الإسلام السياسي وتحدي الأقليات!

بقلم: مرزوق الحلبي  

 

لم أكن أنتظر الحَراك العربي في السنوات الثلاث الأخيرة لأستدلّ على أوضاع الأقليات في الأقطار العربية. فقد دلّتنا عليها الوقائع على الأرض العربية منذ الاستقلال وإعلان الدول ودساتيرها وسن قوانينها. فإذا أخذنا قوانين التعريب مثلا التي أرادت إعادة الاعتبار للغة العربية كلغة قومية رأينا الغُبن الذي ألحقته باللغات غير العربية ـ وهي عادة لغات مجموعات إثنية أو قومية داخل الوطن العربي مثل الأمازيغية في المغرب والجزائر. وإذا ما رصدنا علاقات المجتمعات العربية ـ وهي سنية في غالبيتها ـ بالأقليات بينها لاكتشفنا وجود وصاية في أحسن الأحوال وهيمنة وقمع في أسوأها اضطرت هذه الأقليات إلى النزوح غربا أو إلى اللجوء أو إلى التماهي حد الغياب في عُرى المجتمع السني.

اقترحت العروبة على الأقليات اندماجا يمزجها بالكل ولا يحفظ خصوصيتها. واستثمرت الأنظمة الأقليات في مناوراتها مع المعارضات لجهة تعزيز قوتها أو شرعيتها أو أهليتها. بل اعتمد النظام البعثي في سوريا مثلا على هذه الأقليات في بناء هيمنته وإدامتها. كذلك الأمر في العراق البعثي. في غالبية الأحيان، حصلت هذه الأقليات على أمنها وفقدت حريتها أو خصوصيتها. أهدت الأنظمة تأييدها متعدد الأشكال فأهدتها الأنظمة الأمن والأمان وبعض الموارد. معادلة ليست سيئة بمعايير ما يحدث للأقليات الآن في سوريا أو العراق أو مصر.

الحراك العربي الذي فكك بُنى الأنظمة وهيمنتها على نحو ما كشف من جديد مسألة الأقليات في العالم العربي وأعاد تدويرها بشكل أكثر بروزا وإلحاحا. وهي مسألة احتوتها تيارات القومية العربية وسوّتها بالأرض أحيانا، وجاء الإسلام السياسي ليكشفها كأطروحة في مواجهته للأنظمة العروبية القومية والبعثية والاشتراكية وما إلى ذلك من مذاهب. وأساس الأطروحة هو أن هذه الأنظمة إنما منحت هذه الأقليات امتيازات خاصة وفضّلتها على عموم الجماهير الإسلامية. أي أن الإسلام السياسي عادة ما قارب هذه المسألة من يمين الأنظمة ـ أنظر ما يحصل الآن في سورية من تطرّف للحالة التي نعالجها هنا! ولأنه نُكب بيمين خاصته يتجسّد في تيارات جهادية سلفية تكفيرية، فقد رأي نفسه في تنافس معها على هذا الملفّ تقريعا بالأنظمة وإدانة لها. ومن هنا بدا لنا الآن وللأقليات بوجه خاص أن نار الأنظمة البائدة قد تكون أرحم كثيرا من جنات الإسلام السياسي على تياراته!

إن التفجيرات التي تستهدف كنائس العراق مثل تلك التي استهدفت كنائس الأقباط وممتلكاتهم في مصر. والضغط الواقع على مسيحيي الشرق عموما قد يتفاوت من لبنان إلى فلسطين (مثلث بيت ساحور وبيت جالا وبيت لحم مثلا بجوار القدس) إلى سوريا إلى العراق إلى الجزائر أو سواها لكنه يعكس في نهاية الأمر فكرة الإسلام السياسي أو العسكري العنيف عن المسيحي العربي أو غير العربي. والرسالة هنا واضحة لا لبس فيها خاصة فيما يتصل بالإسلام التكفيري على تسمياته: “لا مكان لكم هنا إلا بشروط”ّ! وأفضلها مرّ! وهي الرسالة ذاتها المنقولة إلى طائفة الدروز حيثما هي، وإلى الأيزيديين والصائبة المندائية في العراق والأقباط في مصر وجماعات الأمازيغ في الشمال الأفريقي وإن دخلت الإسلام من قرون!

رسالة تحمل النكبة بكل معانيها لهذه المجموعات ذات الخصوصية العقيدية أو الدينية أو اللغوية! فالأخبار التي تردنا من سورية مثلا حيث تم خطف الثورة أو تكسير مدّها، تُفيدنا بأن معلولا المسيحية ليست إلا واقعة واحدة تتكرر في قرى غير سنية ـ درزية وعلوية ـ نائية. فالناس هناك مخيرون بين الإسلام التكفيري وبين النحر بالخناجر المسمومة!

والأخبار التي تردنا من مصر فتتفاوت بين محاولة أسلمة الأقباط في مواقع الضعف القبطية وبين تدمير ممتلكاتهم واعتداءات متكررة على مواقع سكناهم حيث هم أقلية. صحيح أنها حالات متطرفة لفكر متطرّف لا يُمكننا أن نعتبره اختزالا للإسلام السياسي عموما. لكننا لم نشهد من القوى الأخيرة أي تدخّل مطمئن أو يحمل شيئا من الوعد بالحياة والأمن إذ لم يكن وعدا بالجنة ـ وهو وعد شائع على ألسنة الدعاة والحركيين على السواء!

واجهت الأقليات الضغط الواقع عليها بطرق عديدة. بالنزوح عن مواقعها التاريخية مخلّفة أوطانها وموروثها ورموزها وراءها (مسيحيو العراق وإيزيدييها. بقبول الذلّ ريثما تمرّ العاصفة مثل أقباط مصر. بتأييد أنظمة بائدة تعدها بالحماية وحق الحياة ولو حتى إشعار آخر (الدروز والمسيحيون في سورية مثلا). تطوير نزعات انفصالية عن الدولة الوطنية مثل أكراد العراق وسورية والطوارق في منطقة الصحراء. في أحسن الأحوال ـ يحاول أمازيغ الجزائر والمغرب الانتظام واللحاق بالسياسة من خلال هوياتهم الخاصة أو عروبتهم.

عادة ما تردّ الأقليات على الضغط بالتأكيد على هويتها العربية أو على كونها ذات أصل شرقي وثقافة شرقية متجذرة، أو يذهب بعضها إلى توكيد ارتباطها بالثقافة الإسلامية والموروث المقدّس. لكن من العادة أيضا أن تهلك هذه الاستراتيجية في حمأة الضغط الإيديولوجي والهويتي. مرة بضغط عروبي يتحوّل إلى مهدّة تدك الخصوصيات دكا وتطحنها دقيقا لوجبة النظام أو التيار المؤدلج بعثيا كان أو قوميا. وهذه المرة بضغط الإسلام السياسي الذي لا يرى العالم إلا من نظارتي نصّه المقفل بإحكام على هوية متشاوفة مزهوة من شدة الشعور بالنقص. ولأنها كذلك، فإنها لا لا تطيق الاختلاف في أحسن الأحوال ومتطلّبة جدا حيال المختلف والآخر من أقليات. وهي أقليات ستدفع من الآن فصاعدا من جيبها ثمن انتشاء هوية الإسلاميين ونظرياتهم التكفيرية والشمولية وممارساتهم التدميرية وفتاويهم التي لا تقلّ دموية عن أعمالهم. كأن المسيحيين في الشرق تمثيلا للغرب المسيحي كله فيتمّ القضاء عليهم كأنه قضاء على الغرب! وهكذا مع الأقليات المغمورة التي تجد نفسها بغير شفيع فتخضع وتستسلم خاصة أنها منزرعة في الشرق قبل الإسلام نفسه ولا تجد في الغرب ملاذا ولا فضاء مريحا يُمكن أن تلجأ إليه ولو إلى حين!

هذا، فيما يقف الإسلام السياسي المعتدل موقفا متفرّجا. سيقولون لنا أنهم الآن في المعركة على السلطة وعلى احتلال مواقع صنع القرار وأنهم سيعالجون الأمر فور وصولهم! وهو قول مرفوض لأن طريقة الوصول إلى السلطة لا تقلّ أهمية عن الوصول إليها! فقد يصلون ليجدوا أن أقليات الشرق العربي قد غادرته تماما أو أن القوى الإسلامية التكفيرية قد أفلحت ـ بفتاوي أمرائها ـ في قتلها وتدمير مواطنها!

الإسلام السياسي النازع إلى السلطة مُطالب بموقف أقلّه العمل على حماية الأقليات أو إعلان النوايا اتجاهها لجهة طمأنتها وبقائها في مواطنها حية تُرزق وذُخرا ثقافية ولغويا وتنوعا إنسانيا ضروريا. لا يُمكن لقيادات هذه الإسلام أن تصمت عما يلحق بهذه الأقليات من أذى أو أن تكتفي بالقول: “لسنا نحن وإنما هم التكفيريون!”. الذي يطلب السلطة بجدارة ينبغي أن يؤشّر إلى أين سيسير بالمجتمعات العربية والإسلامية وبالأقليات فيها. والذهاب في مسيرة الانتقام من هذه الأقليات سيكون خطأ تاريخيا يُضاف إلى قيادات حركات الإسلام السياسي. فهل يُمكن الاكتفاء بالسلطة دون بناء مجتمع المعقولية؟ وهل يُمكن أن يُعدّ الوصول إلى السلطة مكسبا بثمن اختفاء الأقليات من هذا القُطر أو ذاك؟

إن القوى التي تتطلع إلى القيادة ينبغي أن تُجيب على سؤال الأقليات في الشرق العربي والإسلامي لا أن تتركه كورثة كريهة من أنظمة استغلّت الأقليات وأوضاعها وجرّتها في أحيان كثيرة جرّا إلى الصفوف الأمامية للمواجهة بينها وبين المعارضات لاسيما الآتية من الإسلام السياسي. هناك حاجة لتقويم تاريخ العلاقة مع الأقليات في الشرق العربي وليس تصفية حسابات تاريخية مع هذه الأقليات. وهو أمر ممكن في حال خرج الإسلام السياسي من نصّه قليلا أو كثيرا وأنشأ خطابا حقوقيا يعترف بهذه الأقليات وخصوصياتها ولغاتها وعقائدها وحرياتها ضمن البناء من جديد. أما مواصلة شحذ الهمة الإسلامية وسكاكينها على أعناق هذه الأقليات ووجودها فإنه ينبئ بكوارث نراها بكل فظائعها في سورية والعراق قد تتطوّر في بعض المواقع إلى تطهير عرقي وإبادة جماعية! ومن هنا فإن مسألة الأقليات هي تحدٍ لا يقلّ جسامة وإلحاحا على الإسلام السياسي من تحدي الوصول إلى السلطة.

المصدر: http://alawan.org/article12771.html

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك