بين الديني و السياسي، رؤية ثلاثية الأبعاد

الأستاذ حسن إمامي
يتوخى هذا المقال تناول مقاربة حساسة تاريخيا و مرتبطة بالعلاقة بين السياسي و الديني ، و حدود التماس و التقاطع بينهما ، و اشكال التداخل التي تخلط بين وظائفهما فلا نستطيع التمييز درجات التقديس من درجات المحاسبة و التجاوز لأحدهما ، و بالخصوص ما هو سياسي طبعا ... ذلك أن الديني يحتاج إلى تناول متغيراته كذلك و فرزها عن ثابته و المستمر فيه ... فكيف نستطيع تبيان ذلك ؟

تلك مهمة قد تبدو صعبة للوهلة الأولى ، ما دامت ستتعامل مع النص و مع التاريخ و الحدث السياسي و الاجتماعي و الثقافي و الفكري المرتبط به ... و هي إن أردناها دراسة أكاديمية ، ستكون مفصلة و طويلة في عدد لا يستهان به من الفصول و الفقرات ... لكن الإشارات ستكون حاضرة في هذه المقاربة المختصرة ، و التي هي منطلق تمعنات أخرى و بحوث أخرى في الموضوع ...

سيكون الديني منطلقات و تصورات كبيرة و عديدة ، تضمنها النص الديني بالأساس ، وهو الذي سيحتاج إلى تبيان الثابت من المتحول فيه ... و سيكون هذا النص كذلك مرتبطا بظرفية نزوله أو وروده ... و بطبيعة مجاله ، و بما سبقه من سياق تطوري أنتجه ، حتى نرى إن كان النص الديني هو كذلك يراه متغيرا غير ثابت أو العكس ...

أما السياسي ، فهو مجال بشري محض ، يخضع للاجتهاد العقلي و مراعاة المصالح و تضاربها ، و قد يخفق أو ينجح في مهمته ، كما أنه قد يحيد عن الصواب و الشرع أو يتماشى معهما بشكل نسبي قد تختلط فيه الأوراق فلا نميز مدى صفاء هذا مع ذلك و مدى توافقه معه ...

في البحوث المختبرية و الجيولوجية ، تلج الطبقات أو المواد متكلسة ، ملتصقة ، ممتزجة ... و تحتاج إلى تحليل و تمحيص و غربلة و فرز و تصنيف ، حتى نعود بها إلى حالتها الخام ـ ألأم ـ التي تعزلها و تعطيها نوعها و وصفها الحقيقي ، و دورها الذي يمكن أن تلعبه من جديد ، إما في التفسير أو التوظيف ...

لعل ذلك ما يقع لتداخل الخطابات و تمازج وظائف المصالح و تراكيب الإيديولوجيات ، تلك الهياكل الحديدية المتصلبة التي تلتصق بالثوب متخفية ، لتُبدي نعومة لباسٍ ، و تغريَ بها كل من عرّتْه أقدار أو تعرى منها هو بأقدار ، فاحتاج إلى حضن دافئ ، و أُمٍّ حنونة أو لباسِ سيرٍ ممَيز ...

لن يتيه بنا العوم في الخطاب التشبيهي الذي يقارن من أجل تقريب فهم ما ... سنحدد مسار التحليل بين تمازج نهرين عظيمين ، هما الدين و السياسة ، و كيف تتداخل وظائفهما و مساراتهما ، حتى إننا لا نستبين متى يلتقيان و متى يفترقان ، أو أي نهر هذا الذي يسري على لسان الخطاب و جريان الفعل ...

و داخل ثنائية الديني و السياسي، باعتبار التوظيف و قوة الفعل في الواقع ، يتحدد الموضوع في تناول الحقل الإسلامي ، الذي يضم حوالي المليار و نصف من سكان البشرية ، و الذي يتموج في المصالح و العلاقات الإنسانية كفاعل يحتوي الجغرافي و الاقتصادي و الإعلامي و الثقافي ، و الجيواستراتيجي عموما ...

هذا الحقل الإسلامي ، يحدده زمنيا تاريخٌ ممتد زمنيا من بدايات القرن السابع الميلادي ، باعتبار ظهور الرسالة و الخطاب و الفعل ...

و من يوم ظهر كمشروع ثلاثي الأبعاد ، تداخلت معه زوايا مجتمعية و ثقافية متشعبة ، لم يكن بالإمكان فصله أو عزله عنها ... فهو مشروع خرج من عتمة غار حراء ، و لكنه انبثق و تفتق من نسيج مركبٍ ثقافيا و اجتماعيا داخل شبه الجزيرة العربية ، و داخل مركز حيوي شكل نبضها و جذبها و أمنها و حلمها و رجاءها المستقبلي ...

التداخل السياسي و الديني يأتي من كون وظائفهما كانت قبل الإسلام مركبة ... فالكعبة محج و اقتصاد و تفاوض و صلح و فض نزاع و ائتمان على مصالح و أنفس ... قد يكون المعتقد الديني المتعدد دليلا على تعدد الرؤى أو تشتتها للتعايش بين القبائل و العشائر ... قد يكون تيها مرتبطا بالتيه في الصحراء ، و البحث عن عناصر حياة لا يضمنها هذا الخيط الوجداني ، فيجرب آخر بديلا عنه و يرتبط بالصدفة في التكامل و النجاة ...

فمما دام الاقتصاد الغالب و الحيوي ، قافلة متنقلة أو بئرا خادعة بنبضها أو جفافها ، فإن الائتمان على استقرار و طمأنينة و ضمان مصالح سيكون غير وارد بدرجة عدم الاستقرار الاقتصادي و التجاري و الحياتي ... ستكون قِبلة الإله متعددة و مختلفة الجهات ... و سيكون الإله محدود الوظيفة و مخالفا لمشروع إله الآخر المنافس على قطرة ماء أو فائض زاد و متع و شهوة حياة ... و طبعا ، حينما ستلتصق الصراعات بالطبيعة ، سيكون تجذر قانون الغلبة للقوي هيمنة و استحواذا على مصالح الضعيف ... بين النهب و السبي و الغصب و القتل ...، كلها درجات تُنسيها فيافي الصحراء في الوقع ، ما دام الظمأ يقتل ، و التيه يقتل ، و الجوع يقتل ، و الذئاب تقتل ، فإن الخروج عن الدائرة الآمنة التي ترسمها الجماعة ، يكون صاحبه عرضة لكل هذه الآفات ، بما فيها العلاقات البشرية التي لم تتجرد بعد بما فيه الكفاية عن العلاقات الطبيعية بنسبة ما ... ( لنا و علينا يسري القانون ) .

لكن الاستثناء شكل دائما قاعدة للمستقبل ، و نموذجا يقتدى و يحتفى به ، رغم أنه يغلف الصراع الحقيقي في لبوس حضاري ( ثقافي و سياسي ) أرقى و ألين في التحقيق ... ذلك حال الجماعات المستقرة التي أفرزت آفاق تطوير علاقات و قوانين ثابتة أوسع ، تضمن الاستمرار في المكان و الزمان ... و تعطي نموذجا للآخرين لكي يقتدوا به حين رغبة أو إيجاد هذا الاستقرار ما استطاعوا لذلك سبيلا ... و في نفس الآن تكون درجة البحث عن الرقي و التطور بدرجة الاعتماد على صراع مربح و مضمون و نافذ ، يستحضر قانون الغلبة للقوي و التفاوض المسيس مع الأقوى ... و قد ساد داخل شبه الجزيرة و خارجها ، مع الأمم الأخرى ، و بالخصوص بلاد فارس و بيزنظة و الحبشة ...

و لكن ، كيف سيكون المقدس ، جوهر الاتفاق موحدا داخل هذا الشقاق و الافتراق ؟ ... كيف سيكون هذا المقدس حاميا للعقد السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي ، و لذلك التماسك القبلي و العشائري ، صُلب الوحدة و ضمانها التجمعي ؟

طبعا ، الجواب يفصل في مسألة تعدد المعتقدات مع تعدد المصالح و تناقض خياراتها الاستراتيجية أو المرحلية ... و من يعوم في مجرى النهر و يقوده تياره إلى مجهول اتجاهٍ و مصبٍّ و مستقبل و منعرجات و سقطات ، لا يهمه الرجوع الفوري إلى المنبع الصافي و الهادىء .. يهمه بالأساس تدبير السباحة و تدبير التجديف إن كان يمتلك مركبا ، و التحكم في مساره و رسوه كل حين ... ذلك أن مسار الديني الإنساني ارتبط بمفترقات طرق و مجاري موحدة لتجمعات بشرية عديدة ... و امتد لعقود و قرون غابرة ، و هيمن بقوته خطاب ديني على حساب آخر ، نظرا لضعفه و تجاوزه الوظيفي ... و لعل الذي يضمن القوة للديني هو ذلك التبني السياسي الذي يحققه بقوة الخطاب و الفعل ...

إن هذه الأدغال المتشعبة و المجاري الملتوية ، سيستطيع غار حراء احتواءها و معالجتها في قبس من نور وحي و فكر و عقل ، و قرار سياسة و مشروع مجتمعي و ثقافي جديد ، سيبدأ مع فرد و أهله ، بعد أن بدأ مع نخبة منتقدة للواقع ، و سيمتد إلى ربوع شبه الجزيرة ... هكذا استطاع الزمن أو يطوي مرحلة مخاض أعيت اصحابها ، لكي يفتح نهرا جديدا ، بمنبع جديد و مصب جديد ... يمكن القول أو ثلاثة عقود ، كانت كافية لإنجاز هذا المشروع الضخم ... و رغم أن الماء صفا من الماء ، فهل تخلص من كل الماء ؟ رغم أن العوم الجديد عملية تعرٍّ من القديم ضرورية و مشروطة ، كيوم ولدته أمه ، فهل استطاع العقل و معه النفس التعري كليا ؟ و كون الإسلام يجب ما قبله يحتاج لكي يجب الإنسان ما قبله داخل ذاته ...

فهل كان المشروع سياسيا أو دينيا ؟ هل تخلص من الصراعات القديمة التي شكلت بنيويا و ثقافيا و سلوكيا نسيج القبائل و العشائر داخل شبه الجزيرة العربية ؟ أم هل إن المشروع حقق توازنا بينها و استمرارا لها ، داخل خطاب ديني و سياسة مصالحية جديدة ؟
في انتقالنا للحديث عن المرحلة الإسلامية ، و هي التي يتفاعل معها واقعنا المعاصر ، سنبحث عن تداخل الحقلين ، السياسي و الديني ، لنرى إمكانية الفصل بينهما في التعامل الأولي الذي ينزع القداسة عما هو بشري ، و الذي يجعل المسافة في التفكير بين عمل العقل و توظيف الخطاب الديني ، حتى لا يتم استغلال المصالح و إيقاع الظلم و الخطأ باسم الدين على حساب عدالة شعوب مغيبة...

بداية بالدعوة الإسلامية ، و التي لا يمكن القفز عن مرحلة تكونها و قيامها الأولى ، تلك مرحلة الدعوة التي يسميها الباحثون بالدعوة المحمدية ، باعتبار شخصية الرسول و النبي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه و سلم ) ، و باعتبار دوره الفاعل في تحقيقها ، لكون الوحي ارتبط بالنزول عليه و بالحسم في قرارات عدة عبر لسانه و أمره و حكمه و فعله ...

لقد كان الوحي متتبعا لمسار الدعوة التي بدأت فردية أولا ، حيث انتقل الرسول عليه السلام من الرؤية إلى الحسم الحواسي و الاستعداد النفسي لتقبل ظاهرة الوحي المنزل و الحقائق الغيبية المرتبطة به ... ثم انتقل إلى دائرة الأسرة و المقربين ... ، قبل أن ينتقل للعلن و الدعوة الجهرية أمام الملأ ... و يمكن اعتبار هذا التدرج عملا سياسيا باعتبار الترو و باعتبار مراحل الإنجاز ... و طبعا ما دام الفعل مرتبطا بالإنساني البشري ، فلا بد أن بكون واقيعا و نسبيا في التحقق و متأنيا في الإنجاز ، اللهم إذا كان معجزة من المعجزات ، و ذلك ما لم يعتمده الإسلام في إنجاز دعوته ... ذلك ما يبدو من خلق صعوبات و مواجهتها بالممكن و التحديات و التضحيات و بالتوازنات المتاحة ميدانيا ... و كل ذلك سياسة طبعا ...

و بعد الطمأنة النفسية ، و العائلية ، كسند داخلي من أجل توازن الشخصية ، وامتلاكها نواة القناعة ، تأتي مرحلة الجهر بالدعوة ، و التي لم تكن بالسهلة داخل مجتمع متحكم في علاقات معقدة داخل شبه الجزيرة العربية و خارجها ... مجتمع له قوافل تجارية و ارتباطات و معاهدات قبلية و مصالح سياسية مرتبطة بإمبراطويات و معتقدات مسخرة مع المصالح الحيوية الاجتماعية و الاقتصادية ... مجتمع شكَّل طبقة ميسورة ، متحكمة في تدبير شؤون المدينة ـ مكة ـ ، و تدبير شؤون موسم الحج للكعبة ، و في استقبال الوفود و ضمان ممارساتها و مصالحها خلال هذه الممارسات ... هي طبقة كذلك ممثلة لقبائلها ، و لها التزامات أمامها و لها و عندها ... فكيف سيكون رد فعلها على خطاب جديد يدعوها لترك خطاب يمثل كل هذا الارتباط من أجل مرحلة يجهلون مسارها و تحولاتها ؟ هي عملية قيصرية لا يضمنون نجاحها و لا قبولها الداخلي الفردي أو الجماعي ... لذلك ستعرف المرحلة المكية صعوبة في تحقيق أهدافها ... لو لم يكن التدبير السياسي لما وجدنا المرحلة المكية داعية إلى الدعوة السلمية و عدم الرد على الخصم المعتدي بالمثل في درجات العنف ... فالأساس هو نفاذ الدعوة إلى قلوب الناس ... و هؤلاء لا زالوا لم يستعدوا بعد لذلك ...سيأتي التدرج القدري للأحداث لكي يسوق نسبة مهمة من الناس لاعتناق الإسلام ... سيتقوى بهؤلاء ، و ينتزع شرعية وجوده كمشروع ... سيرسم بدائل بدءا بالهجرتين إلى الحبشة ، و خلالهما بحثا عن قبائل جديدة ، أو لنقل هي أماكن جديدة يمكنها أن تحتضن دعوة محمد صلى الله عليه و سلم ، و تعطي خلاصا لصبر و مقاومة مسلمي مكة لعذابات رافضي الدعوة اسياد الكعبة حتى ذلك الحين ...

و كانت تجربة الطائف الصادمة لنفسية الرسول و المحطمة لفؤاده ... كانت مرآة لنفسية الإنسان المقتنع برسالته و مهمته ، و التي يريد بها الخير للناس أجمعين ... لكن الناس واقع حال قائم ، لا يتغير بسهولة ... لابد من الصبر و الاستمرار في البحث و الاجتهاد في إيجاد الحل أو الحلول الممكنة و المتاحة ... و كانت محطة وفد المدينة من الأوس و الخزرج لمواسم الحج خلال فترة الدعوة الإسلامية ... و كان التفاوض الذي أفضى إلى تسوية للوضع للطرفين ، اتخذ طابعه السياسي في التحقيق بوضوح ، مع اعتماده بالأساس على طرح البديل المعتقدي و الديني ... هذا الديني قبل الإسلامي الذي بدأ شرخه ينهار منذ مدة داخل عقول متنورة في شبه الجزيرة العربية ـ إننا نتحدث هنا عن حركة تنويرية إنتلجنسيا عصرها ـ ، راجع بحثا في الموضوع مفصلا على الرابط الآتي : http://devenirdemain.over-blog.com/tag/-دراسة%20تاريخية%20للدين%20-رحلة%20الإيمان/2

لا يمكننا الحديث عن إمكانية هذا التوافق و الاتفاق التاريخي السياسي و الاجتماعي بين الدعوة الإسلامية و رؤية معالجة المشاكل في مدينة يثرب ، بدون التوقف مع جدار الحجر الوثني الذي انهار ككثبان رملية داخل هرم العقول بين أفراد سكان شبه الجزيرة العربية ... فقد استنفذت الآلهة وظائفها ، و لم تعد تضمن أمنا وجوديا لا نفسيا و لا اجتماعيا و لا حضاريا بمقاربة الجوار مع ديانات أخرى أكبر نجاحا دنيويا و اجتماعيا ...

هكذا كان الوحي يوجه و يراقب و يقوم خطوات الدعوة و درجات نجاح حامل رسالتها ـ شخصية محمد صلى الله عليه و سلم ـ .كانت هناك استراتيجية و تاكتيك ، ثابت و متحول في عملية الازدواجية المطلوبة بين السياسي و الديني ... كان الديني ثابتا و السياسي متغيرا ... و كان هذا السياسي يشتغل بما هو ديني كذلك ، لكنه وسيلة و ليس جوهرا أو غاية ... وهنا تمييز بين وسائل العمل بالديني التي يمكن تغييرها لكي تخدم الجوهر المطلوب فيه ، و الدي سيكون سياسة اجتهادية مرتبطة بمعطيات كل مرحلة ومكانية و سياقاتها المتشعبة و المركبة ...

http://www.alkhabar.ma/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A-%D9%88-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%8C-%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%A9-%D8%AB%D9%84%D8%A7%D8%AB%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%A8%D8%B9%D8%A7%D8%AF_a60895.html

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك