منهج الشريعة في تغير الفتوى
الكاتب: محمد العبدالكريم
في كثير من الأحيان يتسائل الناس عن سبب تغير الفتوى من الحرام إلى الحلال فجأة، وهو سؤال مشروع. وتزداد مشروعية السؤال إذا كان المحرم في أصله مباحاً ثم حُرِّم ثم حُلل بعد ذلك، كما حدث في كثير من الوسائل المباحة التي حرمت ثم أبيحت، كالتلفزيون، أو الراديو، أو التلكس أو مشاركة المرأة في الوظائف والميادين العامة، أو قيادة السيارة أو بيع النساء في محلات الملابس الخ. ولا يخفى أن تغير الحكم من الإباحة إلى التحريم المُشدد ثم إلى الجواز والحل والإباحة، أحدث بلبلة وارتباكاً في أوساط الناس.
وسأحاول في السطور التالية بيان بعض المنهجيات التي تبين أين يقع الخطأ في الفتاوى التي تُحرِّم مباحاً وتتشدد في تحريمه ثم تحله؟ فالشارع الكريم أعطى ميزاناً في التغير وفي نسخ الأحكام. وهذه المنهجية تعود إلى التفريق بين المحرمات لذواتها ولغيرها. ومنهجية أخرى تعود لنصوص الشارع المشددة في الكبائر، وترك التشديد في الصغائر .
فالمحرمات التي حُرمت لذواتها كالربا والزنا والقتل، بمعنى أنها محرمة في كل الظروف والأحوال لا تؤثر فيها المتغيرات، فهي محرمات ثابتة لا علاقة لها بزمن أو تاريخ أو مكان وتحريمها جاء على التأبيد، والتغير الذي قد يحدث فيها يكون بسبب الضرورة، والقاعدة الفقهية: الضرورة تُقدر بقدرها. وهي أي الضرورة: كل ما أفضى إلى الهلاك أو الفساد العام، كما هو تعريفها عند كثير من الأصوليين والمقاصديين. فهذه المحرمات قد جرت فيها عادة الشارع بالتشديد وتغليظ العقوبات ووعيد فاعلها.
أما المحرمات الأخرى وهي محرمات الأسباب والذرائع والوسائل، فهي أخف حرمة وإثماً وتشديداً. وتتغير بحسب الحاجة أو زوال العلة، كالنظر للمرأة الأجنبية، فهو من محرمات الوسائل ويزول التحريم فيها بزوال علته إن كانت العلة هي الشهوة جريا على القاعدة الفقهية: “ما حُرِّم سدًا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة”. فناسب فيها التخفف والأوصاف المخففة، لكثرة تغيرها بأسباب متعددة. أما ما لم ينص عليه الشارع، فالأصل فيه الإباحة، جريا على القاعدة الفقهية الشهيرة: الأصل في الأشياء الإباحة.
فإذا كانت هناك حاجة لمنع المباح لضرره على الناس، فيمنع. والسؤال الأهم كيف يُمنع المباح؟ وكيف يُفتى في منعه؟ فالمباح الذي يمنع في ظرف قد يتغير الظرف ويعود لأصل الإباحة ومن هنا وجب التحرز في المنع. وهذه العودة قد تحدث ضرراً في سمعة الشريعة ما لم تكن منهجيات العودة واضحة لعموم الناس.
فلو حرم عالم قيادة المرأة للسيارة وقال في تحريمه: إن قيادة المرأة هدم للإسلام، وباطل ، وإثم ، وليست من شرع الله ودينه، وشدد في طريقة تحريمه وبالغ وصعّد وهو يحرم شيئاً أصله الإباحة، ثم تغير رأيه وأفتى بالجواز! فلا شك أن كيفية المنع الأول التي اعتبر فيها القيادة ليست من دين الله وشرعه، ثم تغير رأيه لسبب من الأسباب وأصبح من دين الله وشرعه يُحدث ارتباكاً لدى عموم الناس.
فما هذا المحرم الذي تارة يكون من دين الله وتارة ليس من شرعه؟ وما هذا المحرم الذي يوصف بالباطل وبأشد الأوصاف قبحاً وسيلاً من الشتائم في بعض لأحيان ثم يصبح من زينة الحياة الدنيا! ومن حق كل أحد أن يفهم هذا الفهم ولولم يبحث في الأسباب والمبررات.
فالطريقة التي حُرِّم بها المباح كانت مفزعة ومشددة، ولم تكن على منهج الله تعالى في ميزان التحريم؛ بين محرم لغيره لا يُشدد في وصف فاعله أو في وصف المحرم، وبين مُحرّم لذاته، قد جرت عادة الشارع فيه بتقبيح الفاعل، وتقبيح الفعل. وبين مباح في أصله مُنع لضرر أو مفسدة، فصار من المحرم لغيره، فلا يُشدد في تحريمه -كما سبق-، وبين مفسدة كلية مطلقة لا يُعلم فسادها المطلق إلا بنص شرعي قطعي.
والنبي عليه السلام قال في الحديث الصحيح: وما كان الرفق في شيء إلا زانه ولا نُزع من شيء إلا شانه. فعدم الرفق في التحريم أدى إلى شناعات شانت صورة الدين والمتدين، وصورة الشريعة. فماذا لو خُففت حدة المنع، وعبر عنها بصيغة من صيغ الكراهة أو الصيغ التي لا تفيد الجزم بالتحريم، لأمكن تفهم فتوى الجواز والإباحة. لا سيما وأن الأصل هو العمل بالمباح دون انتظار فتوى.
فالله تعالى سكت عن أشياء رحمة بالناس من غير نسيان، فلا تسألوا عنها، وفي رواية فلا تبحثوا.. فإذا أراد العالم أن يدلي برأيه في مباح من المباحات فمن حقه، وليكن بالابتعاد ما أمكن عن استعمال ألفاظ التحريم. وليبدي رأيه دون ترهيب أو ترعيب.
وقد رُوي عن بعض الأئمة عبارات: لا ينبغي، والأولى كذا… الخ مما لم يرد فيه نص في بالتحريم، خوفاً من الجزم بالمنع وتوقياً من الدخول في قول الله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب).
فالمحرم الذي ليس من دين الله، وباطل من كل وجه، لا يستحق أن يكون في وقت من الأوقات من دين الله. فهو وصف يليق بمحرم لذاته. فالغش محرم من كل وجه، ولن يكون في زمن أو وقت من الأوقات حلالاً إلا في حالة من حالات الضرورة.
ومن الموازين التي تزن طريقة الفتوى والحكم: منهج الشارع في النسخ الذي جاء في بعض الأحكام الشرعية، فهو من موازين الفتوى فيالأحكام التي لم ينص الشرع عليها. فالشارع كان يقرر حكماً ثم ينسخه، ولكن لم يكن يقرر حكماً باطلاً في ذاته ومحرم من كل وجه ومما حُرِّم على التأبيد ثم ينسخه حلالاً للناس.
فالنسخ لا يرد على محرم مؤبدأو في أصل التوحيد وأسماء الله وصفاته ثم يُنسخ، فالله تعالى بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال، وإنما كان يرد على حكم يُمكن أن يتغير ثم يُنسخ تخفيفاً ورحمة، كما قال تعالى: ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ..).
ومن الموازين التي بها يوزن تغير الحكم: ميزان التشديد في كبائر الذنوب.وتركه في الصغائر. فتحريم الكبائر ثابت لا ينقطع بتغير الأزمان، فالزنا محرم على التأبيد والربا إلى يوم القيامة، والقتل في كل الظروف والأحوال. والتسلط والكبر والاستعلاء على الناس محرم في كل الأديان السماوية والشرائع، ولا علاقة له بزمن أو وقت، ولن يكون في يوم من الأيام من الدين ثم يتحول فجأة إلى دين وشرع ومن شر مطلق إلى خير وعدل وإحسان.
فإذا حرم عالم من العلماء مباحاً ووصفه بما توصف به كبائر الذنوب والمحرمات الكبرى ثم غيَّر رأيه، فحاله يشبه من يجيزما لا يجوز ولا يقبل فيه الحل، لأن التشدد في المحرمات لا يكون إلا لكبيرة، والكبيرة لا تتغير إلى الجواز، والشدة وصف مناسب لتأبيد التحريم فيها.
فبعض الفتاوى تُحرِّم وسيلة من الوسائل المباحة فيفهم السامع أن هذا المحرم محرم على التأبيد ومن كبائر الذنوب بسبب شدة الأوصاف التي يصف بها العالم ذلك المحرم،فيفهم السامع أن هذا المحرم لا يمكن أن يجوز في ظرف من الظروف لكثافة المبالغة في التحريم. فمن يصف مشاركة المرأة في عمل من الأعمال العامة بأنه منكر لا يجوز في دين الله، ومؤامرة صليبية تغريبية يهودية على الإسلام والمسلمين وتدبير ومكيدة من أعداء الإسلام، وشر مطلق.
فهذه الصيغ في التحريم وأشباهها لا تنطبق إلا على منكر مؤبد من كبائر الذنوب يصعب انفكاك تلك الأوصاف عنه في يوم وليلة! فمن الصعب قبول رأيه بالجواز بعد كل هذه الأوصاف لأن منكرًا بهذه الأوصاف ليس إلا شرًا محضًا. وإن منكراً بكل هذه البشاعة لن تتركه الشريعة لاجتهاد شيخ، بل سيكون منصوصاً عليه كما نصت على سائر الكبائر. ولن يكون الناس في حاجة لمن يعظهم في تحريمه. فالشريعة أولى بتحريم الشناعات والفظائع التي تُوصف بها بعض الأشياء التي أصلها الإباحة.
وسوف يتسائل معظم الناس سؤالاً مشروعاً: ما الذي جعله قبل يوم من الفتوى مؤامرة صليبية، ثم بين عشية وضحاها صار من القربات والحسنات والمباحات؟ وهو سؤال محرج وقاتل في نفس اللحظة.
بخلاف ما لو عبر العالم -كما سبق- عن رأيه بالكراهة أو بالصيغ التي يفهم منها عدم رغبته في المشاركة، وبالألفاظ التي تدل على عدم الأولوية، فإذا تغير رأيه إلى الأولوية والجواز، منع من الشك في فتواه، ومنع من الشك في منهجية الشريعة وطريقة تغير الحكم فيها. وكان هذا التغير في الفتوى أدعى للقبول والفهم وتفهم المنع السابق.
فالله تعالى نص على المحرمات الكبرى، ولا يمكن بالقياس تحريم مباح من المباحات وجعله في كبائر الذنوب، فلو كان في ذاته محرماً لسارع الشارع لتأكيد حرمته، وإذا كان الأمر كذلك، فلا يوجد مسوغ للتشديد في التحريم، فالتشديد بالعذاب في الدنيا واللعن في الآخرة لا يكون إلا في كبيرة ومحرم لذاته، ومعرفة الكبيرة لا تُعرف إلا من الشرع، وقد انقطع الوحي، فكل تشديد في منع مباح من المباحات علامة على الغلو وتدخل ووصاية على الخلق.
وخلاصة ما سبق أن منع المباحات لأي سبب من الأسباب يجب أن يؤخذ فيه بعين الاعتبار أن هذا المنع قد يتغير، فلا ينبغي التشديد في المنع، بل تستعمل ألفاظ التخفيف والكراهة ما أمكن، فالشدة وصف ملازم لمنكر على التأبيد، ولا تتناسب مع مفسدة ظرفية. وبكل حال لن يقبل الناس محرماً يكون حلالاً بسرعة الضوء، فيصبح الشر خيراً، والقبيح حسناً، والخطأ صواباً.
إن كثيراً من الناس قد لا تكون لديه قناعة تامة بصحة الفتوى التي حرمت عملاً مباحاً ، فضلاً أن يكون لديهم قناعة في تشديد التحريم، إلا أن وعيهم يمنعهم أيضاً من تجويز المحرم بغير هدى وبغير منهجية شرعية في التغيير. فقد يكونوا غير مقتنعين بتحريم وسيلة من الوسائل المباحة، لكن ليس معنى عدم قناعتهم رضاهم بفتوى الجواز كيفما اتفق أو لأسباب غير منهجية، لأن التحليل في هذه الحالة يصبح ضرباً من العبث.
فهو مسلك يجلب الشك في الدين ويورث العداء مع التدين؛ إذ من الممكن أن يعود الحلال حراماً، والحسن قبيحاً، والصواب خطأً، ويصبح الدين مسيّساً، بلا ضوابط منهجية دقيقة في الفتوى. وبالله التوفيق.