جهاد دفع الصائل ذروة سنام الإسلام

يوسف بن عبدالعزيز أباالخيل

    المتعقب لكلام بعض الدعاة الذين ظهروا في حلقة (برنامج الثامنة)، التي واصل فيها البرنامج تفنيد فرى من يحرضون على النفير إلى سوريا بدعوى "الجهاد"، يدرك أنهم يعنون بالجهاد، بوصفه ذروة سنام الإسلام، (جهادَ الطلب) تحديدا، وهو الجهاد الذي يعني فقهياً: "ابتغاء العدو في عقر داره"، إذ لا خلاف على شرعية (جهاد الدفع)، بصفتها شرعية كفلتها الأديان السماوية والأرضية، كما كل شرعة وضعية.

وفقاً لما أوتيناه من قبل فهمنا للقول ب(شرعية جهاد الطلب) من قبل أولئك الإخوة، فإن خلافنا مع المحرضين، كما مع القاعديين والداعشيين والنصرويين وغيرهم، يظل محض خلاف في الدرجة لا في النوع. والخلاف الدرجي (= من الدرجة)، مثلما هو قابل للتوسع وفقاً لمعطيات السياق الاجتماعي و/أو السياسي، فهو قابل أيضا للانتفاء التام، اعتمادا على نفس المعطيات.

 

لابد وأن نعيد إلى فكرة الجهاد الدفاعي شرعيتها التي طُمِرتْ في ظل غلبة الصوت الماضوي التاريخي المتشدد، والذي يجعل المسلمين في حالة احتراب دائم مع أربعة أخماس البشرية بدعوى محاربتهم للإسلام، وبغرض التمكين للدعوة الإسلامية لأن تصل إلى الناس، كما كان (سيد قطب) يقوله ويدعو إليه

هذا الاختلاف الدرجي يجعلنا نقول للمحرضين -بلسان الحال على الأقل- إننا لا نختلف معكم في أن (جهاد الطلب)، الذي يبتغي شبابنا على ضوء مشروعيته "أعداءنا" في عقر دولهم، ذروةُ سنام الإسلام، ولكننا نختلف معكم في شروطه وضوابطه، وهل تلك الشروط والضوابط تنطبق الآن على "الجهاد" في سوريا أم لا؟ وبالتالي فهو خلاف قابل للتحول إلى نقيضه: الاتفاق التام، لنعود نحن وأنتم، كما بقية تجار الحروب، يوما ما، إخوة متآلفين متحابين، اختلفنا بالأمس على كيفية تطبيق شروط وضوابط الجهاد، واليوم نعود لنتفق عليها، وكفى الله المؤمنين شر الاختلاف!

لا بد، لكي نحارب فكر التحريض والمحرضين، أن نؤصل لفكرة (الجهاد الدفاعي)، أو:(دفع الصائل) بلغة الفقهاء، بصفته (الجهاد الشرعي) الوحيد، خاصة في عالمنا المعاصر: عالم الدول القُطْرية المستقلة. بمعنى أن نؤصل، فقهياً، ومن ثم ننطلق اجتماعيا وسياسيا، من أن مقصد الجهاد في الإسلام كان وسيظل من أجل الدفاع فحسب، وليس للهجوم، كما هي في الفكر السلفي بشقيه: التقليدي والجهادي، وكما هي الرؤية القطبية التي انبثت في فكر الصحوة، ومن ثم امتدت إلى كافة الحركات الجهادية.

لابد وأن نعيد إلى فكرة الجهاد الدفاعي شرعيتها التي طُمِرتْ في ظل غلبة الصوت الماضوي التاريخي المتشدد، والذي يجعل المسلمين في حالة احتراب دائم مع أربعة أخماس البشرية بدعوى محاربتهم للإسلام، وبغرض التمكين للدعوة الإسلامية لأن تصل إلى الناس، كما كان (سيد قطب) يقوله ويدعو إليه.

 

كم كان بودي أن يتطرق الإخوة الذين استضافهم الشريان في برنامجه إلى هذه النقطة بدل أن يجدوا أنفسهم، بفعل ما يحسون به من ضغط اجتماعي، متفقين مع المحرضين ودعاة "الجهاد" على نفس الفكرة الأساسية (شرعية جهاد الطلب).

الإيحاء بأننا نختلف مع المحرضين في ضوابط الجهاد وشروطه وتوقيته، وحول من له حق إعلان النفير عليه لا يكفي، بل إنه يترك الباب مواربا لمزيد من التلاقي والرجوع إلى حيث الأصل المتفق عليه بين (الفرقاء!). لا بد وأن نعيد إلى الجهاد الدفاعي (دفع الصائل) شرعيته بصفته المقصد والأساس من شرعة الجهاد في الإسلام، متسلحين في ذلك بسلاحي الشرع والاجتماع.

من حيث الشرع، يكفي أن نتذكر أن أول آية نزلت بالإذن للمسلمين بالجهاد حصرته في حالة الدفاع فقط، وهي قوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير". ولماذا أُذن لهم بالجهاد؟ لأنهم، كما يقول تعالى عنه في الآية التالية: "الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله".

ينقل الإمام الطبري عن إمام المفسرين (قتادة بن دعامة السدوسي) قوله في تفسير هذه الآية: "وهي أول آية نزلت في القتال، فأُذِنَ لهم أن يقاتلوا". ويقول ابن إسحاق في السيرة النبوة، تحت عنوان (نزول الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال) ما نصه: "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بيعة العقبة لم يُؤذن له في الحرب، ولم تُحلل له الدماء، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى، والصفح عن الجاهل. وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم، فهم بين مفتون في دينه، ومعذب في أيديهم، وهارب في البلاد فرارا منهم، منهم من هو بأرض الحبشة، ومنهم من هو بالمدينة، وفي كل وجه. فلما عتت قريش على الله عز وجل، وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه صلى الله عليه وسلم، وعذبوا ونفوا من عبده ووحَّده وصدق نبيه، واعتصم بدينه، أذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في القتال، والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم‏‏.‏‏ فكانت أول آية أنزلت في إذنه له في الحرب، وإحلاله له الدماء والقتال لمن بغى عليهم، قول الله تبارك وتعالى: ‏‏(‏‏ أذن للذين يُقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)، أي‏:‏‏ أني إنما أحللتُ لهم القتال لأنهم ظُلِمُوا".

هذا من حيث حصر الشرع الإسلامي للجهاد ب(جهاد الدفع) فقط. أما من حيث تحريم الاعتداء على الآخرين (=جهاد الطلب) على مستوى السياسة الشرعية، وهي مسألة أخذها الشرع باعتباره عند تشريعه لأمور السياسة والاجتماع، فعلينا أن نتذكر أن من أهم مبادئ الأمم المتحدة التي تتفق عليها كافة الأمم، بمن فيهم المسلمون، "تجريم اعتداء أي دولة على دولة أخرى، أو تدخلها في شؤونها"، ولا جرم أننا إذا زعمنا أن (جهاد الطلب) مشروع اليوم، فإننا ندفع المسلمين ليكونوا بمنزلة الخارجين على القانون الدولي، ب(تشريع) تدخلهم واعتدائهم على الدول والمجتمعات الأخرى. ومن ناحية أخرى، فإننا إذ نقول بشرعية (جهاد الطلب) عند المسلمين، فإننا نفتح الباب واسعا لأهل الملل والنحل الأخرى لكي ينهلوا من شرائعهم ما يبرر لهم الاعتداء على المسلمين أنفسهم. يكفي أن نتذكر مثلا مصطلح (الحرب المقدسة)، وهو المقابل المسيحي لمصطلح (الجهاد) عند المسلمين. ففي هذا المجال لا يعدم المسيحيون آيات من الإنجيل تشرع للحرب المقدسة، أو لجهاد الطلب ضد غير المسيحيين، كما قد نشرع نحن المسلمين ل(جهاد الطلب) ضد غير المسلمين، وعندها نشرعن لقانون الغاب، التي يحل فيه لكل قوي أن يستبيح دماء وأموال من هم أقل منه قوة.

إن الجهاد في الإسلام لم يكن إلا آلة لدفع صولة الصائلين على الناس كلهم، مسلمين وغير مسلمين. يكفي لإثبات ذلك أن نعلم أن الله تعالى، بعد أن أذن لنبيه وصحابته بالقتال في الآية آنفة الذكر، بعد أن طردوا وشردوا من ديارهم، أنزل على إثرها: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض (أي: ولولا الجهاد في سبيل الله، كما يقول الطبري) لهدمت صوامع وبيع (كنائس النصارى) وصلوات (كنائس اليهود، ويسمون الكنيسة: صلوتا) ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا". فهل لقائل بعد هذا البيان الحكيم أن يدعي أن شرعية (جهاد الطلب) لا تزال قائمة، لا سيما في زمننا الحاضر الذي أصبح فيه مثل هذا "الجهاد" اعتداءً على دول ومجتمعات مستقلة، تجرمه القوانين الدولية التي نحن شركاء فيها؟

هكذا نحارب إيديولوجيا المحرضين ودعاة الجهاد، وتجار الحروب. أما أن نقول لهم: إننا لا نختلف معكم على شرعية (جهاد الطلب)، وعلى أنه ذروة سنام الإسلام، وإنما نختلف معكم حول شروطه وضوابط تطبيقه، فإننا في الواقع نوحي لهم بأن (جهاد الطلب)، إذ هو قائم إلى يوم الساعة، فإنه مؤجل فقط لحين توفر شروطه وضوابطه التي قد نتفق معهم بشأنها يوما ما، كما نختلف معهم اليوم حولها اختلافا (درجيا) لا يؤثر على اتفاقنا معاً على "شرعية" الأصل!

المصدر: http://riy.cc/906068

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك