جنرالات الفتاوى

اميمة الخميس

    عندما نقف في المنطقة الأثرية وسط مدينة أسطنبول، وتحديدا أمام المسجد الأزرق ونتأمل المآذن وهي ترتفع شاهقا حولنا، والأذان يهطل بهيبة وجلال على الموجودات، نعلم وقتها أن العالم بأسره يُجلّ ذاك النبي العربي الذي وهو في عمق صحرائه غرس شعاره وبيارقه عميقا في قلب بيزنطة.

وعبر التاريخ تواشجت البنية الفكرية للإسلام مع فريضة الجهاد فكان ما بين (دفع وطلب) يحدد علاقتنا مع العالم الخارجي كالقلب النابض والدينمو المحرك الذي يمنح الإسلام حيويته وديمومته وعلاقته مع العالم، وظل للجهاد تطبيقات وتفسيرات متفاوتة تستجيب لمتطلبات كل عصر وظروفه بالشكل الذي يبقي تلك الجذوة المتقدة التي تصنع ليس فقط النصر بل البيئة المتحضرة المنتجة لشعب قوي مهاب ومضيف لركب الإنسانية.

لكن في عصور الهزيمة والانحطاط ظهرت أبشع التطبيقات والتفسيرات لفريضة الجهاد، تماما كعصرنا الحاضر الذي بتنا نرى تلك المليشيات الدموية، التي تتميز بالخديعة والدناءة واستمراء الطعن في الظلمة والتفجير للآمنين، وغاب عنها أدبيات وبروتوكولات المحارب القديم الذي كان يعتبر الخوض في دماء الضعفاء والمستأمنين والمدنيين هو وصمة عار في شرفه الحربي.

في عصور الهوان ومغادرة الركب الحضاري لمرابعنا، بتنا نبني قصورا في الهواء، وجيوشا جرارة مصنوعة من مكعبات الوهم والكلام، وما برحنا تتقاذفنا فكرتا (جهاد الدفع، وجهاد الطلب)، والشباب بينهما كالكرة المهترئة، دون أن نلتفت بجدية نحو الجهاد الحقيقي (الجهاد الأكبر) الذي يقبع عند مَواطن سجودنا، وينبثق من أعماقنا.

(جنرالات الفتاوى) يغرقون الفتية بخطاب تعبوي حماسي يقذف بهم لأتون المعركة، بينما يتقهقرون هم لمواقع خلفية يلعقون بها عسل مجدهم وتصفيق الغوغاء والعامة لهم.

ليس هذا فقط بل الأسس التي يقوم عليها التعليم لدينا وتحديدا في البند 26 الذي ينص على أن (الجهاد في سبيل اللّه فريضة محكمة، وسنة متبعة، وضرورة قائمة، وهو ماض إلى يوم القيامة.) فما نوع الجهاد الذي يطلبه واضعو هذه الأسس من أعضاء وتلاميذ الإخوان الذين فتكوا بتعليمنا؟

الجواب سنجده في المادة 104 التي تنص على (إعداد الطلاب للجهاد في سبيل اللّه رُوحيا وبدنيًّا).

ولعلنا، جميعنا، رأينا بواكير هذا الإعداد في المخيمات أو تحديداً المعسكرات الصيفية التي كانت تسوغ لهذا الفكر الأخرق العشوائي المنقطع عن محيطه والعاجز عن البناء.. فانغمس في التدمير.

كيف استطاعوا أن يحولوا فريضة الجهاد التي تردف وتحمي البيئة الحضارية للمسلمين وتسخرهم لإعمار الكون وصناعة أمة قوية كقيمة، ومتماسكة كوعي وكنضال يومي من أجل كرامة وحرية الإنسان؟

كيف استطاعوا أن يضيقوا واسعا لمعنى الجهاد الشمولي، ويستغرقوا في تفسيرات محدودة وضحلة للجهاد يسوقها (جنرالات الحروب والفتاوى) مستقطبين حماس الصبية مستهدفين اندفاعهم؟

سيكتب التاريخ عنا يوما ما بأنه في عصرنا كانت فريضة الجهاد بين الأشلاء والدماء تترجم كأبشع ترجمة، وتمارس عبر أكثر الأدوات انحطاطاً.

المصدر: جريدة الرياض

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك