التَّسَامُحُ جسرُ المُسْتقبل

 

  • ننبه إلى أن العهود الدولية تبنت التسامح وسيلة لفض النزاعات الدولية، لكنها ترفض في الوقت نفسه كل أساليب العنف وكل آليات فرض الرأي بالقوة، وهو أمر يتفق مع ما نادى به ديننا الحنيف
  • إن نبذنا للعنف يأتي من كونه عنصراً هادماً ومعولاً يضرب صميم الوحدة لأي شعب أو مجتمع أو أمة ولذلك يبقى التسامح جسرنا الأساس إلى المستقبل نبنيه معاً ليتسع لنا جميعاً

تحتفل الأمة الإسلامية هذا الشهر بأطهر الرحلات، التي يتوجه فيها الملايين إلى مكة المكرمة، والمدينة المنورة، لأداء شعائر الحج، قبل أن يتشارك المسلمون جميعاً الاحتفال بعيد الأضحى المبارك، وهما مناسبتان تدعواننا للتأمل في هذين الحدثين العالميين اللذين يساويان بين أبناء الأمة الواحدة، حين تجمعهم نية الخير، وممارسة التقرب بالعمل الصالح إلى الخالق سبحانه وتعالى.

والحق أنه ما من قيمة تتبادر في الذهن قدر فضيلة التسامح، التي تجعلنا نعلي من قيم الصفح والعفو، ونمارس التفهم لقضايا الآخرين والتفاهم معهم، وإذا كنا خُلقنا شعوباً وقبائل لنتعارف، فإن هذه المعرفة تتطلب منا أن نبني جسر التسامح مع تلك الشعوب والقبائل، لنصل معاً إلى المستقبل.

تقول العرب: عليك بالحق فإِن فيه لَمَسْمَحاً أَي مُتَّسَعًا. هذا يعني أن التسامح يتسع لكل الآراء أن تعمل معًا، مثلما يسمح لكل الأفكار أن تتلاقح سوياً، كي تتبنى الأفضل وتبنيه.

وإذا كان التسامح في الممارسات الجماعية أو الفردية يقضي بنبذ التطرف أو ملاحقة كل من يعتقد أو يتصرف بطريقة مخالفة قد لا يوافق عليها المرء، فهو يعني أيضاً قبول اختلاف الآخرين. وليس هناك أحق بالاستشهاد من آيات القرآن الكريم، التي تحض على التسامح.

يقول الله في كتابه الحكيم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125)، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 96)،

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13).

 كما يقول سبحانه وتعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود:118)، {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران: 134)، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر} (آل عمران: 159).

ولله الحكمة والحكم، فما كان إعلاء التسامح وممارسته إلا إعماراً للحياة، التي خلفنا الله على الأرض لنحكمها بالعدل والمساواة. ولسنا نجد في السيرة العطرة لرسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) أبلغ أثراً في تزكية التسامح من موقفه في فتح مكة: هل أتاكم نبأ أهل مكة؟ فقد جرعوه – صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الصعب والعلقم، أخرجوه من بلده، حاربوه في البلد الذي استقر فيه، آذوه في بدنه ونفسه، قالوا عنه ونالوا منه، قاطعوه في الشعب، وحبسوه، وضعوا الشوك في طريقه، ائتمروا به ليقتلوه، سخروا به كل سخرية، لا يوماً ولا يومين، ولا سنة ولا سنتين، ثم أظفره الله بهم وحكّمه فيهم فأقامهم أمامه حول الكعبة أذلاء لا يملكون لأنفسهم شيئاً.. وجاءت ساعة العقوبة التي يكون فيها الرد على سلسلة طويلة من التعديات والإساءات فها هو يقول لهم «ما تظنون أني فاعل بكم؟»، وجاء الحكم مفاجأة فقال «أقول ما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء».

من الصفح إلى التسامح

ولعلنا إذا تبنينا التسامح سبيلاً نذكر أن التسامح أصبح وسيلة لفض النزاعات الدولية، وتطبقه الأعراف والمواثيق. لكننا يجب أن ننبه أن هذه العهود العالمية في الوقت الذي ترجِّحُ التسامح وتحبذه، ترفض في الوقت نفسه كل أساليب العنف، وكل آليات فرض الرأي بالقوة، وهو أمر يتفق كذلك مع ما نادى به ديننا الحنيف.

ومن الصفح والمغفرة لمن أذنب (Forgive) إلى التسامح (Tolerance) لقبول الاختلاف مع الآخرين والإقرار بحقهم في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، جاء المجتمع الدولي يحث على إرساء السلم في المجتمعات، وخاصة بعد الحروب والثورات.

ففي قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 51/95 في12 ديسمبر عام 1996 وبمبادرة من مؤتمر اليونيسكو عام 1995 باعتبار يوم 16 نوفمبر «يوماً عالمياً للتسامح»، دُعيت الدول الأعضاء للاحتفال به من خلال القيام بأنشطة ملائمة توجه نحو كل من المؤسسات التعليمية وعامة الجمهور، حيث اعتمدت الدول الأعضاء إعلان المبادئ المتعلقة بالتسامح. والتزام الحكومات بالعمل على النهوض برفاه الإنسان وحريته وتقدمه في كل مكان، وتشجيع التسامح والاحترام والحوار والتعاون في ما بين مختلف الثقافات والحضارات والشعوب.

توصيات من أجل التسامح

إن آليات التسامح، وطرائقه، ووسائله، نلجأ إليها ونستظل بها حين يكون هناك اتفاق على نبذ العنف من جميع الأطراف المتنازعة. إذ ليس من المنطقي، أو القانوني، أو الإنساني، أن تجنح فئة إلى السلام، والتسامح، في الوقت الذي تعمد فيه الفئة المقابلة إلى العنف والتشبث بالرأي حتى ولو أدركت خطأها، لذلك تتوازن فضيلة التسامح، مع خصال التفاهم والسلام.

إن نبذنا للعنف يأتي من كونه عنصراً هادماً، ومعولاً يضرب صميم الوحدة لأي شعب أو مجتمع أو أمة، ولذلك يبقى التسامح جسرنا إلى المستقبل.

 

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك