توطين العلوم في المجتمع العربي.. دراسة تاريخية تحليلية

 

رشدي راشد

قد يكون ضروريًا إحصاء عدد الجامعات ومراكز البحوث، والتذكير بعدد المهندسين والكيميائيين والأطباء وما إليه، لمعرفة المستوى العلمي لأمة أو لبلد ما. إن هذه المعطيات الكمية، مع أنها مهمة دون أدنى شك، لا تسمح بالتعرف على «المجتمع العلمي» أو «الجماعة العلمية» «لهذا البلد أو لهذه الأمة». إن مجموعة من العلماء، مهما كان عددها ومهما كان عدد المؤسسات التي يوجدون فيها، لا تشكل بالضرورة مدينة علمية ولا حتى «مجتمعا علميا»، وذلك «إذا أردنا تكتلا متماسكا ولم نرد تجمعا» كما يقول روسو في كتابه «حول العقد الاجتماعي»، في الفصل الخامس من القسم الأول. والحقيقة هي أن هناك بلدانا اتخذت لنفسها جامعات ومراكز عدة وجميلة، دون أن نتمكن من التعرف فيها على مجتمع علمي أصيل. لقد خلط بالفعل بعض علماء الاجتماع الذين تتلمذوا في مدارس علم الاجتماع الأمريكية، بين مجموعة ومجتمع، وهذا الخلط مرفوض دون تردد من قبل علماء الاجتماع التابعين لمدارس وابير، وسيمل ودوركايم أو ماركس. والواقع هو أنه، عند التحدث عن جماعة أو مجتمع، يجب تحديد المقاييس والعوامل التي تجعل من تجمع ما، أكان صغيرا أم كبيرا، مجتمعا واعيا لنفسه ومتميزا عن المجتمعات الأخرى، إن الكلام عن المجتمع العلمي مهمة أبعد من أن تكون سهلة، سوف نوجه اهتمامنا فقط نحو المقاييس والعوامل المتعلقة بالعلم وبتاريخه.

          لا يمكن الكلام عن المجتمع العلمي دون الكلام عن البحث العلمي نفسه. إن المجتمع العلمي يكون موجودا عندما توجد تقاليد وطنية في البحث العلمي تمهد لوجود هذا المجتمع العلمي، وتقدم له الخصائص التي تميزه. وإذا انعدمت التقاليد الوطنية في البحوث، لا يبقى سوى كمية من المعلمين وتجمع من التقنيين، وما إليه....، ذوي تكوين متساو في تنافره وفي عدم تجانسه. أما التقاليد العلمية الوطنية، إذا ما وجدت، فإنها تظهر في أسماء العلماء وفي عناوين مؤلفاتهم، وفي المواضيع التي طوروها، والتجديدات النظرية والتقنية التي قاموا بها. إن كل مسألة التطور العلمي تكمن في القدرة على خلق مثل هذه التقاليد في البحث، بحيث يكون عاملا في تكامل مجموعات العلماء وفي تكوين المجتمع العلمي.

          سوف نورد، لإيضاح ما أكدنا، ثلاثة أمثلة مأخوذة من تاريخ العلوم في هذه المنطقة من العالم، الأول منها يرجع إلى القرن التاسع الميلادي في بغداد، والثاني يعود إلى القرن التاسع عشر في القاهرة. والمثل الثالث يعود إلى النصف الأول من القرن العشرين في القاهرة أيضًا. وربما تساعدنا المجابهة بين هذه الأمثلة على طرح المسألة بوضوح. ولكن، قبل أن نورد هذه الأمثلة، يجب علينا أن نذكّر ببعض الوقائع التاريخية.

          يتوجب علينا أن نميز أولا بين «العلم الكلاسيكي» و«العلم الحديث» و«العلم الصناعي». لقد تطور العلم الكلاسيكي فيما بين القرن التاسع الميلادي والنصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي. ونشأ في أول الأمر في المراكز المدنية الإسلامية وباللغة العربية. إن الترجمات اللاتينية لمؤلفات علماء الإسلام والبحوث التي قام بها البعض على المنوال نفسه «من أمثال فيبوناتشي في الرياضيات» كانت تشكل جزءا مكملا من هذا العلم الكلاسيكي. ولقد تم تنشيط هذا العلم من جديد في نهاية القرن السادس عشر، وخلال النصف الأول من القرن الذي يليه. بعد أن بدأ يضمحل في مكان نشأته. وكان هذا العلم مكتوبا باللغة المسيطرة التي كانت العربية في بادئ الأمر ثم اللاتينية فيما بعد، وكان مزدهرا في المراكز المدنية.

          أما «العلم الحديث» فهو أوربي، ويمكن أن نؤرخ بدايته بشكل تقريبي مع نيوتن وخلفائه في القرن الثامن عشر الميلادي، أو بعد ذلك الوقت. إننا نقصد، بوصفنا لهذا العلم بـ«الأوربي»، إنه نشأ وتطور في أوربا الغربية فقط. يتميز هذا العلم الحديث عن العلم الكلاسيكي بنزعة قوية إلى توحيد فروعه. وكان نيوتن أول من حاول إيجاد تفسير لتوحيد الميكانيكا والمناظر والمغنطة في آن واحد. ولقد عمق خلفاؤه، انطلاقًا من دالمبير وحتى ماكسويل هذا المشروع ووسعوه وطوروه. وتطلبت هذه النزعة أشكالا جديدة من التعاون بين العلماء في الاختصاصات المختلفة. ولم يقتصر هذا العلم، بخلاف العلم الكلاسيكي، على لغة مسيطرة. وذلك أن ثلاث لغات على الأقل فرضت نفسها إلى جانب اللاتينية وهي الإيطالية والإنجليزية والفرنسية، وكذلك الألمانية «أولير وغوس» بدرجة أقل. ويتميز هذا العلم عن العلم الكلاسيكي، بالإضافة إلى ذلك، بأشكال من التنظيم خاصة به. كان نموذج متحف الإسكندرية قد أصبح لاغيا منذ زمن بعيد. ولم تعد كافية نماذج «بيت الحكمة» في «بغداد» و«بيت العلم» في القاهرة والمدارس الدينية - النظامية والمستنصرية، وحتى الأزهر - والمراصد والمستشفيات. وتطلب الأمر إنشاء مراكز حقيقية للبحوث مع مخابرها، وهذا هو الدور الذي لعبته المجامع العلمية في القرن الثامن عشر الميلادي، وتوجب كذلك إنشاء مدارس مخصصة لتدريس العلوم ومدارس أخرى مخصصة لتطبيقها، ولقد أصبحت هذه المدارس الأخيرة ضرورية بفضل خاصة أخرى من خصائص العلم الحديث، وهي تقوية البعد التطبيقي الهادف إلى المنفعة. ولكن يجب ألا ننخدع: إن التطبيق لم يكن في الفترة الأولى إلا على شكل أمنية. وقد توجب انتظار الكيمياء والمغنطيسية الكهربائية والدينامية الحرارية وغيرها، قبل أن تتحقق أمنية التطبيق هذه. وأخيرا، إن هذا العلم الحديث يتميز عن العلم الكلاسيكي بتطلبه نشر القواعد العلمية والأخبار العلمية، أي أنه يعتبر العلم ثقافة، وهذا ما لم يكن قد حصل من قبل. وهكذا رأينا عندئذ، على شكل أكبر مما كان سابقا، بروز الفلسفات العلمية، ومنها ليس فقط فلسفات العلماء، التي كانت موجودة من قبل، بل تلك الخاصة بالفلاسفة «دالمبير، هيوم، كانط...»، وكذلك تكون أيضا تاريخ العلوم كمادة مستقلة وتم تأليف الموسوعات العلمية، إلخ...أما الفلسفة العلمية فلم يعد لرجل «عصر الأنوار» غنى عنها.

          وهذا ما جعل، وفقا لهذه الظروف، مفهوم المجتمع العلمي نفسه، وتكوين هذا المجتمع وتأثيره مغايرا لما كان في عصر العلم الكلاسيكي، وبدأ يظهر إلى الوجود تصور آخر للتعليم والبحث. ونقول باختصار إنه لم يعد ممكنًا القيام بالتعليم أو بالبحث دون تدخل السلطة والدولة. وقد سعت الدول الجديدة التي ظهرت في بداية القرن التاسع الميلادي إلى تملك هذا العلم بالتحديد. ونذكر في هذا الخصوص مثل مصر ومثل اليابان. وكانت الدولة الوطنية مدفوعة بشكل ظاهر في كلتا الحالتين بدوافع استراتيجية وعسكرية واقتصادية أيضا. لكن مثل مصر يتبين أن الدولة لا تكفي وحدها «لتملك» العلم الحديث. وكان يتوجب على أصحاب القرار، ولا نقصد العسكريين منهم فقط، بل النخبة السياسية والأوساط الاقتصادية وكذلك العلماء المكونين، أن يلتزموا التزاما إراديا واعيا بالعمل على تملك العلم. لقد كان هذا الالتزام الإرادي مفقودا لدى أصحاب القرار في منتصف القرن التاسع عشر، إذا استثنينا بعض الحالات النادرة «رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك». وجاء فقدان القدرة على القرار بسبب السيطرة الاستعمارية، ليؤدي إلى فشل المشروع. وسوف نعود مرة أخرى إلى الحديث عن هذا الموضوع.

          يتميز «العلم الصناعي»، أي علم المجتمعات الصناعية المتقدمة التي تنتج وتستهلك العلم على درجة عالية، بتصنيع البحث، وتعني كلمة تصنيع البحث، ليس فقط أن هذا العلم يقوم بتطوير التطبيقات العلمية على الصناعة، أو تطوير البحث الصناعي بحد ذاته، بل إن البحث العلمي نفسه يجري في مؤسسات ومخابر «المركز الوطني للبحوث العلمية، مركز الدراسات والبحوث النووية، إلخ» أصبحت هي نفسها خاضعة لطرائق التنظيم والإدارة الخاصة بالممارسات الصناعية، فصار مفهوم «المجتمع العلمي» ذا معنى مختلف عن ذلك الذي نعرفه مع العلم الحديث. إن المواضيع نفسها لهذا العلم الجديد، حسب تعريفاتها الخاصة، تتعلق بشكل قوي بالتقنيات المعقدة، ولقد عرفت بحق بأنها «ظاهراتية - تقنية»، أي أن صياغة هذه المواضيع وإنتاجها في بعض الأحيان يتطلبان تعاونا بين العديد من الاختصاصات العلمية والتقنية أيضا. وغالبا ما تتعدى كلفتها القدرة المالية لبلد واحد متوسط الكبر. إن لغات هذا العلم متعددة، ولكن اللغة الإنجليزية مسيطرة فيه.

          يمكن أن نستخلص من هذه النظرة الإجمالية عدة عبر عامة قبل أن نعود إلى الأمثلة.

          العبرة الأولى: إن الاستقراء التاريخي يبين أن العلم - أكان كلاسيكيا أو حديثا أو صناعيا - لم يستطع أن يتأسس وأن يتطور دون أن تكون المؤسسات الخاصة به قد أنشئت في أول الأمر. ثم استحدثت مهنة الِعالم وتبعتها التطبيقات العلمية. وحتى لو لم يكن لهذه العبارات المعنى نفسه خلال الفترات الثلاث للعلم، فإن المراحل التي ذكرناها تبقى ضرورية في كل حالة.

          إن تأسيس العلم يعني إنشاء المؤسسات التي يمكن أن يجري فيها البحث العلمي: دار الحكمة والمراصد والمستشفيات والمكاتب والمدارس في بغداد والقاهرة وفي سمرقند...إلخ. المجامع العلمية أولا، ثم الجامعات في لندن وباريس وبرلين وميلانو وسان - بطرسبرج. أما العلم الصناعي، فإننا نعرف جيدا مؤسساته الكبرى والعديدة. ولقد توجب على المؤسسات العلمية، أن تدافع غالبا عن نفسها في مواجهة مؤسسات أخرى قوية وذات سلطات متعددة سياسيا ودينيا واقتصاديًا.

          ولقد تمت «مهننة» البحث، أي أن البحث أصبح مقبولاً كمهنة، وهكذا كان مترجم المأمون وعالم الفلك لديه وأعضاء بيت الحكمة، وأعضاء بلاط عضد الدولة...إلخ، ينتمون إلى مجموعات من المهنيين لهم رواتبهم. وهكذا كان وضع لايبنتز في بلاط هانوفر. ولقد بدأت المجامع العلمية، تعطي للباحثين، بشكل منتظم، مكافآت على بحوثهم، ثم أصبح الباحث موظفا ذا مهنة، ولم نعد نرى هذا النوع من العلماء، الهواة مثل ديكارت وفيرما، تطور المجتمع العلمي على أساس الاختصاصات التي تزايد عددها بشكل دائم، مع طاقم من الموظفين المتخصصين الذين لا يحصلون على شهاداتهم وألقابهم إلا بعد دراسة طويلة. وأصبح البحث، بهذا المعنى، مهنة كسائر المهن الأخرى مندرجة ومعترفا بها ضمن نظام الإنتاج.

          العبرة الثانية: يمكن أن نستخلصها من التاريخ: توجد ثقافات ومجتمعات مؤهلة أكثر من غيرها لاستقبال، وبالتالي لتملك العلم الحديث. وهذه المجتمعات هي تلك التي ورثت من تاريخ طويل في العلم الكلاسيكي. لكن هذه القوة الكامنة تبقى دون جدوى إذا لم يجر تنشيطها بشكل إرادي.

          العبرة الثالثة: لم يكن هناك تطور متساو لمختلف المناطق، سواء أكان العلم كلاسيكيا أم حديثا أم صناعيًا: لقد وجدت المراكز المتقدمة في تطورها مع ما أحاط بها، وكان أقل تطورا. مراكز العلم الكلاسيكي هي بغداد والقاهرة وقرطبة وسمرقند. قبل أن تتحول إلى بولونيا وبادو والبندقية، ثم إلى باريس ولندن، أما اليوم فإن هذه المراكز كثيرة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوربا واليابان.

          العبرة الرابعة: لم يكن العلم أبدا، سواء أكان كلاسيكيا أم حديثا أم صناعيا، شيئا ينقل من مجتمع إلى مجتمع آخر. كذلك ليس هناك نشر ممكن للثقافة العلمية من مجتمع إلى مجتمع آخر - بواسطة الترجمة أو نقل العلماء وما إليه - دون أن تحضر لأجل ذلك البنية التحتية اللازمة. لم تكن أوربا لتقدر على الاستفادة من المعارف العلمية، في بداية الثورة الصناعية. لو لم تعمم التربية الابتدائية، من جهة، ولو لم تنشر الثقافة التقنية بطرق عدة، من جهة أخرى. لم يستطع أي مجتمع أن يتملك العلم دون أن يبني لنفسه وبنفسه تقاليده الخاصة بالبحث.

          سوف نأخذ ثلاثة أمثلة، لأجل إيضاح هذه الفكرة الأساسية في نظرنا وهي المتعلقة بالمجتمع العلمي وبالتقاليد الوطنية في البحث. المثال الأول هو مثال بغداد الخاص بالعلم الكلاسيكي، والآخر هو مثال القاهرة المتعلق بالعلم الحديث ثم مثالها أيضا بالعلم الذي قد أصبح صناعيا. لن نتكلم، نظرا لضيق الوقت، عن إدخال العلم الحديث في مصر وعن فشله النسبي.

          المثال الأول: لنرجع إلى بغداد في بداية القرن التاسع الميلادي، ولنلاحظ أن حركة ترجمة النصوص لم تكن في بدايتها، بل في أوائل فترتها الثانية التي ستوصلها إلى الأوج. لم يبق من الفترة الأولى لهذه الترجمة إلا بعض الآثار، أو عنوانا أحيانا، وهكذا نعلم بواسطة النديم بوجود ترجمة قديمة لمقدمة ثيون حول كتاب المجسطي. لكن هذه الآثار لا تسمح بتكوين صورة كاملة لهذا النشاط في الترجمة، وهي تثبت ببساطة أنها كانت نتيجة لمبادرات فردية.

          أما الفترة الثانية التي تهمنا الآن، والتي تميزت بأهميتها الكبرى، فإنها تشكل جزءا من نشاط أوسع بكثير، ويمكن أن ندرج هذا النشاط ضمن حركة «إنشاء المؤسسات العلمية».

          لقد بدأت هذه الحركة التدريجية بالوصول إلى العلوم التي كانت حديثة الظهور والتي كانت متعلقة بالمجتمع الجديد، وبتنظيمه وبعقيدته، وهي علوم اللغة وعلوم الكلام والفقه والدين والتاريخ والتفسير...إلخ. لقد طُرحت، انطلاقا من منتصف القرن الثامن الميلادي، أسئلة جديدة لغوية وتفسيرية، ودينية وقانونية، وما إليه، ولقد تزايد عدد العلماء والمؤلفات في هذه الميادين بشكل كبير، وازدادت الاختصاصات بشكل مطرد، وبرزت مدارس متنافسة ومتميزة بمهننة اعترف بها أكثر فأكثر لكن هذه الحركة لم تشمل العلوم الواردة من الإرث الهلينيستي، ومنها العلوم الرياضية على الأخص إلا في بغداد وفي القرن التاسع الميلادي. إن دراسة أكثر تفصيلا تبين أن الاهتمام الذي حظي به الإرث اليوناني مرتبط جزئيا بنشاط البحث في العلوم الإسلامية. إن الروايات، المعروفة من قبل الجميع، حول المتخصصين في هذه العلوم، مثل الخليل بن أحمد تؤكد هذا الارتباط. ونحن نفهم عندئذ كيف توجب انتظار القرن التاسع الميلادي حتى تشمل هذه الحركة علوما الإرث الهلينيستي. ونحن نفهم أيضا أن مشروع الترجمة، في بغداد في ذلك العصر، كان يخص علومًا عدة في آن واحد - الطب وكذلك الهندسة وعلم الفلك - ولم يكن يقتصر على الطب والتنجيم أي على العلوم ذات المنفعة العملية، كما ادّعى البعض، ونحن نصرّ على تجنب هذه الرؤية الخاطئة.

          ولكن لماذا جرى نقل علوم الإرث الهلينيستي في تلك الفترة وفي ذلك المكان؟ يجب أن نذكر سببين لذلك، الأول معروف من قبل الجميع وهو وجود طلب من المجتمع. كل الدراسات حول النقل من اليونانية إلى العربية تبين أن الخلفاء ونصيري العلم أسسوا المكتبات والمراصد وشجعوا بكرم الترجمة والبحث. ولكن ما يغفل البعض دائمًا عن قوله هو أن هذه المؤسسات لم تكن تضم أفرادًا فقط، بل مجموعات تشبه الفرائق، تتنافس وتتبارى فيما بينها، هذه المجموعات والمراكز الاجتماعية التي استحدثت للترجمة والبحث، ساعدت على استيعاب العلوم الهيلنيستية داخل المدينة العلمية التي كانت في طور الإنشاء والتوسع. لنذكر بأن بيت الحكمة الشهير كان يضم علماء الفلك مثل يحيى بن أبي منصور، ومترجمين مثل الحجاج بن مطر - مترجم أقليدس وبطلميوس - ورياضيين مثل الخوارزمي، وكانت هناك مجموعة أخرى في بيت الحكمة وهي مجموعة بني موسى التي كانت تضم هلال بن هلال الحمصي، مترجم أبولونيوس، وكذلك المترجم والرياضي البارز ثابت بن قرة، ونحن نعلم، أخيرا، أن بعض العلماء كانوا يتجمعون حول حنين والكندي وحول آخرين. إن هذا التنظيم للترجمة يلقي الضوء على إحدى سماتها الأكثر أهمية في ذلك العصر، وهي سمة الضخامة. لقد تمت فعلا خلال عدة عشريات من السنين ترجمة «أصول» أقليدس ثلاث مرات، وترجمة «المجسطي» مرتين، كما ترجمت كتب أقليدس وبطلميوس الأخرى وكتاب «المخروطات» لأبولونيوس. ولقد ترجمت أيضا خلال هذا القرن مؤلفات عدة لأرشميدس وسبعة كتب في الحساب لـ ديوفنطس، وأعمال ثيون الإسكندري وبابوس وغيرها من المؤلفات.

          ولم يكن هذا الجهد المكثف في الترجمة منهجيا، ولم يتبع سبيل الارتقاء من السهل إلى الأقل سهولة، كما لم يتبع التسلسل التاريخي للمؤلفين اليونانيين. وهذا يعني أن عملية الترجمة لم تخضع لمشروع سابق التصور. لكن سيكون من الخطأ الاعتقاد بأنهم كانوا يترجمون كل نص كان يعثر عليه. بل إن الروايات التي أوردها المترجمون أنفسهم في ذلك العصر تبين بالعكس أن العملية كانت مقصودة: إذ كان يتم اختيار النص ثم يبحث عن مخطوطاته. كل هذه المظاهر ترجمة ضخمة، دون ترتيب، ومع ذلك مقصودة ومنظمة، ترتبط بالسبب الثاني الذي يفسر لماذا تطورت، في بغداد في بداية القرن القرن التاسع الميلادي، عملية استيعاب علوم الإرث الهلينيستي.

          إن هذا السبب الثاني الذي لم يلفت النظر إليه مع أنه ظاهر، هو الارتباط الخاص بين الترجمة والبحث: فالبحث قد يسبق الترجمة نفسها أو قد يتزامن معها أو قد يكون بطريقة غير مباشرة مستوحى من ترجمة نص آخر في ميدان مجاور، لم يكن الهدف، من ترجمة النصوص العلمية في ذلك العصر، كتابة تاريخ العلوم، بل لوضع النصوص العربية الضرورية لتكوين الباحثين، أو لمتابعة البحث، فترجمة أرشميدس كان لها أن تسمح بالدراسات الخاصة بقياس المساحات والأحجام، ولكنها لم تكن تهدف إلى الإسهام في كتابة تاريخ هذا الفصل أو إلى شرح نص أرشميدس، إننا نلح على هذا الوجه لأنه أثر على اختيار النصوص للترجمة، ووجه الطريقة والأسلوب في الترجمة. أي أن الأولويات المتبعة ضمنيًا في اختيار الكتب للترجمة، وفي تسلسل الترجمات لا تأخذ معناها إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار نشاطات البحث في زمانها.

          وهكذا تظهر سمة رابعة للترجمة العلمية، وهي أنها من أعمال باحثين في المقام الأول، مثل حنين وثابت بن قرة وقسطا بن لوقا، وهم، كما يمكن أن نتوقع، علماء يتقنون أيضا بشكل كامل اللغة اليونانية، وإذا كان صحيحا أن الترجمة العلمية قد أنجزت مباشرة وبكثافة من اليونانية دون استخدام السريانية كوسيط، فإنها كانت مع ذلك من أعمال علماء مهتمين بالمعنى، لذلك فإن مظهرها الحرفي يخفي بعض التأويل وحتى بعض التصحيح للنص.

          وهكذا رأينا أن إنشاء المجتمع العلمي قد تم في أواخر القرن التاسع الميلادي من خلال البحث وبواسطة البحث إذا صح القول. ولم يحصل في وقت من الأوقات تقليد لأي نموذج، بل تم اختيار طريق تجريبي، ولقد تتابعت مراحل هذا التكوين: بحث مبتكر، في العلوم الإسلامية، ولد في آن واحد الوسط والجمهور وكذلك الوسائل الضرورية - اللغوية مثلا - للسير قدما. ولن نفهم تكوين المدينة العلمية، خلال القرن التاسع، إذا أهملنا هذا البحث في العلوم الاجتماعية. إن حركة تملك الإرث الهلينيستي، مع هذا المشروع المكثف للترجمة، كانت ملازمة لبحث مبتكر، أي متميز بمسائله وبموضوعاته الخاصة. وهكذا نشاهد، دفعة واحدة، تكوين تقاليد جديدة لم تكن معروفة من قبل العلماء اليونانيين الذين ترجمت مؤلفاتهم: التقليد الجبري، تقليد الهندسة الجديدة التي تضم هندسة متناهية الصغر، وهندسة موضعية، تقليد جديد في البحث في علم الفلك، حيث يجتمع علم فلك أكثر هندسة مع علم فلك رصدي،...إلخ. لم تشكل هذه التقاليد الجديدة الأصول التي قام عليها المجتمع العلمي فقط، بل عوامل تكامله طيلة أربعة قرون على الأقل.

          المثال الثاني: لنعبر الزمن فنتوقف قليلا في بداية القرن التاسع عشر الميلادي قبل أن نمر على القرن الذي يليه. وسنبدأ بالكلام عن مصر عند خروجها من عهدي الانحطاط العثماني والمملوكي، أي عند المحاولة الأولى للتحديث الاقتصادي والعسكري والعلمي. لقد قررت الدولة الجديدة في ذلك الوقت، لأسباب استراتيجية وعسكرية واقتصادية، تملك العلم الحديث، أي العلم والتقنيات الأوربية في القرن التاسع عشر الميلادي، ليس بالإمكان، لأسباب بديهية، أن نتناول هنا من جديد تاريخ هذه الحركة ولا تاريخ مصر طيلة ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن. بل إننا سنقتصر على توضيح بعض السمات المهمة لحركة النقل هذه.

          لقد تطلب هذا النقل، الذي فرضته سياسة التطوير الاقتصادي والسياسي، في أول الأمر إصلاحًا جذريًا للنظام التربوي. وهكذا أضيف إلى النظام التقليدي المعمول به نظام حديث حتم إضعاف النظام السابق، ولكنه لم يلغه، بل على العكس استفاد منه، هذا النظام الجديد الذي توجب عليه تقديم الإطارات التقنية والإدارية، التي كان الجيش والدولة بحاجة إليها، كان يأخذ أكبر عدد من أعوانه من بين الذين تربوا في النظام التقليدي. وهكذا لم يكن النقل عملا أو سلسلة من الأعمال الجزئية، بل كان يخص النظام التربوي برمته. لقد كانت الدولة الجديدة التي كانت تحتكر النشاط الاقتصادي، تتطلع في الواقع إلى تكوين قوة عسكرية مهمة وإدارة مجدية. لقد أنشأ محمد علي، بمساعدة العسكريين والمهندسين والأطباء الأوربيين، بل والعمال الأوربيين وخاصة اتباع سان سيمون، المدارس المتخصصة: المدارس العسكرية والبحرية والبيطرية، ومدارس الطب والإدارة والمحاسبة...إلخ. أي تلك التي كانت ترتبط مباشرة بالجيش والإدارة. وأنشأ أيضا المدارس المهمة بالنسبة للجيش والصناعة العسكرية والمدنية: مدرسة المهندسخانة مع فروعها المتعددة - فروع المناجم، والجسور والطرق، والفرع المركزي، مدرسة الكيمياء، مدرسة الفنون الصناعية، المدرسة الزراعية....إلخ. وتم إنشاء مرصد ومكتبة، وإذا ألقينا نظرة مثلا على المواد التي كانت تدرس في المهندسخانة، بعد تأسيسها بشكل نهائي في سنة 1836، نجد علوم ذلك العصر: الهندسة العليا، الجبر العالي، المثلثات، الهندسة الوصفية، الهندسة التحليلية، حساب التفاضل والتكامل، الميكانيكا، الفيزياء، علم مساحة الأرض، الإحصاء، علم الفلك...إلخ. ولكن الدولة أنشأت، بهدف تزويد هذه المدارس بالتلاميذ القادرين على متابعة مثل هذا التعليم، نوعين من المدارس، المدارس الابتدائية والمدارس التحضيرية، كما أنشأت في النهاية مجلسا للتعليم العام لمراقبة وتوجيه هذا النظام التربوي، الذي وضع لتملك التقنيات الحديثة والعلم الحديث. ولكن إذا نظرنا عن قرب، نجد أن هذه المدارس الابتدائية كانت في الواقع نسخة مجددة لمدارس النظام التقليدي الابتدائية، إذ تدرس فيها العلوم اللغوية والدينية نفسها، التي كانت تدرس في جامعة الأزهر التقليدية، بالإضافة إلى الحساب والهندسة والجغرافيا. وهكذا كان النظام التقليدي حاضرا، على هذا المستوى، ضمن النظام الجديد، وذلك ليس فقط بعلومه وكتبه، بل أيضا بأعوانه: المعلمون كانوا يختارون من بين أولئك الذين أتموا دراستهم داخل النظام التقليدي. وكانت تدرس في المدارس التحضيرية اللغات والهندسة - كتاب لوجاندر والحساب والجبر والجغرافيا والتاريخ والرسم. ولقد أضيف في سنة 1841 تعليم اللغة الفرنسية التي أصبحت بذلك اللغة الأوربية الأولى التي كانت تدرس في المدارس الثانوية. يتبين إذن أن هذا البرنامج، المتبع في المدارس الابتدائية والتحضيرية، كان برنامجا انتقاليا بين النظام التقليدي والنظام الحديث في التعليم. وكان اختيار التلاميذ - على الأقل في البداية - وتنظيم المدارس يجري وفقا للممارسات التي كانت متبعة في الجيش. وكان النظام في مجمله ثقيلا جدا وديوانيًا «بيروقراطيا».

          ونحن نرى جيدا، على أي حال، أن النظام التقليدي واصل بقاءه مع النظام الحديث، بل إنه كان سندا له: المواد المدرسة والكتب والطاقم التعليمي بالإضافة إلى الشخصيات المهمة في حركة النقل. وذلك أن عددا من أعضاء النظام التقليدي قد وظفوا لمراجعة وترجمة الكتب الأوربية، ولقد ألفوا معاجم تقنية بالاستعانة بمفردات العلم الكلاسيكي، وكان بعضهم تلاميذ في المدارس الكبرى - مدرسة الطب والمهندسخانة - وأرسل آخرون في بعثة إلى الخارج. وباختصار، تطلب النقل إعداد نظام تربوي جديد، استند إلى النظام القديم الذي فقد مركزه علميا واجتماعيا.

          السمة الثانية لهذا النقل هي أنه تم بدفعة واحدة باللغة الوطنية، ولم تفرض لغة أوربية لتعليم العلوم، كما جرت عليه العادة في المستعمرات. بل بُدئ بإدخال نظام ترجمة شفهي قبل تكوين الإطارات المحلية، ولقد أثار هذا الموقف حركة تعريب للمؤلفات والموجزات، وحركة نشر للمعاجم والقواميس. وتم اللجوء من أجل تأمين هذا التعريب إلى وسيلتين، الأولى هي تأسيس مدرسة مخصصة لتكوين المترجمين، والثانية هي إرسال بعثات الطلاب إلى الخارج. أسست مدرسة للترجمة، سنة 1835، أما النظرية التي اعتمدت عند تأسيسها، فقد صيغت كما يلي من قبل رئيس الدولة نفسه: «كل ما هو مفيد في الأنظمة الغربية قد كتب من قبل مؤلفيهم، فإذا ترجمناه يمكننا اتباعه». واحتوت هذه المدرسة في أربعة فروع تدل على الأهداف المقصودة وهي فروع الرياضيات، الطب والفيزياء، الأدب، والتاريخ والجغرافيا، واللغة التركية. ولم يحتو البرنامج على اللغات فقط - العربية والفرنسية خاصة - بل شمل عناصر من الرياضيات والتاريخ والجغرافيا. وكان عدد من أعضاء هذه المدرسة «من الأساتذة والتلاميذ» من خريجي المدارس التقليدية، وأصبح العديد من تلاميذها القدامى مترجمين كبارا، وصار بعضهم من الشخصيات الفكرية البارزة للجيل الجديد، مثل رفاعة الطهطاوي.

          كانت البعثات متعددة، ولكنها خصت أساسيا الميادين العلمية والتقنية. ويمكننا إحصاء البعثات التالية بعثة إلى إيطاليا عام 1813، سبع بعثات إلى فرنسا في 1818، 1826، 1844، 1832، 1847، 1845، 1848، حيث إن مدرسة مصرية انشئت في باريس لتكوين هؤلاء المبعوثين. أرسلت بعثات إلى إنجلترا وإلى النمسا - 1829، 1845، 1847، 1848 - حتى أن بعثة أرسلت إلى المكسيك. وجرت العادة على أن يترجم كل طالب، عند عودته، كتابا أجنبيا في ميدان اختصاصه إلى اللغة العربية. وكان كل الكتب المترجمة مخصصا لتهيئة مهندسي وكيميائيي المستقبل. وهكذا نجد من بين الكتب الرياضية «الهندسة الوصفية» لــ«مونج»، «الهندسة» لــ لوجاندر، «الجبر» لــ ماير، و«الهندسة الوصفية» لـ دوشين.

          والسمة الثالثة التي تغلب على هذا النقل هي الاختيار العملي «البرغمتي» والتطبيقي. فتفحص المواد المدرّسة والكتب المترجمة وأهداف البعثات، يظهر بشكل كاف أنه قد جرى اختيار مقصود للعلوم التطبيقية أو لتلك التي هي شديدة الارتباط بها، بل إن ما أدخل من غيرها من العلوم، فلعلاقته بالعلوم التطبيقية، وفقا لحاجاتها في التكوين. وتركز النقل، تبعا لذلك، على التقنيات الصناعية والعسكرية والصحة، أكثر مما تركز على العلوم نفسها. وهكذا نجد، بين الكتب المترجمة، عدة كتب تعالج الهندسة الوصفية، بينما لا نجد على سبيل المثال أي كتاب في نظرية الأعداد، والكثير من المؤلفات ارتبط مباشرة بالتطبيقات الصناعية.

          والسمة الرابعة لهذا النقل الجديرة بالملاحظة، هي أنه قد جرى دون البحث، أي أن الاهتمام توجه نحو نتائج هذا العلم أكثر مما توجه نحو الوسائل التي تنتجه. ولنأخذ مجال المؤسسات أولا، فقد أنشئت على الطراز الفرنسي خلال العقود الأولى من القرن التاسع عشر المدارس المختلفة في الهندسة والطب والصيدلة، وما إليه، ولكنْ لم يفكر أحد في إنشاء مؤسسة علمية واحدة مخصصة للبحث. وكان لهذا الوضع في تلك المرحلة عدة نتائج أدت كلها إلى غياب التقاليد العلمية الوطنية وإلى إقامة نوع من التبعية العلمية الدائمة للبلدان الأوربية. فكان من النتائج الملموسة لهذا الوضع أن العالم الشاب الذي كان منتجا في البحوث خلال إقامته في أوربا، صار يقلل من بحثه أو يوقف بالفعل كل بحث جديد بعد رجوعه. ولم يكن لهذا العالم نفسه من يخلفه، بسبب غياب مؤسسات البحث. ولنعط مثالا، من بين أمثلة أخرى، يدور حول سيرة العالم الفلكي محمود الفلكي. كان أستاذًا في المهندسخانة في القاهرة انطلاقًا من سنة 1834، ثم أرسل في بعثة إلى أوربا. ولقد نشر خلال إقامته هناك، في مذكرات المجامع العلمية المختلفة - البلجيكية، الفرنسية عدة بحوث حول الروزنامات وحقل الأرض المغناطيسي. ثم تابع، بعد رجوعه إلى مصر وخلال عدة سنوات، بحوثه في المواضيع التي كان يعالجها في أوربا، فرسم أول خارطة فلكية وراثية (طوبوغرافية) لمصر، ورصد كسوف الشمس في مصر في 18 يوليو سنة 1860. ثم اهتم بعد ذلك بدراسات لم تكن لها علاقة بعلم الفلك - الجغرافيا وعلم الأرصاد الجوية. وشغل مرتين منصب وزير ولم يترك أي تلميذ بعده.

          ولكن، بالرغم من هذا العائق الكبير الذي منع تأسيس مدينة علمية حقيقية، فإننا نشهد بداية لتملك العلم: فالتنظيم العسكري للتعليم ترك مكانه لتنظيم مدني، وأصبح الطاقم التعليمي مكونا في غالبيته من أهل البلاد، والتعريب أخذ يتقدم ويتكامل. هذا هو الوضع الذي كان سائدا قبيل الاحتلال البريطاني، سنة 1882، الذي أوقف هذه الحركة بشكل قاس، ولكن هذه مسألة أخرى لن نعالجها.

          إن هذه التجربة، التي قام بها محمد علي، كانت بنفسها ضحية، على كل حال، لوهمين سيعاد الوقوع بهما مع الأسف، في كثير من البلاد النامية. الوهم الأول هو توجيه الاهتمام نحو نتائج العلم دون تأمين الوسائل والتقنية للمجتمع بكامله. أما الوهم الثاني فهي نتيجة للفكرة الأولى، وهي الاقتناع بإمكان الاستغناء عن البحث الأساسي.

          المثال الثالث: المثال الأخير الذي نريد التكلم عنه يخص مصر في النصف الأول من القرن العشرين، وسنقوم بذلك من خلال سيرة العالم علي مصطفى مشرفة (1898 - 1950).

          كان علي مصطفى مشرفة تلميذًا في دار المعلمين التي تخرّج فيها سنة 1917، وأرسل إلى إنجلترا ليتابع دراساته. حصل في البداية على شهادة (B.Sc) في الرياضيات سنة 1920. لقد قارن، في رسالة له مؤرخة في 6 ديسمبر 1918 عندما كان تلميذا في نوتنغهام كلودج في لندن، بين مستوى التعليم الذي تلقاه في مصر وبين ذلك الذي تلقاه في لندن، وهو يكتب بخصوص امتحان «Interscience»: «أما الرياضيات، في هذين القسمين، فإنها سهلة جدا ولا يفوق مستواها، إلا قليلا، مستوى القسم الثاني من الشهادة الثانوية العامة، أما القسم النظري من الفيزياء فمستواه مماثل لمستوى دار المعلمين في مصر، في حين أن القسم العملي يفوق قليلا المستوى المصري. وكذلك هو الأمر بخصوص الكيمياء». هذه شهادة قيمة، وأقل ما يمكن قوله هو أن التعليم في مصر، في تلك الفترة، لم يزل يحضر هذا الجيل لمتابعة الدراسة على مستوى دولي.

          لقد نال مشرفة، على أي حال، شهادة الدكتوراه في الفلسفة بعد ثلاث سنوات سنة 1923، وعاد إلى مصر، إلى دار المعلمين، ثم سافر من جديد إلى لندن سنة 1923 لمناقشة رسالة الدكتوراه في العلوم، وكان في السادسة والعشرين من عمره.إن أعمال مشرفة العلمية البحتة تمتد طيلة 27 سنة من 1922 إلى 1949، وتتميز بسمتين، فهي قليلة في عددها - عشرون مقالا بأجمعها - كما تم إنجازها بشكل متواصل، رغم المهام الإدارية وواجبات الشخصية العامة التي أصبحها فيما بعد، وحتى العزلة التي فرضتها الحرب العالمية الثانية.

          إن هدفنا هنا هو أن نبين الآثار السلبية لغياب التقاليد الوطنية في البحث على تكوين المجتمع العلمي، بالرغم من وجود المدارس وحتى الجامعة، وسنبين أيضًا وعي مشرفة بهذا الوضع وجهده لمعالجته. سنتفحص، لأجل ذلك، مع بعض التفاصيل، الحياة العلمية لمشرفة التي تنقسم إلى فترتين: الفترة الإنجليزية والفترة التي تلي عودته إلى مصر.

          إن الأعمال الأولى لمشرفة،أي الأبحاث التي قام بها للحصول على درجتي الدكتوراه في الفلسفة وفي العلوم، تدور حول الطيف في الفيزياء الكمية، في تلك الفترة، فقد درس طيلة ثلاث سنوات، بين سنة 1922 وسنة 1925، ظاهرة ستارك وظاهرة زيمن ونشر النتائج التي حصل عليها في Philosophical Magazine وفي Proceedings of the Royal Society. إن تفحص هذه المنشورات يعطي بعض المعلومات عن هذا الباحث الشاب: كان يشارك بنشاط في البحث تحت إشراف ويلسن وريتشاردسون وكان يدرس مسائل حديثة دون أن تكون في طليعة هذا العلم في ذلك الحين. أما الأعمال التي كانت أكثر تقدمًا، فقد كان يقوم بها بوز وأينشتاين ودوبرويل وشرودينجر.

          اهتم مشرفة، وفقًآ للتقليد البريطاني وتحت إشراف أستاذه أ. و. ريتشاردسون، بالشروط الكمية للأنظمة المنحلة، فنشر سنة 1925 في Proceedings of the Royal Society مقالا تحت عنوان «في الدينامية الكمية للأنظمة المنحلة»، وقد توصل في هذا المقال إلى حدس مهم، وهو أن الأنظمة المنحلة تتوافق مع عدد كمي مفترض زوجي ومجهول، أو أن آلية الانحلال مرتبطة بأعداد كميّة نصف صحيحة. وقد أعطى اكتشاف الهبوط اللولبي فيما بعد التفسير الصحيح لهذه الظاهرة.

          يمكننا القول، دون الخوض في مزيد من التفاصيل عن أبحاث مشرفة خلال هذه الفترة، أنه كان ينتمي إلى مدرسة الفيزياء الكمية البريطانية وأنه ساهم بنشاط ومهارة في أعمال هذه المدرسة. ولكنه لم يحاول أبدا متابعة مهنته كفيزيائي في إنجلترا. والحق يقال إن عصر هجرة العقول لم يكن بعد قد بدأ.

          عاد مشرفة إلى مصر وشغل منصب أستاذ محاضر في دار المعلمين. ثم عين أستاذًا مساعدًآ للرياضيات التطبيقية في كلية العلوم بعيد تدشينها. ورقي في العام التالي إلى درجة أستاذ، ولم يكن يتجاوز الثامنة والعشرين. وقد أثارت هذه الترقية مشكلة سياسية علمية إدارية تدخل فيها عدة شخصيات، من بينها الفيزيائي الشهير نيلس بوهر وقائد الحركة الوطنية سعد زغلول.بدأ مشرفة بذلك الفترة الثانية من حياته العلمية، وهي فترة استقراره علميًا في مصر. وقد لعب منذ ذلك الحين أدوارًا متعددة ومختلفة، يصعب الفصل فيما بينها، ولكنها تبرز صورته كمصلح. ولنتناول أولاً مشرفة الفيزيائي.

          إن أكثر السمات أهمية في هذه الفترة، والتي سيتواصل بروزها على مرّ السنين، هي أن مشرفة تخصص في البحث عن نماذج بسيطة لتمثيل خواص المادة بواسطة الكهرباء الموجبة والكهرباء السالبة والإشعاع. ويبدو أن هدفه الأساسي كان تقديم الثنائية بين الموجة والجسيمة كنتيجة لمنظور (خواص تحولات لورنتز) مرتبط، في آن واحد، بشكل الجسيمات والموجات وبالخواص الكهربائية المغناطيسية المعطاة في معادلات ماكسويل.

          يبدو أن مشرفة قد انطلق من النقاط التالية:

          إن ما يميز بين المادة والإشعاع، كما كتب مشرفة، هي السرعة النسبية.

          وذلك أن كل كيان مادي ينظر إليه انطلاقًا من نظام متحرك بسرعة أصغر من سرعة الضوء، يمكن وصفه كمجموعة من الإلكترونات والبروتونات.. إلخ. ولكن إذا نظر إلى الكيان المادي نفسه انطلاقا من نظام متحرك بسرعة الضوء، فإنه سيوصف كأنه شعاع. إن هذه النقطة ليست سوى تفسير لخواص تحولات لورنتز.

          ويرى مشرفة أن هذه الفكرة نفسها قد تسمح بصياغة معادلات ماكوسيل في الكهربائية - الدينامية لإعطائها تفسيرًا مزدوجًا. والترجمة التقنية لهذا المفهوم هي إيجاد وترة Tensor أو عدة وترات مع وسيط متغير لمعادلات ماكوسيل، بحيث يمكن مطابقة الوترات مع الكميات الفيزيائية المميزة للإشعاع إذا أعطينا الوسيط قيمة مساوية لسرعة الضوء، وبحيث يمكن مطابقة الوترات مع الكميات الفيزيائية المميزة للمادة إذا أعطينا الوسيط قيمة أصغر من سرعة الضوء.

          إذا ما أردنا تلخيص هدف مشرفة، يمكننا القول إن الأمر يتعلق بتمثيل الثنائية بين الجسيمات والموجات، باستخدام الفيزياء الكلاسيكية. وهو يريد كما أشرنا أن يعيد هذه الثنائية إلى مسألة نظام المراجع، أي إلى مسألة تحويل بين أنظمة مراجع متحركة.

          نشر مشرفة بين عامي 1929 و 1931 رسالتين في Proceedings of the Royal Society ومقالا في مجلة الطبيعة لبرهنة أفكاره. إن أهم ما يميز أعمال هذه الفترة عن أعمال الفترة السابقة هو البحث عن نموذج عام، أي عن نموذج للعالم، بحيث يشمل تمثيله للثنائية بين الموجة والجسيمة كل مادة وكل شعاع. أما في سنوات العقد الثالث من القرن، فقد ثابر على حل بعض المسائل المعينة. هل يجب إرجاع هذا الاتجاه الجديد، ولو جزئيا على الأقل، إلى نوع من العزلة التي كان فيها في مصر؟ أم هل هي إشارة مبشرة ببعض التهميش؟ لكي لا نتسرع في الجواب على هذه الأسئلة، يجب علينا أولا متابعة مجرى حياة مشرفة العلمية.

          نلاحظ بعض التباطؤ في نشاطاته بين عامي 1932 و 1942. لقد نشر خلال هذا العقد، في عام 1936، في مجلة «إنجازات الجمعية الرياضية الفيزيائية في مصر» التي أنشأها قبيل ذلك، مقالا عن «معادلات ماكسويل والسرعة المتغيرة للضوء». يبين في هذا المقال أنه يمكن اعتبار تردد الموجات متغيرا متناسبا مع سرعة الضوء، مما يدفعه إلى التساؤل حول نماذج الفيزيائية التي أعطاها من قبل. ثم نشر سنة 1939 دراسة حول الموسيقى المصرية، وفي عام 1942 كتب مقالا عن مبدأ اللاحتمية وعن خطوط الكون. الواقع هو أن الأمر يخص مسألة العلاقة بين معادلات هيزنبرغ الخاصة باللاحتمية وعن خطوط الكون. الواقع هو أن الأمر يخص مسألة العلاقة بين معادلات هيزنبرغ الخاصة باللاحتمية وبين خواص «الفضاء - الزمن».

          كان من الممكن أن نظن أن التباطؤ في بحوثه، علاوة على مهامه الإدارية والعلمية وضوضاء الحرب العالمية الثانية، قد يؤدي إلى ركود، بل ونهاية، الحياة العلمية لهذا الباحث. وهذا ما لم يحدث. إذ إن مشرفة بدأ يكتب رسائل ذات مستوى علمي رفيع، بينما كانت الحرب على أشدها. وتبين هذه الكتابات أنه كان يهتم بالنظرية الموحدة، ولنذكر أنه لأول مرة منذ عام 1930، حاول أينشتاين وفايل إيجاد نظرية توحد بين الكهرباء المغنطيسية والجاذبية. ولكن هذه الجهود لم تثمر، لأن هذين النوعين من التفاعلات بدوا آنذاك غير قابلين للتوحيد. لكن أعمال كالوزا وكلاين أثبتت فيما بعد إمكانية الحصول على وصف موحد للجاذبية وللكهرباء المغنطيسية، بشرط أن يفترض أن الفضاء - الزمن الذي توجد فيه المادة ليس ذا ثلاثة أبعاد مكانية وبعد زمني كما كان ذلك متبعا، بل ذا بعد أو عدة أبعاد مكانية إضافية غير ظاهرة. وقد ظلت نظرية كالوزا - كلاين طي النسيان طيلة أكثر من ثلاثة عقود، إلى أن تم إدخالها في نظرية الجاذبية الموسعة وهذه النظرية هي التي استند إليها مشرفة خلال فترة نسيانها.

          نشر مشرفة في عام 1944، في مجلة «الإنجازات» المصرية، دراسة حول إسقاط مخروطي معمم على فضاء ذي عدد من الأبعاد، وسيكون بحاجة إلى هذه الدراسة فيما بعد. ثم نشر، بعد ذلك بستة أشهر، رسالة حول مترية معرفة إيجابية في نظرية النسبية المقتصرة، حيث يفسر تحولات لورانتز على أنها دوران في فضاء خماسي الأبعاد. ثم نشر، بعد ذلك باثني عشر شهرا في ديسمبر عام 1945 رسالة عن مترية فضاء ومعادلات لحركة جزيئة مشحونة على منحى جيوديزي. ونلاحظ هنا أن الحصول على هذه المترية يتم على أثر تعديل شكلي وتعميم بسيط لمترية ريمان. ثم أعاد النظر في هذا البحث، بعد ثلاث سنوات - سبتمبر 1948 - ليدخل فيه خاصة أساسية للفيزياء النووية وهي النقص في الكتلة (تأثير النفق) في أنظمة الجزيئات. نشر هذا البحث في المجلة الفلسفية، وقد افترض فيه مشرفة أن القوة النووية من أصل كهربي. وهذا خطأ طبيعي في فترة لم تكن فيها طبيعة القوى النووية معروفة بوضوح (فلم تكن أعمال يوكاوا في عام 1935، شائعة بما فيه الكفاية). وقد أتمّ مشرفة عمله العلمي الأخير، قبل وفاته بثلاثة أشهر، في مقال نشر في مجلة «الطبيعة» حول النقص في الكتلة في 15 أكتوبر 1949.

          إن المسار العلمي لمشرفة يبين لنا، في المرحلة الأولى، العالم الشاب عضو المدرسة الإنجليزية، ثم يبين لنا كيف تابع البحث، في المرحلة الثانية بعد عودته إلى مصر، على مستوى عال ولكنه كان فعلا في عزلة. فقد فرض عدم وجود تقاليد وطنية في البحث، إذا صح القول، على هذا العالم ذي المستوى العالمي، بعض العزلة. ويمكن أن نصف هذه العزلة، مع شيء من التناقض الظاهري، قائلين إنها عائدة إلى بعض الإفراط في الأصالة، وهذا ما يرجعنا بالتحديد إلى غياب التقاليد الوطنية في البحث. لقد اهتم مشرفة لدى عودته إلى مصر، كما رأينا، بالفيزياء الرياضية وبعلم الظاهرات في الفيزياء النووية في آن واحد. ولو كانت هناك تقاليد وطنية في البحث لفرضت عليه اختيارا أكثر جدوى. إن هذه الهامشية، لم تحل دون دراسته للمسائل المطروحة في زمانه.

          لقد واجه مشرفة إذن، بعد عودته إلى مصر بسنوات قليلة، مسألة التقاليد الوطنية في البحث العلمي وكيفية تدعيمها وتطويرها. إن هذه المسألة التي أخذت شيئا فشيئا تلقي بظلها، في فكره، على سائر المسائل الأخرى، ترجعنا إلى سببين. الأول يتعلق بالعلم ذاته وبالفكر العلمي الجديد. إن المواضيع التي يتناولها هذا العلم والتي هي ظاهراتية - تقنية، تتطلب مخابر متزايدة في الكبر والكلفة على مر الوقت، وتقسيما آخر للعمل العلمي وتنظيما جديدا للمدينة العلمية، أي أن وجود مجتمع علمي وطني معروف بأسمائه وألقابه ومسائله، هو الشرط الأساسي لإمكانية مواصلة بحث مجد. والسبب الثاني لمشكلة التقاليد العلمية الوطنية الذي كان يشغل مشرفة يتعلق بالظروف الخاصة بمصر. إن جميع تيارات الحركة الوطنية كانت متفقة، في الواقع، على أهمية العلم والتعليم بصفة عامة، لاسترداد الاستقلال والسير في طريق تقدم على النسق الرأسمالي. لكن هذه الأيديولوجيا المشتركة كانت تخفي وراءها مفاهيم مختلفة. فبينما كان البعض - وهم غالبا من ذوي التكوين القانوني - يتصور العلم والتربية في ضوء فلسفة «عصر الأنوار»، كان البعض الآخر يتصورهما وفق بعض أشكال مفاهيم السان سيمون. وكان العلم، في الحالة الثانية، يتصور كأنه تطبيقي وآلي، أي كعلم المهندسين في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. أما موقف مشرفة فكان مختلفا تمامًا. إن العلم نوع من السلطة، وهذه السلطة تكمن في إتقان البحث الأساسي. ويجب ألا تقع مسئولية البحث على الدولة وحدها، بل على الصناعيين أيضًا وفقًا للنموذج الإنجليزي. والمدارس التطبيقية التي ينشئونها هي في آن واحد «سوق» للعلم ووسيلة لنقل العلم إلى المجتمع. لم يحدث قبل هذا الجيل أن أولت مصر مثل هذا الاهتمام للبحث الأساسي ولأهمية البعد النظري الذي يجب اكتسابه في الوقت نفسه والذي تتحقق فيه التطبيقات. إن لهذا الموقف عدة أسباب: التغير الذي أحدثه العلم المعاصر في العلاقة بين النظرية والتطبيق، والتطور الرأسمالي والصناعي بين العشرينيات والخمسينيات وخاصة بعد الثلاثينيات، والتحقق من فشل المحاولة التي تمت في القرن التاسع عشر في عهد محمد علي. ولنذكر ما كتبه مشرفة حول هذه النقطة الأخيرة مع شيء من المرارة: «علينا أن نشير في هذا الشأن إلى الجهود الصادقة التي بذلت خلال النصف الأول من القرن الماضي من أجل النهوض بالحياة العلمية في مصر في عهد المأسوف له محمد علي الكبير. نحن نعلم أنه بذل جهودًا ضخمة لإحياء العلوم بيننا وأنه أرسل البعثات إلى أوربا ونجح بالفعل في تكوين عدد لا بأس به من المصريين. ولو أن هذه الحركة توسعت وانتشرت، لكان حاضرنا العلمي أفضل بكثير مما هو عليه اليوم، ولاستطعت التحدث عن مستقبلنا العلمي بطريقة أخرى، والقول إنه يرتكز على حاضر مجيد. لا أن الظروف أرادت أن تنطفئ هذه النار التي أشعلت، فتظل الحياة العلمية في مصر في بداية القرن العشرين مماثلة لما كانت عليه في بداية القرن التاسع عشر، وكأن قرنًا من الزمن قد أضيف إلى ركودنا العلمي وكأننا تحركنا لنعود من حيث بدأنا». إن هذا التشخيص القاسي، الذي قام به مشرفة مثلما قام به آخرون من قبله مثل الإمام محمد عبده، يسقط من الاعتبار فارقا مهما. وذلك أنه، على نقيض ما كان يحصل في بداية القرن التاسع عشر، تم إعداد متخصصين وأنشئت المدارس - دار المعلمين خاصة - كما ترجمت الكتب. حتى أن مشرفة نفسه ذكر، فيما بعد، مدافعًا عن إقامة مجمع العلوم، أسماء بعض الباحثين المصريين مثل عثمان غالب (1845 - 1920) في علم الأحياء، ومحمود الفلكي في الجيوديزيا (علم شكل الأرض) والجغرافيا وفي تطبيقات أخرى فلكية، مع إمكانية إضافة عدة أسماء أخرى مثل إسماعيل الفلكي (المتوفى عام 1901) في علم الفلك. إن هذا الميراث سيساعدنا، على أي حال، ولو جزئيا، في فهم ماهية التكوين الذي تلقاه جيل مشرفة قبل سفره إلى إنجلترا استعدادًا للبحث، وبذلك سيسمح لنا هذا الميراث أن ندرك تطور مشروع التحديث العلمي في مصر. ويمكن ذكر الوسائل التي ابتكرت لتحقيق هذا المشروع تحت العناوين التالية: مؤسسات علمية، تاريخ العلوم، مكتبة علمية عربية، ثقافة علمية مع نشرها، العلم التطبيقي والصناعة.

          أما في مجال المؤسسات، فقد شارك مشرفة، بشكل فعّال في إدارة كلية العلوم، وعمل على إنشاء الجمعية المصرية للرياضيات والفيزياء في عام 1936، وعلى إنشاء مجلة «الإنجازات» التابعة لها، كما عمل على تأسيس المجمع المصري للعلوم في عام 1945. إن مسعى مشرفة في هذا المجال يندرج ضمن تيار على صلة مباشرة بالحركة الوطنية الرامية إلى إنشاء الجامعات والجمعيات العلمية. ولنذكر، في هذا الصدد، إنشاء جمعية علم الحشرات عام 1907، والجامعة الخاصة عام 1908، وإعادة تنظيم الجمعية الجغرافية عام 1917 (وهي التي تأسست عام 1875)، وجمعية الزراعيين عام 1918، وجمعية المهندسين عام 1919، والجمعية الطبية عام 1919 أيضًا، وجمعية علم الحيوان عام 1928، والجمعية الكيميائية عام 1928، والجمعية الصيدلية عام 1930 ... إلخ.

          وكانت هذه الجمعيات ترمي كلها إلى تطوير ونشر العلوم الخاصة بها، والدفاع عن جماعتها، وكانت تدير منشورات على درجات مختلفة من الانتظام. وكان دور المجمع العلمي، من وجهة نظر مشرفة، مركزًا للبحث.

          وكان مشرفة يتصور، في الواقع، هذا الدور وفق نموذج المجمع العلمي المصري الذي أسس سنة 1859. وبينما كان يغلب اهتمام هذا الأخير بالعلوم اللغوية والتاريخية، كان على المجمع العلمي، حسب رأي مشرفة، أن يهتم بالعلوم فقط. ولقد أسس لتشجيع البحث، والبحث هو الذي يبرز تأسيسه.

          ويشير مشرفة إلى توالي الأبحاث العلمية السريع منذ إعادة تأسيس الجامعة في عام 1925، وإلى عدد المقالات المنشورة من قبل باحثي كلية العلوم وحدهم التي بلغت 500 مقال، خلال العقدين 1925 / 1945.

          والجدير بالذكر هو أن ما لا يقل عن 200 مقال من تلك المقالات نشر في مجلات بريطانية، و 150 في مجلات أجنبية أخرى.

          وأخيرًا، فقد عمل مشرفة أيضا على إنشاء «مجلس البحوث» وهو النواة الأولى للمركز العلمي للبحث العلمي الذي أنشئ عام 1956. فليس من المستغرب أن تكون «لجنة الفيزياء»، وكذلك المخبر الوطني للفيزياء الذي لعب دورًا أساسيًا فيما بعد، مشكلة من رفاق مشرفة مثل م. نظيف ومن تلاميذه مثل محمد مختار.

          كان هذا الاهتمام بالبحث ضمن مشروع للتحديث العلمي، من سمات هذه الفترة ولقد أدى إلى التفكير في وسيلة أخرى لتوطيد البحث ولتشجيع التحديث. وهذه الوسيلة هي تاريخ العلوم. هذا هو ما كتبه مشرفة نفسه: «يجب على الأمم المتحضرة أن تكون لها ثقافة مرتبطة بتاريخ الفكر العلمي فيها، إن حياتنا العلمية في مصر بحاجة إلى الالتحاق بماضينا لاكتساب القوة والحياة والضوابط اللازمة. فنحن في مصر ننقل معارف الآخرين ثم نتركها عائمة دون صلة بماضينا ولا احتكاك بأرضنا، فهي بضاعة أجنبية غريبة بملامحها، غريبة بكلماتها، غريبة بمفاهيمها. فإذا ذكرنا النظريات ربطناها بأسماء أجنبية لا نكاد نعرف ملامحها، وإذا تحدثنا عن المفاهيم استخدمنا كلمات مخيفة تطرد الأفكار وتعكر الخيال، علينا أولا أن ننشر الكتب العلمية التي ألفها العرب وترجمها الأوربيون، مثل كتب الخوارزمي وأبو كامل في الجبر والحساب، وكتب ابن الهيثم في الفيزياء، وكتب البوزجاني والبيروني والبتاني، وغيرهم من قادة الفكر العلمي وكبار الباحثين... ومن جهة أخرى تجب العناية بتكريم علمائنا وباحثينا القدماء، فيكون ذلك حافزًا لنا لتقليدهم والسير على خطاهم». ولنذكر أيضًا أن مشرفة قد حضر المؤتمر الدولي الثاني لتاريخ العلوم الذي عقد في لندن عام 1930.

          وهكذا لم يكن تاريخ العلوم مستهدفا لنفسه كمادة مستقلة، بل كوسيلة لتشجيع التحديث العلمي، وذلك بإمداد الحاضر المتواضع بماض عريق، من أجل مستقبل أفضل. إن الهدف من تاريخ العلوم لم يكن مقتصرًا على إعطاء نماذج يحتذى بها، بل أيضًا إضفاء الشرعية على المكانة التي يجب اتخاذها في مدينة العلم المعاصر. كان من الممكن، في هذه الظروف، وقوع أسوأ الأمور وهو المفاخرة. إلا أن شيئًا من هذا لم يحدث، بل إن هذا المسلك أدى، على النقيض، إلى إحداث مهنة الباحث في مصر. وقام مشرفة نفسه، بالتعاون مع زميله الشاب محمد مرسي، بتحقيق وشرح كتاب الجبر للخوارزمي مع مقدمة تاريخية. ثم تلى هذا العمل القيّم، الذي صدر عام 1939، مساهمة لمشرفة في الاحتفال بألفية ابن الهيثم، على شكل مقال عن أعمال هذا العالم الرياضي. وكان عالم فيزيائي آخر، وهو م.نظيف، قد نشر في عام 1927 كتابًا عن تاريخ الفيزياء، منذ نشأتها حتى إقرار نظرية النسبية ونظرية الفيزياء الكمية. وكان هذا الكتاب، في الأصل، مضمون ما كان يدرس في دار المعلمين. وإن كان الجزء المخصص فيه للعلوم عند العرب، متواضعًا بما فيه الكفاية، فإنه ذو أهمية لا يستهان بها. وقد توالت بعد ذلك أعمال أخرى بعضها على مستوى علمي رفيع جدًا، مثل المجلدين اللذين خصصهما م. نظيف لأعمال ابن الهيثم في المناظر. وقد تبع هذا العمل الكبير، عمل آخر على المستوى نفسه حول المناظر للفارسي، وعمل آخر حول تاريخ الديناميكا. وقد اهتم علماء آخرون بتاريخ الطب والكيمياء والصيدلة.

          ولقد تأسست في عام 1949 الجمعية المصرية لتاريخ العلوم وكذلك المجلة الخاصة بها.

          إن هذا المشروع (لتملك العلم) يرتكز، من وجهة نظر مشرفة، على تأسيس تقاليد وطنية في البحث، في الفيزياء والرياضيات على الأخص، وعلى إنشاء وتنظيم جماعة الباحثين الرياضيين والفيزيائيين. والمبادئ الوسطية الضرورية لتحقيق مثل هذا المشروع هي، من وجهة نظر مشرفة وزملائه:

          1 - إنشاء مؤسسات البحث العلمي.

          2 - تعريب العلم والتعليم العلمي.

          3 - إنشاء مكتبة علمية عربية.

          4 - الاهتمام بالثقافة العلمية وبنشرها على مستوى المجتمع بكامله.

          5 - التعليم والبحث في تاريخ العلوم، وخاصة في التراث العلمي العربي، لكي يتم الاتصال الثقافي والعقائدي (الأيديولوجي) مع الماضي.

          6 - إقامة روابط بين البحث التطبيقي والصناعة.

          يتبين من هذين المثالين ما قد يعرفه الكثيرون وخاصة:

          1 - ليس هناك «نقل» ممكن للعلم، بل «تملك» له فقط. وهذا التملك لا يحصل إلا بفضل السلطة السياسية وبفضل الالتزام الإرادي لأصحاب القرار، وهؤلاء هم الدولة والنخب الاقتصادية والسياسية والعسكرية والعلمية. ولن من دون هذين العاملين، تملك للعلم نفسه، بل ستكون هناك فقط مؤسسات علمية ظاهرها خداع. فالعلم لم يكن أبدًا مجموعة معزولة عن البنى الاجتماعية الأخرى. ولكن، في كثير من البلاد العربية، يبقى المجتمع العلمي، الذي لايزال في بدء تكوينه، معزولاً عن البنى السياسية والاجتماعية. ولايزال رجال الحكم ينظرون إلى العلماء إما على أنهم موظفون لتنفيذ قراراتهم وإما على أنهم مثيرون محتملون للاضطرابات.

          2 - يتم تملك العلم بفضل التكوين والتطوير للتقاليد الوطنية في البحث، وهذا لا يتطلب فقط تخصيص وصرف الأموال اللازمة لإنشاء المؤسسات ولتكوين الاختصاصيين، بل أيضًا دعم التحولات العلمية في المجتمع، وهذا يعني وجوب وضع كل الإمكانات لكي يصبح العلم جزءًا أساسيًا من الثقافة.

          3 - لا يمكن القيام بذلك دون تعريب منهجي جيد للتعليم العلمي.

          4 - إن عناصر برنامج مشرفة ومعاصريه مازالت بعيدة عن التحقيق. ويكفي الآن أن نحققها.

          5 - كل هذا يقودنا إلى النتيجة البسيطة التالية: يجب البدء بالدعم المادي والعلمي للمؤسسات في البلاد العربية التي تسير في هذا الاتجاه لتملك هذا العلم. يجب أن نبدأ العمل انطلاقًا من هذه المؤسسات.

المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=711&ID=27

 
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك