قيادة المرأة وأولويات الإصلاح

الكاتب:

على مدار العقدين الماضيين نوقشت قضية قيادة المرأة للسيارة في السعودية بشكل مستمر، ووصل الأمر حد التخمة، وتشبّع كثيرون من هذا النقاش الذي يدور في حلقة مفرغة في غياب أي تطور أو حسم سياسي للقضية، وبرزت أصوات عديدة تطالب بالكف عن خوض هذا النقاش العقيم والاهتمام بقضايا أكبر، وهكذا بدأ الحديث عن هامشية القضية يزاحم اتجاهي التأييد والمعارضة لقيادة المرأة، وهو يبرز في كل مرة تطرح فيها قضية قيادة المرأة للسيارة خلال الفترة الماضية، ما يدعو إلى الالتفات لوزن القضية وترتيبها في سلم أولويات الإصلاح والتغيير، عوضاً عن الدخول في متاهات نقاش حجج التأييد والمعارضة المستهلك.

القول بأن نقاش قيادة المرأة للسيارة هامشي ويركز على قضية صغيرة هو معارضة لأصل الجدل حول الموضوع، يصدر من أشخاص يتحدثون عن وجود قضايا أهم على سلم أولويات المجتمع، بعض هؤلاء يتحدثون عن قضايا أهم دون أن يوضحوا ماهية هذه القضايا، ودون أن يتحدثوا عنها، أو أنهم يتحدثون عن “قضايا أهم” ولا نرى منهم إلا حديثاً حول أشكال العبايات النسائية ومحلات بيع الملابس الداخلية النسائية.

آخرون من المحافظين يزيّنون معارضتهم لقيادة المرأة من خلال حديث الأولويات والقضايا الأهم، كما أن بعض المحافظين والإسلاميين الحركيين يرفع شعار القضايا الأهم في مواجهة تحرجه من الحديث حول القضية لأسباب تكتيكية متعلقة بحسابات سياسية أو جماهيرية داخل الحالة الإسلامية، ومن هؤلاء من يرفع شعار الإصلاح السياسي والمطالبة بآليات ديمقراطية دون أن يحسم موقفه من قضايا الحريات المدنية ومن ضمنها المسائل المتعلقة بالمرأة، بل تجده يحرض ضد خصومه لأسباب أيديولوجية أو مذهبية، ما يصل بالخلاف معه إلى أصل مفهومه للإصلاح السياسي وما يعنيه به.

مع ذلك يبقى حديث جدير بالنقاش عند عدد من دعاة الإصلاح السياسي، وهو الحديث عن تأجيل كل القضايا الفرعية والثانوية لمصلحة قضية الإصلاح السياسي، والتي إذا تحقق فيها النجاح ستنعكس تلقائياً على باقي القضايا، ويدفع هذا الحديث إلى الاعتقاد بهامشية قضايا مثل قيادة المرأة للسيارة، خاصة وأنها الشغل الشاغل لمجموعات لا تعير الإصلاح السياسي أي اهتمام أو تعاديه لدوافع مختلفة، ما يجعل كل طرحٍ للقضية يثير التوجس من كونه محاولة لصرف الأنظار عن المطالب السياسية والمعيشية.

هذا الحديث قد يكون مفهوماً في حالات نقاش القضية لمجرد النقاش وإطالة الجدل فيها، لكن عندما تتحول قضية القيادة إلى المطالبة العملية والتحرك الميداني من قبل مجموعة من النساء لانتزاع حقهن في القيادة يتحول الأمر لحراك فئوي للتغيير، وهو ما يجعل دعاة الإصلاح السياسي أمام استحقاق من نوع مختلف، ذلك أن اللامبالاة تجاه حراكٍ كهذا يدفع بعزلة الإصلاحيين عن الشرائح الشعبية المختلفة وهمومها، ويبقيهم في بروجٍ عاجية، كما أنه يطرح أسئلة حول مواقف بعضهم على الأقل من الحريات المدنية، ومشروعهم في حال تحقق الديمقراطية التي ينادون بها، فقضية التحول الديمقراطي ليست مطروحة لأنها حل خلاصي ينهي كل الإشكالات، بل لأنها تفتح الباب أمام إيجاد برامج عمل ومشاريع لمعالجة الإشكالات القائمة، وتفتح الفضاء العام لنقاش مفتوح حول مختلف القضايا يُتْبَع بخطوات عملية، لذلك لا يمكن فصل التطلع للتغيير عن تفاصيل التغيير المنشود والموقف من مسائل أساسية في مجال الحريات.

وبالإضافة إلى تطلعٍ مشروع عند شريحة نسائية واسعة لانتزاع حق قيادة السيارة باعتباره أولوية معيشية متعلقة بحرية التنقل خاصة في الواقع السعودي الذي يعتمد فيه التنقل على السيارات بشكل رئيسي، ومسألة أساسية في تمكين المرأة من المساهمة الفاعلة في دوران العجلة الاقتصادية في البلاد، فإن اختيار الحراك المطلبي الميداني (كما هو الحال في حملات 17 يونيو 2011 و 26 اكتوبر 2013) بديلاً لمواصلة الجدل العقيم حول القيادة يعني أننا أمام حراك مطلبي فئوي يجدر بدعاة الإصلاح السياسي تشجيعه ودعمه، إذ إن كل حراك فئوي يراكم التجربة المطلبية، وكل مطلب تغيير عملي يعزز مطالب التغيير الأخرى، فلكل شريحة أولوياتها ومطالبها، وإذا صارت كل شريحة تطالب أجهزة الدولة بمطالبها فإن هذا يصب في النهاية في صالح قضية الإصلاح السياسي، وتسفيه الحراك الفئوي يعني بقاء المجتمع بقواه وشرائحه في المربع الأول، أي مربع المعاريض.

لكن هذا كله لا يعني عدم وجود إشكالات في طرق طرح قضية قيادة المرأة للسيارة، وهي الإشكالات التي تجعل القضية مفرغة من أي مضمون تغييري، ويمكن تلخيصها بثلاث إشكالات رئيسية:

الأولى هي الطريقة التي يطرح بها الإعلام الرسمي القضية، إذ يجعل الجدل الفكري في الساحة السعودية متمحوراً حول هذه القضية وحدها، بما يوحي بعدم وجود قضايا أخرى سياسية ومعيشية تهم السعوديين، وأن المجتمع لا زال متخلفاً وغير قادر على حسم مسألة كهذه (رغم أن حسمها سياسي) فكيف بمسائل أكبر؟!، وكلما ارتفعت الأصوات بالمطالبة بمطالب سياسية عاد النقاش المكرر حول القضية ليطل برأسه مجدداً بشكل مقصود، وهو ما نعتبره مسرحيات إلهائية لا ينتهي فيها الجدل ويتسلى بها الجمهور دون أن يملك قراراً بخصوصها.

ثاني الإشكالات يتمثل في طرح القضية من قِبَل البعض باعتبارها مقابلاً للمطالب السياسية، أي مقايضة الحريات السياسية بالحريات الاجتماعية، والترويج لفكرة مفادها أننا بحاجة إلى قيادة المرأة للسيارة وبعض الحريات الاجتماعية وتحسين الخدمات دون الحاجة لأي إصلاحات سياسية، ويذهب بعض هؤلاء بعيداً في محاربة كل مطلب سياسي وتسفيهه والتحريض على من يتبناه على أمل الحصول على بعض المطالب الاجتماعية.

أما ثالث الإشكالات فيكمن في طريقة إدارة النقاش حول القضية وتوجيهه، فبدلاً من مواجهة أجهزة الدولة المعنية وصاحبة القرار في الموضوع، يتم تقديم صراع مزيف بين الليبراليين والسلفيين حول القضية مع استبعاد الجانب السياسي، وتُحوّل القضية إلى قضية اجتماعية خالصة، ويصبح السلفيون هم الذين يعيقون إصدار قرار السماح بالقيادة، أو تصبح محافظة المجتمع هي المشكلة (مع أن كثيراً من النساء في القرى والمحافظات المختلفة يقدن سياراتهن ولم تمنعهن المحافظة من ذلك)، ويتم تفريغ النقاش من البعد السياسي الذي هو الأساس، ما يضمن دوران الموضوع في حلقة مفرغة ضمن نقاش عبثي يتعمد إضاعة البوصلة.

إن ما يميز المطالبة العملية بالقيادة في الحملات مثل حملة 26 اكتوبر هي تجاوز الجدل العقيم ذي الطابع الإلهائي، وعدم اصطناع إشكالات مع مطالب أخرى سياسية وتنموية، والتوجه بالمطالبة إلى صاحب القرار، وتقديم ثنائية الجماهير مقابل أجهزة الدولة بديلاً لثنائية الليبراليين والسلفيين، وهو ما يجعل هذه المطالبة حراكاً فئوياً للتغيير يستحق الإشادة والدعم.

ويبقى أن المطلب هو إخراج الدولة نفسَها من مسألة المنع والتقييد، وأن تترك الموضوع لاختيار الناس بعيداً عن تغوُّل أجهزتها، وهذا هو المطلوب أيضاً في قضايا أخرى كثيرة.

المصدر: http://www.almqaal.com/?p=2995

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك