تساؤلات حول التعنيف
الكاتب: هتون الرشيد
هل رفض العنف ضد المرأة في مجتمعنا موجه للعنف بصفته فعلا أم أنه محصور بنتيجته؟ سؤال يتبادر إلى ذهني كلما شهدت موجة الغضب العارم المرافق لأي قصة عنف أسري تبرز إعلاميًّا دون أن ينتج عن هذا الغضب والاستنكار أي تغيير إيجابي ملموس على أرض الواقع. ما زلت أذكر قضية “فاطمة الشهري” الشهيرة بمعنفة المفك، وقصتها تعد مشابهة لقصص التعنيف التقليدية الشائعة في مجتمعنا. بدأت القصة بشتائم في بداية زواجها ثم تطورت إلى ضربٍ على فترات متباعدة حتى وصلت إلى ضربٍ شديد عدة مرات أسبوعيا أُدخلت على إثره المستشفى ثلاث مرات، وفي كل مرة تتقدم فيها فاطمة بشكوى مدعمة بتقرير طبي للشرطة على أمل أن تتخذ إجراءات صارمة لحمايتها، تتفاجأ بقيام الشرطة بدور المصلح الاجتماعي الذي يقنعها بالتنازل مقابل توقيع الزوج على تعهدٍ بعدم تكرار فعلته. في إحدى المرات أصرت فاطمة على أخذ حقها، فطلقها زوجها وما لبثت أن عادت إليه مرغمة بعد أن أبلغها القاضي بأنها سوف تفقد حضانة أطفالها إن هي أصرت على الطلاق ولم تتنازل عن القضية. قد تتشابه قضية فاطمة في نمط العنف الذي تعرضت له وتطوره مع غالب قضايا المعنَّفات لدينا، إلا أنها تختلف في محاولاتها المستمرة للنجاة بنفسها قبل أن تتحول لمشروع قتيلة وهذا ما فشلت فيه بعض المعنفات اللواتي انتهت معاناتهن بانتهاء حياتهن مثل “المعلمة دليل”، أو أنهن لا يعلمن أن ما يتعرضن له عنف، وقد تكون لديهن قناعة بأن التعنيف من حقوق الزوج، وتحمَّلَه من علامات صلاح الزوجة وأحد الطرق المؤدية إلى الجنة.
عند حديثنا عن قضية التعنيف في السعودية تواجهنا عدة قضايا منها:
1- ماهية التعنيف وما يشمله وإلى أي مدى يصل؟
2- الحلول المتبعة لمواجهة التعنيف.
3- وجود مؤسسات حامية ومدى فاعليتها.
غالبًا ما تعتمد الأجوبة التقليدية على هذه الأسئلة على المنظمات الدولية ومعاييرها المثالية أو المدونات الفقهية أو المواريث التراثية دون أن تسعى لفهم الواقعة داخل المجتمع نفسه. هنا سأقوم بتحليل العنف ضد المرأة في سياق المجتمع السعودي تحديدا من خلال قصة فاطمة كرمزية لما تواجهه المعنفات، مع تسليط الضوء على ما يقف حائلاً دون مواجهته والحد من انتشاره كظاهرة.
إن تعريف أي مشكلة او ظاهرة هو أمر مهم لبناء الحلول والمعالجات، وهنا نواجه أول إشكالية، فقد ارتبط الموروث الثقافي ارتباطًا وثيقًا بالمدونات الفقهية، فكلٌّ منها معتمد على الآخر، وبين تناقض نصوص الرفق بالمرأة مع التفاسير المتباينة لموجبات ضربها كان جل ما فعلته المدونات الفقهية هو إعطاء صبغة شرعية للاعتداء على المرأة تحت بند طاعة الرجل، مع انعدام وجود تعريف صريح للعنف ضد المرأة أو متى يعد “تأديب” المرأة تجاوزًا عليها. في المقابل وفي عام ١٩٩٣م، وقعت الأمم المتحدة على الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة تحت تعريف “أي اعتداء ضد المرأة مبني على أساس الجنس، والذي يتسبب بإحداث إيذاء أو ألم جسدي، جنسي أو نفسي للمرأة، ويشمل أيضًا التهديد بهذا الاعتداء أو الضغط أو الحرمان التعسفي للحريات، سواءً حدث في إطار الحياة العامة أو الخاصة”. من عادة بنود وتعاريف المنظمات الدولية أن تكون فضفاضة ومثالية، ربما في محاولة منها لأن تكون شاملة ومرنة تحسبًا لأي تغييرات مستقبلية، غير أن هذا التعريف حاليًّا يفتقر للدقة، فهو ليس فقط مفرطًا في العمومية بل هو أيضاً مُختزَل بنتيجة الفعل، فماذا لو لم ينتج أي ألم جسدي عن الفعل.. هل يجعل ذلك من الاعتداء أمرًا مقبولًا؟، وماذا إذا لم يكن الاعتداء مبنيًّا أساسًا على جنس المعتدى عليه بل على سلوك المعتدي..ألا يخل ذلك بالتعريف؟
أرى أنه يجب أن يكون تعريف العنف ضد المرأة مفصلًا وشاملًا لماهيته وأشكاله، لذلك أميل إلى وصف العنف ضد المرأة بأنه “اختيار شخصٍ ما الهيمنة والسيطرة على المرأة بالاعتداء عليها لفظيًّا أو جسديًّا متعمدًا وبشكل متكرر باستخدام الضرب أو الصراخ أو الشتائم أو التخويف أو الترهيب أو التهديد أو الحرمان التعسفي أو تعزيز الشعور بالذنب أو العار أو إجبارها على ممارسات جنسية”. ذكرت في بداية التعريف ‘اختيار’ الشخص وذلك لدحض خرافة أن المعتدي فاقدٌ السيطرةَ على نفسه أو على أعصابه لأي سبب كان، لأن هذا -وبكل بساطة- غير صحيح، فالمُعَنِّف قادر تمامًا على السيطرة على نفسه في كل مكان و زمان ومع أي شخص يستفزه، إلا أنه يختار متعمدًا اللجوء إلى العنف مع المُعَنَّف استغلالاً لضعفه فيقوم بفرض سيطرته عليه.
في حين تقوم المنظمات الدولية وبعض الناشطين المهتمين بالقضية بطرح عدة حلول لمواجهة العنف ضد المرأة؛ مثل وضع قوانين تجرّمه ونشر الوعي، وتوفير دعم لمن تتعرض له عبر المؤسسات، تصطدم هذه الاقتراحات بجدار قانوني يتزين بستار ديني ويعطي الرجل سلطة مطلقة على المرأة ويقيِّد حياتها بضميره، حيث تشكل الأنظمة المنتقصة من أهلية المرأة الراشدة التي تعاملها معاملة القاصر بفرض ولاية الرجل عليها، أساس العقبات المعيقة لحياة المرأة مما يجعل أي حلول مطروحة للحد من العنف مهما كانت بساطتها أو حتى منع تكراره مستحيلة التنفيذ، فالأعراف والموروث الثقافي الذي قيّد المرأة داخل منزلها ولخَّص دورها بخدمة زوجها، وأسند ذلك إلى اجتهادات فقهية تسمح بعزلها عن جميع من حولها على غرار قول ابن قدامة في المغني: «وللزوج منعها من الخروج من منزلها إلى ما لها منه بد، سواءً أرادت زيارة والديها أو عيادتهما أو حضور جنازة أحدهما، قال أحمد في امرأة لها زوج وأمها مريضة: طاعة زوجها أوجب عليه من أمها إلا أن يأذن لها، إلى أن قال: ولأن طاعة الزوج واجبة والعيادة غير واجبة، فلا يجوز ترك الواجب لما ليس بواجب»، مع تدعيم هذا الموروث بقوانين وأنظمة قيدت حركتها بمنعها من التنقل وحددت أماكن عملها وقدرتها على العمل. تحالف كل هذه العوامل مع التطور المدني جعل من طبيعة مجتمعنا العازلة للمرأة بيئة خصبة للتعنيف، حتى أصبحت كل امرأة معرضة للعنف وكل امرأة تتعرض للعنف مهما كان شكله أو شدته تعي تمامًا أن العقبات التي تواجهها حين تقرر رفض الاعتداء عليها أكثر وأكبر من تحملها للتعنيف نفسه.
على الرغم من عدم وجود نص صريح يوجب ولاية الرجل على المرأة في غير حالة عقد القِرآن، وعلى الرغم من جميع النصوص النبوية والأحداث التاريخية التي تذكر ممارسة المرأة لدورها في المجتمع بشكل طبيعي، إلا أن أنظمتنا اعتمدت اجتهادات بشرية في المدونات الفقهية شوهت الحقوق والواجبات بين الجنسين ثم ساوت بينها وبين الأوامر الإلهية حتى أعطت لسلطة الرجل على المرأة قدسية دينية خاصة. بالعودة للنصوص الشرعية ومناسبة نزولها ومقارنتها مع بعض تفاسيرها أو الأحكام الفقهية المستخلصة منها نجد أن كثيرًا من المفسرين فسروا النصوص الدينية بناءً على موروثهم الثقافي الناتج عن تراكمات تاريخية محتقرة للمرأة، ثم أعطوا هذا الموروث صبغة شرعية فجعلوا من سيادة الرجل على المرأة أمرًا إلهيًّا، وطاعتها له واجبة، ومخالفتها له عصيان يستوجب التأديب، بل من شدة تفضيل الرجل على المرأة نصت بعض الآراء الفقهية على عدم عقاب الرجل على قتله لزوجته بحكم ملكيته لها مثل مقولة الإمام الزهري في المغنى «لا يقتل الرجل في زوجته, لأنّه مَلَكَها بعقد النكاح, وهي أشبه بالأسير». مثل هذه النصوص والأحكام الفقهية سببت ازدواجية في مواقف أفراد المجتمع انعكست في رفضهم لنتيجة التعنيف وعدم قدرتهم على رفض العنف نفسه خوفًا من مخالفة أمر إلهي.
تدفع المعنفات ضريبة أكبر لوجود مثل هذه الأنظمة والتشريعات في مقابل انعدام أي تشريعات تجرم العنف ضد المرأة، حيث لم يسمح هذا الوضع فقط لبعض الرجال بممارسة أي شكل من أشكال العنف ضد النساء، بل تجاوز ذلك إلى تحجيم قدرة المؤسسات الحامية -النادرة في وجودها أصلاً- على حماية المُعتَدى عليهن. على سبيل المثال عندما تتقدم المعنفة بشكوى في مركز الشرطة تواجه في الغالب أحد أمرين: إما تعطيلها برفض شكواها دون بوجود محرم أو ولي، وقد يكون وليها المعتدي نفسه، أو قبول الشكوى ولكن دون أي عواقب تترتب على المعتدي نتيجة اعتدائه كما في حالة فاطمة الشهري، فأقصى ما يمكن عقابه به هو توقيعه على تعهد صوري بعدم تكرار الفعل، وعندها تواجه المعنفة خيارين: إما العودة لمعنِّفِها، أو -في حالة رفض عائلتها لها- تُودَع السجن أو دار الرعاية مع منعها من الخروج حتى يبت القضاء في قضيتها أو يرضى عنها وليها المعتدي، وهي ستواجه العقبة القضائية، فصعوبة اللجوء للقضاء وإن كان الجميع يعاني منها إلا أن هذه المعاناة أشد وقعاً على المعنفة، ذلك لأن مصيرها ومصير أطفالها -إن وجدوا- متعلق بالحكم وسرعته وعدالته. بغض النظر عن المماطلة في البت في القضايا فقد لا يجد القاضي في العنف سببًا كافيًا للانفصال فيجبر المعنَّفة على رد المهر، وقد يحكم لها بالطلاق ويعطي الرجل حضانة الأطفال فتتعرض لخطر الحرمان منهم، أو قد تضطر للمساومة على حقوقها كما حدث مع فاطمة الشهري التي تنازلت عن حقها الخاص في عقاب معنِّفها مقابل تنازله عن حضانة أطفالها، وكأن هذا لا يكفي فقد اضطرت إلى رد مهره له مقابل تطليقها من المال الذي حُكِم لها به تعويضًا عن تمزيق لحمها.
إن غياب المؤسسات الحامية للمرأة من التعنيف وغياب التشريعات الرادعة للمعنّفين، وأيضًا ضعف المواجهة الفكرية والثقافية للتبرير الفقهي للتعنيف، أسهم في إعادة تكرار قصص المعنَّفات وعدم تجاوز مسألة الاستنكار الإعلامي لنتائج الحادثة إلى العمل الجاد لمنع وقوعها من الأساس.
المصدر: موقع “المقال”