الفكر
بقلم: حسن أوزال
إنني اختباري éxperimentateur. أكتب حتى أغير نفسي بنفسي؛مفكرا على غير ما كنت أفكر به من ذي قبل” ميشال فوكو.
لنشرع بطرح هكذا السؤال : هل منا من اختبر مرة، أن يعيش فكرة ما؟ حسبي في ذلك أن الأفكار منذورة أساسا ، لأن تُعاش، لا لأن تقرأ فحسب ، على اعتبار أنها حينئذ فقط تكون ذات مفعول و أثر. نورد هذا الكلام ، لأن ثمة مجموعة من المثقفين يتعاطون الفلسفة مثلا من أجل الفلسفة ، تماما مثلما يتعاط بعض الفنانين الفن من أجل الفن، والشعراء، الشعر من أجل الشعر. . . وهَلُمَّ جَرّا ؛ تبدو المسألة عندهم مجرد لعب بالألفاظ ، وليست أكثر من نشاط عبثي لتمضية الوقت ، لا يلزمهم بأي شيء . بديهي إذن أن يتميز الفيلسوف عن غيره ممن ينشغل بالفكر كالأستاذ و ما إليه. ذلك أن الأستاذ هو من يعيش مِنَ الفلسفة، بينما الفيلسوف هو مَنْ يعيش الفلسفة.
لكن هل كل فلسفة قابلة لأن تُعاش و أن تُحيا؟ هل بوسعنا ، على سبيل المثال لا الحصر، أن نعيش فلسفة “هيدجر” أو “هيجل”؟ هل بوسعنا أن نعمل بفكرة واحدة من أفكار “فخته”؟ إنه لأمر مستحيل و مستعصي ، بنظري أن تحيا تصورا من تصورات هؤلاء الفلاسفة المثاليين؛السر في ذلك، يعود أول ما يعود إلى كونهم يتبنون أفكارا أكثر تجريدا و ضبابية، أفكار أقل ما يمكن أن يقال عنها إنما هو أنها تشتغل لذاتها ، منقطعة الصلة بالواقع ، باعتباره عالمنا الحسي الوحيد الذي فيه نحيا. فهؤلاء بدل أن يجعلوننا نختبر الحياة كواقعة، يرمون إلى الإبقاء عليها كفكرة ضاربة في التجريد . إنهم إذ يستميتون في الزج بالناس في سلسلة من التمثلات الخاطئة، والتعقيدات الزائدة ، فذلك ليس إلا سعيا منهم إلى نزع الطابع المادي عن الواقع و فتح الباب مشرعا أمام رزنامة من الترهات الماورائية. على هذا النحو يصح القول بأن العيش على نحو هيدجري أو هيجلي يكاد يخلو من كل مغزى ، خلافا للعيش مثلا ، على نحو رواقي أو أبيقوري .
كيف لا، و هاتان الفلسفتان الأخيرتان ، فلسفتان وجوديتان بامتياز، مادام أن همهما الأكبر إنما هو التفكير في تقنيات إبداع الحياة. يتضح ذلك ، حالما نعلم بأن الحكمة بالنسبة لهذه الفلسفات القديمة تعمل كمايلي:كلما اكتشفَتْ فكرة، اتخذتها بوصلة لحياتها، وصارت بمثابة العمود الفقري لقيام صرحها الوجودي. لعل التفلسف ههنا ، طريقة للعيش قبل أن يكون رزنامة أفكار، وأسلوب حياة قبل أن يعتبر ترسانة معرفية . من ثمة ، فلا أهمية لفيلسوف، عندهم لا يمكنهم اقتفاء أثر فلسفته ، وما خلفه من وراء إبداعه من جمالية تستأهل الإقتداء. لعل الفيصل ، وحالتنا هاته ، يعود إلى التساؤل عن أي فلسفة من هده الفلسفات تقربنا من الحياة، وأي منها تبعدنا عنها؟ أي منها تستحق أن تُنْعَتَ بالحكمة على اعتبار الحكمة كما يلح أبيقور، هي صحة النفس؛ و أي منها تَهُدُّ فيك إرادة القوة فتردك ، تافها و حياتك بلا معنى؟ جلي للعيان إذن أن القضية ليست تستدعي الوعظ و الإرشاد كما التنظير و اختراع ركام من المفاهيم المجردة، أكثر مما تستدعي الممارسة و التصرف الفلسفي. تصرف يوضحه نتشه في “اعتبارات في غير أوانها”(ج. الثالث، ش. 3)قائلا:“أقدِّرُ فيلسوفا، حالما يستطيع أن يكون مثالا”. فأي مثال نقتدي به في الحياة، نلفيه عند هيدجر أو هيجل؟ ما الحكمة العملية التي بوسع امرئ حصيف أن يستشفها من “الوجود و الزمان” أو “مبدأ العلة” لهيدجر؟ وهل من نصيحة نسترشد بها عند فيلسوف من عيار هيجل؟ أبدا، آيتي في ذلك ، ما أورده ألبير كامو في مذكراته ، ساخرا حيث يحكي:“أن كيجور هدد مرة هيجل على نحو مريب:لما بعث إليه بشاب يطلب النصح”(الأعمال الكاملة، لألبير كامو، طبعة لابلياد، الجزء الرابع، ص. 1268). التهديد، قائم بطبيعة الحال على كون فلسفة هيجل فلسفة نسقية ، منغلقة على نفسها و غارقة في التأملات المجردة، خلافا لـ“كيجور”المفكر المهووس بإمكانية الفعل و فيلسوف فن الحياة. ههنا تتجابه الفلسفة المحايثة و كنتها المثالية. الأولى ترى أن الألفاظ و الأقوال كلها أدواة ذات أثر ومفعول واقعيين ، ينبغي تقييمهما إيجابيا، بينما الثانية تروم عبر نفس الوسائل، صياغة الواقع على نحو أثيري، مفاهيمي ومحض تمتلاتي. ثمة إذن طريقتين للتفلسف:الأولى هي على نحو كيجور، حيث الفكر نتاج فزيولوجيا الجسد، يأتي اعترافا بحالات عنفوانه و ضعفه، فرحه وبؤسه، صحته ومرضه. فهو بذلك يكاد لا ينفصل عن الواقع الذي أفرزه، متفاعلا معه بغاية السمو بصاحبه و تقويته بالرغم من كل شيء. أما الطريقة الثانية ، فهي على نهج هيجل، الأستاذ و الموظف، الحائر من أمره ، لأن لا نصح يبديه لنفسه ولا لغيره، مادام أن الفلسفة بالنسبة لصاحب “فنمنولوجيا الروح”أشبه ماتكون بطائر مينيرفا، لا تأتي إلا في المساء، أي بعد فوات الأوان. تبدو الفلسفة وفق تصور هيجل ، كنشاط بلا جدوى. إنها مجرد تمرين رياضي للعقل المستقيل، ومهمة منوطة بالأستاذ المدرس، تتكفل الدولة بتعويضه عن أتعابها عند نهاية كل شهر؛لكن شريطة تنقيط جمهور من الطلبة ألدائمي الحضور، بغاية فرز من يستحق منهم نيل الدبلوم الكفيل بضمان قوته اليومي حينما يصبح هو كذلك موظفا.
ضد هذا النزوع المرضي، نرى أن الفيلسوف، يفكر من أجل أن يحيا ؛أن يحيا حياة أفضل. إنه يفكر توجيها لسلوكه في الحياة مادام “ألا حقيقة سوى في ما نأتيه من أفعال”كما ما فتئ يؤكد سارتر، حد تحديده على أن الإنسان ليس شيئا آخر، عدا مجموع أفعاله؛إنه ليس إلا حياته“(جان بول سارتر، الوجودية كنزعة إنسانية، طبعة غاليمار، ص. 51)لذلك، فكل تأمل وعملية تعقل تقتضي، أول ما تقتضيه، أن نرسم لذواتنا مسلكا وجوديا، صانعين من حياتنا لوحة فنية لا سجنا قاتلا. علينا أن نصير شعراء حيواتنا بتعبير نتشه، فنجعل الأشياء جميلة حتى عندما لا تكون كذلك. علينا أن نرى في كل واقعة ، تجليا لإرادة القوة التي ليست غير المتعة و السعادة ، الفرح و الجمال. لكن هيهات، هيهات,مادام أن كل ما هو جميل نادر وصعب المنال”على حد التعبير الرائع لسبينوزا في آخر كتابه “الإيتيقا”. أكيد ، لأن كسب القوة في الوجود، يتطلب المران الدؤوب لا الكسل و الخمول. مران يفضي بصاحبه إلى تعلم تقنيات العيش ، رسما لأفقه الخاص.
ذلك ما يجعلنا في حاجة ماسة للقراءة:قراءة فلاسفة الحياة من قبيل :ديوجين ، بلوتارك، أبيقور، أنتيستين، ديمقريطس، أريستيبوس، مونتيني، نتشه، كامو. . . وغيرهم كثر. لكن لنضع في الحسبان ، أن المغزى ليس القراءة و المكتبة ولا الكتابة و الكتب، بل ما تخوله إيانا هذه التقنيات من قدرات ، خلقا لإمكانات حياة فريدة. إذ ما الداعي لالتهام نصوص بأكملها دون أن يكون لها أدنى أثر في طريقة عيشنا؟ لا يفيد تساؤلنا هذا، أننا نسعى إلى التطابق مع ما نقرأه أكثر مما يفيد أننا نعتبر كل ما نقرأه ، منطلقا مؤسسا للسبيل المتوخى نهجه، على اعتبار أن الانطلاق من الصفر ، عبث و بهتان . فأن تقرأ أبيقور مثلا ، ليس يعني أن تطابقه رؤية ومنظورا، بل أن تهضمه أحسن هضم و تجتره أيما اجترار، بغاية استيعابه الجيد و بالتالي تجاوزه . على ذات النحو تغدو أبيقوريا بامتياز. فأنت أبيقوري ليس بالمطابقة إنما بالإختلاف و التباين مع أبيقور. لكنه اختلاف إذ يجعل من فكر صاحب البستان منطلقا له ، فذلك انسجاما وهو الأهم مع أفق جديد، كل منا هو سيده و مهندسه بالتمام.