجرائد الخاصة المسماة بالمستقلة. بطبيعة الحال، أظهر الرئيس علي كافي سخطا شديدا وهو يرى الرئاسة متورطة في الحملة التي استهدفت الحكومة وأعرب عن احتجاجه الصادق. وقد لفتُّ الانتباه أنه في أكثر من مرة انتشرت معلومات في الصحافة على أنها صادرة عن دوائر في الرئاسة من دون أن يؤدي ذلك إلى صدور أي تكذيب. كما أعرب علي هارون، من جهته، عن براءته من هذه الحملة غير أنني، وأنا جالس بجانبه، كررت مآخذي له.

- لكن، بالنسبة إلي، بلغ التلاعب على الحبلين ذروته عندما ذكرت البلاغ الذي أعلنته الرئاسة حول حصيلة الحوار الجاري بين المجلس الأعلى للدولة وبعض الأحزاب السياسية. لقد تضمن هذا البلاغ مقطعا أوحى بإعادة النظر في السياسة الاقتصادية. ولم تلبث الصحافة “المستقلة” أن استولت على الموضوع متخذة منه دليلا على أن المجلس الأعلى للدولة، ومن ورائه أصحاب الحكم الفعليين، كان بصدد اعتماد سياسة اقتصادية مختلفة عن تلك المعتمدة إلى ذلك الحين من طرف الحكومة. بعد ذلك مباشرة، قيل لي إن البلاغ المذكور كان مجرد انعكاس لخلاصة من الأفكار المعبر عنها من طرف الشركاء في الحوار وأن هذه الأفكار لا تلزم أبدا المجلس الأعلى للدولة. إلا أنه لم يصدر، هنا كذلك، أي رد فعل ولا أي تكذيب من جانب الرئاسة جاء ليفند مزاعم الصحافة الخاصة ضد الحكومة ؛ هذه الصحافة التي لم تتردد في الاستغلال السافر لمواقف نسبتها ‘لى المجلس الأعلى للدولة. وفي ضوء هذا السيل من التناقضات والشبهات، بدت لي الهيئة التي كان يجري بها النقاش حول مصير البلاد بؤرة للمكائد غير اللائقة بالجزائر وثورتها. لم تتمخض أية رؤية واضحة بشأن مستقبل البلاد من تلك المناقشات.

- أما في ما يتعلق بالفترة الانتقالية وبالحوار، كان يكفي الرجوع إلى خلاصة برنامج العمل الحكومي وإلى تصريحاتي أمام هذا المجلس الأعلى للدولة نفسه، في سبتمبر 1992، لمعرفة وجهة نظري حول هاذين الموضوعين. في جويلية 1993، ظل هذا الموقف نفسه ؛ مما جعل الجنرال تواتي يقول، حسب ما يُروى، إنني كنت عاجزا عن التطور وغير قادر على التكيف مع السياق السياسي الجديد.

-13-

مذكرات بلعيد عبد السلام: رضا مالك يمهد لخلافتي في رئاسة الحكومة (13)
تاريخ المقال 31/07/2007
بعد تدخلي، جاء دور رضا مالك. وقد أوحت العبارات الأولى التي نطق بها انطباعا واضحا أنه هو الذي تم تكليفه دور الإجهاز علي، سواء في المجال الاقتصادي أو المجال السياسي. في الجانب المتعلق بالاقتصاد من تدخله، تكلم برزانة وحذر ولم ينقطع عن القول “يقال إن…، يقال إن…” كما لو كان يريد أن يوحي أنه لم يكن إلا معبرا عن أفكار صاغها غيره. هذه الأفكار يمكن إيجازها كالآتي :

- يتوخى البرنامج الاقتصادي للحكومة، في حد ذاته، غاية حميدة، أي تفادي الوقوع تحت ضغط صندوق النقد الدولي وفرض البطالة على أعداد كبيرة من عمالنا.
- ومع ذلك، مواصلة هذه الغاية تحتوي على خطر يصعب تفاديه : في الأوضاع الحالية، لا تشتغل مؤسساتنا الاقتصادية إلا بنسبة 30 % من طاقاتها بسبب نقص في المواد الأولية والمواد نصف المصنعة وقطع الغيار التي لا تستطيع الجزائر استيرادها نظرا إلى محدودية مواردها من العملة الصعبة التي تمتص معظمَها خدمةُ ديوننا الخارجية. فلو واصلنا سياسة التقشف المطبقة حاليا من طرف الحكومة، سنكون، بعد ثلاث سنوات من الآن، قد قلصنا في حجم المديونية ربما بصورة معتبرة. غير أن مؤسساتنا الاقتصادية ستدمَّر نهائيا ؛ مما سيضطرها إلى توقيف نشاطاتها وبالتالي إلى تفاقم مشكل البطالة. تفشي هذه البطالة التي نريد تجنبها اليوم ستفرض نفسها علينا في يوم ما ؛ لذلك وجبت مواجهتها منذ الآن بقبول شروط صندوق النقد الدولي في ما يخص إعادة جدولة ديوننا الخارجية لنتمكن من إنقاذ قسم من أداتنا الإنتاجية. هذه الأطروحة المؤيدة لإبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي بحسب شروطه كانت تتناقض وفكرة أصحابها عندما كانوا يعتبرون أن مساعدات صندوق النقد الدولي كان من شأنها تقليص حجم البطالة كي يمكن تجفيف المنبع الذي كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ تنهل منه في تجنيد الشباب لتعزيز صفوف الإرهاب. كل شيء كان يقع كما لو أن خصوم السياسة الاقتصادية المتبعة من طرف حكومتي كانوا يتخذون من أية ذريعة حجة مادام همهم كان منصبا، لا على حماية مصالح سكاننا وحرية بلادنا في التحرك في المجال الاقتصادي وإنما إتمام عملية تدمير النظام الاجتماعي الاقتصادي الذي أقامته الجزائر منذ استقلالها على أساس توجهات ثورتنا. هذا التدمير الذي كان من شأنه السماح لبعض مجموعات المصالح من استغلال موارد البلاد في صالحها.

عند هذا الحد، أود أن أشير إلى أن الرقم الذي ذكره رضا مالك بخصوص مستوى الإنتاج، الذي قال عنه إنه لم يعد يتجاوز نسبة 30 % من طاقات مؤسساتنا الاقتصادية، لم يكن إلا محض خيال. وإنه لمن الأسف أن نرى عضوا في أعلى هيئة في الدولة، وأثناء جلسة عمل رسمية، يستند إلى معلومات لم يكن لها أي أساس من الصحة خصوصا وأن المصالح المعنية في الدولة تؤكد أن هذا المستوى لم ينزل أبدا تحت نسبة 50 % ؛ مما يبين قلة الجد التي ميزت عمل السلطة أو، بعبارة أخرى، كيف أن القرارات كانت تُتخذ في دوائر خفية بحيث لم يبق للمجلس الأعلى للدولة إلا تسجيلها. قلة الجد هذه لم تظهر لي إلا عندما قيل لي، في بداية الجلسة، إن من بين نقاط جدول الأعمال كان إجراء حصيلة لنشاط الحكومة بعد سنة من وجودها. القيام بحصيلة من هذا النوع يفترض تنشيط جميع مصالح الدولة المعنية من أجل جمع كافة المعطيات الضرورية لهذه الحصيلة وعلى أساس أرقام قابلة للتأكد منها ونعرف مصادرها ونستطيع التحقق من صحتها في الحساب.
ثم إن خالد نزار عندما سمع نسبة 30 % على لسان رضا مالك، رد بسرعة وبكثير من الرزانة عندما قال إنه بحكم كونه عضوا في الحكومة منذ سنوات لم تكن المرة الأولى التي سمع فيها بهذا الرقم ؛ ومعنى ذلك أن الأمور لم تزدد سوءا، إذاً، في ظل حكومتي.

- أثناء اللقاء الذي جرى بيننا، بعد اجتماع المجلس الأعلى للدولة ومأدبة غداء عمل مع الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار، كرر لي الجنرال تواتي نفس الأفكار التي عبر لي عنها رضا مالك في ما يخص القضايا الاقتصادية، لكن مع الكشف عن هوية ضمير المجهول (“on”) الذي استعمله هذا الأخير في تدخله أثناء اجتماع المجلس الأعلى للدولة. يتعلق الأمر بإطار سام في بنك الجزائر كان يعرف الجنرال تواتي جيدا. للإشارة، بمناسبة تبادل للآراء عبر الصحافة، وبعد تعيينه على رأس الحكومة، صرح رضا مالك أن قرار اللجوء إلى صندوق النقد الدولي تم اتخاذه في نهاية 1993 إثر ذلك الانخفاض الكبير الذي كانت أسعار البترول تسجله حينئذ. في حين، وفي جولية 1993 عند تدخله أمام المجلس الأعلى للدولة في الاجتماع المذكور، اتخذ من نفسه الناطق الرسمي لدعاة اللجوء إلى هذه المؤسسة المالية الدولية. في الواقع، قرار اللجوء إلى صندوق النقد الدولي تم في أواخر السداسي الأول من 1993.

غير أن من كانوا وراء هذا الموقف و”أصحاب القرار” الذين اعتمدوه أو استسلموا له كانوا يبحثون عن عذر لتبريره أمام السكان. هؤلاء لاشك أنهم كانوا يتمنون مني تأييد خيارهم وتحمّل مسؤولية هذا الخيار علانية. هذا، وسنرى في ما بعد طبيعة المساعي المبذولة من أجل حملي على ذلك. بعد هذا الاستطراد الآخر، لنعد ثانية إلى مناقشات اجتماع المجلس الأعلى للدولة بتاريخ 18 جولية 1993. بعد استعراض القضايا السياسية، تغيرت لهجة رضا مالك وصارت أكثر تحاملا، كما أحسست أن كلامه كان موجها إلى شخصيا عند إشارته إلى نقص في الانسجام بين التصريحات العمومية التي من المفترض أن تعكس وجهة نظر السلطة ؛ مما أدى، حسب زعمه إلى الالتباس في أذهان الناس في ما يخص بعض المواقف. أي أننا لو صدقناه، كانت هناك بلبلة وحالات من عدم الفهم الخطيرة في مواقف السلطة بسبب نقص انسجام الحكومة، أو بالأحرى رئيسها، مع المجلس الأعلى للدولة. إلا أن رضا مالك تفادى ذكر مبادرتي – كما فعل في فترة سابقة – بالقيام بتحقيق معمق حول فضيحة أنبوب الغاز الجزائري الإيطالي باعتباره واحدا من الأمثلة التي كانت تستعمل كحجة لدى من كانوا يتهمونني بعدم احترام واجب الانسجام مع المجلس الأعلى للدولة. لقد كان رضا مالك يتكلم كما لو أنه هو الذي أخذ على عاتقه تحديد توجهات السلطة على الصعيدين السياسي والأيديولوجي، لاسيما في مواجهة التيار الإسلامي الممثل في الجبهة الإسلامية للإنقاذ. كما تبين أنه كان، على وجه الخصوص، ومن دون أن يفصح عن ذلك، بصدد الرد على ذلك الأثر الذي خلفته ردودي أفعالي من قبل على التهجمات الصادرة عن “الديمقراطيين” و”الجمهوريين” المزعومين ممن كانوا يقدمونني على أنني “رجل الماضي” لا غير. كما كان يستهدف المواقف التي عبرت عنها علانية حول بعض الموضوعات اعتبرت ذات صبغة إسلاموية.

إن هؤلاء “الديمقراطيين” و”الجمهوريين” لمخطئون عندما يتوهمون أن الكفاح ضد تصرفات الجبهة الإسلامية للإنقاذ كان يعني رفض كل ذكر للإسلام في خياراتنا السياسية وتوجهاتنا الأيديولوجية. علاقات رضا مالك بالجنرال تواتي لعلها جعلته يشعر بنوع من الحظوة في تجسيد هذه الخيارات والتوجهات. لقد كان من عادته الرزانة في التعبير والإدلاء بآرائه ومشاعره، لاسيما عندما يتعلق الأمر بجدل متصل بمشاكلنا السياسية الداخلية، وها هو يعبر بكلمات قطعية، متخذا مسافة صريحة من مواقفي ومبديا نحوي، أحيانا، معارضة تكاد تكون عداوة. وباختصار، لقد أظهر من الثقة في النفس ما لم أعهده فيه من قبل. ومع ذلك، لم يكن رضا مالك، في ذلك الاجتماع، ليدعي التحدث باسم أغلبية الحاضرين ولا أغلبية أعضاء المجلس الأعلى للدولة. لقد أكد لي علي كافي دائما تضامنه معي في الأفكار السياسية والأيديولوجية التي كنت أعبر عنها، لاسيما عندما كنت أرد على “الديمقراطيين” و”الجمهوريين”. لا يمكن لأحد أن يدعي أن الفقيد الدكتور تيجيني هدام كان من أنصار هؤلاء. أما الجنرال خالد نزار، فالوعي الذي كان له بموقعه في السلطة جعله يعتمد الحذر والوسطية كي يظل محتفظا بدور الحكم الذي كان يمليه عليه موقعه داخل الهيئة العليا للدولة من حيث هو أول مسؤول للجيش الوطني الشعبي. لهذه الأسباب كلها، لم يكن رضا مالك، في استهدافه لي بكلامه، قادرا على كسب تأييد غير علي هارون لخياراته الأيديولوجية.

لقد ولت تلك الفترة التي كنا نعمل فيها، منسجمين، في عهد الرئيس بومدين، لاسيما عندما كنا بصدد صياغة الميثاق الوطني الذي اعتمده الشعب في استفتاء سنة 1976. في تلك الفترة، غالبا ما كان رضا مالك يعبر عن حرصه على الانسجام معي بخصوص الكثير من الأمور. وبعد وفاة بومدين، دُفن الميثاق الوطني مثلما دُفن صاحبه !

-14-

مذكرات بلعيد عبد السلام: أسباب خلافاتي مع رضا مالك (14)
تاريخ المقال 01/08/2007
منذ أن أخرجني الرئيس الشادلي من الحكومة ثم من المكتب السياسي للجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، بدا لي أنني صرت في نظر رضا مالك نوعا من “المنبوذ” في الساحة السياسية. لذلك، كان يظهر أمامي بمظهر ما يسميه الشيعة بـ “المرجعية” ؛ وهو ما جعلني أتساءل عما كان يسوغ له مثل هذا المظهر. لاشك أنه وصل به المطاف إلى هذا النوع من الشعور بسبب مروره بالمجلس الأعلى للدولة وفي سياق انتماء إلى هذا الجهاز.

لاشك أيضا أن سبب هذا التصرف يعود إلى معاشرته الدائمة لبعض العسكر من أمثال الجنرال تواتي فأحس بنفسه وكأنه صاحب الحظوة والمرجعية العليا في ما يخص كل ما له علاقة بالديمقراطية، الجمهورية والعصرنة بالنسبة إلى بلدنا. كما كان يظهر عليه شعور متنام بنوع من التفوق فسمح لنفسه بالتصرف وكأنه صاحب رسالة يبين للناس ما يصلح لهم ولأمثالي، على وجه الخصوص، الطريق المستقيم و”الحكم الراشد”. ذلك هو سبب ظهور الخلافات في علاقاتنا، خلافات حادة في بعض الأحيان أثناء تلك الفترة التي كان فيها عضوا في المجلس الأعلى للدولة وأنا رئيس حكومة ما بين 1992 و1993. لكن هذه الخصومات ظهرت من جانبه، وغالبا ما كانت حادة، قبل تأسيس المجلس الأعلى للدولة وانضمامه إليه، لاسيما غداة الأحداث التي هزت بلادنا في أكتوبر 1988.

هكذا بدت له مواقفي على أنها كانت نوعا من الطعن في التفوق الذي كان يظنه لنفسه. وكان يحدث له أن يقول لي إن تصريحاتي ومواقفي كانت متشابهة مع تصريحات الجبهة الإسلامية للإنقاذ ومواقفها. في ما يخصني، لم أكن أقوم بشيء آخر غير تأكيد أفكار مستمدة من المخزون المذهبي والأيديولوجي لحزب الشعب الجزائري الذي كنت مناضلا فيه منذ شبابي. وبما أنه لم يناضل أبدا في صفوف حزب ما، يبدو رضا مالك أنه لا يفهم ولا يقدر معنى الإخلاص للالتزام ما وما يفرضه ذلك من انضباط وخضوع حر إزاء الحزب. كما يجهل، على وجه الخصوص، معنى الالتزام في حياة المناضل إزاء الحزب، أي الربح معه والخسارة معه ولا يمكن بأي حال التخلي عنه عندما لا يبتسم له الحظ. لقد عرفنا في حزب الشعب فترات اندحار سياسي، إلا أننا لم نفقد الأمل فيه أبدا أو خذلناه أو تنكرنا لانتمائنا إليه. هذا معناه أنني، من خلال تصريحاتي وتصرفاتي، لم أكن أسعى للتقرب من الجبهة الإسلامية للإنقاذ وإنما أردت فقط أن أبقى وفيا لالتزاماتي المعهودة. هذا هو السياق الذي ينبغي أن يُفهم فيه ذلك الموقف الذي عبرت عنه أمام المجلس الأعلى للدولة، في 7 سبتمبر 1992، عندما دعاني إلى حضور اجتماعه وإفادته برأيي حول الحوار الذي كان يهم بالمبادرة به مع بعض الأحزاب السياسية والشخصيات المعروفة على الساحة الوطنية. في هذا الاجتماع، أكدت بكل وضوح أنه كانت لي العزيمة التامة في مكافحة الأصولية شريطة ألا تعود فائدة ذلك إلى مصلحة الشيوعيين والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية. في هذه الحالة، سأكون في صف الجبهة الإسلامية للإنقاذ بكل صراحة. وقد وجد رضا مالك في مثل هذا التصريح ضربا من الكفر في حين، بالنسبة إلي، كان الكفر في جانبه عندما نسب نفسه إلى نفس التيار مثل الشيوعيين والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية. أنا لا أؤاخذه أبدا على أن تكون له أفكار وأن يعبر عن هذه الأفكار وما اتصل بها من خيارات سياسية وتوجهات أيديولوجية. ما أؤاخذه عليه هو ذلك الدور الذي تقمصه – لاسيما على أساس عضويته في المجلس الأعلى للدولة وعلاقاته بالجنرال تواتي – واعتباره لأفكاره على أساس أنها كانت أفكار الجماعة الوطنية بأسرها.

في ما يخصني، وكما هو الحال عند الأغلبية الساحقة من الجزائريين، أشعر بتقزز حقيقي إزاء آثار الاندماجية الجديدة التي نستشفها من بعض التصريحات والتصرفات الصادرة عن “ديمقراطيينا” المزعومين ممن لا يترددون في تقديم أنفسهم على أنهم “نخبة” البلد. صراحة، عوض آثار هذه الاندماجية الجديدة، أفضل آثار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأفضلها أكثر عندما أرى الاندماجيين الجدد يميلون إلى اتخاذ مكافحة أصوليي الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأفعالهم الإجرامية مناسبة لتصفية الوطنية الشعبية الجزائرية ودفنها نهائيا، مع كل ما تحمله هذه الوطنية من قيم. ورفعا لكل لبس ومنعا لكل اتهام ممكن لي بالحكم على النوايا بسبب استعراضي لما تم تداوله في اجتماع المجلس الأعلى للدولة، أود أن أذكر بواقعة جرت في أواخر سنة 1993. من المعلوم أنه بعد تعيينه رئيسا للحكومة إثر إقالتي، لم يقم رضا مالك بتقديم برنامج عمل كما جرت عليه العادة منذ فيفري 1989 كلما عين رئيس حكومة جديد. وعندما سألته الصحافة عن سبب ذلك، أجاب أن المجلس الأعلى للدولة، الذي كان عضوا فيه، سبق له أن وافق على برنامج الحكومة المنقضية فلم ير داعيا إلى تغيير البرنامج المعتمد وتقديم برنامج جديد. ولمّا سئل ولماذا،إذاً، وقع تغيير الحكومة السابقة، أجاب أن ما كان يهم في حكومته هو التوفر على طاقم متراص ومتضامن وأن الانسجام بين حكومته والمجلس الأعلى للدولة سيتم تأكيده بما لا يدع المجال “لأي تأويل أو شرخ يكون من شأنه إضعاف نشاطنا”. وقد كانت تلك طريقة أعاد بها، نوعا ما، ما قاله في الاجتماع المذكور للمجلس الأعلى للدولة، أي أن الأمور مع الحكومة السابقة كانت تسمح بتأويلات من شأنها إضعاف نشاط السلطة. أشهرا من بعد، وقبل أن يجف حبر التوقيع على الاتفاق المبرم مع صندوق النقد الدولي الذي دافع رضا مالك على ضرورته أمام المجلس الأعلى للدولة، جاء الدور لتنحيته ! ومرة أخرى، وكما صرح هو بذلك عندما سئل عن عدم تقديم حكومته لبرنامج عمل، كان من “اللازم تغيير ما لزم تغييره” بحسب نفس العبارة التي استعملها من قبل في ما يخصني. وعليه، لعل ذلك التماسك الذي أكده لم يكن من التماسك الذي توقعه. هو الآخر، ربما تلقى لوما على تركه البلبلة وعدم الانسجام يدبان بين حكومته والسلطة التي خلفت المجلس الأعلى للدولة. وإذا كان إبرام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي حول إعادة جدولة مديونيتنا الخارجية مقياس نجاح السياسة الاقتصادية للحكومة، فإن الجنرال تواتي لم يقل لنا في ماذا أخفقت حكومة رضا مالك شهورا فقط بعد تعيينها، وماذا كانت الأسباب التي دعت إلى “إقالتها”.

- لنعد الآن إلى الاجتماع المذكور للمجلس الأعلى للدولة. أثناء هذا الاجتماع، طلبت من رضا مالك إفادتي بأسماء المسؤولين عن البلبلة وعدم الانسجام اللذين سمح لنفسه بتسجيلهما، إلا أنه اكتفى بالقول “نحن جميعا !”. فلو غامر بذكر أسماء لمسؤولين معينين، كان عليه أن يبين أيضا تلك الحالات التي اتسمت بالبلبلة وعدم الانسجام ؛ وهو ما كان سيجبره على إظهار ميوله السياسية أو الأيديولوجية بوضوح وعلى الكشف عما كان يقوم به كلما انتهت إلى مسمعه مثل هذه الحالات. عندما لاحظ الرئيس علي كافي أن النقاش الذي كان يشرف عليه يمكن أن يتحول إلى شجار بالكلام، سارع إلى إيقافه ورفع الجلسة. تلك هي الظروف التي تم فيها الاستماع إلي أثناء اجتماع المجلس الأعلى للدولة بتاريخ 18 جويلية 1993. ولم يتم التعرض في أية لحظة من هذا الاجتماع لتلك المسألة التي اخترعها الجنرال تواتي عندما نسب إلي فكرة مواجهة مديونيتنا الخارجية ونفقاتنا غير القابلة للتقليص وبحوزتنا مبلغ قدره 600 مليون دولار. عندما خرجت من قاعة الاجتماع، انفرد بي الرئيس على كافي ليقول لي إنه يدعوني، يوم الثلاثاء الموالي (20 جويلية)، إلى مأدبة غداء مع الجنرال خالد نزار بمقر إقامته على شاطئ البحر من أجل، كما قال لي، استئناف النقاش على أسس أكثر جدية وفي جو أكثر هدوءا. فاتفقنا، إذاً، على الموعد المضروب ثم انصرفنا.

ز. لقائي بالرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار حول مائدة غداء بمقر إقامة رئيس الدولة في يوم 20 جويلية 1993. هذا اللقاء هو الذي استطعت أن أدرك أثناءه أن قرار اللجوء إلى صندوق النقد الدولي قد اتخذ بالشروط المملاة من طرف هذه المؤسسة المالية الدولية ؛ مما يعني أن عمر حكومتي كانت أيامه معدودة بالنظر إلى الصرامة التي اعتمدتها في هذا الشأن رافضا اللجوء إلى صندوق النقد الدولي وقبول شروطه مهما كان الثمن. لقد مرت مأدبة الغداء في جو من الانشراح والأخوة. كما أن المناقشات التي تمت سواء حول المائدة أو على انفراد بعد ذلك، كانت كثيفة وتمت في ظل الجدية والمودة. لقد كان هذا اللقاء آخر مناسبة جادة حظيت بها، طيلة الفترة التي قضيتها على رأس الحكومة، لمناقشة شؤون الدولة مع أعلى مسؤولين في البلاد. بعد انصرافي، وحتى وإن كنا قد اتفقنا على اللقاء ثانية بعد عطلة قصيرة، شعرت بالسعادة أنني حضرت هذا اللقاء بعد ذلك الاجتماع الذي ضم أعضاء المجلس الأعلى للدولة يومين من قبل.

بعدما قدمت عرضا، في وثيقة مكتوبة، عن توجهات السياسة الاقتصادية لحكومتي ورسمت أهداف هذه السياسة علنيا والخيارات المحددة لهذه الأهداف، وكذا المعطيات التي تستند إليها حكومتي، وأخيرا دعوتي جميع الجزائريين إلى إدراك أن وراء النقاش والجدل بشأن قيادة شؤوننا الاقتصادية كان رهان جوهري مطروح، رهان يتعلق بنوع المجتمع الذي نختاره، أي الطريقة التي تتصرف بها الحكومة والسلطة التي منها انبثقت ويتوقف عليها المصير الشخصي لكل جزائري. وهنا، أشعر بالغبطة أنه سبق لي أن صرحت أثناء تدخلي أمام إطارات ولاية الجزائر، في 24 جوان 1993، أنني كنت سعيدا باختياري السياسة التي كنت بصدد تطبيقها، وكنت أومن بنجاحها في النهاية وأنني في مواجهة المنتقدين، كنت أظن أنه من قبيل الشرف أن تتم تنحيتي بسبب هذه السياسة.

-15-

مذكرات بلعيد عبد السلام: تصرفات الظل .. والمساعي الخبيثة (15)
تاريخ المقال 03/08/2007
وبعدما جلسنا حول طاولة غداء شهي أعده لنا طهاة الرئيس علي كافي، افتتح الجنرال خالد نزار النقاش حول تلك المسائل التي لم يتم تناولها إلا قليلا أو بقيت عالقة في اجتماع المجلس الأعلى للدولة المنعقد يومين من قبل. وقد خاطبني قائلا لي إن المرحلة التي كنا بصدد اجتيازها من حياة البلاد كانت تتطلب حكومة قوية ومنسجمة وتغييرات لابد منها في طاقم الحكومة الذي شكلتُه عند تعييني أو في التعديلات اللاحقة.

لقد قال “مثلا، نقترح عليك تعيين وزير اقتصاد ونشير عليك بشخص يدافع بقوة عن سياستك، ألا وهو المستشار الاقتصادي للرئاسة، بوزيدي”، فما كان لي إلا أن أجبته من دون أي لف أو دوران ألا أحد قادر على الدفاع عن سياستي أحسن مني وأن جمعي بين رئاسة والحكومة وهذا المنصب يجعلني أعتقد أن تكليف شخص آخر غيري في هذه الوظيفة معناه وجوب تغيير السياسة الاقتصادية المعتمدة وأنه، في هذه الحالة، من ينبغي تغييره هو رئيس الحكومة. ما نسبه الجنرال تواتي إلى الجنرال خالد نزار زاعما أنني قبلت اقتراح تعيين وزير اقتصاد ثم تراجعت عن موقفي في اليوم الموالي هو مجرد اختراع تعوَّد عليه صاحبه – مثلما هو الحال في ما ورد في النص الذي سلمه ليومية El Watan – في دعم مكائده التي يريد أن يجر من أرادوا أن يصغوا إليه من بينهم، مع الأسف، رجال غالبا ما يشغلون مناصب مهمة في القيادة العسكرية وأجهزة الدولة. لم يحدث أبدا أن قبلت تعيين وزير اقتصاد ثم تراجعت في الغد.

في جويلية 1992، بعد تعييني على رئيس الحكومة، فكرت في تعيين مراد بن آشنهو وزيرا للاقتصاد. لم أكن أعرفه من قبل شخصيا، لكن كنت، شهورا قبل تعييني، قد قرأت له مقالات في الصحف عبر فيها عن أفكار كانت قريبة جدا من تلك الأفكار التي كنت أعبر عنها من خلال مقابلاتي الصحفية أو ندواتي العمومية. وعندما علمت أنه كان بواشنطن، قررت اعتماد الحل المتخذ من طرف الحكومة السابقة، أي الاحتفاظ بمنصب وزير الاقتصاد إضافة إلى رئاسة الحكومة مع تعيين ثلاثة وزراء منتدبين للاقتصاد. لقد بدا لي هذا الحل الأكثر مناسبة في سياق تلك الفترة التي كنت فيها بصدد إدراج إصلاحات وتدابير مصيرية في برنامج حكومتي. فحوى ما جرى، في ما بعد، من حديث حول طاولة الغداء يثبت رفضي الفوري للتخلي عن وزارة الاقتصاد. وبالفعل، أخذ الجنرال خالد نزار يلومني على إجهاد نفسي بمهام لم تكن من مستواي قائلا لي : “تشغل نفسك بتفاصيل لا لزوم لها وكان الأحرى بك أن تتركها لغيرك وتسمو عليها. ينبغي عليك أن تلتحق بنا لأننا نفكر فيك في سياق مسؤولية أعلى”. هذه “التفاصيل” لاشك أنها كانت ذات صلة بتلك اللجنة الخاصة (ad hoc) المعنية بمراقبة رخص الاستيراد. وعندما وجه الجنرال خالد نزار هذه الملاحظة إلي، أنا متأكد أن نيته كانت “حمايتي” سياسيا. ونظرا إلى المهمة التي كان يفكر فيها في ما يخصني، لعله كان يظن أنه من الأحسن لي أن أبقى بعيدا، نوعا ما، عن المعترك ولا أثقل نفسي بوظائف يمكن أن تثير، ولازالت تثير دائما، نزاعات قد تتحول إلى خلافات تضر مواصلة “مسيرتي المهنية” على الصعيد السياسي. ولعل ملاحظا خارجيا كان بإمكانه أن يسجل، هنا، أن العسكري خالد نزار كان له حس سياسي أكبر من مناضل مثلي انبثق من ذلك التيار الوطني الذي جسده أقدم حزب في الجزائر. هذا، وأغتنم الفرصة هنا لتأكيد ما قاله لي الجنرال خالد نزار ذات يوم عندما زارني بإقامتي ليخبرني بالتغييرات الحاصلة على مستوى وزارة الدفاع الوطني :

“تعيين الجنرال لمين زروال على رأس وزارة الدفاع الوطني يعني أن صاحب المنصب يتحول إلى مدني، مثله مثل باقي الوزراء في الطاقم الحكومي، على اعتبار أن لمين زروال ضابط متقاعد لم يعد في الخدمة ضمن صفوف الجيش الوطني الشعبي. غير أن القائد الحقيقي لهذا الجيش سيكون، من الآن فصاعدا، الجنرال العماري بعدما أصبح قائد الأركان العامة للجيش الوطني الشعبي. سأحتفظ بعلي كافي للفترة الانتقالية وأنت ستكون المرشح لرئاسة الجمهورية عندما يحين وقت تنظيم انتخابات رئاسية”. وتتمة للحديث حول هذا الموضوع، ينبغي أن أذكر أنه منذ تعييني على رأس الحكومة وإلى غاية أخر اجتماع لي بالمجلس الأعلى للدولة، ظل الرئيس علي كافي يكرر لي نفس الكلام : “لا تنس أنك أنت الذي وقع الاختيار عليك في ما يخص الانتخابات الرئاسية المقبلة لأننا (أي أعضاء المجلس الأعلى للدولة)، كما تعلم، قررنا عدم الترشح في هذه الانتخابات”. بطبيعة الحال، لعل الرئيس علي كافي كان يعبر عن تفضيله الشخصي لي بسبب طبيعة العلاقات التي كانت تجمعنا. ومع ذلك، ما قاله لي لم يكن سوى صدى لما كان يسمعه من حوله، أي ممن كنا نسميهم بـ “أصحاب القرار”. ولاشك أن هذا الخيار لم يكن ليرضي الجنرال تواتي الذي كانت جعبته تحمل أسماء لآخرين.

لم أفد بأي رد على هذه الإشارات المتعلقة بمستقبلي، لا بالقبول ولا بالرفض، مكتفيا بتسجيل ما كان يقال لي في كل مرة، لاسيما وأن هذه الإشارات لم تكن متبوعة بأي نقاش وأن ما كان يشغل بالي ليس الإجابة بلا أو نعم وإنما ما كان منتظرا مني مقابل العروض المطروحة علي. منذ شبابي المبكر، عاهدت نفسي على أن أبقى دائما وفيا لالتزامي الأول في خدمة وطني، متمسكا بخطي الثابت، مهما كانت تقلبات الحياة السياسية، وبالقيم الأساسية التي قامت عليها الحركة الوطنية الجزائرية التي ناضلت في صفوفها طيلة حياتي كلها : في صفوف حزب الشعب الجزائري-حركة انتصار الحريات الديمقراطية ثم في صفوف جبهة التحرير الوطني من بعد. لم أسع أبدا، وبأي شكل من الأشكال، للحصول على أي منصب من المناصب. لقد كنت مناضلا، وعلى هذا الأساس قبلت المسؤوليات التي عهد إلي بها وبذلت قصارى جهدي للقيام بها بتفان وعملت من أجل النجاح فيها قدر الإمكان. وعليه، عندما كنت، طيلة السنة التي قضيتها على رأس الحكومة، أسمع أصواتا من أكبر المصادر المأذونة تتحدث لي عن احتمال اختياري على رأس الدولة، أصررت على ألا أترك غيري يفهم أن العرض يمكن أن يجعلني أتخلى عن قناعاتي.

وسواء كنت رئيسا للجمهورية، رئيسا للحكومة، وزيرا، أو في أي منصب آخر، لا يمكن أبدا أن أتصرف إلا بحسب ما تمليه علي مثلي. هناك أصدقاء مقربون جدا من فلك الجنرال تواتي غالبا ما كانوا يأتونني ليشيروا علي بضرورة إدراك أن الرهان السياسي كان الانتخابات الرئاسية المرتقبة آنذاك بعد نهاية عهدة المجلس الأعلى للدولة وأنه كان علي ضبط مواقفي وتصرفاتي بحسب ذلك الموعد. أي أنهم كانوا يدعونني إلى المساومة بقناعاتي عند الضرورة مقابل الحصول على تأييد من أجل الظفر بمنصب رئاسة الجمهورية ؛ وهو ما رفضت الدخول في لعبته. ثم إنه ليس هناك ما يؤكد أنني لو استسلمت للعرض وقبلت، من أجل الوصول إلى رئاسة الجمهورية، بانتهاج السبيل المؤدية إلى إعادة جدولة مديونيتنا الخارجية وما كان يترتب عليها من عواقب وخيمة على حياة الشعب الجزائري واستقلالنا الوطني، لن يُلقى بي لقمة سائغة أمام سخط المواطنين عوض مساندتي للوصول إلى كرسي الرئاسة. رضا مالك – الذي أيد اللجوء إلى صندوق النقد الدولي والذي وقّع، فعلا، على الاتفاق المبرم مع هذه المؤسسة باسم الحكومة – ذاته لم يعرف مصيرا مختلفا عن مصيري كرئيس حكومة عندما “أنهيت مهامه”، كما قال الجنرال تواتي، أياما فقط بعد التوقيع على الاتفاق المذكور. هذا، ويبدو أن الجنرال خالد نزار فهمني جيدا مادام، كما ذكرت من قبل، قد كتب أنني كنت “رجل مبادئ”، يدافع دائما عن أفكارها بكثير من القناعة”.

هذا استطراد آخر لجأت إليه لذكر ما ذكرت منذ حين من أجل التأكيد أن اللقاء الذي جمعني بالرئيس علي كافي والجنرال خالط نزار كان أبعد مما يتناسب مع ما يدعيه الجنرال تواتي بافتراءاته وتشويهه لحقيقة ما جرى بيننا من حديث في هذا اللقاء الذي كان، بالنسبة إلي، لقاء تاريخيا. مواصلة لحديثنا في اللقاء المذكور، ذكّرت مرة ثانية بأهداف سياستي في المجال الاقتصادي والوسائل التي كنت أظن أنها كفيلة بتحقيق هذه الأهداف. في لحظة ما من الحديث، أخذ الجنرال خالد نزار الكلمة بنبرة توحي بنوع من الاستغراب ليخاطبني قائلا : “لكن، في هذه الحالة، لماذا تواصلون المفاوضات مع صندوق النقد الدولي ؟”. وقد بدا لي أنه كان يعتقد أن المفاوضات مع هذه المؤسسة لا يمكن أن تخص شأنا آخر غير إعادة جدولة المديونية، إعادة جدولة كانت “ستوفر للجزائر، ومنذ البداية، كنزا قيمته 14 مليار من الدولارات” كما كان يقال منذ زيارة السيد كامديسوس إلى الجزائر في أواخر شهر ديسمبر 1992.

حينئذ أجبته أن الجزائر كانت عضوا في صندوق النقد الدولي بوصفه جهازا دوليا تابعا لنظام الأمم المتحدة. وعليه، كان علينا أن نجري لقاءات دورية مع ممثليه نتناول خلالها المسائل المتعلقة بأوضاعنا الاقتصادية وإطلاع مصالحه بتطور هذه الأوضاع من كافة جوانبها. وأضفت أنه كلما ظهر مشكل ما في أوضاعنا أو في علاقاتنا بهذه المؤسسة – كما حدث منذ أن صارت مصالحها تظن أن مستوى مديونيتنا الخارجية قد بلغ حدا يحول دون الحصول على قروض جديدة على مستوى الأسواق المالية الدولية – كانت لقاءاتنا مع ممثلي صندوق النقد الدولي تتضمن مفاوضات الهدف منها الوصول إلى حلول كفيلة بتجاوز الصعوبات. غير أن هذا التساؤل البسيط الذي أدلى به الجنرال خالد نزار كان كافيا لجعلي أفهم أنني كنت في نظر أصحاب القرار في البلاد الشخص الذي كان، بسبب تصرفاتها المحكوم عليها بالذاتية والأيديولوجية، يغلق الطريق أما تدفق أموال جديدة في خزينة الدولة الجزائرية في حين لم يكن صندوق النقد الدولي ينتظر سوى توقيع بسيط من طرف الحكومة لينطلق ذلك التدفق. مثل هذا الظن كان سببه مساع خبيثة تجري في الخفاء ولا يستطيع أصحابها أن يجهروا بها ويجادلون فيها أمام الملأ مدعين الانفراد بحيازتها بفضل صلاحياتهم أو “مهنتهم” كتقنيين أو خبراء مضافا إليهم، في بعض الأحيان، أبهة صفة “الدوليين”. ولمواجهة تصرفات الظل هذه حيث يسود الكذب والتضليل، لا تجدي نفعا أكثر الوثائق دقة وإحكاما وأكثر التصريحات العمومية حجة لأن عددا كبيرا من المسؤولين لا يقرؤون ما يُكتب، هذا إذا لم يتجنبوا قراءته أصلا، بالإضافة إلى أنهم لا يهتمون بما يُعلن ظانين أنه مجرد حملات هدفها الدعاية.

-16-

مذكرات بلعيد عبد السلام: عرضت منصب وزير الداخلية على تواتي ورفض
تاريخ المقال 04/08/2007
لنعد الآن إلى سير مأدبة الغداء وما جرى بيننا نحن الثلاثة، الرئيس علي كافي، الجنرال خالد نزار والمتحدث. لاشك أن الجنرال خالد نزار لم ييأس من إقناعي بتغيير موقفي في اتجاه قبول تدخل صندوق النقد الدولي والشروط التي عادة ما ترافق هذا التدخل. فجأة، خاطبني بهذه الكلمات : “لماذا لا يتم تنظيم ملتقى لخبراء حول مسألة ديوننا الخارجية والحلول الممكنة لها ؟”.

أجبته : “أنا متفق، لكن شرط أن تكون كل المناقشات مباشرة عبر شاشة التليفزيون !”. “لمَ لا ؟”، أجابني. سأعود إلى هذا الجانب المتصل بالملتقى الذي كان بمثابة حيلة استعملها أنصار إعادة الجدولة كي يتسنى لهم إلقاء مسؤولية خيارهم على غيرهم فيجعلوا منهم، عند الحاجة، كبش فداء يمدونهم بالماء لغسل أيديهم بعد ذلك. وكما سبق ذكره، محادثاتنا نحن الثلاثة في مأدبة الغداء تلك لم تقتصر على المسألة الاقتصادية. من جانبي، قلت إنني كنت أرغب في إجراء تعديل في حكومتي مؤكدا رفضي القاطع الخضوع لإرادة الشارع في اتخاذ قراراتي والتخلي عن هؤلاء الوزراء ممن كانوا يتعرضون لحملة مسعورة من طرف الصحافة المستقلة المزعومة التي لم تكن في الواقع إلا صحافة مأمورة تحرك خيوطَها أوساطٌ من عالم الأعمال أو من داخل بعض الدوائر في السلطة. أما في ما يخص وزير الداخلية – وكما وقع الاتفاق عليه عند تنصيبي على رأس الحكومة على أن يكون تعيينه باتفاق بيني وبين وزير الدفاع الوطني – وبعد وقوع مشكلات عديدة بين الوزير القائم، الفقيد محمد حردي ووزيره المنتدب امحمد طولبة، من جهة، وقائد العمليات للولايات الوسطى المحيطة بالعاصمة، من جهة ثانية، أعربت عن رغبتي في أن يكون وزير الداخلية، هذه المرة، شخصية من الجيش. من جانبي، أعربت عن تفضيلي السيد نور الدين زرهوني لأنني كنت أحترمه ولأنه كان كذلك صاحب دراية بشؤون الأمن بفضل تجربته الطويلة في هذا الميدان الحيوي الذي صار ذا أهمية قصوى في بلادنا. ومن ناحية أخرى، ظننت أنني بفضل تعيينه، ونظرا إلى الجهة التي ينحدر منها، كان بإمكاني إضفاء بعض التوازن الجهوي على طاقم حكومتي. لقد حظي اقتراحي بتأييد تام من جانب الرئيس علي كافي الذي كان يشاطرني خياري والحجج التي أسندت بها هذا الخيار. أما السيد خالد نزار، فقد اقترح علي اسم الجنرال بتشين الذي لم أكن أعرفه حينئذ. لقد كان هذا الرجل مجاهدا وعضوا سابقا في صفوف جيش التحرير الوطني في الداخل ثم واصل مسيرته في صفوف الجيش الوطني الشعبي.

كما وقع الاختيار على اسم الجنرال تواتي من بين المرشحين للمنصب على أساس ما حصل له، في تلك الفترة – سواء داخل الجيش الوطني الشعبي أو كممثل له في اللجان الوزارية المشتركة – من دراية بشؤون الأمن والنزاعات التي ظهرت بين مختلف مصالح الدولة الناشطة في هذا المجال. وقد تم الاتفاق على أن أقوم بالاتصال به حول الموضوع. لكن قبل أن نفترق، بعد مأدبة الغداء تلك، لفت خالد نزار انتباهي إلى عدم التعويل على الجنرال تواتي بنسبة 80 % لأن هذا الأخير، كما قال، بدأ يزعجه فعلا ببعض من مواقفه بخصوص الدستور الذي كانت أصوات مقربة من الجنرال تواتي تنادي بضرورة تعديله آنذاك. وبهذه المناسبة، أخبرني الجنرال خالد نزار بتلك الزيارة التي قام بها الجنرال تواتي إلى باريس في عطلة دامت ثمان وأربعين ساعة. اتصلت بهذا الأخير بعد عودته من “عطلته”، إذاً، لمعرفة موقفه في ما يخص تعيينه وزيرا للداخلية. رفض العرض شاكرا إياي على “الثقة” التي منحته إياها، مضيفا أنه كان، أكثر من ذلك، يفكر في مغادرة صفوف الجيش الوطني الشعبي في حالة عدم حصول اتفاق بين المسؤولين حول التعديلات التي كان يراها ضرورية بالنسبة إلى الدستور. ما قاله لي أكد تلك المعلومة التي أفادني بها الجنرال خالد نزار حول مسألة التعديل الدستوري، وكان موضوعا ظل الجنرال تواتي يقلقه به إلى حد التبرم به. غير أن الجنرال تواتي، عكس الجنرال خالد نزار، لم يفصح لي عن طبيعة الخلافات بين الجنرالين بشأن دستور البلاد. ومع ذلك، أظن أن ما كان الجنرال يقوم به، حينئذ، هو امتداد منطقي لتلك الأطروحة التي كان يدافع عنها “الديمقراطيون” المزعومون وأكبر عرابيهم، الجنرال تواتي ذاته.

حسب هذه الأطروحة، النتائج الانتخابية المسجلة في ماي 1990 وديسمبر 1991 في صالح الجبهة الإسلامية للإنقاذ والتيار الإسلامي السائد آنذاك في الساحة السياسية الوطنية جاءت بفعل تصور خاطئ للتعديل الدستوري الذي تم في فيفري 1989 في عهد الرئيس الشادلي وجاء كإجراء الغرض منه الوقاية من عواقب أحداث أكتوبر 1988. دعاة هذه الأطروحة والمدافعون عنها كانوا يرفضون الاعتراف أن هذه الأحداث وقعت نتيجة سخط عميق في أوساط سكاننا بسبب تلك الأضرار التي خلفتها السياسة الاجتماعية والاقتصادية غير الشعبية المعتمدة في الثمانينيات. هذه الأطروحة، في جوهرها، لم تكن جديدة وقد سادت بمناسبة التعديل الدستوري أثناء حكم الرئيس لمين زروال في ما بعد. حسب هذه الأطروحة، الانتقال من نظام الحزب الواحد إلى التعددية الحزبية، وبالتالي الديمقراطية، ينبغي أن يكون مصحوبا بضمانات دستورية تحول دون وقوع أي انحراف قد تتسبب فيه الحمى الشعبية. بالنسبة إلى “ديمقراطيينا” المزعومين، كان ينبغي الانطلاق في الانفتاح الديمقراطي، إذاً، عبر أشد الوسائل تعارضا مع الديمقراطية، أي عدم الثقة في الشعب الذي طالما تبجحوا بكونه صاحب السيادة في كل نظام ديمقراطي جدير بهذا الاسم. الضمانات المقترحة من طرف هؤلاء “الديمقراطيين” والمدرجة في دستور 1996 باقتراح من الرئيس لمين زروال جاءت كالآتي :

- عدم الموافقة على تأسيس أي حزب سياسي قبل الحصول على اعتماد من وزير الداخلية ؛
- رفض هذا الاعتماد لكل حزب يحيل، في قواننيه الداخلية ومذهبه، على الإسلام أو على أي انتماء جهوي ولا يلتزم – وهذا ما هو سخيف – صراحة نبذ العنف من أجل الوصول إلى السلطة ؛
- تضمين المؤسسات الدستورية للدولة لآليات الغرض منها تعطيل أي قرار صادر عن أغلبية برلمانية لا تعتبره السلطة (أي المسؤولون العسكريون) القائمة مناسبا.

إن من كانوا ينتقدون الحزب الواحد ويلومونه على اعتبار نفسه قائد الشعب ينصبون اليوم أنفسهم، باسم الديمقراطية والجمهورية، أوصياء على ذات الشعب. من هذا الجانب، لم تكن أطروحة مشاهير “ديمقراطيينا” جديدة لأنها لم تكن إلا عودة إلى تلك الأفكار التي كان أعداء الحركة الوطنية الجزائرية ينادون بها في السابق والذين كانوا يعتبرون أنفسهم “نخبة” لهذا الشعب لأنه لم يبلغ مستوى النضج السياسي. لقد كانت تلك النخب، كما هو معلوم، تتكون أساسا من نفس العناصر التي بلغت حد نكران وجود أمتنتا ذاته، مدافعين عن فكرة اندماج الجزائر في فرنسا. للتذكير، أثناء إعداد الميثاق الوطني والدستور سنة 1976، ظهرت أصوات تحذر السلطة من مغبة الثقة في الشعب لأن أي قائد كاريزماتي أو أي حزب يحسن التعبئة الجماهيرية كان بوسعه أن يؤدي إلى سن قوانين تمس ببعض الحقوق الأساسية، الفردية أو الجماعية. أظن أن الحرص للحيلولة دون هذا الخطر هو الذي كان وراء إنشاء مجلس الأمة في دستور 1996 والحكم القاضي بما يسمى بالثلث الرئاسي المعطل.

إن “ديمقراطيينا” المزعومين لمولعون بمثال تركيا كمال أتترك. إنهم يظنون أن إدراج ممنوعات في الدستور كاف لصرف شعبنا نهائيا عن تلك القيم التي يبقى متمسكا بها في العمق. إنهم ينسون أن في تركيا ذاتها، الإرث “اللائيكي” لمصطفى كمال لم يمكن فرضه إلا من خلال الانقلابات العسكرية الدموية المتكررة منذ رحيل صاحبه. وعلة ذلك أن الحداثة لا يمكن أن يكون لها معنى وحظ في النجاح إلا إذا أحسن أنصارها التمييز، بروية، بين ما هو متخلف وبين ما له علاقة بالوفاء للقيم التي تشكل أساس الشخصية الوطنية. أما في ما يخص الراحل محمد حردي، فقد فكرت في تنحيته من وزارة الداخلية بسبب تلك النزاعات التي نشبت بين الأجهزة التابعة لمديرية الأمن الوطني وقيادة المنطقة العملياتية الخاصة بولايات الوسط المحيطة بالعاصمة. وكنت كلما وصلني نبأ هذه النزاعات، ملت إلى تأييد قيادة المنطقة التي كنا قد أنشأناها منذ فترة قصيرة من أجل دعم محاربة الأنشطة الإرهابية التي احتدت آنذاك، وكذا من أجل تمكين الجيش الوطني الشعبي من الانخراط بقوة أكثر في هذه المحاربة. غير أن مطالب الجنرال العماري نحو وزير الداخلية، محمد حردي، ما فتئت تتجاوز الحدود الممكنة وكذا نحو وزيره المنتدب، امحمد طولبة، الذي كان، بالإضافة إلى مهامه الوزارية، يمارس القيادة المباشرة على واحدة من المصالح الخاضعة للسلطة العملياتية التابعة للجنرال العماري. لقد قال لي امحمد طولبة إنه كان من السهل تجريده من جميع المهام لكنه لم يكن ليقبل، بأي حال من الأحول، تحمل مسؤولية أفعال لم يكن هو صاحبها ولم يكن حتى على علم بها أصلا. أضف إلى ذلك أن محمد حردي صار نوعا من “الشخصية غير المرغوب فيها” في نظر بعض الجنرالات ممن كانوا يلومونه على إزعاجه لهم من خلال بعض تصريحاته. لذلك، وجدت أنه من الضروري تصفية الأجواء بين الجيش الوطني الشعبي والحكومة لاسيما وأنني كنت قد اتفقت، منذ البداية، مع الجنرال خالد نزار على أن يتم تعيين وزير الداخلية بموافقتنا نحن الاثنين ؛ عكس باقي المناصب الوزارية التي تُركت لي، صراحة، الحرية التامة في تعيين أصحابها.

-17-

مذكرات بلعيد عبد السلام: ما حدث في جانفي 1992 لا يختلف عن انقلاب 1965
تاريخ المقال 05/08/2007
تلك كانت الظروف والاعتبارات التي أدت بي إلى التفكير في تنحية محمد حردي – لكن من دون إبعاده من الحكومة – والبحث عن شخصية أخرى كنت أرغب أن تأتي من صفوف الجيش الوطني الشعبي ذاته، سواء كانت في الخدمة أو في حالة تقاعد، تجنبا للصدامات التي ميزت، طيلة فترة حكومتي، العلاقات بين بعض القادة العسكريين والأجهزة التابعة لمديرية الأمن الوطني أو الإدارة الإقليمية. إلا أنني كنت، مع ذلك، مصرا على الاحتفاظ بمحمد حردي في الطاقم الحكومي مكلفا إياه مهمات أخرى. موقفي من هذه المسألة عبرت عنه بكل قوة، وقد قبله كل من الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار.

لقد كنت مقتنعا، حتى في حالة عدم وجود خلافات تعكر جو العلاقات بيننا، أن الجنرال تواتي ما كان ليقبل بمنصب وزير الداخلية. دور “الرجل النافذ” الذي كان يؤديه في الظل كان يناسبه أكثر من منصب في الحكومة حيث ينكشف أمام الملأ ويعرض نفسه للمساوئ الناجمة عن تقلد المناصب ولخطر المواجهة مع الآخرين في وضح النهار. البقاء في الكواليس كان أحسن له لحبك خطوط المؤامرات وضرب الناس من دون تحمل للمسؤولية. هذا الوضع هو الذي سمح له بمواصلة دوره، خلافا لمنصب وزير الداخلية الذي كان سيضطره إلى العمل في العلن. الرأي القائل إنني فكرت في عرض منصب وزير الداخلية على الجنرال تواتي لأنني علمت أنني كنت بصدد تبديلي برضا مالك على رأس الحكومة ما هي إلا عينة من تلك الأوهام المخترعة من طرف الرجل ذاته من أجل إغاظتي وخلق الشكوك لدى الناس في الوقت ذاته. ومع ذلك، فقد بدأت فكرة تبديلي برضا مالك تنتشر منذ أوائل 1993 في شكل إشاعة وصلتني عن طريق بعض الأصدقاء المقربين من الأوساط التي كان الجنرال تواتي يتحرك فيها. ولم أعرها أي اهتمام ولم يكن لدي أبد ما يقلني بشأنها لأن وصولي على رأس الحكومة كان قائما على التزامي السياسي وتلك التصورات التي كانت لي لا بفضل ولائي لشخص ما وانتمائي إلى عصبة ما من بطانة الحكم. أضف إلى ذلك، وكما ورد من قبل، المصير الذي كان يتم التفكير فيه بشأني بلغني من مسؤولين أكثر مصداقية بكثير من الجنرال تواتي. وعليه، كنت في غنى عن إعارة أي اهتمام لتلك الشائعات الخائبة التي كان يروج لها هذا الأخير.

أما في ما يتعلق بمكان لقائي للجنرال تواتي، فقد تم هذا اللقاء، فعلا، بمقر إقامتي الرسمية. لكن لا لأن الجنرال تواتي فرض هذا المكان كما يزعم في افتراء آخر له وإنما لأنه كان، وببساطة، المكان الذي كنت أستقبل فيه معظم زواري، بل وحتى المساعدين لي. المشرفون على مصالح الأمن المكلفة حمايتي كانوا ينصحونني بتقليص تنقلاتي في شوارع العاصمة إلى أقصى حد لا يتجاوز المسافة الفاصلة ما بين مقر إقامتي ومكتبي بقصر الحكومة. فلو حاول الجنرال تواتي فرض أي مكان ما للقاء لرفضت استقباله، ناهيك عن دعوته إلى مأدبة غداء في نهاية محادثاتنا. لقد تمت هذه المحادثات بيننا في جو لائق ماعدا تلك اللحظة التي سمعته يقول فيها إن الشكوك كانت تساوره بشأن نجاح سياستي في مجال الديون الخارجية انطلاقا من معطيات زوده بها إطار سام في بنك الجزائر ومن تلك الزيارة التي أخبرني أنه قام بها إلى فرنسا للتأكد، لدى الخزينة الفرنسية، من صحة الأرقام الواردة في تصريح رسمي ووثيقة مكتوبة ومنشورة في جميع الصحف التابعة للقطاع العام في الجزائر.

لنعد، مرة أخرى، إلى لقاء 20 جويلية 1993 بمقر إقامة الرئيس علي كافي على شاطئ البحر. عاود الجنرال خالد نزار طرح مسألة تنظيم المرحلة الانتقالية المنتظرة لنهاية السنة بعد انتهاء عهدة المجلس الأعلى للدولة. في مخاطبته لي مباشرة، قال لي إنه كان علي أن أسهم في صياغة الحل الواجب اعتماده بعد انتهاء عهدة المجلس، مشيرا إلى أن الحوار الجاري مع بعض الأحزاب لم يسمح بالخروج بحل يحظى بموافقة الجميع. الفكرة التي كان بصددها، وبإيعاز من الجنرال تواتي لاشك، كانت تفيد باستدعاء ندوة وطنية الغرض منها اعتماد ما يكون قد اتخذ من تدابير في مجال تنظيم المرحلة الانتقالية المرتقبة. لقد كان الجنرال تواتي دوما حريصا على إلباس كل مبادرة ثوب الديمقراطية منذ توقيف المسار الانتخابي في جانفي 1992، علما أن جميع المبادرات لم يكن لها، في الواقع، مصدر آخر غير حاشية وزير الدفاع، أي القيادة العليا للجيش الوطني الشعبي، التي كانت، في نهاية الأمر، هي مصدر القرارات المتصلة بمصير البلاد في تلك المرحلة العصيبة التي بدأت منذ جانفي 1992 ثم اشتدت صعوبة بسبب الفراغ السياسي الناجم عن فاجعة الرحيل المفاجئ للرئيس محمد بوضياف. لقد كان الجنرال تواتي يرى تلك الألاعيب السياسية – التي كانت الصحف تقدمها في صورة المناقشات الخصبة – بمثابة البعث السياسي والازدهار الديمقراطي. تلك الصحف التي كان الجنرال تواتي، على العموم، المشرف عليها والحامي لها بالإضافة إلى تلك الزمر السياسية التي كان يحلو للجنرال تواتي تقديم نفسه على أنه عرابها.

لم يخف الجنرال خالد نزار خيبة أمله في الحوار الذي انطلق في سبتمبر 1992 مع عدد من الأحزاب التي كان يرجى منها تأييد صريح ما للمسار السياسي المعتمد منذ توقيف المسار الانتخابي في جانفي 1992. وقد ذكرني أنني، في نهاية الأمر، لم أخطئ عندما حذرتهم من أن الحوار لن يؤدي إلى نتيجة عندما طلبوا مني رأيي فيه. الدعم الذي لقوه من جانب أحزاب الأقلية، مثل التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية أو الحزب الشيوعي وكذا من شخصيات “ديمقراطية” لكنها لا تمثل رأينا العام الوطني لم يكن من شأنه جلب التأييد المرجو لمواجهة الوضع الناتج عن رحيل الرئيس الشادلي وإلغاء نتائج انتخابات ديسمبر 1991. لقد كانوا يعرفون أن الرأي العام، الوطني والدولي، كان يعتبرهم وحدهم المسؤولين عما وقع من أحداث أرادوا، ولا زالوا إلى اليوم، يحاولون تقديمها على أنها كانت محتومة وأن تدخلهم فرضته الظروف الناجمة عن إفلات زمام الأمور، هذا الإفلات الناجم بدوره عن الانفتاح “الديمقراطي” الذي قرره الرئيس الشادلي إثر أحداث أكتوبر 1988. وعليه، اكتفيت بتذكير الرئيس علي كافي و الجنرال خالد نزال بالحلول التي كنت قد اقترحتها في تلك الخلاصة التي أدرجتها في برنامج حكومتي المقدم للمجلس الأعلى للدولة.

كل شيء كان يشير إلى أن “منظِّري” تغيير جانفي 1992 كان لديهم بعض الإعجاب بالطريقة التي حاول الرئيس بومدين بها الحصول – وقد حصل له ذلك ولو من بعد – على موافقة المؤسسات السياسية في تلك الفترة على الإطاحة بالرئيس بن بلة ونظامه في 19 جوان 1965 ؛ وكانت، للتذكير، إطاحة تمت عن طريق الجيش الوطني الشعبي. أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني، نواب الجمعية الوطنية أمضوا كلهم، إلا قليلا منهم، تصريحات أكدوا فيها الإطاحة برئيس الجمهورية وتعليق العمل بالدستور وبالتالي حل المؤسسات السياسية القائمة بموجب أحكام هذا الدستور. في الوقت ذاته، أقرت هذه التصريحات، نوعا ما، الهيئات الجديدة باسم المشروعية الثورية لتسيير شؤون الأمة تحت نظام الانفراد بجميع السلطات. ما تم في جانفي 1992، لم يختلف جوهريا عما وقع في جوان 1965 ماعدا أن مدبري الانقلاب لم يريدوا، في هذه المرة، تسمية الأشياء بأسمائها ؛ مما أدى إلى كل تلك المناورات السياسية التي لجأوا إليها إلى غاية انتخاب لمين زروال على رأس الجمهورية سنة 1995. كما نعلم، لقد كانت هذه الانتخابات بداية لعملية “تطبيع” للأوضاع السياسية في الجزائر من خلال العودة إلى المسار الديمقراطي والحياة الدستورية. أثناء محادثاتنا، تعرض الجنرال خالد نزار أيضا إلى ما أسماه بمساعدة “الصحافة المستقلة”. ولاشك أنه كان يقصد، من دون الجهر به، تمويل خزينة الدولة لطبع الصحف التي اتخذت منها الأوساط “الديمقراطية” منبرا والتي لم تكن صلاتها ببعض الدوائر في وزارة الدفاع الوطني لتخفى على أحد. أجبته أننا كنا بصدد وضع قانون للصحافة المكتوبة في إشارة إلى الصيغ التي يمكن للدولة أن تقدم بها المساعدة إلى جميع الصحافة المكتوبة على أساس مقاييس موضوعية يتم اختيارها بمشاركة أهل المهنة أنفسهم. في الواقع، بالنسبة إلى من كانوا يتدخلون لدى الجنرال خالد نزار في ما يتعلق بهذه المساعدة، اتصل الأمر بالحصول عليها في صالح الصحف التي كانت تؤيد مواقف عصبة “الديمقراطيين” حتى وإن ظلت هذه الصحافة تدعي أنها حرة ومستقلة. هذه الصحافة “الحرة والمستقلة” كانت، فعلا، مجموعات من القطاع الخاص تصدرها ولم تكن عناوينها تابعة للقطاع العام. غير أن هذه المجموعات كانت تتشكل أيضا من عناصر معروفة بعدائها لجبهة التحرير الوطني والقيم التي دافعت عنها الحركة الوطنية دائما. كما أن توجهاتها السياسية والأيديولوجية كانت متماشية مع أراء مشابهة لتلك التي كانت للجنرال تواتي ومن كانوا، باسم ترقية قيم الجمهورية ومبادئ الديمقراطية، يظنون أنهم قادرون بفضلها على وأد جبهة التحرير الوطني من الناحية الأيديولوجية والتمكن، نهائيا، من إصدار شهادة الوفاة للوطنية الجزائرية.

كما تحدثنا، باختصار، في اللقاء المذكور عن كثرة الموظفين بديواني في قصر الحكومة. في الواقع، ومنذ إنشاء وظيفة الوزير الأول ثم رئيس الحكومة، كان كل معين في هذا المنصب يأتي بجماعة من الإطارات لتعمير ديوانه. غير أن هؤلاء – أو قسما كبيرا منهم – لم يكونوا يرحلون مع رئيسهم السابق بعد تبديله. لذلك، صار ديوان رئيس الحكومة، مع الزمن، مليئا بالأطقم المتلاحقة ؛ مما نتج عنه اكتظاظ في احتلال المكاتب المخصصة لهذا النوع من الإطارات. وقد شرعت في تسريح الكثير من هذه الإطارات إلا أنني لم أرد أبدا حرمانهم من مصدر رزق معيشتهم وعملت على أن أضمن لهم منصبا يمكنهم من الاستمرار في تقاضي رواتب محترمة. لم يكن ذلك بالأمر الهين بالنظر إلى كثرة عددهم وكان من الصعب إيجاد مناصب لهم في مختلف أجهزتنا سواء على مستوى الإدارة أو المؤسسات العمومية الوطنية. لقد أدى مثل هذا الوضع إلى جو مزعج على مستوى ديواني حيث ساد الانطباع أنه كان مكانا للخمول لا يفيد سير مؤسسة في مقام مؤسسة رئاسة الحكومة. وقد أثار هذا الوضع انتباه الجميع، لاسيما الجنرال خالد نزار الذي كان يتمنى وضع حد لحالة شكلت مصدر انتقادات مضرة بسلطة رئيس الحكومة.

-18-

مذكرات بلعيد عبد السلام: فضلت زرهوني وزيرا للداخلية على بتشين (18)
تاريخ المقال 06/08/2007
في نهاية مأدبة الغداء، وبعد تناولنا لجميع المسائل المطروحة، انصرفنا لقضاء عطلة لمدة أسبوعين، متفقين على اللقاء مرة أخرى في نهاية هذه العطلة. من جانبي، خرجت من هذا اللقاء ولدي شعور واضح جدا أن القرار قد اتخذ – حيث تتخذ القرارات الحاسمة – بشأن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي من أجل إعادة جدولة ديوننا الخارجية وأنه كان هناك سعي لإقناعي بهذا الحل لأكون، أنا، صاحب المبادرة في إبرام العقد مع هذه المؤسسة.

متخليا بذلك عن تلك السياسة التي رسمتها على أساس قناعاتي ومبادئي، تاركا نفسي أنخدع بوعد لم يكن إلا وهميا بترقية إلى أعلى منصب في سدة الحكم. وبما أنني لم أكن مستعدا أبدا لتغيير سياستي، لم أشك أبدا في طبيعة ما سيقع في اللقاء الذي اتفقنا علية بعد العطلة. هكذا، إذاً، غادرت مقر إقامة رئيس الدولة حريصا على عدم الاستسلام أبدا لإرادة من كانوا، على غرار الجنرال تواتي، يشكون في قدرتي على “التكيف مع السياق السياسي والاقتصادي الجديد” من أجل أن يقول عني هؤلاء، يوما ما، إنني كنت رجل انفتاح، قادرا على التطور وله من الذكاء ما جعله يدرك التحولات المستجدة في العالم. لا أرجو من غيري مدحي على حساب قناعاتي ومبادئي ليقال عني يوما إني تنكرت لهذه القناعات وهذه المبادئ من أجل إرضاء نفسي بوهم وغرور مصدرهما وعد لم يكن أكيدا على أية حال. ما الذي كان يضمن لي أنني بعد قبول حبل صندوق النقد الدولي حول عنقي لن يلقى بي، بعد ذلك، إلى انتقام الجماهير وسخط الأغلبية الساحقة من مواطنينا وأصير محل احتقار من طرف من كان يحترمني بسبب وفائي لمبادئي وقناعاتي ورفضي الاستسلام لأطماع سياسية. لننظر إلى ما حدث لرضا مالك بعدما أبرمت حكومته الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ! لكن بالنسبة إلى الجنرال تواتي وأتباعه، كل هذه الاعتبارات هي دلالة على التحجر الفكري لا يسمح لصاحبه باستخلاص العبر من تطور الأمور ويمنعه من إدراك تلك التحولات الناجمة عن التقدم والحداثة.

بعد اللقاء المذكور بفترة قليلة، زارني جنرال آخر، وكان من المساعدين المباشرين للجنرال خالد نزار، ليقول لي : “سي خالد كلفني، قبل ذهابه، بزيارتكم لأحاول إصلاح ذات البين بينكما” فأجبته : “لكن ليس هناك أي نزاع بيننا. تريدون تغيير السياسة الاقتصادية فغيروا رئيس الحكومة !”. حينئذ رد علي قائلا : “كلا ! ما جئتكم لهذا. الأمر لا يتعلق إلا بتعيين وزير للاقتصاد. فإذا كان السيد بوزيدي لا يعجبكم، يمكن أن تعينوا محمد حردي في المنصب مادام هذا الأخير مغادرا لوزارة الداخلية وتريدون الإبقاء عليه في الحكومة”. أجبته : “كلا ! لا يتعلق الأمر بمسألة شخص ما. مطالبتي بتعيين وزير للاقتصاد، منصب أشغله حاليا بالإضافة إلى رئاسة الحكومة، لا يمكن أن تكون له دلالة أخرى غير تغيير السياسة الاقتصادية”. حينئذ، بدأ بيننا حديث عما يمكن أن يحصل من آثار إيجابية للجزائر بفضل إبرام اتفاق اقتصادي مع صندوق النقد الدولي. وقد بدأ مخاطبي يتلو الحجة بعد الأخرى، وكانت حججا سمعتها من قبل، أي حصول الجزائر، بفضل هذا الاتفاق، على أموال كثيرة من المؤسسة المذكورة كفيلة بأن تمكن الجزائر من انطلاقة اقتصادية وخلق عدد كبير من مناصب الشغل تحد من البطالة وتحول دون التحاق شبيبتنا بصفوف الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجبال وبفلول الإرهاب بالمدن. ما قاله لي أكد إحساسي أن القرار قد اتخذ نهائيا في ما يخص اللجوء إلى إعادة الجدولة ولم يبق إلا حملي على الموافقة على هذا المعطى المستجد في تطور أوضاع البلاد. كان كل شيء يظهر على مستوى دوائر “اتخاذ القرار” كما لو أن الجنرال تواتي وأتباعه كانوا يسعون لاستغلال ذلك الجدل المتعلق بكيفية معالجة مديونيتنا الخارجية لدفعي نحو باب الخروج فيتمكنوا من إبرام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي بينما كان آخرون يحاولون ضرب عصفورين بحجر : إبرام هذا الاتفاق مع الاحتفاظ بي على رأس الحكومة.

في الحقيقة، كان الكثير عندنا مبهورين بالـ 14 مليار دولار التي تحدث عنها المدير العام لصندوق النقد الدولي، السيد كامديسوس، بمناسبة زيارته إلى الجزائر في أواخر شهر ديسمبر 1992. التوضيحات المقدمة شفويا وكتابيا حول الإسهام الحقيقي لهذا المبلغ في الانطلاقة الاقتصادية لاقتصادنا لم تكن مفهومة لدى البعض من مسؤولينا ممن كانوا لا يأخذون بعين الاعتبار إلا ما كانوا يسمعونه من آراء ومعلومات من أفواه المعنيين، لاسيما تلك التي كانت تصدر عن إطارات مزعومين من المستوى العالي، ذوي شهادات جامعية كثيرة واشتهروا بكونهم خبراء دوليين بارزين لم يترددوا في إقناع من كانوا مستعدين للإصغاء إليهم والثقة في آرائهم في إسناد “خبراتهم التقنية” بمعطيات مغلوطة أو مشوهة كانوا ينشرونها بغرض التأثير في المسؤولين وانتزاع ما كانوا ينتظرون منهم من قرار واستسلام لهم. وخلافا للجنرال تواتي، كان الجنرال الذي زارني “منتوجا خالصا” لجبهة التحرير الوطني. لقد التحق هذا الضابط السامي بصفوف جيش التحرير الوطني في سن مبكرة وظل أثناء مسيرته كلها متشبعا بقيم ثورتنا. لذلك، لم يكن في حديثنا حذر خفي ونفور متبادل مثلما وقع لي مع الجنرال تواتي في لقاءاتنا بسبب التعارض الموجود بيننا على المستوى الأيديولوجي. في الأيام الأولى من عمر حكومتي، كانت علاقاتي بالجنرال تواتي لائقة، بل لم تخل من الثقة أحيانا إلى أن لمست تعارضا في المرجعية التي كان كل منا يستند إليها في المجال السياسي.

لقد جرت بيني وبين مساعد الجنرال خالد نزار لقاءات أخرى أتاني فيها من أجل فض ما أسماه الموفد بـ “النزاع” الذي ثار بيني وبين رئيسه أثناء مأدبة الغداء المذكورة. وقد تبادلنا الآراء حول أسماء وزراء جدد لتعيينهم بمناسبة ذلك التعديل الذي كنت أنوي إجراءه عند الدخول الاجتماعي. كما اتفقنا على أسماء واختلفنا حول أخرى وتعرضنا للجنرال بتشين الذي اقترح علي تعيينه وزيرا للداخلية بينما كنت أفضل نور الدين زرهوني، المعروف بيزيد، والذي كنت أعرفه منذ أيام مدرسة إطارات الولاية الخامسة بمدينة وجدة. وقد بقيت الأمور عند هذا الحد حتى ذلك اليوم الذي أخبرت فيه بانتهاء مهامي كرئيس حكومة. وكي أجيب عن تلك الأحكام القطعية الصادرة عن الجنرال تواتي حولي أجد نفسي – على العكس منه وبسبب الشهرة التي حصلت له بفضل منصبه في وزارة الدفاع ودوره، أحيانا، كناطق رسمي باسم الجيش الوطني الشعبي لاسيما عندما يوقع على مقالات صادرة بمجلة الجيش – مضطرا، في الرد، إلى إفاضة لعلها مملة لكنني أعتبرها أحسن طريقة لكشف الحقيقة وملابساتها. أما هو، بالعكس، فنجده يكتفي بإطلاق أحكام جزافية ليست إلا افتراءات غالبا ما يعتبرها قارؤها حقائق ثابتة من دون تكليف النفس عناء التأكد من صحتها لا لشيء إلا لأن صاحبها شغل وظائف سامية بمؤسسة اشتهرت بجديتها.

11. “… فكرة الفترة الانتقالية ذاتها جاءت نتيجة المدة التي اقترحها السيد عبد السلام (3 أو 5 سنوات) بهدف التمكن من تطبيق برنامجه. إلا أنني اكتشفت، مع مرور الوقت، أنه لم يكن ليرض بتصور آخر غير تصوره. في الحين الذي كانت نهاية عهدة مجلس الأعلى للدولة، وبمقتضى تصريح 14 جانفي 1992، محددة بشهر ديسمبر 1993، أي بموعد انتهاء عهدة الرئيس السابق، كان السيد عبد السلام يعتبر أن هذه العهدة ينبغي تمديدها. لكن حتى هذا المشكل كان من الممكن إيجاد حل له من خلال تعديل دستوري يتضمن أحكام انتقالية من شأنها إسناد النشاط الحكومي، بل وحتى تمديد عهدة المجلس الأعلى للدولة بفترة معينة. غير أن السيد عبد السلام لم ير الأمور هكذا وإنما كان يدعو إلى فرض حالة الظروف الاستثنائية لا حالة الطوارئ فقط”. فعلا، وكما ورد في نص الخلاصة التي تضمنتها وثيقة مشروع برنامج حكومتي في سبتمبر 1992، كنت أدعو إلى اعتماد فترة انتقالية تفصلنا عن الوضع المتميز بإلغاء المسار الانتخابي في جانفي 1992 مادامت البلاد متجهة نحو العودة إلى الانتخابات من أجل إقامة المؤسسات المنصوص عليها في الدستور. أذكر أن هذا الاقتراح كنت قد أشرت إليه في أوائل جانفي 1992 عندما بدأ الحديث عن رحيل الرئيس الشادلي الذي لم تعلَن “استقالته”، غير التلقائية، آنذاك بعد. يبدو الجنرال تواتي، مرة أخرى، معترفا لي ببعض الفضل، أي بكوني مصدر فكرة المرحلة الانتقالية. لكنه، في الوقت ذاته وكعادته، يبدو أنه لا يتردد في السماح لنفسه بتشويه الحقيقية. يكفي القارئَ الرجوعُ إلى نص خلاصة مشروع برنامجي الحكومي ليكتشف ذلك الفرق الموجود بين اقتراحي وبين الفكرة التي يريد الجنرال تواتي تقديمها في حواره الصحفي مع يومية El Watan الصادرة بتاريخ 27 سبتمبر 2001.

الاقتراح الذي قدمته بشأن إعلان حالة الظروف الاستثنائية تمثل أساسا في تعليق الدستور انطلاقا من تطبيق حكم وارد في هذا الدستور نفسه، مع التعهد بالعودة إلى المسار الانتخابي بعد فترة خمس سنوات وبعد تطبيق برنامج لتطهير الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد. ومعنى ذلك ضرورة التقدم إلى الشعب بروزنامة دقيقة وبآفاق واضحة في اتجاه تحسين معيشة الجماهير الشعبية، أساسا، بما سيسمح بتغيير المعادلة في البلاد قبل العودة إلى الناخبين ثانية. أما في حالة العكس، فأشرت في اقتراحي ألا بديل آخر غير مواجهة من تمردوا على الدولة والدخول معهم في تنافس طويل تكون نتيجته، في النهاية، في فائدة مصالح الأمن لكن بخسائر باهظة لشعبنا. ألم يكن ذلك ما وقع في نهاية المطاف عندما ننظر في الفترة الممتدة من جانفي-جويلية 1992 والسنة 1996-1997 التي تميزت بالانتهاء من العمليات الانتخابية المكرسة لتطبيع الحياة السياسة بالجزائر بعد كل ما وقع منذ ديسمبر 1991 ؟ من، ماعدا الجنرال تواتي ومن رأى فيه صاحب دراية مزعومة بالمسائل القانونية، يستطيع أن يقول، اليوم، بصدق إن الدستور لم يتم تعليقه وإن حالة الظروف الاستثنائية لم تطبق ميدانيا في تلك الفترة ومن دون الإقرار بوجودهما من الناحية الصورية ؟ وإلا، فماذا يعني إعلان حالة الطوارئ غير تعليق الدستور ومنح رئيس الدولة جميع السلطات من أجل حماية الجمهورية وخلاص الأمة ؟ أكثر من ذلك، حالة الطوارئ التي تبناها الجنرال تواتي أو دعا إليها أفضت إلى حالة الظروف الاستثنائية، ومن دون رئيس جمهورية ؛ وهو ما يشكل، من الناحية القانونية، أمرا أسوء من حالة الظروف الاستثنائية ذاتها. يُنسب، ربما خطأ، إلى تواتي نظرية مفادها أن حالة الظروف الاستثنائية كان معناها استيلاء الجيش الوطني الشعبي على السلطة مباشرة. من يستطيع أن يثبت، من دون أن يعرض نفسه للسخرية، أن الجيش لم يمارس السلطة العليا، وبصورة انفرادية، في الجزائر أثناء تلك الفترة ؟ ومن منا يستطيع أن يدعي أن تنصيب المجلس الأعلى للأمن للمجلس الأعلى للدولة، سنة 1992، ولرئيس الدولة سنة 1994 كان، من الناحية القانونية، شيئا آخر غير مهزلة أريد بها تمويه واقع الأمور، أي تعطيل العمل بالدستور والدخول في نظام حالة ظروف استثنائية ازداد سوءا بسبب غياب رئيس جمهورية منتخب مسبقا له الحق في اللجوء إلى تطبيق حكم دستوري يقضي بإعلان حالة الظروف الاستثنائية لمواجهة وضع استثنائي يحمل خطرا داهما ؟

في الواقع، مواصلة العمل بالدستور من الناحية الشكلية على الرغم من تجاهله في الميدان إلى حد إبطال العمل به تقريبا كان عبارة عن مراوغات سياسية وقانونية استطاع بفضلها الجنرال تواتي ومن وثق فيه التهرب من مسؤولياتهم بل، وبعبارة أكثر صراحة، إقامة نظام قائم على اللامسؤولية. هذا هو السبب الذي يسمح لمدبري عملية جانفي 1992 بمواصلة القول إن الرئيس الشادلي استقال بعد حله للمجلس الوطني الشعبي وأن هذا الرئيس ترك لهم البلاد أمام فراغ دستوري كان عليهم أن يسدوه من خلال تأسيس المجلس الأعلى للدولة من طرف المجلس الأعلى للأمن بعدما رفض المجلس الدستوري الدخول في تلك اللعبة التي لم تخف على أحد. الاعتراف بإجبار الرئيس الشادلي على الاستقالة إنما هو إقرار أن الرئيس لم يستقل ولم يتسبب في فراغ دستوري وإنما تم خيار اللجوء إلى هذا الحل بالقوة، أي إلى انقلاب في نهاية الأمر. فلو اعترف مدبرو عملية جانفي 1992 بالأمور كما وقعت فعلا لاضطروا إلى الإقرار بمسؤولية الانقلاب الذي قاموا به ومن ثمة إلى الاضطلاع صراحة بمسؤولية تسيير شؤون البلاد. لم يكن الحل الذي لجأوا إليه سوى تهربا من المسؤولية مثلما يتهرب المنافق. هكذا، استطاعوا أن يحمِّلوا الوزر كله للمجلس الأعلى للدولة الذي أرادوه لهذه الغاية بالذات وباركوه بتنصيب شخصية تاريخية في ثورتنا على رأسه. الفراغ الدستوري الذي اختلقه هؤلاء تقرر في كنف السرية والتجاهل لتلك الأحكام الدستورية التي تنص على حالات حل المجلس الشعبي الوطني.

-19-
أنا مع الانقلاب على بن جديد لو حدث قبل الانتخابات الملغاة
تاريخ المقال 07/08/2007
اقتراحي الخاص بإعلان حالة الظروف الاستثنائية لو حظي بالقبول لسمح – ولو بصورة متأخرة لأننا كنا في شهر سبتمبر 1992 – بترتيب الأمور على المستوى الدستوري. في نهاية الأمر، وفي جانفي 1992، وقع في بلادنا انقلاب سياسي حقيقي حتى وإن لم يعترف به مدبروه كي يمكنهم التهرب من المسؤولية ومن الاضطرار إلى الاضطلاع بمهام تسيير شؤون البلاد.
ومهما حاول هؤلاء تغطية الشمس بالغربال، متخفين وراء استقالة الرئيس الشادلي، فإن ما قاموا به في جانفي 1992، في نظر مواطنينا، الملاحظين الأجانب والتاريخ لا يعدو أن يكون مجرد انقلاب لا يراد تسميته باسمه.
ومع ذلك،هناك سبب آخر في تفسير الحيل التي لجأ إليها القائمون بهذه العملية لتمويه الطبيعة الحقيقية لفعلتهم.
إعطاء الانطباع بقيام انقلاب كان يقتضي بالضرورة، أولا، إعلان الإطاحة برئيس الجمهورية بقرار صادر عن القوات المسلح ؛ ثانيا، تقديم تفسير من جانب هذه القوات للدوافع التي أدت بها إلى التدخل وطرد رئيس الدولة بالقوة.
غير أن ذكر مثل هذه الدوافع لم يكن بمقدوره تفادي شجب السياسة المتبعة من طرف رئيس الدولة المخلوع واعتبار هذا الأخير المسؤول عن تدهور الأوضاع في البلاد. وبعد شجب هذه السياسة، كان على مدبري الانقلاب أن يحددوا سياستهم الجديدة بالنسبة إلى المستقبل في مكان السياسة القديمة، لاسيما في تلك المجالات المتصلة مباشرة بحياة الناس الذين أدت الطريقة التي صوتوا بها في الانتخابات إلى ظهور الأزمة.
وبعبارة أخرى، لم يكن ممكنا الإطاحة بالرئيس الشادلي من دون شجب سياسته، كما لم يكن ممكنا شجب هذه السياسة ثم مواصلتها من دون إجراء تغييرات جوهرية فيها بعد خلع الرئيس.

اليوم، وفي ضوء ما وقع في الجزائر منذ جانفي 1992، يتضح أن الذين دفعوا الرئيس الشادلي إلى “الاستقالة” بقوا متمسكين بنفس السياسة التي شرعوا فيها لاسيما بعد فتح الاقتصاد الوطني للقطاع الخاص، التنازل عن أملاك الدولة للخواص، استيلاء المتعاملين الخواص على الأنشطة التجارية الرئيسية خصوصا في التعامل مع الخارج.
بل يمكننا القول إن الخيار الذي تم اعتماده في جانفي 1992 بشأن مواصلة السياسة المتبعة في المجال الاقتصادي في عهد الرئيس الشادلي كانت تحمل في طياتها اللجوء إلى صندوق النقد الدولي والقبول بشروطه من أجل حل مشكل الديون الخارجية للجزائر.
تمويه الانقلاب الذي أطاح بالرئيس الشادلي في شكل استقالة لَيتضح اليوم في أجلى صورته، أي مواصلة سياسة لم يرد أصحاب هذا الانقلاب التخلي عنها لأنها تخدمهم. بالنسبة إلي، الإطاحة بالرئيس الشادلي لم يكن من الممكن تبريرها إلا باعتماد سياسة مغايرة عن سياسته، سياسة متجهة بكل قوة نحو تلبية تطلعات الجماهير، أي نحو كتلة الناخبين الذين عبروا، من خلال تصويتهم، عن سخطهم على الحكم القائم منذ 1979، مؤدين بذلك إلى خلق الحدث الذي أفضى إلى خلع الرئيس الشادلي. عدم تغيير السياسة المتبعة من قبل كان يدل على أن أصحاب القرار اختاروا مصالح أخرى مختلفة
عن مصالح الجماهير الشعبية.
عندما دعيت إلى ترؤس الحكومة، قدمت برنامجا تضمن تدابير لتصحيح ذلك الاتجاه الذي كان يتجاهل الأسباب الحقيقية للأزمة.
لقد اقترحت، في المجال الاقتصادي والاجتماعي، أهداف وإجراءات بهدف الاستجابة لانشغالات الأغلبية الساحقة من الجزائريين وإعادة الثقة لهم من جديد في الدولة والأمل في ألا يُضحَّى بمصالحهم المشروعة خدمة لمصالح الطامعين في الاستيلاء بسرعة على خيرات البلاد.
إن الغاية التي استهدفتها من برنامجي هو كسب تأييد الشعب، ولو بعد فترة طويلة نسبيا، للنظام الذي قام بعد جانفي 1992 فتتأتى له المشروعية الشعبية التي افتقر إليها في البداية.
قد يلاحظ البعض أنني ما توخيت هذا التأييد وهذه المشروعية إلا لنفسي وأنني كنت أريد أن أغتنم فرصة تعييني
من طرف المجلس الأعلى للدولة لخدمة طموحي الخاص.
حقيقة، من البديهي أن يكون من شأن نجاح برنامجي كسب التأييد لحكومتي، غير ألا أحد كان من الغباء ما يجعله لا يدرك ما كان يجري فعلا على ساحتنا السياسية منذ جانفي 1992.
من كان باستطاعته أن يشك في أن كلا من المجلس الأعلى للدولة والحكومة لم يكونا إلا صنيع السلطة التي كان أصحابها الفعليون هم قادة الجيش الوطني الشعب؟ وعليه، كل نجاح لحكومتي كان لابد وأن يوضع في حساب هذه السلطة التي يبقى عمل الحكومة مرهونا بإرادتها وتأييدها.
كما أن كل إخفاق كان سيرد إلى ذات السلطة.
من يستطيع، اليوم، الادعاء أن قادة الجيش الوطني الشعبي لم يورطهم الرأي العالم في مسؤولية ما وقع من عواقب وخيمة جراء الاتفاق المبرم مع صندوق النقد الدولي سنة 1994 ؟

لو جنبنا البلاد الوقوع ضحية مثل هذه العواقب ولو تركنا لها إمكانية الخروج من أزمة المديونية مرفوعة الرأس بفضل تأييدها للسياسة المتبعة من طرف حكومتي، لعاد الفضل، من الناحيتين السياسية والأخلاقية، أولا إلى الجيش الوطني الشعبي بوصفه المؤسسة الضامنة لدوام الأمة.
إن من رسم خطة تغيير جانفي 1992 ونفذها لم يرد للأمور أن تسير بهذا الشكل. واليوم، ترى الأغلبية الساحقة من الجزائريين أن الجيش الوطني الشعبي له قسط من المسؤولية، إن لم تكن المسؤولية كلها، في ما حدث من محن تكبدوها ولا زالوا جراء تدابير اقتصادية فرضت على بلدنا من طرف صندوق النقد الدولي في مجال معالجة المشاكل المترتبة على ديوننا الخارجية.
هذا هو السبب الذي جعلني، منذ إيقاف تلك التجربة التي حاولتها حكومتي، لا أنقطع عن الدعوة إلى ضرورة إجراء تقييم جديد للتقلبات السياسية الواقعة منذ جانفي 1992، أي البحث عن الأسباب التي أدت إلى هذه التقلبات والأهداف الحقيقية للمتسببين فيها.
لقد اقترحت هذا التقييم على الرئيس زروال عندما استقبلني في سياق المشاورات التي شرع فيها غداة تنصيبه رئيسا للدولة.
كما كررت الدعوة إلى إجراء هذا التقييم في تصريحات عمومية ثم في الوثيقة التي أجبت من خلالها عن المذكرة الصادرة عن الرئاسة قبل إجراء التعديل الدستوري لسنة 1996، بالإضافة إلى إشارتي إليها في التصريح الذي سلمته للصحافة بمناسبة الانتخابات الرئاسية لسنة 1999.
ذلك واحد من الأمور التي لا يذكرها الجنرال تواتي ويتظاهر بجهلها.

باختصار، لقد فضل أصحاب التغيير على هرم الدولة في جانفي 1992 تقديم هذه المبادرة على أساس أنها جاءت نتيجة قرار طوعي اتخذه الرئيس الشادلي بالاستقالة من منصبه فسمحوا لأنفسهم، أولا بالتهرب من المسؤولية وتجنب الاضطلاع مباشرة بمهام تسيير شوؤن الدولة، وثانيا بالسماح للسياسة الاقتصادية المطبقة في عهد هذا الرئيس بالمواصلة بعد رحيله.
في ما يخصني، لم يقم موقفي أبدا، من حيث المبدأ، على رفض التخلص من الرئيس الشادلي بواسطة انقلاب. قبل الانتخابات التشريعية المسبقة لديسمبر 1991، دعوت مرارا، ومن خلال تصريحات عمومية، إلى رحيل الرئيس، لاسيما من خلال إجراء انتخابات رئاسية مسبقة.
أكثر من ذلك، لم أخف عن مختلف المسؤولين الذين التقيتهم أملي في رؤية هذا الرحيل يقع بواسطة انقلاب من الأحسن أن يتم “بالتراضي” إن أمكن.
وسبب هذا الموقف هو أنه في ظل الأزمة الوطنية العميقة التي كانت بلادنا تعيشها في نهاية الثمانينيات، كان من ميزة الانقلاب إحداث صدمة سيكولوجية في الرأي العام الوطني يمكن استغلاله من أجل هبة شعبية قوية في اتجاه اعتماد سياسية جديدة للخلاص الوطني.
غير أن القيام بانقلاب قبل إجراء الانتخابات التشريعية لديسمبر 1991 كان شيئا والقيام به بعد صدور نتائج هذه الانتخابات شيئا آخر تماما.
قبل هذه الانتخابات، الانقلاب كان على الرئيس الشادلي ؛ أما بعد الانتخابات، فالانقلاب كان على الشعب الذي صوت بطريقة معينة.
هذا بالذات ما تم في جانفي 1992.

الاقتراح الذي قدمته في الخلاصة المرفقة بمشروع برنامج عمل حكومتي في ما يخص إعلان حالة الظروف الاستثنائية كان من شأنه تسمية الأشياء بأسمائها من الناحية الدستورية.
لكن، لفهم هذا المقترح، يجب ألا يغيب عن أذهاننا أنه كان متصلا ببرنامج يرسم الطريق المؤدية إلى الخروج من الأزمة، طريق قابلة للدفاع عنها سياسيا أمام شعبنا وقادرة على تعبئته من أجل تأييد إجراءات التقويم المتخذة من طرف السلطة التي قررت حالة الظروف الاستثنائية بعد قيامها بتوضيح الأسباب والدوافع التي أدت إليها، وكذا الغايات المنشودة منها.
كما هو معلوم، لقد وافق المجلس الأعلى للدولة على برنامج العمل لحكومتي، غير أنه لم يؤيدني في إعلان حالة الظروف الاستثنائية بحجة الالتزام الذي اتخذه أعضاؤه على عاتقهم، رسميا وأمام الشعب، بانتهاء مهامهم مع انتهاء المدة المتبقية من عهدة الرئيس الشادلي بعد رحيله.
موعد انتهاء هذه العهدة كان في أواخر سنة 1993.
ومع ذلك، تقبل المجلس الأعلى للدولة المقترح الوارد في برنامج حكومتي والقاضي بتحديد فترة خمس سنوات كفترة ضرورية لتطبيق هذا البرنامج وتهيئة الظروف اللازمة قبل العودة الموفقة إلى المسار الانتخابي.
لم يطعن المجلس الأعلى للدولة في ضرورة ما أصبح يعرف في ما بعد بـ “الفترة الانتقالية”
وإنما اعتبر أنه كان من السابق لأوانه تحديد صيغها في ذلك الوقت، أي سبتمبر 1992، وأنه سيتم إيجاد حل لذلك عند انتهاء مهامه كما كان مقررا.
من جانبي، لم أجعل من الموافقة على إعلان حالة الظروف الاستثنائية وترتيب فترة انتقالية كما وردت في برنامج حكومتي شرطا مسبقا لمواصلة المهمة التي عهد إلي بها.
لقد كانت لدي الثقة في المجلس الأعلى للدولة ولم أنو أبدا أن تكون في علاقاتنا مساومة من قبيل “وافقوا على كل ما أطلب أو أغادر”.
أذكر، هنا، أن عضوا في المجلس الأعلى للدولة جاءني، عندما كان برنامج حكومتي بصدد مناقشته، ليقول لي إنه كان مستعدا للالتحاق بي إذا كانت لي النية في الاستقالة في حالة عدم الموافقة على مقترحي الخاص بإعلان حالة الظروف الاستثنائية والفترة الانتقالية.
وقد وثقت في الوعد الذي وعدت به على أساس أن يتم ترتيب مسألة تنظيم هذه الفترة الانتقالية، التي يتطلبها تطبيق برنامج حكومتي، قبل نهاية سنة 1993، وإلا ما كان لي أن أقبل مواصلة مهامي على رأس الحكومة.
كما حصل الاتفاق على عدم القيام بحصيلة لنشاطات حكومتي انطلاقا من البرنامج الذي اعتمدته إلا بعد انقضاء الفترة المقترحة لتطبيقه.
وقد أشار الرئيس علي كافي صراحة، في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة الذكرى الأولى لإنشاء المجلس الأعلى للدولة، إلى أن برنامج الحكومة كان في حاجة إلى الوقت قبل ظهور نتائجه.
لم أعِد أبدا بإيجاد حل لأي مشكل منذ السنة الأولى من نشاط حكومتي، ناهيك عن مشكل المديونية الخارجية.
ترى، على أي أساس أو مرجع استطاع الجنرال تواتي أو المجلس الأعلى للدولة الحكم بإخفاق الحكومة سنة فقط بعد إنشائها؟

-20-

اللجوء إلى صندوق النقد الدولي كان لأطماع غير شرعية
تاريخ المقال 08/08/2007
12. “على المستوى الاقتصادي، لم أسمح لنفسي بالتدخل. غير أن ذلك لم يمنعني، في أواخر ماي 1993 تقريبا، من الاعتقاد أننا كنا، حسب الظاهر، متجهين نحو الفشل وأننا سنضطر إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي”.
فعلا، ربما لم يكن الجنرال تواتي يتدخل في الجانب الاقتصادي على مستوى الاجتماعات الوزارية.
لكن هل يستطيع حقا أن يؤكد أنه لم يكن أبدا يتدخل في هذا الجانب لدى زملائه على مستوى أجهزة وزارة الدفاع الوطني، ولاسيما لدى رئيسه الذي كان آنذاك، كما هو معلوم، الجنرال خالد نزار ؟
لماذا لا يكشف الجنرال تواتي لنا، اليوم، عن تلك المعلومات التي وصلته “في أواخر شهر ماي تقريبا” وجعلته يعتقد “أننا كنا، حسب الظاهر، متجهين نحو الفشل وأننا سنكون مضطرين إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي” ؟
فماذا كانت ، إذاً، تلك العناصر التي استطاع أن يراها ولم يرها غيره بذلك الوضوح ؟ في الواقع، “أواخر ماي 1993″ لم يكن هو التاريخ الذي ظن الجنرال تواتي فيه “أننا كنا مضطرين إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي” وإنما قبل ذلك لأن هذا اللجوء كان، بالنسبة إليه، مبرمجا منذ جانفي 1992.
لذلك لم يكن فشلي، في نظره، إلا تحصيل حاصل لأن نجاح طريقتي كان معناه “الحكم” بالفشل على طريقته هو من حيث هي قائمة على ضرورة اللجوء إلى صندوق النقد الدولي الذي كان يمده بالحجة اللازمة من أجل فتح اقتصادنا، لاسيما تجارتنا الخارجية في فائدة أصحاب “الاستيراد-التصدير”.
في أواخر ماي تقريبا، ما بدا “ظاهرا”، في الواقع، هو تلك العلامات الدالة على قدرتنا على الخروج من الأزمة من دون الاضطرار إلى هذا اللجوء.
عندما بدأت هذه العلامات تلوح في الأفق، أخذ الهلع يدب في أوساط المناصرين لهذا الحل. هكذا أحسوا بضرورة التحرك فورا من أجل منع حكومتي التي كانت “حسب الظاهر” موشكة على القضاء على أية حجة تبرر”اللجوء إلى صندوق النقد الدولي” لتغطية أهداف وأطماع أخرى غير شريفة كثيرا.
هل ينبغي التذكير هنا أن الجنرال تواتي لم يشر، في الحوار الذي خص به يومية El Watan، إلى أية معلومة أو حدث ملموس لتأييد ادعائه المتكرر أن سياسة حكومتي الاقتصادية أخفقت ماعدا التقرير المغلوط الخاص بمخزوننا من العملة الصعبة الذي ينسبه إلى المستشار الاقتصادي للرئاسة وذلك الاستعمال المغرض للأرقام المتصلة بتطور أسعار البترول المذكورة في التقديرات المتوسطة المدى في البرنامج الحكومي المتعدد السنوات. وكما سنرى من بعد، هذا الهروب أمام الحقيقة إنما كان تعبيرا عن خوفه من أن يفضح أمره وتفسيرا لرفضه بث أشغال الملتقى حول السياسة الاقتصادية مباشرة على شاشة التليفزيون، أمام الملأ كي يتسنى مواجهة حجج أنصار اللجوء إلى صندوق النقد الدولي بحجج الرافضين لهذا اللجوء. لقد وفرت آنذاك، له أو لمن كلفوه التحدث باسمهم، فرصة عظيمة لفضح سياستي ونزعتي القيصرية المزعومة في ممارسة الحكم.
في الحوار الصحفي المذكور، نجد الجنرال تواتي، وكعادته، يكرر القول ويتهرب من كل برهنة يمكن أن تفضح مقاصده الحقيقية.
وكما نعلم، التكرار الممل لمعلومات فارغة يعد وسيلة مفضلة لحشو الدماغ. لكن، ومن سوء حظ صاحبنا، هيهات أن تتحول الأكاذيب المكررة آلاف المرات إلى حقائق ثابتة.

13. “في ما يخصني، وفي أواخر أفريل 1993 تقريبا، اتخذت قرار التوقف عن أي تعاون مع السيد عبد السلام. في ديسمبر 1992، كنا قد وضعنا معا خطة طارئة لحماية رؤساء المندوبيات التنفيذية البلدية (الذين عوضوا رؤساء البلديات) ورؤساء الدوائر ممن لم تكن لهم شرطة.
لقد قامت هذه الخطة على تعيين عشرة أشخاص كحد أدنى لهؤلاء المسؤولين ليختار كل واحد منهم حرسه كما أراد. كما تقرر تسليح الحرس بخمسة مسدسات آلية وخمس بندقيات صيد توفرها المديرية العامة للأمن الوطني.
ينبغي أن نعلم أنه إلى ذلك الوقت، كان قد سقط ما لا يقل عن 29 رئيس مندوبية وأعضاء مندوبيات تحت رصاص الإرهاب.
أذكر أن السيد بلعيد كان موافقا على هذه الخطة ولم يكن قلقا من هذا الجانب إلى غاية ذلك اليوم الذي اغتيل فيه رئيس المندوبية التنفيذية لبلدية الكاليتوس، سليمان كمال، الذي قتل من دون أن تكون له أية حماية. في أفريل 1993، أثناء آخر اجتماع أحضره في جهاز التنسيق، تبين لي أن جميع التعليمات اللازمة من أجل تطبيق خطة الطوارئ المذكورة لم تصدر بعد.
هكذا بالذات، غادرت الاجتماع قائلا :
“أنا لست هنا من أجل إحصاء الجنائز”. ولم تطأ قدماي منذ ذلك اليوم ديوان السيد عبد السلام الذي ظل يماطل بشأن هذه المسألة”.

مرة أخرى، ينطلق الجنرال تواتي من مزاعم جزافية باتة لا تستند إلى أي وقائع ملموسة ودقيقة. إلا أنه، في هذه المرة، يضيف شيئا آخر إلى ترسانة مزاعمه سعيا لتشويه الحقيقة واستغلال النية الحسنة لمن يسمعه أو يقرؤه.
إنه يتلاعب بالألفاظ عندما يبدو وكأنه يخلط بين “الديوان” و “المكتب” للإشارة إلى أماكن العمل على مستوى الحكومة.
لذلك، جاء نص الحوار الذي خص به اليومية المذكورة بنوع من الغموض يمكن أن يوحي أن الاجتماع الذي تحدث عنه قد انعقد بمكتبي، وبحضوري، أي أنه استغل حضوري لأشهد ذلك الصخب الذي أحدثه عندما احتج ضد تقصيري في معالجة القضايا الأمنية، تقصير كان خطيرا لاسيما وأنه كان متعلقا بأمن الأشخاص. بهذه الطريقة المغرضة، الدنيئة وغير الشريفة، ظن الجنرال تواتي أنه قادر على تحميلي، بمفردي، مسؤولية قتل أشخاص. غير أن الواقع هو غير ذلك إذ أن اجتماعات جهاز التنسيق حول القضايا الأمنية التي يتحدث عنها الجنرال تواتي كانت تعقد، فعلا، بديواني. لكن ذلك لا يعني أنها كانت تعقد بمكتبي بالذات وبحضوري الشخصي. مفردة “الديوان” في اصطلاح أجهزة رئاسة الجمهورية، الوزارات والإدارات أو المديريات، فقط، على مستوى مؤسسات القطاع الخاص يمكن أن تتخذ أيضا معنى جماعيا للدلالة على كافة المساعدين المباشرين للرئيس الذي يكون الديوان تابعا له عوض الدلالة على مقرات هؤلاء المسؤولين.
هذا هو المعنى الذي نتحدث به عادة عن “مدير الديوان”، “رئيس الديوان” لهذا المسؤول أو ذلك. وقد حدث فعلا أن انعقدت اجتماعات بمكتبي الخاص وبرئاستي، غير أن ذلك لم يقع في جميع الأحوال.
لذلك، لعل الجنرال تواتي عندما يذكر ديواني إنما يقصد، وبكل بساطة، تلك المكاتب الخاصة بجميع المساعدين العاملين معي.
هذا الغموض المغرض يسمح للجنرال تواتي باتهامي بإثم عظيم مادام الأمر متعلقا بوفاة إنسان، لكن مع ترك باب للنجاة له حين يوهم السامع أن قصده لم يكن توجيه هذا الاتهام أبدا.

لا أتذكر أي اجتماع وقع بحضوري وغادر فيه الجنرال تواتي مكتبي مع ضرب الباب كما يقال عندنا لأنني، في هذه الحالة، كنت سأرفض أي لقاء به ثانية مهما كان السبب.أضف إلى ذلك أن الجنرال تواتي لم يكن من بين المساعدين العاملين معي ولم يكن يتعاون معي شخصيا.
الاجتماعات التي كان يحضرها بـ “ديواني” كانت بصفته ممثلا لوزارة الدفاع الوطني ومساعدا لها.
لم يكن يتعاون معي مباشرة بالمعنى الدقيق للكلمة.
لعل هذه الإفاضة مملة للقارئ، لكنها بدت لي من الضرورة بمكان كي أفضح تلك الطرق الماكرة والدنيئة التي لجأ إليها الجنرال تواتي في حواره الصحفي المذكور. ومع ذلك، لابد لنا من العودة إلى واقع الأمور لتناول تلك النقطة التي أثارها الجنرال تواتي في ما يخص حماية رؤساء المندوبيات التنفيذية البلدية ورؤساء الدوائر.

أ‌. مرة أخرى، لا يذكر الجنرال تواتي فحوى تلك التعليمات التي كان علي إصدارها أو توجيهها ولم أفعل في ما يخص “تطبيق خطة الطوارئ” التي أشار إليها.
كما أنه لا يقول ما إذا كنت أنا المسؤول شخصيا عن توجيه هذه التعليمات أم أنها كانت صادرة عن سلطة أخرى.
إنه لم يوضح كيف أنني “تماطلت في هذه القضية” ولم يقل ما هو بالذات الإجراء الذي كان علي أن اتخذه ولم أفعل.

ب‌. لا يستطيع الجنرال تواتي أن ينكر أنني أوليت أهمية خاصة وقوية للمسائل الأمنية التي كنت أواجهها في ممارسة مهامي كرئيس حكومة.
كما أنني لم أدخر جهدا في مجال توفير الإمكانيات البشرية، المادية والتنظيمية من أجل هذه المسائل.

ج. لا يستطيع الجنرال تواتي أن ينكر أنه منذ إنشاء المنطقة العملياتية، في نوفمبر 1992، المغطية لولايات وسط البلاد، كانت لقيادة هذه المنطقة، الموكلة للجنرال محمد العماري، جميع الصلاحيات التي جعلت كل المصالح الأمنية بالمنطقة تحت قيادة هذا الأخير، بما في ذلك المصالح التابعة للمديرية العامة للأمن الوطني.
من هذه الناحية، لقد سمحت بأقصى ما يمكن لأنني تسببت في إثارة استياء المساعدين المباشرين لي، أي وزير الداخلية والوزير المنتدب للأمن ،المدير العام للأمن الوطني، في نفس الوقت، عندما قبلت للجنرال العماري بجميع الصلاحيات التي طلبها والتي انتهت إلى تجريد الوزيرين المذكورين من كل مسؤولية في ما يخص المنطقة التابعة للقيادة العملياتية، أي منطقة كانت تشمل ولاية الجزائر العاصمة وبالتالي بلدية الكاليتوس.

د. لا يخفى على الجنرال تواتي أنه منذ اختلاس كمية مهمة من الأسلحة على يد مجموعات إرهابية من مقرات للشرطة، صارت وزارة الدفاع الوطني تمارس سلطة صارمة في مجال توزيع الأسلحة من كل نوع.
كما كان لها، على وجه الخصوص، احتكار شراء الأسلحة من الخارج. هذا جانب لم يكن لرئيس الحكومة أي يتدخل فيه منذ إنشاء هذا المنصب.

-21-

كانوا يجردون حرسي الخاص من أسلحتهم خارج أوقات العمل
تاريخ المقال 10/08/2007
هـ. بما أن الجنرال تواتي هو الذي يثير هذا المشكل، أود أن أذكره بواقعة لا يمكن أن تخفى عنه والتي لا أستطيع مواصلة سترها عن الرأي العام الوطني الذي يحاول صاحبنا التلاعب به.
ذات يوم، وبينما أنا على رأس الحكومة، جاءني حراسي، وكانوا تابعين لسلك عسكري، ليقولوا لي ما يلي :

“عندما ننتهي من الخدمة وندخل ثكنتنا، نُجبر على التخلي عن أسلحتنا وتسليمها عندما مدخل الثكنة.
وإذا أردنا الخروج ثانية، خارج أوقات الخدمة للالتحاق، مثلا، بالعائلة الساكنة بالمدينة، فلا نحمل أي سلاح للدفاع عن النفس في حالة التعرض لاعتداء من طرف الإرهابيين الذين نشكل بالنسبة إليهم هدفا مفضلا.
هل يمكنكم أن تقوموا بشيء ما من أجل تمكيننا من الاحتفاظ بأسلحتنا حتى عندما نكون نتجول خارج أوقات الخدمة ؟”
لقد أصبت بالذهول حقا وأنا أعلم بهذه الحالة، فما كان لي إلا أن فاتحت الرئيس علي كافي في الأمر الذي كان حرسه هو أيضا من نفس السلك مثل حرسي.
وقد أخبرني أنه كان على دراية بهذا الأمر وأنه سيتدخل لدى الجنرال خالد نزار بوصفه وزير الدفاع.
العذر المستعمل في تفسير سبب الإجراء المذكور هو أن أعضاء أسلاك الأمن، وهم يتجولون أفرادا في شوارع المدن بزي مدني، كانوا، بالذات، هدفا للإرهابيين من أجل الاستيلاء على الأسلحة التي كانوا يحملونها.
أي أن الهدف من تجريد الحرس من السلاح كان من أجل حمايتهم خارج أوقات العمل حتى لا يقعوا فريسة للإرهابيين.
كما علمت، في ما بعد، أن أفراد الشرطة كذلك كانوا خاضعين لنفس الإجراء.
لم أجرؤ إلا بصعوبة على تصديق التفسير المقدم لي لاسيما وأن الأمر تعلق بحرمان حرس من أسلحتهم للدفاع عن النفس على الرغم من أنهم كانوا من أول المعرضين لخطر الإرهاب، ليس فقط من أجل الاستيلاء على أسلحتهم وإنما كانوا يعتبرون أيضا خَدَمة “الطاغوت” يستهلون تصفيتهم.
ومعنى ذلك أنه بحجة تجنيب هؤلاء الوقوع فريسة الإرهاب بسبب الأسلحة التي كانوا يحملونها جعلنا منهم لقمة سائغة للإرهابيين.
إن هذا الإجراء الذي يصعب تصديقه، قد رُفع بفضل احتجاج مختلف أفراد الأسلاك الأمينة عليه لاسيما بعد سقوط ضحايا كثيرين للأسف.
لا يقول لنا الجنرال تواتي من “ماطل” في هذه القضية.
أما في ما يخصني، وبما أنه لم تكن لدي أي مسؤولية في مجال تسليح حرسي، لا أري كيف كان بإمكاني “المماطلة” في تنفيذ خطة الطوارئ التي يتحدث عنها صاحبنا وأنّي لي أن أتحمل أية مسؤولية في اغتيال رئيس المندوبية التنفيذية لبلدية الكاليتوس !
كما لا يقول الجنرال تواتي، بطريقة ملموسة ودقيقة، في ماذا “ماطلت” في تطبيق إجراءات كنت قد “وافقت عليها تماما”.
لذلك، أراني مرة أخرى لا أملك إلا تأكيد ذلك الغموض الذي اكتنف تصريحاته وسمح له بأن يحيط نفسه بسحابة كثيفة عوض الإدلاء بأجوبة صريحة عن تصرفاته.
و.
في الواقع، الإجراء الذي حرم، لفترة، أفراد الأسلاك الأمنية من الاحتفاظ بأسلحتهم خارج أوقات العمل كان مرده إلى سبب آخر أكثر مصداقية، أي الخشية من أي يسلم بعض من هؤلاء الأفراد أسلحتهم إلى الإرهابيين طواعية.
ينبغي أن نشير هنا إلى أننا كنا في فترة صارت إمكانية تسلل عناصر إرهابية في صفوف الأسلاك الأمنية هاجسا حقيقيا لدى مسؤولي هذه الأسلاك.
وقد تم اكتشاف عدد من هذه الحالات ؛ مما فرض حذرا أكبر، ربما إلى حد الإفراط.
أثناء الاجتماع الذي ضم ولاة المنطقة الوسطى من الوطن المحيطة بالعاصمة وبمناسبة لقاءات بممثلي المجاهدين، قيل لنا إن مطاردة الجماعات الإرهابية من طرف الوحدات الكبرى التابعة لمختلف أسلاك الأمن كانت ناقصة لأن – وكان ذلك تفسيرا معقولا – تحركات هذه الوحدات كانت الجماعات الإرهابية تراها من بعيد فكان لأفراد هذه الأخيرة ما يكفي من الوقت لتخبئة أسلحتهم والانصراف من دون ترك أي أثر لهم. وعندما كانت وحدات الجيش، الدرك الوطني والشرطة تصل إلى الأماكن الذي أفادت الاستعلامات بوجود جماعات إرهابية فيها، كانت لا تجد شيئا.
وعليه، كان المسؤولون الإداريون المحليون وممثلو المجاهدين، على وجه الخصوص، يقترحون إنشاء مجموعات مسلحة خفيفة تتشكل من متطوعين، لاسيما مجاهدين يعرفون الأرض وقادرين على التنقل خفية، بل وعلى مطاردة فلول الإرهاب في عقر ديارها ذاتها. لقد تبنيت هذه الفكرة وطرحتها على كل من الجنرال خالد نزار والجنرال لمين زروال عندما خلفه في منصبه وزيرا للدفاع الوطني.
وكنت في كل مرة ألقى آذانا صاغية لكن مع وجود اعتراض واحد :
“من يستطيع أن يثبت لنا أن الأسلحة التي سنسلمها، نحن أنفسنا، لمجموعات المتطوعين لن توجَّه ضدنا ؟”.
ولتفادي أي انحراف من هذا القبيل للمجموعات المتطوعة، اقترحت تأطيرها بضباط متقاعدين سواء من الجيش الوطني الشعبي، الدرك الوطني أو الشرطة، إضافة، عند الحاجة، إلى ضباط سابقين في جيش التحرير الوطني.
ذلك هو التردد الذي منع أو أخر لوقت ما تكوين مجموعات مسلحة للدفاع الذاتي ومحاربة الإرهاب وكذا تسليم الأسلحة اللازمة لعمل هذه المجموعات.
في ما بعد، أفضت هذه الفكرة إلى إنشاء وحدات من المتطوعين في محاربة الإرهاب المعروفة بـ “الوطنيين” (LES PATRIOTES).
لم أكن مسؤولا في شيء عما حصل من “تماطل” في تشكيل هذه الوحدات و،ربما أيضا، في تأخير “تطبيق خطة الطوارئ” التي تحدث عنها الجنرال تواتي.
غير أن “المماطلة” في هذه الحالة لا يتحدث عنها الجنرال تواتي قط لأنه كان، من مركزه، يعلم جيدا أنني لم أكن معنيا بالمسؤولية فيها.

14. “كما ذكرت، إنه رجل ذو رؤية قيصرية للسلطة.
فإذا كانت خدمة الإمبراطورية في زمن روما القديمة لا يمكن أن تتم إلا من خلال خدمة مجد القيصر، يا حسرتاه على سي بلعيد !
لم يكن من الممكن خدمة الجزائر إلا في إطار ما كان يراه ويتصوره.
في نظره، كل طريقة أخرى كانت إما محكوما عليها بالفشل أو مشكوكا في أمرها”. هذا الادعاء هو، في الحقيقة، تعبير عن غيظ لم يستطع صاحبه كظمه ذلك أن الجنرال تواتي – الذي يحب كثيرا “ذكر” الأشياء
– لا يذكر بعض الوقائع ميزت علاقاتنا وأدت إلى استيائه مني. المنصب الذي كان يشغله في وزارة الدفاع الوطني حيث كانت تروَّج الشائعات بكونه “المخ” – منذ ذلك الدور الذي صار للجيش الوطني الشعبي ولهذه الوزارة، لاسيما إثر التغيير السياسي الذي وقع في البلد في جانفي 1992 – اعتاد الجنرال تواتي على تلك “المساعي” والتوسلات التي كان بعض من أشباه الساسة (الممتلئة بهم ساحتنا السياسية، لاسيما في الدوائر العاصمية)
يقومون بها لديه من أجل الحصول على دعم لطموحاتهم.
فبالنسبة إلى هؤلاء ممن كانوا يظنون أنهم مدينون له بشيء أو يخشون جانبه، كانت رغبات السيد تواتي تعتبر أوامر لا نقاش فيها ويجب تنفيذها بكل حماسة وسرعة.
من هذه الناحية، طريقتي لم تكن لتروقه ؛ مما خلق لديه، من دون شك، عداء جعله ينسب إلي تلك “الرؤية القيصرية للسلطة” التي يتحدث عنها بهدف النيل مني. ذلك هو ما يفسر، في نظري، العداء الذي يحمله الجنرال تواتي لشخصي.

أ. في نوفمبر 1992، قام وزير العدل بتعليق مهام النائب العام لمدينة الجزائر على الرغم من أنني كنت قد أصدرت تعليمات إلى جميع الوزراء بعدم تنحية أو تعليق مهام الموظفين السامين التابعين لهم قبل الرجوع إلى رئيس الحكومة أولا.
وفي ما يخص وزير العدل على وجه الخصوص، منعته من المساس بوضع النائب العام لمدينة الجزائر من دون موافقتي لأنه كان قد أخطرني من قبل بنيته في القيام بذلك. غير أن وزير العدل، ماحي باهي، لم يحترم تعليماتي فنفذ ما كان يريده جاعلا إياي، هكذا، أمام الأمر الواقع مصرحا للصحافة أن قراره جاء في سياق محاربة الفساد، ناسبا لنفسه وحده شرف ذلك.
وقد بلغ الأمر بالبعض ممن لا يتأخرون أبدا في إلقاء الزيت على النار حد القول إن الوزير كان يريد من وراء قراره هذا أن يعطي لي المثل ويبرز قصوري في محاربة الفساد. ولما كان الجنرال تواتي يعرف أنني لن أبقى صامتا أما هذا التحدي العلني، جاءني ليقول لي بالحرف الواحد :
“لاشك أن وزير العدل ارتكب خطأ.
لكن إقالته من منصبه ستكون خطأ آخر”.
بل بلغ به الأمر حد اقتراح إلغاء تعليق مهام النائب العام وإعادته في منصبه. وقد أجبته أنه لم يكن من عادتي أن أترك غيري يتحداني في ممارسة مسؤولياتي وأنني لا أستطيع أن أحتفظ إلى جانبي بوزير تحدى صراحة أوامري وأنني قد عينت وزيرا آخر في محله.
لاشك أن الجنرال تواتي وجد في ردي ما يزعجه باعتباره “ولي نعمة” في منح المناصب وعرابا للنظام السياسي القائم.
لكن ما كنت أجهله حينئذ وانتهي إلى علمي في ما بعد هو ما يكون الوزير المخلوع قد أسر به إلى مقربين إذ قال إن الجنرال تواتي لم يكتف بالتدخل لدي بعد إعلان قرار تعليق مهام النائب العام لكنه طمأنه أيضا بعدم فقدانه لمنصبه، موضحا :
“لقد تحصلت على ضمانات تحميني”.
غير أنه، في حدود علمي، لم يبح باسم الشخص الذي يكون قد أعطى له هذه الضمانات. لكن، ترى، من كان بمقدوره أن يقدم على ذلك ماعدا الساعي لإبقائه في المنصب ؟
وعليه، لابد وأنني ظهرت في نظر الجنرال تواتي على أنني أخطأت مرتين، مرة عندما لم استجب لطلبه ومرة عندما طعنت في مصداقية السلطة الخفية ودور العراب الذي كان ينسبه إلى نفسه.
هذا هو، في اعتقادي، من أولى الأسباب التي جعلته يتحدث عن “رؤية قيصرية للسلطة” التي يتحفني بها.

وتتمة للكلام في هذا الموضوع، لابد أن أشير إلى أن النائب العام لمجلس قضاء الجزائر كان إحدى الركائز الأساسية في الجهاز القضائي على مستوى العاصمة في مجال محاربة الإرهاب. سنوات من بعد، تسبب دوره في هذه المحاربة في قتل أحد أقاربه على يد الإرهاب.
كل ذلك للدلالة على أن إجراء تعليق مهام هذا النائب لم يكن مؤسسا وكان جائرا إزاء شخص خدم الدولة بتفان وعرض نفسه لأخطار أكيدة.
وعلى الرغم من أن اتهام الوزير له بالرشوة كان يثير السخرية، إلا أن هذا الوزير لم يتردد في اتخاذ قراره المنفرد بتعليق مهام النائب. يكفي، للتأكد من بطلان هذا الاتهام، الاطلاع على الملف الذي شكله الوزير لإسناد قراره.
هذا الوزير كان يجهل أن الملف الذي كان بحوزته تضمن وثائق تحمل اتهامات ضده، هو ذاته، مماثلة لتلك الاتهامات الموجهة ضد النائب العام الذي كان يريد التخلص منه !

-22-

تدهورعلاقاتي بالجنرال تواتي
تاريخ المقال 11/08/2007
ب. تعليق يومية El Watan التي تحدثت عن معارفها يمثل واقعة أخرى طبعت تدهور علاقاتي بالجنرال تواتي. لم يستطع هذا الأخير أن يهضم تعليق اليومية التي كانت تحت حمايته لاسيما عندما رفضت رفع هذا التعليق.
أضف إلى ذلك، وكما ذكرت من قبل، تكون يومية El Watan قد تحركت في الواقعة المذكورة بإيعاز من الجنرال تواتي ؛ مما جعل قراري بتعليقها بمثابة التكذيب لما كان يقال عن قوته داخل السلطة آنذاك.
لاشك أن ذلك هو ما يفسر العداء الناجم عن كبريائه المجروحة حتى وإن لم أكن، آنذاك، على علم بصلاته مع اليومية المذكورة وتصرفاته الخبيثة ضد منافسيه داخل وزارة الدفاع الوطني.
ج. كما هو معلوم، منذ تعييني على رئاسة الحكومة، شنت الزمر السياسية – ممن سمت نفسها بـ “الديمقراطية” و”الجمهورية” وبعض الفرديات الدائرة في فلكها الأيديولوجي – ضدي حملة قدح وتشنيع حادة على أساس أنني كنت “رجل الماضي”.
الماضي لدى المتحاملين علي كان المقصود منه تمسكي بقيم الوطنية الجزائرية ومعارضتي لتصورات الحركة البربرية الانفصالية على وجه الخصوص.
وفي ردي على هذه الحملة المعادية، قلت إن أصحابها لم يكونوا سوى ورثة من كانوا، في زمن ما، ينكرون وجود أمتنا ذاته ويدعون إلى إدماج الجزائريين في فرنسا وأنهم كانوا، على الرغم من صغر أعمارهم، هم رجال الماضي ما ماداموا حاملين أفكارا وتصورات موروثة عن هذا الماضي، لكنه ماض يريدون إخفاءه عن الأجيال الصاعدة.
لقد أبدى لي الجنرال تواتي امتعاضه حول هذه المسألة فكانت مناسبة أدركت فيها عمق الخلافات التي لم تكن تفصلنا فحسب وإنما كانت تجعلنا أيضا على طرفي نقيض على الصعيد الأيديولوجي والسياسي.
وأنا أصغي إليه، تهيأ لي وكأنني كنت استمع إلى كل تلك الأقوال التي حاربها الوطنيون الجزائريون في السابق. ومع ذلك، ما أدهشني وأحزنني معا هو أن أكتشف أن واحدا من حاملي هذه التصورات كان معششا على قمة هرم القيادة العسكرية في بلادنا.
في الواقع، لم يغفر لي الجنرال تواتي أبدا إدانتي العلنية لمن كانوا تحت حمايته وجعل من نفسه عرابا لهم على مستوى أكثر المؤسسات أهمية في السلطة، ألا وهي الجيش الوطني الشعبي. ومرة أخرى، قمت بثلم ذلك الصنم الذي أراد إقامته لنفسه في نظر أتباعه السياسيين ممن كانوا أيضا لا ينقطعون عن مدحه.
د. لعلنا نتذكر الانتخابات المحلية التي جرت سنة 1990 وقاطعتها جبهة القوى الاشتراكية حيث حصل التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية على الأغلبية في عدد من المجالس البلدية والولائية في كل من ولايات تيزي وزو، بجاية، والبويرة من دون أن تتعدى نسبة فوز مرشحيه 10 % من الناخبين المسجلين.
وفي محاولة منه للاحتجاج ضد سياسة حكومتي، طلب هذا الحزب من منتخبيه الاستقالة من جميع المجالس المذكورة حتى وإن رفض عدد منهم تعليمة الحزب مفضلين الوفاء لناخبيهم. لكن ما أخفاه محتجو هذا الحزب المزعومون عن مناضليهم والرأي العام هو اتصالهم، مباشرة بعد خبطتهم الإعلامية هذه، بوالي تيزي وزو مطالبين إياه بتعيينهم أعضاء في المندوبيات التنفيذية الخاصة التي أحلت محل المجالس المنتخبة بعد أن هجروها.
هكذا استطاعوا، بطريقة ملتوية، استعادة تلك الصلاحيات والامتيازات التي ضحوا بها في عيون الرأي العام من أجل التعبير عن معارضتهم لحكومتي. وعندما بلغني نبأ ذلك، رفضت طلب المعنيين لدى الوالي من دون تردد.
موقف التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية في هذه الواقعة كان منطو على تناقض يصعب فهمه إذ كيف يمكن أن يطلب هذا الحزب من منتخبيه الاستقالة من المجالس المحلية احتجاجا على سياسة الحكومة ثم يطلب من نفس الحكومة إعادة الصلاحيات لهؤلاء والامتيازات المتصلة بوظائفهم.
في الواقع، بالنسبة إلى قيادة هذه الحزب، لم نكن، أنا وأعضاء حكومتي، إلا

أداة طيعة في أيدي الحكام الحقيقيين الذين كانوا يدعون صلتهم بهم. هذا ما جعلهم يظنون أنهم كانوا قادرين على التحامل على الحكومة وتجاوزها في سبيل تحقيق مطامحهم غير المشروعة. وما لبثت أن أدركت عروة السلطة الفعلية التي كان عناصر التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية متشبثين بها في شخص الجنرال تواتي حينما جاءني هذا الأخير من أجل الاستجابة إلى طلب هذا الحزب في ما يخص إعادة الصلاحيات للمستقيلين ضمن المندوبيات التنفيذية التي كانت بصدد تعويض المجالس المنتخبة. بطبيعة الحال، لم ألب طله ؛ مما جعلني أنال مرة أخرى من تلك الهيبة التي أراد أن يضفيها على نفسه كعنصر بارز في السلطة. الطعن في مركزه في هذه الواقعة كان، بالنسبة إليه، “رؤية قيصرية للسلطة”.
من جانبي، لم أستطع، أمام مسعى من هذا القبيل، أن أمنع نفسي من تذكر بعض من تلك الأفكار التي كان الإسلاميون يرددونها ويقولون إنهم لم يفهموا كيف أن قائد حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، حزب أقلية في البلد، يريد أن يظهر بمظهر المعارض الشديد للسلطة، يسمح لنفسه بمخاطبتنا كلما التقيناه بهذه العبارة : “لن نترككم تفعلون كذا أو كذا”.
وقد كان هؤلاء يتساءلون عن مصدر تلك الثقة التي كانت لزعيم هذا الحزب كما لو كان هو السيد في البلاد في حين حزبه لم يكن يمثل إلا أقلية من المواطنين، بما في ذلك مواطني تلك المناطق التي كان يدعي تمثيلها.
بالنسبة إلي، الأمور كانت بسيطة لأن مصدر هذه الثقة لم يكن سوى الجنرال تواتي. وسرعان ما استنتجت أن الرئيس الحقيقي للتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية لم يكن الشخصية المعروفة لدى الرأي العام وإنما تلك الشخصية الأخرى التي، من فوق هرم وزارتنا للدفاع الوطني، نصبت نفسها مصدر وحي لسياسة البلاد، بما في ذلك تلك المجالات التي تدعي أنها منعت نفسها من التدخل فيها.
وقد فاتحت الجنرال خالد نزار في الأمر وعبرت له عن دهشتي من مسعى الجنرال تواتي في صالح الحزب المذكور علما أنه كان واحدا من الضباط العسكريين من ذوي المكانة البارزة بجانبه لكنه نصب نفسه القيم الحقيقي لهذا الحزب لا مجرد رجل يعبر عن آراء قريبة ممن كانوا يصفون أنفسهم بـ “الديمقراطيين”.
ولما كان الجنرال خالد نزار مدركا للطابع الغريب لوجود مساعد مقرب بجانبه يحمل أفكار التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية ويساند مبادراته السياسية، اكتفى بالرد علي بهذه العبارة :
“كلا ! كلا ! إنه وطني ! إنه وطني !”.

تلك هي بعض من الوقائع التي كانت، ربما، مصدر العداء الذي حمله لي الجنرال تواتي ولم يبينه لي صراحة على الرغم من أن هذه الوقائع تدل على الفكرة التي كانت له حولي في ما يخص تصوري لممارسة الحكم.
ومثلما هو الشأن في ما يخص المجال الاقتصادي، يكتفي الجنرال تواتي بإطلاق أحكام من دون إسنادها إلى معطيات.
أما من جانبي، فأكتفي بالقول إنني أفضل أن يتهمني الجنرال تواتي بـ “رؤية قيصرية للسلطة” عوض أن يلومني غيره على أنني كنت أداة طيعة في يده.
وكما قال لي عضو سابق في ديواني على رأس الحكومة حينما نبهني إلى أن القيصر كان، في نهاية الأمر، إمبراطوريا رومانيا عظيما وليس هناك ما يدعوني إلى الاستياء عندما يتهمني الجنرال تواتي بـ “رؤية قيصرية للسلطة”.
أشاطره الرأي لاسيما وأن الأوضاع التي كانت البلاد تمر بها آنذاك حينما كان الشغل الشاغل هو إعادة الهيبة والمصداقية للدولة في عيون المواطنين الذين كان ربما من مصلحتهم استشفاف تلك “الرؤية القيصرية للسلطة” على مستوى أحد المناصب العليا في الدولة.

15. “ثم إن طريقته كلها كانت مفككة. في الوقت الذي كان مرتابا مني ويتهمني بكل ذنوب الدنيا، نجده، في ماي 1993، يعرض علي منصب وزير الداخلية.
أنا لم أكن حتى أرغب في لقائه ثانية ولم استجب لطلب لقائه لولا إلحاح خالد نزار.
عندئذ زرته بإقامته لا بمكتبه”.
“بطبيعة الحال، رفضت عرضه لأسباب سياسية واقتصادية شرحتها له مباشرة.
لكن لابد أن أقول إننا افترقنا في جو من الود.
ثم إنني أظن أنه لم يقترح علي المنصب إلا بعدما وصلته أصداء تفيد بتعيين وشيك لرضا مالك على رأس الحكومة.
في نهاية الأمر، السيد عبد السلام انتهي به المطاف إلى الانغلاق على ذاته، انغلاقا يبدو أنه صار مزمنا.
لذلك تجده يتحامل على غيره تهربا من تحمل مسؤولية إخفاقاته. ما وقع فعلا هو أن السيد عبد السلام تمت إقالته كرئيس حكومة من طرف المجلس الأعلى للدولة لسبب أساسي، ألا وهو إخفاق سياسته الاقتصادية…
أود أن أقول للسيد عبد السلام هذه الكلمات [بالقبائلية في النص] : ‘أذي ذاوي ربي ألحس أومغنون‘ ومعناها : ‘اللهم اشف عبدك المريض !‘”.

أ. ينبغي، مرة أخرى، تصحيح ما جاء على لسان الجنرال تواتي من أخطاء لا تبدو عفوية.

أولا، اللقاء الذي جمعني بالجنرال تواتي حيث عرضت عليه منصب وزير الداخلية لم يقع في ماي 1993 وإنما، كما يؤكده هو نفسه، في أواخر جويلية 1993، بعد اجتماع المجلس الأعلى للدولة المنعقد في 18 من نفس الشهر وبعد مأدبة الغداء التي دعيت إليها بمقر إقامة الرئيس على كافي بحضور الجنرال خالد نزار يومين من بعد.

ثانيا، اللقاء الذي تم بيني وبين بالجنرال تواتي جرى بمقر إقامتي لا بمكتبي لأن أغلبية استقبالاتي كانت تتم، بالذات، في تلك الفيلا التي خصصت لي كإقامة رسمية أثناء تأدية وظائفي، وذلك بطلب من مصالح الأمن التي كانت تريد تجنيبي تنقلات متكررة عبر شوارع العاصمة ما بين مقر إقامتي وقصر الحكومة.

ثالثا، العرض الذي اقترحته عليه لتعيينه وزيرا للداخلية كان مندرجا في سياق مشاورات كنت قد شرعت فيها – بالاتفاق مع الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار، بعد مأدبة الغداء التي جمعتنا يوم 20 جويلية 1993 – من أجل إجراء تعديل في حكومتي. كما تواصلت هذه المشاورات مع المساعد الذي كلفه الجنرال خالد نزار باستكمال المحادثات معي بعد مأدبة العمل المذكورة.
وقد اتفقنا، لأسباب سبق ذكرها، حول تغيير وزير الداخلية، محمد حردي آنذاك، لكن مع الاحتفاظ بهذا الأخير عضوا في الحكومة في منصب آخر.
هكذا، طُرح اسم الجنرال تواتي لأنني كنت قد اتفقت مع الجنرال خالد نزار أن يكون وزير الداخلية شخصية من وزارة الدفاع الوطني اتقاء لما ظهر، من قبل، من سوء تفاهم واختلاف في المزاج بين مسؤولين من هذه الوزارة ونظرائهم في وزارة الدفاع. ثم إن الجنرال تواتي ذاته لم يكن مرشحي وإن العرض الذي اقترحته عليه كان، بالنسبة إلي، مسألة ضمير، أساسا، وشعور بضرورة الاختيار ما بين عدد من المرشحين للمنصب.
الجنرال خالد نزار نفسه حذرني أنه كان يتوقع رفض الجنرال تواتي منصب وزير الداخلية بنسبة 80 %، موضحا لي أن هذا الأخير صار يزعجه كثيرا بسبب طبيعة الإصلاحات التي كان يدعو إلى إدراجها في الدستور المزمع تعديله.
أضف إلى ذلك أن الشخص الذي أوفده إلي الجنرال خالد نزار بغرض استكمال المشاورات المتصلة بالتعديل الحكومي المنتظر قد أخرني، هو الآخر، أنه لم يعد يعول على الجنرال تواتي لشغل منصب وزير الداخلية.

رابعا، يدعي الجنرال تواتي، في حواره الصحفي، أنه لم يرض بمقابلتي مرة ثانية إلا على مضض. فعلا، لا أستطيع أن أطلع على ما بقرارة نفسه في اللقاء الذي جرى بيننا بعد عودته من “عطلة 48 ساعة” بباريس. ومع ذلك، أكتفي بالإشارة إلى ما أخبرني به في هذا اللقاء :

- سعيه لدى الخزينة الفرنسية للتأكد من صحة الأرقام الواردة في المذكرة الصادرة عن حكومتي في ما يخص توجهات سياستي الاقتصادية، وهي ذات الأرقام التي سبق لي ذكرها، شخصيا، في تصريح عمومي بثته جميع وسائل الإعلام التابعة للقطاع العام ؛

- رغبته في مغادرة الجيش الوطني الشعبي في حالة عدم القيام ببعض التغييرات التي كان يراها أساسية في الدستور الذي كان يدعو إلى تعديله.
على أية حال، موقفه من هذه المسألة هو الذي اتخذ منه سببا في رفضه منصب وزير الداخلية.

-23-

تواتي كان يلجأ الى ممارسة الأكاذيب لتشويه الوقائع
تاريخ المقال 12/08/2007
ب. ولأنه عاجز عن تأييد مزاعمه بالحجج المستندة إلى وقائع قابلة للتأكد منها، نجد الجنرال تواتي يلجأ إلى ممارسة يبدو أنها صارت ميزة في تصرفاته.
تتمثل هذه الممارسة في تشويه الوقائع تماما وترتيب الأمور بحسب ما يحتاج إليه من لجوء إلى أكاذيب يريد أن يحمل غيره على تصديقها.
هكذا، وحسب ما جاء على لسانه في الحوار الذي خص به يومية El Watan، كنت أقوم بمهامي بصورة عادية إلى أن وصلتني أنباء عن وشوك تغييري برضا مالك على رأس الحكومة.

وهكذا أيضا، حسب زعمه وبعدما دب اليأس إلي، جاءتني فكرة اللجوء إلى مساعي الجنرال تواتي من خلال عرضي له منصب وزير الداخلية كي يتسنى لي، بفضله، المحافظة على منصبي.
هذه الترّهة لم تكن إلا لتثير السخرية لو لم ترد على لسان رجل اعتبره البعض “مخ” أقوى مؤسسة في الدولة، ألا وهو الجيش الوطني الشعبي، وادعى دوار الملهم في اتخاذ القرارات الخاصة بمصير جميع الجزائريين.
ها نحن، اليوم، نعرف الظروف التي جعلتني أقترح على الجنرال تواتي منصب وزير الداخلية.
أما في ما يخص تبديلي برضا مالك فإن المسألة لم تكن واردة في جدول الأعمال على الأقل في تلك الفترة.
يكفيني هنا أن أذكر بتلك الوعود البراقة التي وعدني بها من كانوا أكثر شأنا من الجنرال تواتي في ما يخص مصيري السياسي.
فلو اقتصر انشغالي على إرضاء النفس بتلبية مثل هذا الطموح، لاكتفيت بأن أترك نفسي أُرفع برفق إلى تلك المكانة التي كان هؤلاء يلوحون لي بها في الأفق.
فلو كنت، كما يقول الجنرال تواتي، قلقا فعلا على منصبي لاكتفيت في رد “خطر” تبديلي على التصرف بالطريقة الآتية :
- منذ البداية، الاكتفاء في إعداد برنامج حكومتي بسياسة اقتصادية متجهة نحو خدمة المصالح التي كان الجنرال تواتي يدافع عنها أو اعتماد هذه السياسة ثم التراجع عنها والإسراع في الاستجابة لتطلعات من كان مصيري، كرئيس حكومة، بين أيديهم ؛
- عدم الإفصاح عن معارضتي منذ تنصيب حكومتي لتطبيق تلك العقود العجيبة المبرمة مع الحكومة الإيطالية والموروثة عن عهد الرئيس الشاذلي والتي بلغت قيمتها من 5 إلى 7 مليار دولار ويقول عنها البعض إنها كانت مرتبطة بمصالح مهمة عندنا ؛
- الوقوف، قبل الإقدام على أية مبادرة، على ما كان مرغوبا فيه وما لم يكن على مستوى من كان قادرا على إعادة النظر في منصبي على المستوى السياسي ؛
- غض الطرف عن بعض الأمور التي شُرع فيها أو كانت بصدد ذلك، أي الامتناع عن إطلاق بعض الإجراءات أو، على الأقل، منعها من مواصلة طريقها نزولا عند رغبة من قصدني ووعدني، لقاء فهم انشغالاته وتلبية طلبه، بالاستفادة من دعم قوي لي من طرف “موكليهم” ممن كان شأنهم أعلى بكثير من شأن الجنرال تواتي.
وبعبارة أخرى، لو لم يقتصر الأمر، بالنسبة إلي، سوى على ضمان تأييد لمطامحي ونيل رضا “الأقوياء”، لكنت في غنى عن الجنرال تواتي لأنه كانت بحوزتي أوراق أخرى أكثر قيمة وفعالية ومصداقية.
وكما صرحت بذلك علانية في تدخلي ببلدية الجزائر العاصمة يوم 23 جوان 1993، لم أكن أجهل تلك الطرق التي كان يسلكها من كان همهم الأول هو خدمة تطلعاتهم والبقاء في السلطة أو الرقي إلى قمة هرمها.
أما في ما يخص الجنرال تواتي، حتى ولو أردت أن أنال ثقته والفوز بتأييده – مادام يعتبر نفسه “صانع الملوك” – كنت أعرف جيدا أن عرضي له منصب وزير الداخلية ما كان ليجدي نفعا.
كان يكفيني أن ألبي رغبته بما يؤكد دوره كعراب لدى التجمع الوطني من أجل الثقافة والديمقراطية ويومية El Watan وغيرها من الصحف التي كانت تدور في فلكه. وحتى ولو لم أستطع الحصول على دعمه، كان بمقدوري على الأقل محاولة إبطال أثر تحفظاته بشأني وعداءه لي.
ج. لا يمل الجنرال تواتي من تكرار زعمه بخصوص إخفاق سياستي الاقتصادية وقيام المجلس الأعلى للدولة بتنحيتي بسبب هذا الإخفاق.
وعندما لا يجد الحجج القائمة على عناصر ملموسة، تراه، بسبب اعتياده اللجوء إلى استعمال عبارات من الطب العقلي، وكأنه يسقط، بدوره، ضحية ولعه بطريقة Coué.
يظن أنه يكفيه التكرار الممل لعبارة “سياسته الاقتصادية قد أخفقت” كي يتحول هذا الإخفاق المزعوم إلى حقيقة راسخة في أذهان الناس من دون الشعور بالحاجة إلى تقديم الأدلة المثبتة لذلك.
لذلك تجد طريقته لا تختلف كثيرا عن طريقة النجار الذي يظل يضرب على رؤوس المسامير إلى أن تنغرز في الألواح. لكن، هيهات أن تكون عقول الجزائريين مثل ألواح الخشب.
ما قاله الجنرال تواتي في الحوار الذي خص به يومية El Watan لا يعدو كونه مجرد نسيج من الأكاذيب وتلاعبا بالألفاظ خاليا من أي معنى.
لذلك، عوض أن يدعم كلامه بالحجج تجده يلجأ إلى تكرار مزاعم إلى ما لا نهاية.
للتذكير، بعد صدور حواره، لفت انتباهه بعض الصحفيين، وكانوا محقين في ذلك، أنه لم يجب عن أية واحدة من الوقائع التي كنت قد ذكرتها في مقابلاتي مع عدد من الصحف قبله، مقابلات كان من المفروض أن يرد عليها في حواره.
في آخر الأمر، وربما شعورا منه بضعف موقفه وخفة المزاعم التي رددها طيلة نص الحوار، اتجه إلى الطعن في شخصي بعبارات كادت أن تكون شتما سافرا عندما قال عني إني مريض أحتاج إلى المعالجة مثلما يحتاج المريض النفساني الذي يظل يردد نفس الادعاءات الفارغة تمنعه من رؤية واقع العالم كما هو من حوله.
وبعدما أحس بالغيظ جراء فضحه سياسيا، لجأ إلى طرق هي أقرب إلى العار.
أما من جانبي، فأنا أرفض أن أتبعه في الدرب الذي اختار أن يسلكه، متعمدا تفضيل الاحتقار عن واجب الاحترام.

16. “… عوض البكاء على مجده الضائع، كان الأحرى بالسيد عبد السلام أن يسهم في إثراء النقاش الوطني.
فكرة المصلحة العليا للأمة ذاتها لم تنج من سوء معاملة بعض الأشخاص الذين أهانوها بردها إلى مستوى أشخاصهم الصغيرة.
بالنسبة إلي، فكرة المصلحة العليا للأمة هذه لا يمكن بلورتها خارج الدستور وفي ظل احترام القوانين والتنظيمات.
لا أعترف لأي شخص بالحق في تنصيب نفسه سيدا للوطنية، موزعا “فتاواه” في اتجاه هذه أو ذلك.
نحن نعيش في ظل جمهورية وما الساسة إلا مجرد موكَّلين.
لا يولد المرء قائدا. نحن مطالبون بألا نبتعد عن تلك المفاهيم الجمهورية التي ينبغي، بالعكس، تقويتها.
الشعب الجزائري غير مدين بضريبة عرفان نحو القادة على أساس ما كانوا عليه في مرحلة ما من الماضي.”.

هذا الكلام الذي قاله الجنرال تواتي في خاتمة حواره الصحفي لم يكن جديدا إذ كثيرا ما نسمعه من أفواه أو نقرؤه لأقلام يعاني أصحابها عقدة عدم المشاركة في حركتنا الوطنية، أو الانحدار من تيارات سياسية أو أيديولوجية حاربت هذه الحركة الوطنية من أبناء جلدتنا. ذلك هو سبب انتشار عبارات جذابة من قبيل :
“لا أحد له الحق في احتكار الوطنية” أو، تلك العبارة التي أتحفنا بها الجنرال تواتي حينما قال إنه لا يعترف لأحد بالحق في إصدار “فتاوى”.
مثل هذه العبارات لا تتطلب ردا آخر غير الابتسامة، وقد تستدعي قسطا من الشفقة.
ومع ذلك، تجدني مضطرا إلى الرد على عبارة “وما الساسة إلا مجرد موكَّلين” بنوع من الاندهاش الممزوج بالسخرية. لا أملك إلا أن أسأله :
ترى، ما هي “الفتوى” التي سمحت له بالمشاركة في حرمان منتخبي ديسمبر 1991 من فوزهم وتنصيب قادة آخرين لم يفوضهم أحد في محلهم ؟
اللهم إلا إذا كان يعتقد، وهذا ما أظن، نفسه ومن تبعه في “فتواه” مصدر المشروعية في الجمهورية التي يتحدث عنها، ومن ثمة المولى الذي يعود إليه منح التوكيل.
بالنسبة إلى الوطنيين الجزائريين، الحديث عن الجمهورية وتحويل مبدئها إلى عقيدة مطلقة لا يعدو أن يكون دفعا لأبواب مفتوحة أصلا.
فمنذ نشأة حركتنا الوطنية، لاسيما منذ المؤتمر الوطني الثاني لحزب الشعب-حركة انتصار الحريات الديمقراطية في أفريل 1953، ظلت فكرة “الجمهورية كشكل حكم” أحد المبادئ الأساسية بالنسبة إلى ما كان يسمى آنذاك بـ “الدولة الجزائرية المستقلة المقبلة”.
الوطنيون الجزائريون، لاسيما منذ استعادة الجزائر لاستقلالها، ليسوا في حاجة إلى التصرف كما لو كانوا صعاليك الثورة الفرنسية في 1789، مضطرين إلى التذكير، في كل مرة، بتمسكهم بالجمهورية من حيث هي مبدأ ثابت وواحدة من القيم الأصلية لثورتنا.
أما بالنسبة إلى الفرنسيين، فعلى العكس، الجمهورية منذ نشأتها كمحصلة أساسية للثورة الفرنسية تتحدد بعلاقتها بالنظام السياسي والاجتماعي الذي جاءت لتقضي عليه وبالإحالة على القيم والمعايير الجديدة المتمثلة في الحرية، المساواة والأخوة التي رسختها في تنظيم المجتمع الفرنسي وفي شكل الحكم الذي أتت به في محل النظام الملكي والإقطاعي البائد الذي كان قائما على عدم المساواة بين الطبقات الاجتماعية.
في ما يخص قيم ثورتنا والتي كانت تشكل الرهان الجوهري في حرب التحرير الوطني ضد النظام الاستعماري تمثلت أساسا في :
الأمة، الاستقلال الوطني، الإسلام، الثقافة الوطنية العربية الإسلامية، إعادة المجد لتاريخنا الوطني العريق، العدالة الاجتماعية، النهوض بجماهيرنا الشعبية.
كل هذه القيم تمثل أساس إعلان أول نوفمبر 1954 وتم تأكيدها منذئذ في كل مرة من خلال النصوص الأساسية لثورتنا.
لكن، للأسف بالنسبة إلى “الديمقراطيين” و”الجمهوريين” المزعومين ممن يعدُّ الجنرال تواتي نفسه واحدا منهم، أصبحت هذه القيم عبارة عن تابوهات ينبغي تحطيمها ومفاهيم موروثة عن ماضي ولى وحان وقت نسيانه.
غير أن الوطنيين الجزائريين الذين بقوا أوفياء لأنفسهم وللقيم الأساسية والثابتة لثورتنا لا يعتبرون أبدا من قبيل تنصيب الذات “أسيادا لحب الوطن” أن يواصلوا التمسك بهذه القيم والدفاع عنها في الوقت الذي يحاول البعض، شفاء للغليل لاشك، جعلها نسيا منسيا ودفنها إلى الأبد.
جوهر الخلاف مع الجنرال تواتي ومن شاطره مشاعره هو على هذا المستوى لأننا في هذه الجزائر بدولتها المستقلة اليوم لم ننحدر من نفس الأصول.
ختاما، ومن دون اللجوء إلى ترجمة حكمة بسيطة بالقبائلية، أرد على الجنرال تواتي بهذه الكلمات :
“أدعو الله أن يلطف بك وينفعك بحكمته التي لا حدود لها !”.

-24-
نهاية مهام حكومتي وعواقبها
تاريخ المقال 13/08/2007
أود الآن أن أخوض في الجدل الذي خص مسألة نجاح أو إخفاق السياسة الاقتصادية لحكومتي التي لم تعمر إلا 13 شهرا وبضعة أيام، فأبدأ بما ورد في ذات الخلاصة التي ألحقتها بمشروع برنامج عمل حكومتي، وجاء كالآتي :
” تحدد الحكومة، هكذا، الأهداف التي ترسمها لنشاطها، كما تعلن بوضوح الوسائل والسبل التي تنوي اعتمادها من أجل القيام بمهامها.
الأضرار التي لحقت بالبلاد في المجالين الاقتصادي والاجتماعي عميقة ولا يمكن تقويمها بعصا سحرية ولا في وقت قصير.
وإذا كان من الممكن الأمل في نتائج ملموسة في أجل قريب نسبيا في ما يخص معالجة الأزمة، فإن الخروج النهائي من هذه الأزمة والتسوية الفعلية للمشاكل التي كانت السبب فيها لا يمكن تصوره إلا على المديين المتوسط والبعيد. وبعبارة أخرى، نحن في حاجة إلى وقت من أجل هذا الخروج النهائي ؛ مما يجعل الوقت عاملا حاسما في كل مسعى يكون هدفه الوحيد خلاص الجزائر”.
وعليه، لقد حذرت ، منذ البداية، أن حكومتي لا يمكن أن تظهر وتقدَّر قيمة نتائج نشاطاتها إلا على المديين المتوسط والبعيد.
إلا هذا الحكومة – التي طلبت مهلة بضع سنوات من أجل التمكن من تطبيق برنامج عملها – ما لبثت أن أُنهيت مهامها بعد 13 شهرا و10 أيام فقط.
إن الذين نصبوا حكومتي ووافقوا على برنامجها وأقروا بضرورة المدة المطلوبة منها ثم ما لبثوا أن أنهوا مهامها سنة ونيف بعد تعيينها، لم يروا، إلى حد الآن، أي داع لإبلاغ الجزائريين بالأسباب التي أدت بهم إلى تغيير رأيهم. يظل هؤلاء، مثل الجنرال تواتي، مكتفين بتكرار ادعائهم أن حكومتي أنهيت مهاما لأنها “أخفقت في سياستها الاقتصادية”، لكن من دون توضيح هذا الإخفاق لأنهم لو أرادوا، فعلا، أن يبقوا منطقيين مع أنفسهم لما أمكنهم الحكم على هذه السياسة بالإخفاق إلا بالرجوع إلى البرنامج الذي وافقوا عليه وعلى أساس معطيات ملموسة يمكن أن يفهمها الجميع. إن قرار إنهاء مهام حكومتي كان بمثابة فسخ العقد من طرف واحد. لقد كان هذا العقد معنويا ومكتوبا معا.
عقد معنوي، لأن العرض المتعلق بترؤسي الحكومة لم يتم اقتراحه إلا بعد الاستماع إلى أرائي حول طبيعة الأزمة التي كانت بلادنا تعيشها آنذاك وحول إيجاد الحلول للمشاكل التي كانت السبب في هذه الأزمة، إضافة إلى مسألة الوقت اللازم لذلك.
عقد مكتوب، لأنه تجسد من خلال برنامج العمل الذي قدمته للمجلس الأعلى للدولة للموافقة عليه والذي تبلورت فيه الأفكار التي كنت قد عبرت عنها شفويا أمام من دعاني إلى المنصب وحصل على موافقة هؤلاء رسميا.
صحيح، العقد ليس نصا مقدسا.
إنه قابل للتعديل أو الإلغاء في أي وقت. لكن العقد الذي نتحدث عنه تعلق بمصير الجزائريين في جميع مناحي الحياة ؛ لذلك لا يمكن إخفاء الأسباب التي أدت إلى إلغائه عن الشعب، على الأقل كي نصدق ما يظل هؤلاء يدعونه من أننا نعيش في جمهورية وديمقراطية يُفترض فيها تجسيد معايير الإعلام للجميع والشفافية.
أظن أن هذا النص سيفيد الجزائريين بوقائع ومعلومات، لا يعرفونها فقط، وإنما كان هناك سعي لإخفائها وتغليط الناس بشأنها.
أحد المسؤولين عن هذا الإخفاء وهذا التغليط هو الجنرال تواتي بالذات كما سنرى في ما بعد. بقي أن نعرف الظروف التي وقع فيها اتخاذ قرار تنحيتي إضافة إلى محاولة فهم ما قام به المدبرون الحقيقيون بعد هذه التنحية.

أولا، علاقاتي بالمجلس الأعلى للدولة منذ اجتماع 18 جويلية 1993 والاجتماع الضيق المنعقد يومين من بعد.
كما هو معلوم، استمرت المحادثات مع واحد من المساعدين المباشرين للجنرال خالد نزار، وقد خصت، أساسا، التعديل الحكومي وتم الاتفاق حول عدد من الأسماء بينما وقع الاختلاف حول أسماء أخرى.
كما تناولت المحادثات أيضا، وبصفة ثانوية، مسائل اقتصادية كان يظن مخاطبي أثناءها أن صندوق النقد الدولي سيمنح الجزائر مبالغ مالية ضخمة تمكنها من التغلب على البطالة وبالتالي من تقليص عدد الشباب ممن قد يغرهم الالتحاق بصفوف التمرد والتخريب. أذكر أن هذه المحادثات وقعت بعد الاجتماع مع المجلس الأعلى لدولة في 18 جويلية، أي أثناء العطلة القصيرة التي تلت هذا الاجتماع والتي كان من المقرر أن تستمر إلى غاية نهاية النصف الأول من شهر أوت.
هذا المساعد، وكان واحدا من الجنرالات القادة على مستوى وزارة الدفاع، كلفه الجنرال خالد نزار، قبل الذهاب في عطلة، مواصلة الحديث معي حول تلك المسائل التي تم تناولها معه والبحث عما إذا كان هناك حل وسط بشأنها.

ثانيا، مسالة تنظيم ملتقى حول الخيارات الاقتصادية ورهاناتها. في أواخر جويلية أو أوائل أوت، أعلنت، من خلال بلاغ، خبر تنظيم ملتقى، في شهر سبتمبر الموالي، حول الخيارات الاقتصادية ورهاناتها موضحا أن هذا الملتقى كان مفتوحا لكل من كانوا مهتمين بالمسائل الاقتصادية وأن جلساته ستكون مفتوحة لجميع الصحف ومنقولة مباشرة عبر شاشة التليفزيون.
بعض من المعارضين لسياستي ظنوا في هذا الإعلان مناورة الغاية منها تحميل غيري مسؤولية اللجوء إلى صندوق النقد الدولي في حالة إقراره من أجل إعادة جدولة ديوننا الخارجية. وسواء كانوا قاصدين دعاية كاذبة أو سوء التقدير لإخفاء ما كانوا يفكرون فيه فعلا، أراد خصومي حمل الناس على الاعتقاد أنني وصلت إلى الاقتناع ألا حل آخر غير اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للخروج من المأزق الذي وضعت نفسي فيه وأنني لم أرِد، من خلال تنظيم الملتقى المذكور، سوى القيام بمحاولة يائسة الهدف منها تحميل غيري مسؤولية إعادة الجدولة وما كان منتظرا منها من عواقب وخيمة على مواطنينا.
هؤلاء الذين أجهزوا على حكومتي، كانوا ينسبون إلى نوايا دعاة إعادة الجدولة، هؤلاء الدعاة الذين كانوا يبحثون عن عذر لتغطية الغدر الذي كانوا مقدمين عليه ضد الشعب الجزائري.
لذلك، وفي بلاغ ثان أذيع في جميع وسائل الإعلام، وضحت أن مشروع الملتقى كان باتفاق مع المجلس الأعلى للدولة.

وفعلا، لقد تبنيت نفس الفكرة التي أدلى لي بها الجنرال خالد نزار من قبل في شكل سؤال : “لماذا لم يتم تنظيـم ملتقى حول المسائـل الاقتصاديـة؟”
أثناء مأدبة الغداء المذكورة التي جمعتنا بمقر إقامة الرئيس على كافي. وكما قلت من قبل، رددت على الجنرال خالد نزار هكذا : “متفق !
لكن شرط أن تنقل أشغال المؤتمر على المباشر في شاشة التليفزيون.”. فما كان له إلا أن أجابني ببساطة :
“لم لا ؟”. بناء على ذلك، أعلنت تنظيم الملتقى في شهر سبتمبر مع نقل أشغاله مباشرة على شاشة التليفزيون إلى جانب الصحافة المتواجدة بالقاعة.
لم يتأخر خصومي بشأن السياسة الاقتصادية في الرد على التحدي، لكن هذه المرة من جانب المجلس الأعلى للدولة على لسان رضا مالك الذي كان يشترط أمرين :

- ألا يكون النقل عبر التليفزيون والصحف مباشرة وإنما من خلال عروض تتم صياغتها بعد كل جلسة ؛
- ألا تكون المناقشات تحت رئاستي وإنما تحت رئاسة شخصية أخرى بحجة ضرورة سير هذه المناقشة في جو من الحياد.

أما أنا فقد رفضت هاذين الشرطين للأسباب الآتي ذكرها :
أ‌. في ما يتعلق بالنقل المباشر للمناقشات على شاشة التليفزيون، الإذاعة والصحافة المكتوبة المعتمدة بالملتقى، حرصت كل الحرص على فضح وامتحان صدق من ظلوا طيلة سنة كاملة يهاجمونني بحدة بسبب السياسة الاقتصادية لحكومتي ولم ينقطعوا عن الطعن في شخصي ونشاطاتي.
كما أردت، على وجه الخصوص، مطاردة أنصار إعادة الجدولة إلى آخر معقل لهم، مركزا في تدخلاتي على النقاط الآتية :
- جرد لاحتياجات الجزائر من الواردات، سواء بالنسبة إلى الاستهلاك العادي للسكان أو بالنسبة إلى دعم النشاطات الإنتاجية ومتطلبات التنمية ؛
- تطور مديونيتنا الخارجية والوضعية الفعلية للجزائر في مجال المخزون من العملة الصعبة للتسديدات الخارجية، مع إعلام الجميع، في وضح النهار وبلغة يفهمها كافة المواطنين.
هكذا، كان بوسع كل واحد أن يعرف الطريقة المستعملة، منذ صيف 1993، في ضمان تغطية حاجيات اقتصادينا الأساسية.
بفضل توضيح هذه الجوانب الثلاثة (وسائل التسديد الخارجية، المديونية الخارجية، تغطية مواردنا الأساسية)، كان بإمكان الجميع أن يدرك كيف أن وضعنا كان، حقيقة، صعبا لكن لم يكن أبدا مستحيلا ؛
- الآثار الفعلية للحلول المنتظر الحصول عليها جراء الاتفاق مع صندوق النقد الدولي. أولا، في ما يخص الأرقام الفعلية الممثلة للمساعدة الإضافية السنوية من أجل رفع قدراتنا في مجال استيراد المواد الأولية، المواد نصف المصنعة وقطع الغيار الضرورية للانطلاقة الاقتصادية.
ثانيا، كشف فحوى الشروط المفروضة من طرف صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على حلول بفضل تدخله.
لقد كان بإمكان الجزائريين، هكذا، معرفة ما كانوا بصدده بسبب الآثار المترتبة على ذلك العلاج القاسي الذي كان صندوق النقد الدولي يفرضه.
تلك الأرقام التي ما فتئ مناصرو اللجوء إلى هذه المؤسسة المالية الدولية يتبجحون بها ويقولون إن أموالا ضخمة تعد بمليارات الدولارات ستتدفق علينا وتملأ خزائننا حالة قبولنا لإبرام عقد مع صندوق النقد الدولي كانت، أي هذه الأرقام، ستُفضح وستظهر على حقيقتها لتقضي على جميع الأوهام، في حين ستؤدي الشروط المفروضة إلى عواقب قاسية على حياة كافة الجزائريين ماعدا أقلية منهم من المنتفعين الذين كان مثل هذا الوضع في صالحهم بحيث كان سيقذف بهم إلى قمم الثراء بفضل الفوائد الضخمة الحاصلة عن طريق عمليات الاستيراد-التصدير.
- حمل كل من كانوا يتحركون في الظل ويروجون لأرقام مغلوطة، أو يحمِّلون أرقاما صحيحة تأويلات تبعث على اليأس والهلع، على الخروج إلى العلن وتعريض أنفسهم للتفنيد والتكذيب على مرأى ومسمع الملأ.
وباختصار، أردت أن أفضح هؤلاء أمام الناس جميعا.

لقد كنت مصمما فعلا على مواصلة حملة التطهير والتوضيح التي شرعت فيها منذ تدخلي أمام إطارات ولاية الجزائر العاصمة يوم 24 جوان 1993، حملة أكدتها في ما بعد بنشر وثيقة مكتوبة وموزعة تحت عنوان “مذكرة لعرض التوجهات الرئيسية لبرنامج الحكومة الاقتصادي”.
هكذا، كنت عاقدا العزم على فضح من كانوا يصطادون في المياه العكرة وكانوا يدبرون المكائد في الخفاء.
لكن في ما يخصني أيضا، كنت أعرض نفسي لصعوبات أو لتكذيبات بشأن المواقف، المعلومات والمعطيات التي كنت أستند إليها كأساس لسياستي الاقتصادية وكتبرير للخيارات والأهداف المتضمنة في هذه السياسة.
تلك هي قاعدة اللعبة، وقد قبلتها بصدر رحب لأنني لم أكن أخفي شيئا ما أو أخشاه.

-25-
خصومي تواطؤوا مع الشيوعيين لإجباري على الاستقالة
تاريخ المقال 14/08/2007
أما خصوم سياستي، فقد أبدوا، من خلال تصرفاتهم، خوفا من الشفافية لأنه كان لهم، على الأقل، شيء ما يريدون إخفاءه على الشعب الذي أمرت بأن تجري النقاشات على مرآه ومسمعه.
لقد وفرت، بتصرفي هذا، للجنرال تواتي أو من قبلوا التحدث باسمه
فرصة من ذهب لإفحامي أمام الرأي العام الوطني وتبيين بطلان سياستي.

إن الجنرال تواتي وربما المجلس الأعلى للدولة
– مادام يختفي وراء هذه المؤسسة التي حولها إلا مسألة لا محل لها من الإعراب – كان لهم كل الحرية لإثبات إخفاق سياستي الاقتصادية
وإبراز عنادي في رفض هذا الإخفاق، غير قابل للإقرار بالواقع كما يدعي الجنرال تواتي في الكثير من الأماكن من الحوار الصحفي الذي خص به يومية El Watan. الاعتراض الذي عبر عنه رضا مالك
باسم المجلس الأعلى للدولة في ما يخص النقل المباشر لوقائع الملتقى جاء بحجة أن هذه الطريقة كان من شأنها تحويل الملتقى إلى فرجة إعلامية يمكن أن تنتهي فجأة من دون التوصل إلى خلاصة.
مرة أخرى، نجد ذلك الحذر الغريزي الذي يطبع “ديمقراطيينا” نحو الشعب، لاسيما “الجماهير” ؛ هذه المفردة التي ينفر منها الجنرال تواتي. هنا أيضا، لمست ذلك النوع من ردود الفعل المعتادة لدى خصوم الوطنية الجزائرية قبل اندلاع ثورة التحرير وها هم اليوم، بعد أن أخرستهم هذه الثورة، يرفعون الرأس ثانية لمهاجمة كل نداء مباشر إلى الشعب على أنه نزعة شعبوية مضرة لأن الموضوع المفضل لدى هؤلاء هو إبراز دور “النخبة” التي يمنحوها مكانة كبرى في تسيير شؤون البلد. أود أن أغتنم هذه المناسبة للإشارة إلى أن بعض الصحفيين ممن كانوا في صف هذا التيار “الديمقراطي” لاموني ذات يوم على إذاعة تصريحاتي مباشرة على شاشة التليفزيون.
حسب رأيهم، من باب ضمان الفعالية كان من الأحسن لي أن أمدهم بالموضوعات التي كنت أتمنى إحاطة الرأي العام علما بها ليتكفلوا هم، بعد ذلك، بالطريقة التي تصلح لنشرها. وهذه طريقة غير مباشرة استعملوها في معاتبتي على تجاوزهم والتحدث إلى الشعب مباشرة.
على أية حال
ذلك هو تصرف كل من أراد أن يفرض نفسه وسيطا بين الشعب وقادته.
إن الرفض القاطع الذي أبداه رضا مالك ضد نقل مناقشات الملتقى على المباشر لمست فيه خلفية لذلك الرفض للسماح للشعب بالاطلاع مباشرة على المعطيات التي تتوقف عليها الحلول المتصلة بمصيره وذلك الادعاء بضرورة تمكين “نخب” مزعومة من أن تكون الوسيط الإجباري للحديث إلى الشعب.

بطبيعة الحال، لم أكن بذلك المغفل الذي لم يدرك أن العرض المقترح علي بترك الصحفيين يتكفلون بإيجاد أحسن طريقة لنقل أفكاري إلى الرأي العام كان الهدف منه إتاحة الفرصة لهؤلاء الصحفيين للتصرف في أفكاري بحسب هواهم، أي إيصال أفكار إلى الرأي العام هي أفكار لغيري وأفكار خصومي السياسيين في نهاية الأمر لكن باسمي هذه المرة. ب.
في ما يتعلق بتسيير مناقشات الملتقى، لم أوافق على الشرط الذي وضعه المجلس الأعلى للدولة بخصوص تكليف شخصية أخرى غيري الإشراف عليه بحجة الحياد المزعوم تجاه الأطراف المنخرطة في النقاش. وعلة رفضي كانت بسيطة لأنني كنت أنا الذي من كان مصيره مرهونا بحسب مجريات الملتقى والنتائج التي كانت ستترتب عليه.
لذلك، اعتبرت أنه من عدم الحيطة أن أسمح لغيري بالحق في حرماني من إمكانية الدفاع عن نفسي كلما دعت الحاجة أثناء المناقشات.
صحيح، لقد عرضوا علي شخصية أحترمها كثيرا، لكن هذه الشخصية كانت آنذاك، من الناحية السياسية، في صف “الديمقراطيين” المشتهرين بعدائهم لي واعتراضهم الشديد على سياستي، لاسيما في المجال الاقتصادي.
فباسم الحياد وضرورة تهدئة الجدل، كان من الممكن حرماني من التدخل لتوضيح بعض الأمور أو للرد على حالات لتشويه الحقيقة أو لتقديم معلومات لابد منها.
إلا أنني مع ذلك، حرصت كل الحرص على تمكين خصومي من التعبير عن أفكارهم بكل حرية وتقديم الحجج لتأييد هذه الأفكار، ومن انتقاد التصورات المعتمدة في برنامجي والموضحة بالتفصيل في المذكرة الموزعة في أوائل جويلية 1993، وكذا من الطعن في المعطيات والأرقام المذكورة في وثائقي.
أي، باختصار، حرصت على ألا أحرم أحدا من أية وسيلة وفرصة لإطلاع الغير على خياراته. بالنسبة إلي، الحكم على الأفكار كان من حق المتتبعين للمناقشات حتى وإن لم يكونوا حاضرين معنا جسديا، أي الشعب في عمومه.
ولوا حدث أن تصرفت بصورة منحازة أو كنت غير نزيه في قيادة المناقشات، لاكتشف الجمهور المتتبع ذلك وأصدر حكمه علي في ما يخص النتائج المتمخضة عن هذه المناقشات بعد تتبعه لها. لقد كنت واثقا من مواقفي أصلا لاسيما وأنني اخترت الشفافية التامة كأسلوب، كما أنه لم يكن هناك ما يجعلني أستحي من استعراض جميع جوانب سياستي والأهداف المتوخاة فيها.
باختصار، لم يكن لدي ما أخفيه، على العكس من خصومي الذين لم يكونوا صرحاء ولم يعترفوا بأهدافهم الحقيقية التي أردت أن أفضحها أمام الملأ.
أكرر، لقد استعمل خصومي، بصورة خبيثة، أرقاما مغلوطة ومعطيات غير صحيحة كان من الصعب عليهم تبنيها في وضح النهار أمام مسمع ومرأى المتتبعين، أي الجزائريين أنفسهم. في الحقيقة، فكرة تنظيم ملتقى حول القضايا الاقتصادية خرجت من دماغ أنصار اللجوء إلى إعادة الجدولة، من بينهم الجنرال تواتي، هذا إذا لم يكن هذا الأخير هو الذي أوحى بها في الأصل.
الغرض المتوخى من هذا الملتقى اتصل بإيجاد الحجج التقنية الدامغة لتأييد اللجوء إلى صندوق النقد الدولي وتقديمه للمواطنين على أنه قدر محتوم كما أثبته الخبراء والاختصاصيين “الأكثر كفاءة” في مجال الاقتصاد.
ولعل الغرض تعلق أيضا، في أذهان أصحابه، بحملي على تغيير رأيي والموافقة على إعادة توجيه سياستي بشأن تسوية مشكلة الديون الخارجية في اتجاه الشروط التي كان صندوق النقد الدولي يفرضها.
في نهاية الأمر، أنصار إعادة الجدولة الذين بقوا مختفين وراء الستار كانوا يريدون إيجاد حجة تمكنهم من التهرب من مسؤولية الخيار الاقتصادي الذي رضوه لبلدهم مع كل ما ترتب عليه من عواقب وخيمة على حياة المواطنين.
تماما مثلما وفرت “استقالة” الرئيس الشادلي سنة تقريبا من قبل لهؤلاء عذرا مناسبا، وإن لم يكن مقنعا، من أجل تغطية القيام بذلك التدخل القوي الذي جاء به تغيير جانفي 1992.

وبعدما تبنيت الفكرة، صار تنظيم الملتقى المذكور حاملا لخطر ضد أصحابها الأصليين. هكذا صار أنصار إعادة الجدولة، لحاجة في نفس يعقوب
يرون إستراتيجيتهم كلها ليس فقط معرضة لخطر الانهيار وإنما كانت قادرة على التسبب في الإلغاء التام لحلهم المفضل في ما يخص الديون الخارجية، أي اللجوء إلى صندوق النقد الدولي.
وبالفعل، فلقد أخذت أصداء تظهر على مستوى بعض دوائر الحكم حول ردود فعل الجماهير الشعبية والطبقات المتوسطة إثر تصريحاتي وما كشفت عنه أمام إطارات ولاية الجزائر العاصمة في يوم 24 جوان 1993.
ردود الفعل هذه بينت أن الجزائريين، لاسيما الجماهير العريضة الهشة، بدأوا يدركون، أكثر فأكثر، طبيعة العواقب المنتظرة من عملية إعادة جدولة ديوننا الخارجية المورثة عن الثمانينيات.
بالنسبة إلى أنصار إعادة الجدولة هذه، لم يبق هناك إلا سبيلين : إما تحول الملتقى – الذي أرادوه لخدمة غرضهم المتمثل في اللجوء إلى صندوق النقد الدولي – إلى منتدى تنكشف فيه مناورتهم ويُحكم فيه، أمام الجماهير، بالموت النهائي على الحل الذي كانوا يحاولون فرضه قبل الشروع في مساعيهم وإما التحرك من أجل الحصول على تنحيتي وحل حكومتي قبل انعقاد الملتقى. لعل هذا هو المعنى الذي حمله المسعى الذي شرحه الجنرال تواتي في الحوا
ر الذي خض به يومية El Watan حين قال :
“بناء على (1) المعطيات المقدمة من طرف المستشار الاقتصادي لرئاسة المجلس الأعلى للدولة، السيد بوزيدي، ؛ (2) رفض السيد عبد السلام تعيين وزير للاقتصاد، اقترح الجنرال خالد نزار على السيد علي كانفي، رئيس المجلس الأعلى للدولة، عدم المضي أكثر مع السيد عبد السلام في رهانه لتجنيبنا اللجوء إلى إعادة الجدولة”.

في الواقع، كان بإمكانه أن يقول، ببساطة، أنه عندما أردت أن أجعل من الملتقى منتدى تُنقل مناقشاته مباشرة على شاشة التليفزيون، أوحى أنصار إعادة الجدولة الذين كان واحدا من قادتهم، إن لم يكن قائدهم الرئيسي، إلى الجنرال خالد نزار بإخبار الرئيس علي كافي أن الخيار الوحيد الذي بقي له هو “عدم المضي أكثر مع السيد عبد السلام” والقيام بإنهاء مهامه بحجة إخفاق سياسته الاقتصادية.
وهذا ما تم بالفعل بتاريخ 19 أوت 1993 وتم إعلانه يومين من بعد في ظروف سأتعرض لها في ما بعد. قبل ذلك، كان خصومي يأملون في إجباري على استقالة تلقائية بتعطيل الموانئ الجزائرية بواسطة إضراب للعمال من أجل خنق نشاطاتنا الاقتصادية والبلاد بأسرها. غير أن هذه المناورة الأخيرة، التي ساعدهم فيها الشيوعيون لدى العمال، سرعان ما أُحبطت ؛ مما جعلهم يعتقدون ألا حل بقي لهم غير إقالة حكومتي.
في ما يتعلق بالمواجهة التي حدثت، من خلال المجلس الأعلى للدولة والمتحدث باسمه رضا مالك، بيني وبين أنصار إعادة الجدولة لعل في مقدمتهم الجنرال تواتي، لم يشر إليها هذا الأخير إطلاقا في الحوار الصحفي المذكور.
لكن، على أية حال، لقد اتضح الآن أن هذه المواجهة لم تكن الواقعة الوحيدة والحقيقة الوحيدة التي أخفاها عن الرأي العام الذي أراد أن يغلطه لا أن ينيره بفضل “روايته للأمور”.

-26-
آخر لقاء لي بالمجلس الأعلى للدولة و21 أوت، يوم إعلان إقالتي
تاريخ المقال 15/08/2007
كما ذكرت، خرجت من محادثاتي الطويلة التي جرت، يوم 20 جويلية 1993، بيني وبين الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار وأنا متأكد من أن قرار اللجوء إلى إعادة الجدولة قد تم اتخاذه ولم يبق لهؤلاء الذين اتخذوه إلا محاولة إقناعي تحمل مسؤوليته والعواقب المترتبة عليه.
بل أجزم أن محاولة إقناعي بالدخول في لعبة إعادة الجدولة كان نزولا عند رغبة الجنرال خالد نزار الذي – خلافا، لاشك، للجنرال تواتي وأتباعه من “الديمقراطيين” داخل الجيش الوطني الشعبي وخارجه –
يبدو أنه لم يتمن رحيلي.

وبالفعل، من بين إطارات مؤسستنا العسكرية كان هناك من وثق، بصدق، في صحة المعطيات والأرقام التي كانت تأتيهم وظن أن الجزائر كانت على حافة العجز عن التسديد والانهيار الاقتصادي الذي لا يمكن تجنبه
سوى باللجوء إلى صندوق النقد الدولي.
بينما استسلم آخرون، ممن أغوتهم الفوائد الوهمية لاقتصاد متحرر تماما، للمنفعة المزعومة الحاصلة بفضل إعادة الجدولة.
أما في ما يخص الجنرال تواتي، فالأمر يختلف إذ إضافة إلى دوافعه المتصلة بالاقتصاد كانت له – كما يظهر في الحوار الصحفي المذكور – نية لإشفاء الغليل بسبب التحدي الذي ناله مني والذي ظل يجتره عندما رفضت له الامتيازات التي كان يريدها لحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية بالإضافة إلى تسوية بعض المسائل الشخصية كما كان يريد، لاسيما في ما يخص حالات بعض الصحف التي كانت لها صلة به. في رأيه، كيف يمكن أن يحدث ذلك وهو الذي كان يظن نفسه رجل نفوذ و”مخا” ملهما لخيارات السلطة.
هذا الرجل الذي كانت تدخلاته أكثر فعالية من المسؤولين الصوريين الذين نصبتهم هذه السلطة، لم يستسغ كيف أسمح لنفسي بعدم النزول عند رغباته واعتبرها بمثابة الأوامر. لذلك تجده يتهمني بالنزعة القيصرية في ممارسة السلطة.
ولأنني قررت ألا أستجيب للأصوات الملحاحة الداعية إلى اللجوء إلى إعادة جدولة مديونيتنا الخارجية ولا لتلك الوعود الرنانة في ما يخص ترقيتي الخاصة مقابل التخلي عن سياستي، لم أشك في أن المواجهة التي كنت بصددها، من خلال المجلس الأعلى للدولة، مع دعاة الاستنجاد بصندوق النقد الدولي كانت ستنتهي، ربما، بإنهاء مهامي كرئيس حكومة. كما أوحيت إلى مساعد واحد فقط من المساعدين لي أن حكومتي لن تدوم، ربما، إلى ما بعد العطلة التي اتفقنا عليها في مأدبة الغداء بمقر إقامة الرئيس على كافي في يوم 20 جويلية 1993.
والتزاما بسيرتي في ممارسة مختلف المسؤوليات التي أنيطت بي طيلة حياتي – وهو ما أكدته أمام إطارات ولاية الجزائر العاصمة وبمناسبة الإجابة عن أسئلة بعض الصحفيين أثناء جولتي التفقدية بولايات جنوب البلاد – حرصت على مواصلة مهامي من دون إعارة الاهتمام إلى مصيري كرئيس حكومة.

وفي هذا السياق، أشير إلى الوقائع الآتية :
- انعقاد مجلسين حكوميين أثناء الأيام الأخيرة من شهر جويلية وتم التباحث فيهما حول التدابير الرئيسة الواجب اعتمادها في ما يخص قانون المالية لسنة 1994 ؛
- انعقاد اجتماع مع الاتحاد العام للعمال الجزائريين في بداية شهر أوت لتناول مسائل مختلفة، لاسيما ما تعلق منها بحياة المؤسسات ؛
- انعقاد اجتماع مع نقابة أساتذة التعليم العالي (“الكناس”) في بداية شهر أوت كذلك وقد شُرحت لي، بهذه المناسبة، فضيحة الأحياء التي بنيت من أجل إيواء أساتذة الجامعة لكنها صارت، بسبب التنازل عن السكنات على أساس فردي، أحياء محتلة من طرف أشخاص لا ينتمون إلى الجامعة.
وسبب ذلك أن الأساتذة الذي حصلوا على هذه السكنات أعادوا بيعها إلى الغير بعد مغادرتهم الجامعة حتى غدا الأساتذة الذين خلفوهم مضطرين إلى الإقامة بفنادق أو حمامات شعبية.
كانت هذه الفضيحة واحدا من المشاكل الواجب مواجهتها منذ الدخول الدراسي.
- أضف إلى ذلك، لم ييأس خصومي السياسيون من السعي لرحيلي، من تلقاء ذاتي، بعد انهيار معنوياتي والاستسلام أمام الهجمات المتواصلة الموجهة ضد سياسة حكومتي إلى درجة المحاولة، أحيانا، القدح في شخصي. ليس من المستبعد أن تكون هذه الهجمات، بالنظر إلى حدتها وورودها من كل الجهات تقريبا، موجهة عن بعد من طرف من كانوا، داخل السلطة، يتمنون ألا يضطر “أصحاب القرار”، من خلال المجلس الأعلى للدولة، إلى المبادرة بتنحيتي. والسبب في ذلك هو أنهم كانوا، في هذه الحالة، يتوقعون ردود فعل من طرف الرأي العام الذي كان ينتظر منهم تبريرا لهذه المبادرة. كما كانوا يعرفون – لاسيما بعد تدخلي أمام إطارات ولاية الجزائر العاصمة ونشر مذكرة التوجهات الرئيسية لسياستي الاقتصادية –
أن الرأي العام الوطني لا يمكنه أن يكتفي بقرار بسيط يُعلن من خلاله فشل السياسة الاقتصادية لحكومتي. (ومن مآسي التاريخ أن من اتخذوا القرار بإقالة حكومتي وجدوا أنفسهم، من حسن حظهم، معفيين من ضرورة تفسير أسبابها في ذلك الجو المشحون بالانفعال إثر اغتيال قاصدي مرباح).

لاشك أن ذلك كان واحدا من الأسباب الرئيسة في تكثيف محاولات زعزعة حكومتي. وبالإضافة إلى الصحافة المسماة بـ “الحرة والمستقلة”، كان هناك هجوم على الجبهة الاجتماعية منذر بدخول اجتماعي ساخن للغاية.
السلسلة الأولى من مطالب بعض النقابات استجابت لها الحكومة بسرعة بعد لقاء تم مع الأمانة الوطنية للاتحاد العام للعمال الجزائريين. بعد ذلك، بدأ تحرك نقابات عمال الموانئ بهدف توقيف العمل في جميع موانئ الجزائر من أجل شل جميع النشاطات الاقتصادية في البلد.
وقد سمحت الاتصالات بهذه النقابات بإيجاد تسوية للمشاكل ذات الطابع المادي والمهني التي أثارها العمال في أغلب الموانئ التي طالها الإضراب ماعدا عمال موانئ الجزائر العاصمة الذين ظلوا متمسكين بموقفهم نتيجة التأثير الذي كانت عناصر شيوعية، لها علاقة بحزب الطليعة الاشتراكية، تمارسه عليهم.
في نهاية الأمر تنازلوا عن موقفهم وأعلنوا نهاية الإضراب عندما هددهم عمال في موانئ أخرى بفضحهم أمام المواطنين أنهم كانوا يقومون بالإضراب لأغراض سياسية لا من أجل الدفاع عن مصالح العمال. فشل هذا الإضراب وخطر تحول الملتقى حول القضايا الاقتصادية إلى غير صالحهم –
عكس ما كانوا يريدون منه في الأصل، أي تزكية اللجوء إلى صندوق النقد الدولي – كانا هما أيضا، ربما، من بين العوامل التي دفعت أنصار إعادة الجدولة إلى التحرك من أجل الحصول على إقالتي مباشرة قبل انفلات زمام الأمور من أيديهم عندما يبين تطور الأوضاع بطلان مساعيهم.

من ناحية الصحافة، قررت التمسك بعدم جعل خزينة الدولة تتكفل بفواتير طبع الصحف التي كانت تبدو أمام الجميع، بمن فيهم الصحفيين على وجه الخصوص، متوفرة على الأموال الضرورية لهذه الغاية. تلك كانت حالة يومية Liberté المملوكة لرجل صناعة أمواله تعد بمليارات الدينارات والذي كان، في الوقت ذاته، مدينا لمصالح الضرائب بمبلغ 140 مليار سنتيم من دون أن نُدرج في الحساب عقوبات التأخر عن التسديد. وهكذا أيضا كانت حالة يومية Le Matin التي لكم تكن تدفع مستحقات الطبع لكنها استطاعت شراء عمارة فخمة في العاصمة بأموالها الخاصة، أموال ظهرت إشاعات، في أوساط الصحفيين، تفيد باستعمال جزء منها لأغراض غير متصلة مباشرة بسير المؤسسة.
وقد بلغ الأمر بمسؤول إحدى الصحف حد القول، شاهرا دفتر شيكاته، إن له من المال ما يسمح له بتسديد الفواتير لكنه يرفض القيام بذلك كي تمتد فترة تعليق صدور جريدته بهدف ممارسة ضغط من أجل رحيل رئيس الحكومة. أخيرا، وكوزير للاقتصاد، بلغني تقرير من مصالح الضرائب حول عدم قيام رجل صناعة معروف في الأوساط العاصمية بتسديد مستحقات الدولة من الضرائب على الفوائد التجارية التي حصلت له من عمليات الاستيراد.
وقد أصدرت تعليمات لهذه المصالح بالانطلاق في الإجراءات اللازمة لاستعادة المستحقات من هذا المتعامل. تنفيذا لهذه الأوامر، منح للمعني مهلة 30 يوما لتسوية وضعه الضريبي، وبعد انقضاء هذا الأجل كانت مصالح الضرائب مخولة للتحرك عن طريق المصادرة من أجل استعادة مستحقات الخزينة العمومية.
وقد علمت في ما بعد أن انقضاء هذا الأجل اتفق –
بصورة غريبة وكما لو كان محض صدفة – مع اليوم الذي أقيلت فيه حكومتي. رجل الصناعة العنيد هذا تجرأ، في ما بعد، على التصريح علانية ومن دون خشية أي عقاب، أنه استطاع، بفضل دعم جنرال، الحصول على إلغاء التقويم الضريبي الذي قررته له مصالح الضرائب عندما كانت تحت إمرتي.
إلا أن الجنرال تواتي، الذي تجمعه برجل الصناعة هذا علاقات معروفة، لم يقل كلمة حول هذه القضية.

في إطار ممارسة مهامي كرئيس حكومة ومواصلة لتطبيق البرنامج الذي سطرته لحكومتي، أنشأت فوج عمل للتحضير الفعلي، مع الدخول الاجتماعي، لعملية تغيير العملة مشفوعة بآليات لمراقبة الأموال النقدية، بمختلف أشكالها، التي كانت بحوزة الأشخاص الماديين والمعنويين في الجزائر.
كما أرسلت إلى الولاة تعليمات بشأن التحقيق في الظروف التي وقع فيها التنازل عن الأملاك العقارية التي كانت تابعة للدولة لتصير أملاكا خاصة. قبل ذلك، كانت مصالح أملاك الدولة قد فرغت من إحصاء جميع قطع الأرض والعقارات التي كانت مساحتها 1000 م فما فوق وبيعت للخواص.
كما كان هناك إحصاء مماثل في يخص قطع الأرض والعقارات الباقية لم يشملها الإحصاء الأول. لقد تعلق الأمر، في هذه الحالة، بتدابير موجودة، صراحة أو ضمنيا، في برنامج عمل حكومتي. في الأخير، حدثت واقعة شخصية لم تكن على تلك الأهمية كي أثيرها في هذا السياق وإنما أسوقها لأن البعض حاول أن يجعل منها قضية ذات طبيعة سياسية.
يتعلق الأمر بزيارة كنت قد قمت بها إلى الرئيس بن بلة في جويلية 1993. أول مرة رأيت فيها بن بلة منذ 1965 كانت بمناسبة مراسيم دفن الفقيد الرئيس محمد بوضياف. عندما عاد الرئيس بن بلة من منفاه الطوعي، لم أر داعيا إلى أن أكون من بين مستقبليه لأن ذلك كانت له دلالة سياسية.
في ما بعد، لم تتح الفرصة لي للقيام بزيارة مجاملة له إلى ذلك اليوم الذي التقينا فيه أثناء المناسبة التي أشرت إليها منذ حين.
اقترح علي زيارتي ببيتي فقلت له، بالعكس، أنا الذي سأزوره ببيته. أياما من بعد، صرت رئيس حكومة بينما كان هو قد غادر الجزائر فقررت انتظار عودته للوفاء بوعدي ؛ وهو ما قمت به أثناء عطلتي القصيرة في صيف 1993. أثناء حديثنا، قال لي إنه كان متفقا مع برنامجي وإنه، من ناحية ثانية، لو منح مهلة ستة شهور سيعمل كل ما في وسعه لتسوية الخلاف مع جبهة القوى الاشتراكية.
فما كان لي إلا أن أجبته أن مثل هذه الأمور كانت شأن المجلس الأعلى للدولة والجنرال خالد نزار على وجه التحديد لأنه كان، بوصفه وزير الدفاع الوطني، المخاطب المفضل في ما يتعلق بالشؤون المتصلة بالحوار الذي يمكن أن يقع مع المتمردين. هذا، وقد صدر، في ما بعد، كتاب بفرنسا أوحى أن بعض الدوائر العاصمية اعتبرت زيارتي لبن بلة سعيا مني للحصول على مساعدته السياسية.
أظن أن لي من الحس السياسي ما يكفيني لأن أدرك أن بن بلة لم يكن بإمكانه تقديم أية مساعدة لي من هذا القبيل. ثم إنني لم أكن أبدا أبحث عن هذه المساعدة لأنني لم أكن في حاجة إليها، ولو أحسست بهذه الحاجة، كنت أعرف الأبواب التي أقصدها.

في ما يخص الرئيس بن بلة، لقد كنت مدينا له لأنه هو الذي اختارني، في 1963 و1964، للإشراف على شؤون المحروقات، إضافة إلى تلك الصلة الشخصية التي جمعتنا في الذكرى المشتركة لروح عزيز علينا، ألا وهو الأخ الفقيد محمد خميستي الذي سعى كثيرا من أجل التقريب بيننا.
أما الناس الذين يعيشون على الدسائس السياسية فلا يستطيعون تصور وجود علاقات أخوية بين رجال جمعتهم ظروف النضال.
إن زيارتي لبن بلة، أثناء عطلة جويلية 1993، لم تحمل دلالة أخرى غير كونها زيارة مجاملة وتعبيرا عن احترام لشخص سبق له أن عهد إلى بمهمة في خدمة بلدي وأردت، بكل بساطة، الإعراب له عن مودتي والقول له إنني لم أنس تلك الثقة التي وضعها في عندما كان على رأس الدولة.

-27-
إنهاء مهامي كرئيس حكومة
تاريخ المقال 17/08/2007
في 19 أوت 1993، استدعاني الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار إلى مقر إقامة رئيس الدولة على شط البحر، أي نفس المكان الذي كنا قد تناولنا فيه مأدبة غداء شهرا من قبل بالضبط.
بعدما تبادلنا كلاما عاديا وأفدتهم بمعلومات حول الوضع الأمني، اتخذ الرئيس علي كافي مظهر الجد ليخاطبني بهذه الكلمات :

“منذ نحو سنة، التقينا نحن الثلاثة وعهدنا إليك بمهمة تشكيل حكومة. اليوم، وبعد إخفاق هذه الحكومة في عملها، نعلمك بإنهاء هذه المهمة. يبقى علينا أن نصوغ سيناريو بكيفية تجعله لا يبدو إقالة ولا استقالة”.

فما كان لردي إلا أن يأتي هكذا :
“لا تكلفوا أنفسكم عناء كبيرا.
سوف أبعث إليكم برسالة أقول فيها بكلمات بسيطة : في اليوم الفلاني دعوتموني وعهدتم إلي بمهمة تشكيل حكومة وفي اليوم الفلاني دعوتموني، مرة أخرى، لتبليغي قراركم إنهاء هذه المهمة.
أسجل هذا القرار شاكرا لكم ثقتكم.
أقول لكم إلى اللقاء متمنيا لكم حظا سعيدا في مهامكم”.
بعد ذلك، أردفت قائلا لمخاطبيَّ :
“لم أخنكما ولم أغلّطكما ولم أطرح عليكما شروطا”. عندئذ، رد علي الجنرال خالد نزار بصوت هادئ يكاد لا يُسمع قائلا : “نعم !
حقيقية، لم تطرح علينا أي شروط”.
باختصار، وحرصا مني على تفادي أي حديث مطول أو جدل كان، في نظري، من شأنه النيل من كرامتي، اكتفيت بالتلميح إلى أنني لم أطلب من أعضاء المجلس الأعلى للدولة شيئا ولم يكن بيننا إلا عقدا معنويا
كانوا بصدد فسخه من جانب واحد.
هذا العقد المعنوي ما كانوا ليجهلوه مادمت قد عبرت عنه من خلال عرض أفكاري حول وضع البلاد والحلول الممكنة من أجل تجاوز الصعوبات.
كما لم يكن بإمكانهم تجاهل هذا العقد لأنه كان متضمنا في برنامج العمل الذي سطرته لحكومتي والخطة المتوسطة المدى اللذين حظيا بموافقتهم صراحة وعلانية.
ثم إنني حرصت على التأكيد أن الحكم على نتائج نشاطي لم يكن ليتم إلا بالرجوع إلى الالتزامات التي أخذتها على عاتقي أمام الملأ لا على أساس النوايا التي تُنسب إلي هنا وهناك بما في ذلك من طرف “أصحاب القرار”.

رفضي للسيناريو الذي أرادوا توريطي فيه في ما يخص صيغة إعلان إنهاء مهامي على رأس الحكومة وكذا محتوى الرسالة التي كنت بصدد توجيهها إليهم، كانا الهدف منهما الإشارة إلى أنني كنت أفضل ترك الحرية لهم في شرح الأسباب التي جعلتهم يحكمون على نشاط حكومتي بالفشل لأنني لم أكن أريد إعفاءهم من هذه المهمة. ثم إنني لو منحت إقالتي شكل الاستقالة لصار هذا العبء ملقى علي عاتقي لأنني سأكون، حينئذ، مطالبا، بتفسير الأسباب التي جعلتني أنسحب. وسعيا مني لتفادي كل ما من شأنه أن يبدو مساومة أو يأسا أمام القرار الذي اتخذوه، امتنعت عن تذكير مخاطبيَّ أنه، شهرا من قبل فقط وأثناء مقابلة على انفراد، قال لي كل منهما أن الاختيار وقع علي لأكون رئيس الدولة.

أخبرني الجنرال خالد نزار باختيار رضا مالك خلفا لي معتبرا أن في هذا الاختيار ما يسعدني مادام خليفتي صديقا لي. صحيح، منذ سنوات تفرقت سبلنا، أنا ورضا مالك، لكن علاقاتنا الشخصية بقيت معقولة وودية.
أظن في هذه اللحظة بالذات أثار الجنرال خالد نزار سؤالا جاء ليعكر جو اللقاء حيث خاطبني بهذه الكلمات :
“والآن، تحدث لنا عن زيارتك إلى بن بلة !” فأجبته شارحا له ما سبق لي ذكره في هذا المقال مبينا له أسباب الزيارة وطبيعة الكلام الذي دار بيننا ثم ختمت طالبا من الجنرال خالد نزار:
“إذا كانت لكم رواية مغايرة فلتفدوني بها !”. كلا !
أجابني ولم يلح. إلى اليوم، أجهل السبب الذي جعل الجنرال خالد نزار يسألني عن زيارتي إلى بن بلة في وقت اجتمعنا، لا لنحكي حياتنا لبعضنا البعض وإنما لنفترق. لم أكن أدري ما علمته في ما بعد بشهور بمناسبة صدور كتاب بباريس ورد فيه أن زيارتي إلى بن بلة كان الغرض منها الحصول من هذا الأخير على دعم سياسي. فلو كنت على علم بهذا الادعاء، يوم 19 أوت 1993، لأعربت للجنرال خالد نزار عن اندهاشي وأنا أرى شخصا في مقامه يترك نفسه ينخدع بأقوال صادرة عن سفهاء. قبل أن نفترق، وقع بيننا تبادل قصير في ما يخص يوم إعلان قرار تغيير الطاقم الحكومي. وبما أننا كنا في نهاية الأسبوع، قلت إنني كنت، فقط، في حاجة إلى وقت أجتمع فيه مع أعضاء الحكومة. في نهاية الأمر، تم الاتفاق على يوم 22 أوت لإعلان التغيير وتنصيب رضا مالك خلفا لي.
هكذا غادرت مخاطبيَّ اللذين قررا إنهاء مهامي بعد أن نصباني فيها نحو ثلاثة عشر شهرا من قبل.
لقد كلف الرئيس علي كافي نفسه عناء مرافقتي إلى غاية السيارة المقلة لي. أثناء تلك الخطوات التي مشيناها مع بعض، وكما لو أنه كان يريد مواساتي، همس لي بهذه الكلمات :
“سنلتقي بعد شهر، في أكتوبر، في إطار الحوار والمرحلة الانتقالية”. لم أقل شيئا ثم تعانقنا وودع بعضنا بعضا ثم امتطيت سيارتي وانطلقت.
فور وصولي إلى مقر إقامتي، اتصل بي الجنرال خالد نزار عبر الهاتف ليخبرني بتقديم موعد الإعلان بيوم، أي 21 أوت. كما اتصل بي رضا مالك ليقترح علي لقاء خاصا، فأجبته أننا سنلتقي يوم تسليم المهام سائلا إياه ما إذا كان هناك من أمر خاص نلتقي من أجله وإلا فليس لدينا ما نقوله لبعضنا البعض على انفراد.
هكذا، إذاً، طلبت من ديواني استدعاء اجتماع لأعضاء الحكومة يوم السبت 21 أوت 1993 في الصباح. في ذلك اليوم، التحقت أولا بالرئاسة لحضور اجتماع ضم جميع أعضاء المجلس الأعلى للدولة حيث أعلن الرئيس تغيير الحكومة قائلا إنني، منذ، سنة قبلت المنصب “من دون شروط” وها أنا اليوم “أقبل” إنهاء مهامي “في نفس الظروف”. بعد ذلك، قرأت على مسامع الحضور رسالتي بحسب المحتوى الذي وقع الاتفاق عليه بيني وبين الرئيس علي كافي والجنرال خالد نزار في الاجتماع الذي أبلغاني فيه بقرار إنهاء مهام يومين من قبل.

فور ذلك، غادرت الرئاسة متوجها إلى مقر الحكومة حيث كان في انتظاري من سيصيرون منذ ذلك اليوم وزرائي السابقين. أخبرتهم بالتغيير الذي حصل وقرأت عليهم فحوى الرسالة التي سلمتها للمجلس الأعلى للدولة ثم ختمت تدخلي المقتضب بتلاوة آية من القرآن :
“وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون” (البقرة، الآية 216) وقد أخذ وزير العدل، باسم زملائه، الكلمة ليخاطبني بعبارات الشكر على العمل الذي قمنا به معا.
هكذا افترقنا إلى غير رجعة. بعد هذا اللقاء بوقت قصير، حضر رضا مالك إلى قصر الحكومة وقمنا بمراسيم تسليم المهام كما تقضي العادة.
تلك هي الظروف التي أنهيت فيها مهامي على رأس الحكومة.
في نهاية اليوم، هتف إلى صديق من المدينة يخبرني بشائعة تفيد بمحاولة اغتيال قاصدي مرباح مشيرا إلى احتمال وفاته. وقد تأكدت من ذلك من خلال اتصال بوزير الداخلية والوزير المنتدب للأمن اللذين لم يغادرا بعد منصبيهما ريثما يتم تعيين خليفتين لهما. أبلغت رضا مالك بهذا الخبر المحزن كما كان علي أن أقوم بتلك المهمة الأليمة، ألا وهي تأكيد الخبر لعائلة مرباح التي كانت تبحث عن مصدر رسمي للاستفسار عما وقع بالذات.
من المعلوم أن وفاة قاصدي مرباح كان مأساة عائلية فظيعة لأن محاولة اغتياله أودت أيضا بحياة شقيقه وأحد أبنائه إضافة إلى الحرس. يوم السبت 21 أوت 1993 يبقى وصمة عار في التاريخ السياسي المعاصر للجزائر.
تذكرنا هذه الواقعة بواقعة أخرى في تاريخ الإسلام حيث شهدت نفس الليلة أحداث خصت ثلاثة أمراء للمؤمنين في تاريخ الدولة الإسلامية :
أحدهم ولد ؛ ثانيهم اغتيل؛ ثالثهم ارتقى إلى سدة الحكم. في الجزائر، يوم 21 أوت 1993 كان يوما لثلاثة رؤساء حكومة : أحدهم أُنهيت مهامه، ثانيهم نُصِّب في وظيفته وثالثهم اغتيل.

الأثر المباشر الذي تركته هذه الواقعة غطى على ذلك الغليان الذي عادة ما يقع عندنا إثر كل تغيير حكومي.
هناك واقعة أخرى لا يمكن إلا أن نربطها بالظروف التي أحاطت إقالتي. أسبوعا تقريبا قبل إعلامي بإنهاء مهامي، كان وزير الخارجية الفرنسي، آلان جوبي Alain Juppé، قد أدلى بتصريح مدوٍ أصدر فيه حكما بالفشل على حكومتي حينما قال : “الوضع القائم لا يمكن أن يستمر” سامحا لنفسه، هكذا، بالتدخل السافر في شؤوننا الداخلية.
وقد تبع هذا التصريحَ مباشرة تعليق في يومية Le Monde تبنى صاحبه الانتقادات التي وجهها الوزير الفرنسي ضدنا، مشيرا إلى مقال كتبه عمر بلهوشات، مدير يومية El Watan – الموصوفة باليومية “المستقلة” – في شكل افتتاحية تندد بنشاط الحكومة معتبرة إياي، شخصيا، “رجل الماضي” يحمل “أفكارا بالية”. كما هو معلوم، يومية Le Monde كانت معروفة، منذ سنوات، بكراهيتها للثورة الجزائرية ولجبهة التحرير الوطني لاسيما الفترة التاريخية التي عاشتها الجزائر تحت رئاسة هواري بومدين، تلك الفترة التي لا زال معظم الجزائريين يفتخرون بها إلى اليوم. من هذه الناحية، ليس من الغريب أن نجد هذه اليومية في وفاق مع زميلتها وحليفتها في الجزائر العاصمة.

ومع ذلك، ما أدهشني أكثر في 23 أوت 1993، هو ذلك السكوت المحير الذي التزمته تلك الأصوات المفزوعة، هاهنا، عندما صرح الرئيس ميتيران، بعد توقيف المسار الانتخابي سنة ونصف من قبل، أن هذا المسار ينبغي أن يُستأنف بسرعة. ماعدا مقالا نُشر بيومية El Moudjahid، لم يصدر، في الجزائر، أي رد فعل ضد تصريح آلان جوبي والتعليقات المغرضة المنشورة على صفحات يومية Le Monde.
رضا مالك الذي كان وزيرا للخارجية وعضوا في المجلس الأعلى للدولة – والذي أعربت له عن اندهاشي من عدم صدور رد دبلوماسي من جانبنا على إقحام الوزير الفرنسي نفسه في سياستنا الداخلية – انتهى به المطاف إلى الاعتراف بضرورة إصدار احتجاج ضد تصريح عمومي جاء على لسان وزير خارجية أجنبي يطعن في سياسة بلدنا.
وقد قرأ علي، عبر الهاتف، نص بلاغ مقتضب كان بصدد نشره باسم وزارته ذكر فيه استدعاء السفير الفرنسي بالجزائر لتقديم تفسير لتصريح وزير خارجية بلده.
غير أن لا وكالة الأنباء الجزائرية ولا نشرة الأخبار التليفزيونية لمساء ذلك اليوم أشارتا إلى هذا البلاغ ؛ علما أن رضا مالك كان دائما يدعي أنه يتصرف بكل حرية واستقلالية. بعد المقابلة الصحفية التي أجريتها مع يومية L’Authentique بتاريخ 11 أكتوبر 2001 والتي أوحيت فيها بأن الجنرال تواتي هو الذي كان من وراء إنشاء التحالف الوطني الجمهوري، الحزب الذي كان رضا مالكا رئيسا له، اتصل بي هذا الأخير ليقول لي إنه هو الذي أسس الحزب من دون أية أوامر تكون قد جاءته من هنا أو هناك.
أما في ما يخصني، لا يمكن أن أقتنع أن امتناعه عن نشر البلاغ المذكور للرد على تصريح ألان جوبي كان بإرادته وأنه لم يتخذ “الحيطة اللازمة” بـ “الاستشارة” قبل رمي بلاغه في سلة المهملات.

أياما فقط بعد هذه “القلبة”، أُخبرت بقرار وضع نهاية لمهامي. لعل البعض يرى من التفاهة الربط بين الحدثين غير كونهما مجرد صدفة. ومع ذلك، يصعب تفادي طرح سؤالين اثنين : (1) هل أخطر حكام الجزائر باريس بنيتهم أو قرارهم بشأن تغيير الحكومة والإقدام على تغيير السياسة الاقتصادية للجزائر في اتجاه ما يتطابق و “رغبات” القادة الفرنسيين ؟
(2) أم هل بعد أن عبر هؤلاء عن “تمنياتهم” من خلال وزير خارجيتهم، ألان جوبي، ويومية Le Monde، سارع حكامنا إلى تلبية هذه الرغبات من دون تأخر ؟ صحيح، يقال إن “الصدفة أحسن من ألف ميعاد”، لكن، في هذه الحالة، يبدو في الصدفة من الحث ما يصعب إخفاؤه!

-28-
لقد أخطأوا في كما أخطأت فيهم
تاريخ المقال 18/08/2007
في شهر فيفري 1993، قمت بزيارة إلى باريس حيث قال لي الوزير الأول الفرنسي، بيار بيريغوفوا، إن رفض حكومتي تخفيض عملتنا الوطنية كان موقفا في محله لأن الجزائر كانت تستورد أكثر من 25 % من واردات اقتصادها.
في شهر أفريل الموالي، حلت حكومة يمينية محل حكومة بيرغوفرا.
ولم تمض إلا فترة قصيرة على تشكيل الحكومة الجديدة حتى أعلنت هذه الأخيرة أن كل مساعدة مالية فرنسية لأي دولة إفريقية كانت من ذلك الحين فصاعدا مرهونة بإبرام اتفاق بين هذه الأخيرة وصندوق النقد الدولي.

ومن غريب الأمور، أن نجد الجنرال تواتي، في حواره الصحفي مع يومية El Watan يشير إلى أن هذه الفترة بالذات هي التي حصلت له فيها القناعة، حسب قوله، بضرورة لجوء الجزائر إلى إعادة جدولة ديونها الخارجية حيث يقول :
“…
لكن لم يمنعني ذلك، في أواخر ماي 1993، من الظن أننا كنا، حسب الظاهر، متوجهين نحو الإخفاق، محكوما علينا بالتفكير في اللجوء إلى صندوق النقد الدولي”. ما انفك الجنرال تواتي يقول إ
نه لم يكن يتدخل في الشؤون الاقتصادية وها هو يتلقى الوحي من السماء يخبره أننا كنا “حسب الظاهر متوجهين إلى الإخفاق”.
وكما سبق ذكره، في أواخر جويلية 1993، قام الجنرال تواتي بزيارة إلى باريس لقضاء “48 ساعة من الراحة” “استغلها للاتصال بالخزينة الفرنسية”. أقل من أسبوعين بعد ذلك، أدلى وزير الخارجية الفرنسي بالتصريح المشار إليه أعلاه متبوعا بالمقال الصادر بيومية Le Monde الذي جاء كصدى لما كان مدير El Watan قد كتبه في جريدته ؛ هذه الجريدة المعروفة بصلتها بالجنرال تواتي.
زد على ذلك أن وزير الخارجية الجزائري لم يرغب في الرد على تصريح نظيره الفرنسي الذي كان قد استقبله منذ أسابيع بباريس. وفي أقل من أسبوع من هذا تصريح، أُخبرت بقرار إنهاء مهامي على رأس الحكومة.

في الحوار الذي خص به يومية El Watan، لم يجرؤ الجنرال تواتي على تقديم “روايته للأمور” في ما يخص زياراته، الدبلوماسية-السياحية، إلى باريس ؛ علما أنني، في تصريحاتي الصحفية أشرت إلى تلك “العطلة” القصيرة التي قضاها بباريس والاتصالات التي أجراها مع الخزينة الفرنسية.
ترى، لماذا تغافل عن هذه الواقعة على الرغم من أنني أشرت إليها وكان من المفروض أن يرد على ما قلته بشأنها في تصريحاتي الصحفية ؟ السؤال المطروح : ألا يمكن أن يكون وراء هذا التغافل أمور أخرى أكثر خطورة أراد أن يخفيها ؟ في نهاية الأمر، أليس من حقنا، أن نظن أننا حمّلنا الصدفة أكثر مما تحتمل ؟ ومهما يكن من أمر، الفترة التي قضيتها على رأس الحكومة تجعلني أنتهي إلى الاستنتاجات الآتية :

- ليس هناك ما يجعلني أندم على قبولي، في جويلية 1993، منصب رئيس الحكومة من دون أن أضع شروطا مسبقة على من اقترحوا علي هذا المنصب في اجتماع هم الذين بادروا به ولم يروا فائدة من إخطاري بموضوعه مسبقا ؛
- أنا راض عن نفسي لما عرضت سياستي من خلال برنامج عمل محدد ومع تقديم تحليل في ما يخص الأزمة التي كانت البلاد تمر بها آنذاك، شارحا الأهداف المتوخاة من أجل الخروج من هذه الأزمة ومبينا السبل والوسائل الكفيلة بتحقيق هذه الأهداف ؛
- أنا راض عن نفسي عندما قمت بترجمة هذا البرنامج، الذي وافق عليه المجلس الأعلى للدولة، رسميا عبر مراسيم تشريعية ترقى إلى مستوى القوانين في إطار النظام المؤسساتي القائم في البلاد آنذاك ؛
- أشعر بالسعادة عندما قمت بذلك التدخل العمومي، بتاريخ 24 جوان 1993، وأعلنته لجميع الجزائريين، من خلال كل وسائل الإعلام التابعة للقطاع العام، ثم أردفته، في اليوم الموالي، بوثيقة مكتوبة نشرتها نفس وسائل الإعلام وحرصت فيها، بلغة يفهمها الجميع، على توضيح ما كنت بصدده في ما يخص السياسة الاقتصادية لحكومتي وكذا الخيارات المحددة للتوجهات المعتمدة في هذه السياسة مبينا الرهانات الحقيقية التي كانت تواجها البلاد بصرف النظر عن الجدال القائم حول مواقفي في قيادة نشاطي في المجال الاقتصادي ؛
- أشعر بالسعادة أيضا عندما أكدت، في تدخلي هذا أمام جميع الجزائريين، أنني سأظل وفيا لسياستي الاقتصادية وأنني لن أرضخ أبدا إلى من كانوا، من خلال حملاتهم المسعورة، يريدون حملي على الرحيل عبر استقالة تلقائية وأنه يشرفني أن أسقط بسبب هذه السياسة؛
- أحمد الله على أنني خرجت بشرف من تجربتي كرئيس حكومة بعد سنة ونيف، تاركا للجنرال تواتي ومن تبعه من المتملقين والطامعين التبختر في وحل ما فرضوه على البلد ؛
- وأخيرا، أحمد الله على أنني لم أستسلم أبدا لوعود من كانوا هم أنفسهم من أعلنوا لي إنهاء مهامي. عندما كان هؤلاء يلمحون لي بمنصب أعلى، شعرت دائما وكأنهم كانوا يريدون مني، كمقابل، تغيير خطي السياسي في المجال الاقتصادي.

على أية حال، وكما أشرت إلى ذلك خلال هذا النص كله، وبمناسبة مواقف سياسية اتخذتها منذ مغادرتي لرئاسة الحكومة، لا يمكن الحكم على نجاح سياستي الاقتصادية أو فشلها إلا بالرجوع إلى تلك الالتزامات التي أخذتها على عاتقي في هذا المجال، بطريقة لا لبس فيها ولا غموض.
أنا لست مسؤولا أبدا عن نوايا الآخرين أو أداءهم، بمن فيهم “أصحاب القرار”، إذا أرادوا أن يتوهموا أنهم هم الذين حددوا مهامي من دون مشورتي أو اتفاق معي. أنا لست مسؤولا إلا على ما لتزمت به.
أما الأفكار التي تكونت في “مخ” الجنرال تواتي حول حكومتي، فهي لا تلزمني على الإطلاق وإذا راح الرجل ضحية أوهامه فلا يلومنّ إلا نفسه.

ومع ذلك، العبرة التي يمكن استخلاصها من تلك المغامرة كرئيس حكومة وفي تلك الظروف الصعبة التي كانت الجزائر تمر بها آنذاك، ظروف دعيت إلى مواجهتها وعبر عنها الأخ عبد العزيز بوتفليقة ذاته في ما بعد.
لا أحد يجهل، اليوم، أنه عند انتهاء عهدة المجلس الأعلى للدولة، عُرضت رئاسة الدولة على السيد عبد العزيز بوتفليقة من طرف نفس الأشخاص الذين دعوني قبله إلى ترؤس الحكومة. لقد قيل وكتب الكثير عن “رفض” عبد العزيز بوتفليقة للعرض.
كما قيل وكتب الكثير عن الأسباب التي قدمها هذا الأخير لتفسير رفضه.
غير أنني لم أجد أحدا قال أو كتب كلاما عن السبب الأساسي لهذا الرفض كما أخبرني صاحبه ذاته سنوات بعد هذه الواقعة حيث قال لي إن قراره كان نابعا من رفضه لاستلام زمام الأمور طبقا لما كان يراه “أصحاب القرار”.
هذا السبب شرحـه لي بهذه العبارة:
“بعد استعراض أسباب أخرى وفي ختام محادثاتنا، قلت لهم :
“لقد دعوتم ذات يوم عبد السلام لتولي رئاسة الحكومة وهو لم يطلب منكم أي شيء. التزم معكم ثم أنهيتم مهامه سنة من بعد.
هذا كاف لجعلي أظن أنكم غير قادرين على احترام عقد معنوي.
لا أمنحكم الفرصة لتفعلوا بي، في يوم ما، ما فعلتموه بعبد السلام”.
أي إن الرجل كان نبها فأراد أن يحصل منهم على أمر بدا له كفيلا بإعادة الاعتبار له من طرف من كان يحسبهم مصدر تصفيته من الساحة السياسية بعد رحيل الرئيس هواري بومدين ثم رد بالرفض على عرضهم بكل بساطة.
ولقد كان باستطاعة عبد العزيز بوتفليقة أن يقول لهم إنهم لم يكونوا يدركون معنى العقد المعنوي ذاته لأن الأمر بالنسبة إليهم – أي الجنرال تواتي ومن مشى وراءه – لا بعدو كونه فخا.
لذلك، كان عبد العزيز بوتفليقة، ربما بفضل ما وقع لي، يقظا ولم يقع في الفخ. شخصيا، لم أر داعيا إلى التفكير في هذا الفخ تفاديا للظهور بمظهر المدعي للنضال ثم سرعان ما يتهرب من المسؤوليات التي يفرضها هذا النضال.
غير أن من أسقطني في الفخ ثم استطاع التخلص مني لم ينجح في القضاء على تلك الروح التي تحركني.
لكن كان هناك من الناس من لم يضرهم الوقوع في الفخ لأنهم، لاشك، كانوا يدركون أن ليس لديهم ما يضيعونه.

التذكير بهذه الاعتبارات غير المشرفة في تصرف قسم كبير من طبقتنا السياسية في السنوات الأخيرة لا ينسيني ما قام به الجنرال خالد نزار نحوي حينما أقر بـ “وطنيتي ونضالي” في أحد كتبه.
إني لأشكره جزيل الشكر على هذه الالتفاتة.

فترة قصيرة بعد إقالة حكومتي، قام الفقيد عبد الحق بن حمودة، الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين، بزيارتي بالفيلا
المخصصة لي كمقر إقامة رسمية حينما كنت رئيس حكومة قبل مغادرتي لها.
وقد أراد الاطلاع على الأسباب التي أدت إلى ما يسميه الجنرال تواتي بـ “إنهاء المهام”.
لاشك أنه كان يتذكر تلك الدعوة التي وجهها إلى، في 1 نوفمبر 1992، لأخذ الكلمة أمام إطارات الاتحاد العام للعمال الجزائريين بدار الشعب
حيث صرحت أن حكومتي لن تطبق أبدا سياسة مضادة لمصالح العمال.
وحينما سألني عن الأسباب، أجبته بهذه العبارة :
“لقد أخطأوا فيَ كما أخطأت فيهم .
من جانبي، لقد مشيت وفق التزاماتي والمنطق الذي قامت عليه سياستي إلى النهاية. بقي عليكم أنتم، أي الاتحاد العام للعمال الجزائريين، أن تدخلوا الحلبة.

كما اغتنمت مناسبة هذه الزيارة لأخبره بذلك القرار الذي اتخذته من قبل وكلفت بموجبه حكومتي بالعمل على تبديل الأوراق النقدية ومراقبة رؤوس الأموال كهدف رئيسي وركيزة أساسية في نشاطها الاقتصادي.
وعندما فقدنا عبد الحق بن حمودة في ما بعد، لم يعد الاتحاد العام للعمال الجزائريين فاعلا حاسما في قيادة السياسية الاقتصادية لبلادنا وفي التأييد الفعال لعملية التنمية القائمة على الحفاظ على مصالحنا الوطنية والنهوض بجماهيرنا الشعبية.
النموذج، المجلوب من خارج الديار، الذي صار الاتحاد يقتدي به هو الاتحادية الفرنسية الديمقراطية للشغل CFDT التي تتبنى فكرة التعاون مع أرباب العمل، مبتعدا هكذا عن التصورات والأفكار الاجتماعية الاقتصادية الثورية المعروفة عند عيسات إيدير ورفاقه ممن كان لهم شرف تأسيس تنظيمنا النقابي في زمن الثورة.

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك