المناصحة

                                                                                                         اميمة الخميس

    عندما توظف مفردة (المناصحة) كواجهة لأي خطاب أو مشروع فكري فإنها تحسم اتجاه ذلك الخطاب وتحدد مساراته بحيث تصبح لغة الخطاب تنحدر دوماً من أعلى إلى أسفل، أي بين ناصح ومنصوح، ناصح يحمل خطاباً عاقلاً مستأثراً بالحكمة قابضاً على الحقيقة كلها.. منحدراً إلى منصوح طائش قاصر يفتقد الوعي، لتتخذ العملية في النهاية شكل منبر أبوي يقرع ابناً ضالاً عن قطيعه.

ولا أدري إلى أيّ مدى من الممكن أن ينجح هذا النوع من الخطاب مع التيارات الفكرية المتطرفة؟ كفكر وكوعي وكممارسة؟ لاسيما أن تلك التيارات بعدما حوصرت ميدانياً نقلت نشاطها إلى الأدمغة والعقول وتمترست هناك كقلعة مواجهة أخيرة.

فإن كانت أدوات الناصح هي الأرضية الشرعية والاستقواء بالنص الديني، فهي حتماً ستقابل بحجج دينية مقابلة لها من شيوخهم التكفيريين ومنظري فكر القاعدة الذين مابرحوا ملء السمع والبصر وبكامل لياقتهم التنظيرية، وبالتأكيد سيكتشف المناصح في مرحلة ما أن الحوار بينه وبين المنصوح يدخل في دائرة الجدل وليس الحوار الفكري بين ندّين يحاولان الوصول إلى كلمة سواء.

ولعل ملتقى"تقويم جهود المناصحة وتطوير أعمالها" الذي نظمته جامعة الإمام بالتعاون مع مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، أعاد فتح ملف فكرة المناصحة وراجع أوراقها وحلل مخزونها المعلوماتي وهل هناك منجز على مدى خمسة عشر عاماً هي عمر هذا المشروع.

لأننا إذا حصرنا مقاربة فكر التطرف في هذه الأمتار القليلة التي تفصل بين الناصح والمنصوح، فإننا حتماً سنغفل الكثير من الأفكار والممارسات والوعي الذي يكرس فكر التطرف ويجيشه ويدفعه للواجهة، ابتداء من التطرف العقائدي أو المذهبي أو العشائري أو الإقليمي، والذي مازالت أدبياته تهيمن على منابرنا ومؤسساتنا التعليمية والرياضية وسائل الاتصال الاجتماعي، وكلها تخلق كانتونات متجاورة وفي حالة توجس وخوف ومقت متصل للآخر، ومالم يكن هناك تفكيك لهذه (المحاجر) الفكرية وإدراجها في مشروع الدولة الحديثة فسيظل الفكر التكفيري القاعدي يحظى بأرضية شعبية حاضنة من الممكن أن تدعمه وتؤمن به.

الأمر الآخر هي قضية الشقوق التنموية التي يتسرب منها العنف الفكري إلى القطاعات الشابة، فبعض جوانب القصور التنموي والبطالة والفساد وعدم عدالة الفرص وسوء البنى التحتية وضعف الخدمات قد تمثل أرضية خصبة للمزايدات وتوظيف ذلك القصور في أجندات سياسية عنيفة، ماكانت ستكون بهذا العنف لو تم تداركها عبر مساراتها الطبيعية في الدولة الحديثة، التي تمتلك سلطات مستقلة (تشريعية - تنفيذية - قضائية) يراقب كل منها الآخر، وتمنح فرصة للمواهب والخبرات الوطنية بإدارة المشروع التنموي بشكل يليق مع المداخيل النفطية الهائلة التي هي فرصة تاريخية نادرة لن تدوم ولن تتكرر.. وبالتالي لابد من إدارتها واستثمارها حتى أقصى حدودها وبسواعد جميع أبنائها.

لنصل في النهاية أن فكرة المناصحة لا نستطيع حصرها في الأمتار القليلة التي تفصل الناصح عن المنصوح بل هي تتسع وتشمل..الوطن كفكرة.. والوطن كوعي ومستقبل.

 المصدر: http://www.alriyadh.com/2014/01/06/article898610.html

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك