في معاني التشدد ومآلاته
د. وائل مرزا
لن يمضي وقتٌ طويلٌ حتى يجد من يحاول العيش في هذا العالم بتلك العقلية وقد اقتحمت عليه تلك الثقافات ماكان يظنه حِصنه الحصين
في معاني التشدد ومآلاته
كثيراً ما يَغفل بعض الملتزمين من المسلمين عن الآثار السلبية التي تنبثق (عملياً) في واقعنا من شيوع عقلية التشدد، ومن الإفراط في رسم الحدود والموانع والمُحرﱠمات.
لا نتحدث هنا عن النتيجة المعروفة لتلك المشكلة، حين يؤدي تزايدها إلى التطرّف وإلى ممارسة العنف غير المشروع بأي شكلٍ من أشكاله في حقّ الآخرين من البشر، مسلمين كانوا أو غير مسلمين. فرغم أن تلك الظاهرة بحدّ ذاتها في غاية السلبية، إلا أنها معروفةٌ ومشهورةٌ ويجري الحديث عنها بشكلٍ كثير في أدبياتنا الفكرية والشرعية والثقافية، وقد تحدثنا عنها في أكثر من مقال.
أما الحديث في هذا المق ام، فإنه يتمثل في تأثير تلك المشكلة على المصابين بها أنفسهم، وليس على الآخرين. وهو ما أرجو حقاً أن يفكّر به بهدوء وتجرّد وبعيداً عن التشنّج خاصةً أولئك الذين يشعرون بأن حفظ الإسلام وتحقيق مقاصده لا يُمكن أن يحصل إلا من خلال مداخل سدّ الذرائع، ومن خلال رفع سقف الضبط والربط الذي يؤدي، في اعتقادهم،إلى تمييع الدين وإفراغه من مضمونه ومعانيه.
إن الإصرار على تلك الممارسات إنما يدلّ قبل أي شيءٍ آخر على إصرارٍ مؤلم للعيش في مرحلة الطفولة البشرية وفي التمسّك بأساليبها والتشبّث بوسائلها البدائية البسيطة .
وهي ممارسات لن ينتج عنها غير خداع الذات، لأن أقصى ما تستطيع تحقيقه هو محاصرة النفس، ومحاصرة بعض الدوائر القريبة منها، داخل بعض الأسوار الثقافية المحلّية أو الإقليمية، في الوقت الذي تجتاحُ فيه الثقافات المنفتحة هذا العالم من مشرقه إلى مغربه، إلى درجةٍ تتآكل معها حتى تلك الدوائر المغلقة من أطرافها شيئاً فشيئاً.
ولن يمضي وقتٌ طويلٌ حتى يجد من يحاول العيش في هذا العالم بتلك العقلية نفسهُ وقد اقتحمت عليه تلك الثقافات ماكان يظنه حِصنه الحصين، وسَحبت من بين يديه كل غالٍ ورخيص.
إن جميع صور المبالغة التي يمكن وضعها في خانة الغلوّ والتشدّد، من المبالغة في التعلق بالغيبيات، إلى المبالغة في رسم الحدود والموانع والمحرّمات، إلى المبالغة في كبت النّفس والعقل، تدفع الإنسان إلى أن يدخل شيئاً فشيئاً في حالةٍ من الشلل الذّهني والنفسي التي يفقد معها الحيوية العقلية والقدرة على الحركة العملية، بحيث يصبح بين خيارين أمام هذا العالم المتفجر بالحيوية من حوله: فإما أن ينفجر في وجه العالم بصورةٍ من صور العنف أياً كانت، أو يبدأ في الهروب منه تدريجياً وفي الانزواء في قواقع تزداد ضيقاً من الرفض والانسحاب والعزلة، إلى درجة الاستسلام الكامل وانتظار الموت خلاصاً من هذا الواقع الأليم.
ولكن ما يؤلم أكثر هو أن كلا الخيارين يمكن أن يُمارَسا، عن طيب نيّة، في لَبوسٍ خادعٍ من دعاوى و شعارات التضحية والتميّز والغربة والثبات على المبدأ، وغيرها من القيم الصحيحة في ذاتها، ولكن فقط حين تُوضعُ ضمن ذلك الإطار الواسع الذي يطرحه الإسلام عن الدين ودوره العظيم الذي يدفع الإنسان للتفاعل الدائم والمتجدد مع الحياة في كل صورها وألوانها ومتغيراتها.
وحتى لا يكون في الأمر لبسٌ يؤدي إلى الإفراط في مقابل التفريط الذي نشكو منه، فإن من الضرورة بمكان التفكير في مصطلح المُبالغة ودلالاته المقصودة في هذا المقام. فالإيمان بالغيب، وبما هو وراء طاقة الإنسان على الإدراك، وبالقَدَر خيرهِ وشرّه، ليس هو المُبالغة التي نتحدث عنها على سبيل المثال، وإنما المقصودُ بها ذلك التواكل المُستكين، وتلك الظنون الفارغة والأوهام السخيفة والقراءات الخيالية للنصوص والآثار التي تتحدث عن أسباب العزة والنصر والتمكين، في مقابل البحث عن أسباب النصر الحقيقية والأخذ بها، كما يجب أن يكون الحال عليه في سوريا هذه الأيام.
وكذلك، فإن الإيمان الفطري الطبيعي بالحلال البيّن والحرام البيّن ليس المبالغة التي نتحدث عنها، وإنما المبالغة تكمن في طباع التشدد والعنت والقسوة والغلاظة التي تريد أن تفرض نفسها على الرؤية الإسلامية الأصيلة، فتُحرِّم كثيراً من الطيبات ومما أحلَّ الله لعباده، وتريد أن تعيد إلى الناس شرعة الإصر والأغلال بعد أن حرّرهم الله منها .
وأخيراً ، فإن رفض المبالغة في كبت النفس والعقل لا يعني إطلاق العنان للشهوات والغرائز الحيوانية، ولا إغفال بعض حدود العقل أمام علم الله المطلق، ولا إنكار دلالات النص الصحيح المُحكَم، وإنما تعني رفض تقزيم العقل وتقييده ومنعه من التحليق بقوةٍ وعزيمة في آيات الأنفس والآفاق بدعوى إجلال الله. وتعني رفض ممارسات الكبت والتحريم المتعسّفة، ورفض العودة إلى الرهبانية المبتدعة والمرفوضة في أي شكلٍ من أشكالها. فهذه هي المبالغاتُ التي تؤدي إلى الشلل العقلي والنفسي والعملي، وتؤدي إلى افتقاد القدرة على العمل والحركة الفعلية بغرض تحرير الأرض والإنسان من كل القيود.
وذلك هو الشلل العقلي والنفسي والعملي الذي كان يحاصر كثيراً من الجماعات والحركات في العالم العربي والإسلامي، وهو يحاصر بعض من يتحدثون باسم الإسلام في سوريا اليوم.
هذه حقيقةٌ يعترف بها كل مُنصِف ، ونأمل ألا يقع البعض في إنكارها لمجرّد المعاندة. كما نأمل أن تكون حقاً مجالاً لكثيرٍ من الدراسة والتفكير والمُراجعات، خاصة في معرض البحث عن الوسطية الإسلامية في سوريا المُستقبل.
ويرحمُ الله الإمام سفيان بن سعيد الثوري، الذي انعقدت له الإمامة في الفقه والحديث والورع،حين قال فيما نقله عنه الإمام النووي في مقدمات المجموع: "إنما الفقهُ الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيُحسنه كل أحد".
المصدر: صحيفة المدينة.