نبيل علي
أدت التحديات التربوية الهائلة التي يطرحها عصر الكمبيوتر والمعلومات إلى مراجعة شاملة ودقيقة للأسس التربوية، لقد عاد مفهوم التربية يطرح نفسه من جديد كشاغل رئيسي لعلماء التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع، بل وكإشكالية جوهرية للفلاسفة.
عاد الحديث مرة ثانية عن حاجتنا إلى "إنسان جديد"، يوقن الجميع بصعوبة تحديد "مواصفاته" حيث لم تتحدد بعد ملامح هذا العالم الجديد، مجتمع المعلومات الذي يصنع هذا الإنسان من أجله، على الرغم من ذلك فهناك شبه إجماع على تعذر تحقيق ذلك دون أسس تربوية مغايرة وبشدة عن تلك التي أفرزت هذا الكم الهائل من جحافل جيوش الأغلبية الصامتة، هذا البشر أحادي الأبعاد فاقد الهوية، صاحب النزعة الاستهلاكية المتضخمة، قليل الحساسية تجاه الغير، الذي يشكو من الجدب الروحي والعزلة والضياع. وإنساننا الجديد ليس هو بالحتم "جنتلمان" إنجلترا القرن التاسع عشر، ولا ذلك "البدائي النبيل noble savage" حلم جان جاك روسو، ولا المثالي الهارب من واقعه أو العملي وليد التربية الأمريكية البرجماتية، ولا المتمرد شديد التحرر المتمركز حول ذاته لجيل ما بعد الحرب في فرنسا، وهو أيضا ليس العالم الدءوب ساكن الأبراج العاجية المنكب على علمه المنعزل عن واقعه.
وإزاء هذه الحيرة لا يسعنا هنا إلا طرح بعض التوجهات التربوية العامة:
- إن هدف التربية لم يعد هو تحصيل المعرفة، فلم تعد المعرفة هدفا في حد ذاته، بل الأهم من تحصيلها هو القدرة على الوصول إلى مصادرها الأصلية وتوظيفها في حل المشاكل. لقد أصبحت القدرة على طرح الأسئلة في هذا العالم المتغير الزاخر بالاحتمالات والبدائل تفوق أهمية القدرة على الإجابة عنها.
- إن تربية الغد لابد أن تسعى لإكساب الفرد أقصى درجات المرونة وسرعة التفكير وقابلية التنقل mobility بمعناه الواسع، التنقل الجغرافي لتغير أماكن العمل والمعيشة، والتنقل الاجتماعي تحت فعل الحراك الاجتماعي المتوقع، والتنقل الفكري كنتيجة لانفجار المعرفة وسرعة تغير المفاهيم.
- لم تعد وظيفة التعليم مقصورة على تلبية الاحتياجات الاجتماعية والمطالب الفردية بل تجاوزتها إلى النواحي الوجدانية والأخلاقية وإكساب الإنسان القدرة على تحقيق ذاته وأن يحيا حياة أكثر ثراء وعمقا.
- ولابد للتربية الجديدة أن تتصدى للروح السلبية بتنمية عادة التفكير الإيجابي وقبول المخاطرة وتعميق مفهوم المشاركة، فلا وجود في مجتمع المعلومات للقبول بالمسلمات والإقناع السلبي الذي هو- في رأيي - نوع من الجبر، إنه عصر التجريب وقبول القضايا الخلافية والتعلم من خلال التجربة والخطأ، والتعامل مع المحتمل والمجهول، والاحتفاء بالغموض واستئناس التعقد، وعدم الاستسلام لوهم البساطة الظاهرة.
- إن علينا أن ننمي النزعة الايبستيمولوجية لدى إنسان الغد - كما طالبنا سيمور بابيرت- بحيث يدرك كيف تعمل آليات تفكيره وذلك بجعله واعيا بأنماط التفكير المختلفة، وذا قدرة على التعامل مع العوالم الرمزية بجانب العوالم المحسوسة دون أن يفقد الصلة التي تربط بينهما، فكما نعرف تتضخم أهمية الرموز والمجردات مع تقدم الفكر الإنساني بصفتها وسائل لا غنى عنها لإدراك حقيقة الظواهر وتنمية الفكر وتمثل المعارف والمفاهيم المعقدة.
- ولم يعد هدف التربية هو خلق عالم من البشر المتجانس المتشابه بل بشر متميز متمسك بهويته الحضارية وبقيمه، قادر على التواصل مع الغير، يتقبل الواقع المختلف عن واقعه والرأي المغاير لرأيه. إن التمادي في عملية التجنيس الحضاري التي نشهدها حاليا تهدد خصوصية الإنسان التي سرعان ما يفقدها تحت وطأة الشائع والغالب الذي يكتسب سلطته من شيوعه وغلبته لا من أصالته وتميزه.
إن على التربية المرجوة أن تهيىء الفرد لعالم سيصبح فيه العمل سلعة نادرة، حتى توقع البعض أن تصبح فرص العمل أحد مظاهر الرفاهية الاجتماعية في عالم الغد.إن الغاية العظمى للتربية هي أن ينعم الإنسان باستقلاليته ليصبح قادرا على أن يخلق عمله بنفسه، وأن يشغل أوقات فراغه التي تنحو إلى الزيادة المطردة بما يثري حياته ويعود بالخير على أسرته ومجتمعه وعالمه.
بعد هذا الاستعراض السريع للغايات التربوية في مجتمع المعلومات لابد أن القارىء قد أدرك مدى الفرق الشاسع بينها وبين واقع الأمور في وطننا العربي، وجسامة التحدي الذي تواجهه نظمنا التربوية على جميع الأصعدة فالفلسفة التربوية السائدة لدينا تنظر إلى التربية كأداة للثبات والاستقرار، وتركز- كما يقول د. عبد الله عبد الدائم - على انتشار التعليم لا نوعيته، ورغم ما يزخر به الخطاب التربوي الرسمي من شعارات الحرية والديمقراطية والمشاركة وتكافؤ الفرص وتنمية الانتماء القومي والتمسك بالوحدة العربية، إلا أن الواقع العملي وأساليب التعليم والتقويم وأهداف المناهج ومضمونها وأسلوب الإدارة المدرسية والتعليمية أبعد ما يكون عن هذه الشعارات، فما زال أسلوب التلقين والحفظ هو نهج التعليم السائد، وهناك قيود عديدة تحد من مشاركة الطالب في عملية التعليم ومساهمة المدرسين في عمليات الإصلاح والتجديد التربوي، والتحليل الكمي والكيفي لمضمون الكتب الدراسية الموجهة لطلاب التعليم الأساسي فيما يخص مفهوم الفرد والسلطة، في مصر كمثال، يكشف بشكل سافر- كما خلصت الباحثة أماني قنديل- عن كيف يمجد هذا المضمون دور الحكومة ويتجاهل دور الفرد، وتؤكد هذه المناهج الأسس والممارسات التربوية القائمة على الطاعة والضبط والربط، وهناك إغفال لأهمية الحوار والمشاركة وتهميش لقيمة الحرية، وقد خلت المناهج من مفهوم المساواة وتحاشت الخوض في القضايا الخلافية، ولا تهتم معظم المناهج بالأمور المتعلقة بالانتماء القومي والوحدة العربية بل على العكس تنزلق في مواضع غير قليلة نحو تنمية النزعات القطرية وشبه الإقليمية، إننا نشكو من غياب فلسفة تربوية عربية، ربما يكون السبب الرئيسي وراء ذلك- كما خاض البعض- هو حقيقة أن هذه الفلسفة التربوية لابد أن تنبثق من فلسفة اجتماعية محددة المعالم، وهو الأمر الذي لم يتحقق في معظم مجتمعاتنا العربية التي مازالت تعاني من عدم الاستقرار الاجتماعي، وقد سعت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم إلى وضع إطار عام لفلسفة تربوية عربية إلا أنها لم تتبلور في صياغة نهائية في هيئة استراتيجيات وخطط محددة، واقترح هنا المنظور المعلوماتي كنقطة انطلاق أساسية لبلورة هذه الفلسفة وذلك لقدرته على إبراز القضايا المختلفة بشكل أوضح وأعمق.
إن هدف التربية العربية لم يعد مقصورا على نشر التعليم بل الاهتمام بنوعيته وآفاقه، قبل موارده ووسائله وقنواته ولتكن ركائز فلسفتنا التربوية هي ثالوث العقلانية والحرية ووحدة الفكر والحضارة الإنسانية، ولا بد أننا قادرون على إضفاء طابعنا الخاص على هذه الغايات العامة بتمسكنا بروح تراثنا دون الانغلاق في نصوص جامدة وتأويلات قاصرة، وإدراكنا العميق بأن إيماننا بوحدة المجتمع الإنساني لابد أن يرتكز على تمسكنا بوحدتنا العربية. إن تمسكنا بهويتنا وقيمنا وانتمائنا العربي يجب ألا يتعارض مع كون الإنسان العربي مواطنا عالميا قادرا على أن يتعايش مع الآخرين ويتفاعل معهم.
إن علينا أن نحسم التناقضات الزائفة بين قيمنا الراسخة وعصر المعلومات، عصر العلم الذي احتفت به كتبنا السماوية وعصر تنمية المهارات التي أوصى نبينا بتعليمها لأولادنا، وعصر الاكتشاف والتجريب ونحن رواد العلم التجريبي وأحفاد السلف العظيم الذي خرج إلى البادية يجمع مفردات لغته وقواعدها من لسان أصلاء الناطقين بها، عصر التعلم المستمر ونحن أصحاب شعار التعلم "من المهد إلى اللحد"، وأود أن أنقل هنا ما أورده د. أسامة الخولي في أطروحته المثرية الملهمة عن "تنمية التفكير العلمي لدى الطفل العربي" عن الإمام محمد الغزالي، يقول إمامنا الغزالي: "دين الله لا يقدر على حمله ولا حمايته الفاشلون في مجالات الحضارة الإنسانية الذكية، الثرثارون في عالم الغيب، الخرس في عالم الشهادة"، لقد ذهب إلى غير رجعة عصر التربية القائمة على الطاعة والضبط والربط، إن تربية عصر المعلومات تؤكد على مفهوم المشاركة والتحرر ولا تستهجن العصيان ما دام دافعه هو نشدان الأفضل والأصدق والأنفع والأنسب.يجرنا ذلك إلى ضرورة اهتمام التربية بالتنشئة السياسية وتنمية وعي الأفراد، فالوعي هو وسيلة التمسك بالحرية وتعميق الممارسات الديمقراطية، وهو الدرع الواقي أمام حملات التضليل المنبثقة من داخلنا وحملات الغزو الثقافي الوافدة إلينا من خارجنا. إنني أشعر بالحسرة وأنا أرى الجامعة الأمريكية وبعض المدارس الأجنبية في بعض الدول العربية تورد في مناهجها حلقات نقاش لنموذج جامعة عربية مختلفة Model Arabe League ونموذج مغاير لمنظمة الأمم المتحدة Model United Nations ، بينما هجر حديث السياسة لدينا قاعات الدرس ونوادي هيئة التدريس.
وتمثل بعض التقاليد الاجتماعية الراسخة لدينا، مثل سطوة الكبار على الصغار، والتفرقة بين الذكور والإناث تناقضا أساسيا مع توجهات عصر المعلومات الذي سيتضخم فيه دور صغار السن ذوي القدرة. العالية لاكتساب المهارات والمعارف الجديدة والتكيف السريع مع متغيرات المجتمع، في نفس الوقت الذي ستتضاءل فيه الأهمية التي كانت تحظى بها خبرة الكبار والتي ستحل محلها- إن آجلا أو عاجلا- النظم الخبيرة في عصر المعلومات، ومن جانب آخر سيتعاظم الدور الذي تلعبه الأسرة، والمرأة بالتالي، في تنمية القدرات الإبداعية لدى الأطفال، وستتيح تكنولوجيا التعليم بوسائلها العديدة للتعلم الذاتي في المنزل فرصا جديدة للمرأة العربية لكي تلحق بالركب في عصر المعلومات هذا لو أردنا لها نحن ذلك.
ولا شك أن عدم توافر المناخ التربوي المواتي عامل مقيد في كل مراحل التقدم الاجتماعي إلا أن تأثيره يصبح أكثر جسامة في مجتمع المعلومات، حيث الإبداع والابتكار مطلب أساسي لتحقيق التقدم، وحيث التعلم العفوي من خلال الاحتكاك المباشر بالواقع الاجتماعي هو أحد المصادر الأساسية لاكتساب المعارف والخبرات، بجانب أن هذا الاحتكاك يعمل على تقوية وترسيخ ما يتم تلقينه من معارف ومهارات من خلال وسائل التعليم الرسمي وغير الرسمي، لذا علينا أن نعيد للعلم هيبته وهو هدف لن يتحقق ما لم يساهم هذا العلم مساهمة جادة في تنمية المجتمعات العربية، وتوفر تكنولوجيا المعلومات فرصا هائلة للعلماء العرب لكي يعمقوا دورهم الاجتماعي ولكي يقيموا وشائج الصلة بين علمهم وواقع مجتمعاتهم، إن لهذه التكنولوجيا بحكم طبيعتها دورا حاسما في ترسيخ مفهوم العلاقة الوثيقة بين العمل اليدوي والعمل الذهني وبين التفكير المجرد والتفكير المحسوس.
فأساس المشكلة أن التربية العربية عليها أن تنفذ هذه المهام الجسام بأقصى سرعة في مواجهة عوائق مادية وبشرية لا يستهان بها، ولا ينكر أحد أن مواردنا البشرية والمادية المحدودة لا يمكن أن تفي بكل آمالنا وطموحاتنا، وقد قدر حجم الإنفاق التربوي على مستوى الوطن العربي عام 2015 ب 154 مليار دولار، وتشكو معظم البلدان العربية من عدم توافر الحد الأدنى من الإمكانات المادية لدعم الخدمات التعليمية التقليدية، يزيد الأمر صعوبة أن حجم الإنفاق التعليمي يزداد مع النمو السكاني وارتقاء أساليب التعليم وتعدد مطالبه، حيث تحتاج جهود الإصلاح والتجديد التربوي للدخول في عصر المعلومات إلى توافر الدعم المادي اللازم لتجهيز معامل الكمبيوتر وإعادة تأهيل المدرسين وتطوير المناهج، يتطلب ذلك اتخاذ قرارات حاسمة في أولويات توجيه الموارد القومية لمجالات التنمية المختلفة، وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن هناك بعض الاقتصاديين الذين يعارضون في أولوية الإنفاق التعليمي بصفته استثمارا طويل الأجل لا يحقق عائدا إلا بعد جيلين على الأقل، ولذا فهم يفضلون عليه الاستثمارات قصيرة الأجل سريعة العائد، ونود أن نذكر هؤلاء أن هناك كثيرا من مشاريع التنمية كمجمعات الصلب ومحطات توليد الكهرباء تحتاج إلى فترات أطول أحيانا، وأن نعيد عليهم ما يؤكده الكثيرون من أن صناعة البشر في مجتمع المعلومات هي أولى الاستثمارات بالرعاية، وعلينا بالتالي أن نحدد أولوياتنا بأقصى درجات الموضوعية والمنهجية واستشراف المستقبل، وأملي ألا تكون هذه الأولوية من قبيل تلك التي حددها جون آدمز موفدا من الجمهورية الأمريكية الوليدة في خطابه لزوجته عام 1788 وقد بهرته ثقافة باريس وفنونها عندما كتب يقول: "عليّ أن أدرس فنون السياسة والحرب كي يتمكن ابني من دراسة الرياضيات والفلسفة والجغرافيا والعلوم الطبيعية وبناء السفن وعلوم الملاحة والتجارة والزراعة، وذلك حتى يكون لأحفادي الحق في تعلم الفن والشعر والموسيقى والعمارة والنحت وفنون الخزف والمنسوجات".
المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=1620&ID=56