صوت الكافر يصل أيضاً إلى الله

محمد عثمان الخشت

 

عندما أشاهد حالات العنف والتمثيل والسحل والحرق والتخريب فى المشهد السياسى، أسأل نفسى: هل نحن مصريون؟ أين ذهب المصرى الطيب الشهم؟ ألم نتعلم كيفية التعامل مع الأسرى (على فرض أن الخصم السياسى المصرى عدو!). ولا أجد أى إجابة سوى أن «معادلة المصرى» دخل عليها «عنصر» غريب أفسدها.. لعله عنصر التكفير: تكفير المختلف معك فى السياسة أو الدين أو المذهب.

وعلى فرض أن هذا الآخر كافر، فمما يعارض الإسلام الذى أعرفه إقصاؤه طالما هو ملتزم بقواعد السلم الاجتماعى.

وأجد سؤالاً آخر يطل برأسه: هل نحن مسلمون؟

وهنا لن أجيب عن السؤال.. وسوف أتبع طريقة المصريين الجديدة فى الحوار.. تحدث أنت عن موضوع، وأنا أتحدث عن موضوع آخر حتى نهاية الحوار نفسه! فلن أجيبك بأننا مسلمون، ولن أجيبك بأننا غير مسلمين!

ولن أذهب إلى الواقع المرير الذى لا تجد فيه إجابة واحدة يتفق عليها المصريون على أى سؤال. ونظراً لأننى أشعر بانفصال عن الواقع الذى لا أطيقه، سأذهب إلى كتب التراث التى عشت معها فى الصبا أستمتع بعالم مثالى غير معاش إلا فى خيال طفل يحلم بغدٍ أفضل، فقد كان عندى أمل دوماً أننى سأعيش فى عالم المثل يوماً ما فى حياتى القصيرة، لكن الأمل ذهب سُدى بسبب المصريين وبسببى أنا أيضاً باعتبارى مصرياً أصيلاً!

ماذا نجد فى ذلك العالم المثالى الذى تحكى عنه كتب التراث، سواء كان ميراث النبوة أو ميراث السلف عن القضية التى أريد أن أتحدث عنها اليوم.. قضية غير المسلمين فى المجتمع الإسلامى؟ والعجيب أنها اتسعت اليوم لتشمل كل المختلفين مع فصائل ما يُسمى بـ«الإسلام السياسى»؛ فهم المسلمون وحدهم، أما باقى المسلمين فهم لا يرقون إلى درجة «أهل الذمة».

أفتح مسند الإمام أحمد بن حنبل فأجده يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، قوله: «دعوة المظلوم -وإن كان كافراً- ليس دونها حجاب».

يا رب.. أفهم أنك مع المظلوم.. لكن هل أنت سبحانك مع المظلوم الكافر أيضاً؟

يجيب سيد الخلق: نعم.. «دعوة المظلوم -وإن كان كافراً- ليس دونها حجاب»؛ نعم الله مع المظلوم الكافر أيضاً.

هنا أسمع أيضاً كأن مفسراً من القدماء يفسر لى حديث النبى بالقرآن، وكأنه يقول: هل نسيت أن الله الذى ندعو له ليس رب المسلمين فقط، بل رب العالمين؟ هل نسيت أن أول آية فى القرآن تختص من أسماء الله (الرحمن الرحيم)؟ هل نسيت أن ثانى آية فى القرآن تختص من أسمائه (رب العالمين)؟ يعنى رب المسلم والكافر، رب الصالح والفاسد، رب النظيف و«النتن».. رب الجميع. ألست أنت والمصريون المسلمون تقرأون الفاتحة كل يوم فى صلواتكم؟ ألا تفهمون؟ هل حدث عندكم انفصام بين ما تتعبّدون به وبين ما تعيشونه؟ ما هذا الإسراف فى القتل والسحل والتمثيل؟ ما هذه الحرائق التى تشعلونها؟ ما هذا الإفساد للحياة الذى تقومون به كل يوم عمداً أو إهمالاً للمرافق العامة؟ لماذا تحملون تجاه بعضكم البعض روح الكراهية التى كان يحملها التتار؟

وطبعاً لن أجيب عن هذا المفسر، متبعاً للمرة الثالثة طريقة المصريين فى الحوار: الإجابة عن السؤال بسؤال آخر!

فأقول: سؤال الأسئلة هنا هو: هل يمكن فى الدستور الجديد استلهام هذا العالم المثالى الذى يحيا فيه المختلِف معى فى الدين أو المذهب أو فى السياسة آمناً يتساوى معى فى الحقوق والواجبات دون تكفير؟

إن الفقه الذى أعرفه وأستدعيه، والفقهاء الذين أحبهم -وهم طبعاً ليسوا فقهاء السلطان- يجيبون بنعم؛ فالقاعدة التى استقرت فى التشريع، تنص على أن: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، يعنى بلغة المواطنة الحديثة، هم مواطنون كاملو الأهلية مثلهم مثل المسلم. والمأساة أن الآخر لم يصبح الآن هو المختلف معك فى الدين فقط، بل أيضاً المختلف معك فى السياسة.

أما فى الإسلام الحقيقى فاحترام الآخر واجب دينى وفق المبدأ الذى ظهر فى قوله تعالى: «لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».

وهذا يعنى أن من الواجب إقامة العدل الاجتماعى والعدل السياسى مع الجميع، بل إن أى اعتداء على حقوقهم يعد إهداراً لعهد الله؛ يقول القرافى (ليس من فقهاء السلطان): «عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم.. فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فى عرض أحدهم أو نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيّع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام».

فلم يضع الإسلام «الدين» معياراً للمواطنة، بل جعل المعيار هو الالتزام بشروط العقد الاجتماعى، ومنها «الأمن»، وهذا ما أكده الفقهاء، قال الشيبانى: إن «المسلمين حين أعطوهم ذمتهم، فقد التزموا دفع الظلم عنهم، وهم صاروا من أهل دار الإسلام». وقال الكاسانى: «الذمى من أهل دار الإسلام». وقال السرخسى: إن «دار الإسلام اسم للموضع الذى تحت يد المسلمين، وعلامة ذلك أن يأمن فيه المسلمون».

إذن فالإسلام لم يميّز بين المسلمين وغير المسلمين على أساس الدين، ومن الجهل والتضليل زعم البعض أن صفة المواطن كانت للمسلمين وحدهم، وأن غير المسلمين كانوا جميعاً مواطنين ناقصى الأهلية.

فالمواطنة ليست تصنيفاً على أساس «الدين»، وإنما على أساس «المسالمة والمحاربة»، لأن الإسلام اعتبر أهل المسالم أياً كان دينه من أهل دار الإسلام؛ أى أن له حق المواطنة الكاملة. فاختلاف العقيدة لا يتعارض مع الانتماء إلى أمة واحدة أو وطن واحد.

فهل سيأتى الدستور معبّراً عن العدل والمساواة التامة فى الوطن؟ أم أنه سيكرّس حالة الانشقاق وتقسيم العالم إلى دار الليبرالية فى مقابل دار الرجعية، مثل دساتير الفتنة السابقة التى كانت تقسّم العالم إلى دار الإيمان فى مقابل دار الكفر؟

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك