العبور للحداثة

الكاتب: 

 

يروق لكثير من السعوديين التغني بخصوصية مجتمعهم، والإلحاح على أنه مجتمع محافظ، ويبنون إثر هذه المقدمة نتيجة قوامها أن وتيرة التغيير في بلادهم لابد أن تكون بطيئة ومتدرجة بالضرورة؛ تراعي الخصوصية المزعومة، ولا تتصادم مع محافظة هذا المجتمع.

أجادل هنا أن المجتمع السعودي هو أكثر المجتمعات العربية الإسلامية جاهزية للحاق بأزمنة الحداثة، وأن مقومات النهضة متحققة لديه أكثر من غيره، بل أكثر مما يتوقع عديدٌ من مثقفيه.
وقبل أن أشرع في دعم هذه النظرية لا بد من (ضبط المصطلح) أو (تحريره) على حد قول الأصوليين.

التغيير الذي أعنيه هو ليس سياسيًّا على مستوى السلطة بالضرورة، بل اجتماعي ثقافي بالدرجة الأولى، يُلحق المجتمع المعين بركب الحداثة التي هي (جملة الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي صاحبت انتقال المجتمع الأوروبي من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي)، أو بروز الفردية حسب توصيف بودلير.

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى كون التغييرات الأخيرة في الدول العربية حبست التغيير في قوالب محددة، حاصرة هدفه في الإطاحة بالسلطة السياسية القائمة، ووسيلته  في الثورة الشعبية، جاعلة من إقامة حكم ديمقراطي (أيديولوجيا خلاصية) حسب مصطلح جورج طرابيشي، متناسية أن الديمقراطية ليست سببًا في نهضة المجتمعات، بل نتيجة للتطور الاجتماعي والثقافي والفكري في المجتمع المعين، وكما ينبهنا طرابيشي نفسه أن الفصل بين السبب والنتيجة في أي صيرورة اجتماعية هو أمر غير ممكن، إلا أن التركيز على التغيير السياسي وإهمال عملية  التطوير والنهضة لابد أن يسبقها حقبة من التنوير الثقافي والمعرفي تنتج تحولا على مستوى العقول، ثم تكون التحولات الاجتماعية والسياسية لاحقة ومكملة لثورة العقول في جدلية لا تنقضي.

يبقى تحرير العقل العربي هو قلب معركة التحديث في بلادنا الإسلامية، ولا شك أن الدين هو المحدد الرئيس لطرائق تفكير هذا العقل، والراسم له حدوده والمبين لما يجوز له التفكير فيه وما يقع في دائرة المحظور أو خارج المفكر فيه. ولو أردنا النظر في صعد معارك الإصلاح لوجدنا أن الفريق الممانع للإصلاح إنما يجد ذخيرته الأولى ليس في الدين ذاته، بل في قراءة معينة له يفرضها على أنها رؤية نهائية في قضايا كالمرآة والانفتاح والسياسة.

وفي المشهد الثقافي السعودي اليوم تخوض رحى المعركة -وهي الأهم- بين تيار يريد فرض قراءته للدين ويجعل منها عائقا أمام الإصلاح والتطور، وتيار يري أن الدين ليس خصمًا في معركة النهضة، ولأننا نقيس على مثال سابق نقول: إن الإصلاح الديني في أوروبا الذي قاده لوثر وكالفن كان هو المدخل لعصر التنوير الذي حرر العقل الأوروبي من الظلمات، وأطلق مقدراته التي نرى ثمراتها اليوم في حياة الغرب، ولا أرى لبلادنا سبيلا للتقدم ما لم نخض معركة الإصلاح الديني؛ لنفتح الباب أمام ظهور عقل نقدي مسلم هو شرط ظهور الحداثة في بلادنا.

إن معركة الإصلاح الديني قائمة اليوم في السعودية، وأهميتها تكمن في أنه حين تخاض هذه المعركة من منطلق علماني في معظم الدول العربية، في حين تخاض من داخل الحقل الديني نفسه في السعودية، فأكثر المثقفين السعوديين ليبرالية لم يطالب بنظام علماني، بل بمقاربة عقلانية وحضارية للمسألة الدينية، لا تعزل الدين من الحياة العامة بل تعيد تعريف دوره من داخله وبما لا يجعل ضرورياته متناقضة مع التحديث، ويرى كاتب هذه السطور أن ما يحدث في السعودية هو السبيل الأسلم للمشروع العقلاني في البلدان المسلمة، فتحديث العقل الديني يجب أن يتم من داخله لا خارجه.

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن أهم قضايا الإصلاح الاجتماعي هي تلك المتعلقة بحقوق المرأة ودورها، فالحداثة جاءت محررة للمرأة من سطوة الثقافة الذكورية، لترسمها شريكًا لا تابعًا، ومساوية للرجل في الحقوق القانونية والسياسية. جبهة حقوق المرأة اليوم أحد أكثر جبهات الحداثة سخونة في السعودية، فالمرأة السعودية التي تكافح اليوم لقيادة السيارة، إنما ينصب طموحها لقيادة المجتمع غدا. وأشير هنا إلى أن دخول المرأة السعودية مجلس الشورى، ونسبة التعليم النوعية وسط السعوديات توحي بأن المرأة لن يقتصر دورها على المطالبة بحقوقها بحسب، بل سيتعداه إلى قيادة القفزة نحو الحداثة، لأن القراءة الصحيحة لواقعنا تقول: إن اضطهاد المرأة في جوهره مرتبط بعقل ما قبل الحداثة، عقل عصور الظلام، لذا فإن هناك ارتباطًا مركزيًّا بين نجاح المشروع الحداثي ونيل المرأة حقوقَها. ومن هنا تكتسب القضية الأخيرة بين القرني والعضيدان دلالات رمزية بالغة الكثافة، فالمرأة التي يصورها الفكر التقليدي على كونها ناقصة عقل، إنما تصبح هدفا لنهب مجهودها (العقلي)، وهي بهذا تهزمه مرتين، فمن جهة تثبت أن عقلها قادر على إنتاج ما هو جدير بالسرقة، ثم إنها أكثر استقامة أخلاقية منه، بحفظها وتصديها لأبجديات الأمانة العلمية من جهة أخرى.

إن عشرات الآلاف من السعوديين الذين درسوا ويدرسون في الغرب لن يعودوا بالعلوم التي ابتعثوا لأجلها فحسب، بل سيحملون معهم التجربة الثقافية والاجتماعية في الغرب، وستكون المقارنة حتمية بين الوضع في الوطن والغربة، لتتيح هذه المقارنة مقاربة نقدية لأحوال الوطن. مما لا شك فيه أن المبتعثين هم رصيد التحديث السعودي، وهذا مصدر الهجمة الشرسة من دعاة الجمود عليهم.

أختم القول بأن الحداثة إنجاز أقامته الطبقة البورجوازية، أينما كانت هذه الأخيرة قوية كان هناك مشروع حداثي وديمقراطي، حتى إن تأخر هذا المشروع بفعل الطغيان السياسي (دول شرق أوروبا مثالاً). فالطبقة الوسطى السعودية واسعة وقوية، جاهزة للعبور إلى الحداثة، حال استيفاء الشرط الثقافي، الذي يدرك أن سؤال التغيير السياسي وإن كان مؤجلا لكنه يبقى قائما في قابل الأيام.

 المصدر: موقع “المقال”.

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك