أعيش لأكتب وأغترب لأتجدد

 

أحمد الشهاوي
في القرآن خمسة عشر موضعاً تحض على السفر والرحلة. ولما كنت ابناً للقرآن, لم يبارحني قول الله تعالى: قل سيروا في الأرض , سعيا نحو الكشف والمعرفة, واستقبال الجديد, والذهاب إزاء المغاير والمختلف.

          كانت رحلات الأنبياء, تتقدمها رحلة الإسراء والمعراج, تشكل لي زاداً ورصيداً وتراثا حيا يمشي معي, ويسير فيّ; لأبحث عن قلقي وعشقي ويقيني المتخايل, وصورتي في روحي, وروح من أحب وأرى, راحلا كصوفي إلى مدينته الفاضلة, قلبي يعقل, وأذناي تسمعان, وعيناي تريان, وقلمي يكتب, أسير في الأرض الغربية كغريب منذ عام 1987 ميلادية ضاقت به روحه, والمكان الذي يعيش تحت سمائه الفلتانة, لم تغب عنه الآية السادسة والأربعون من سورة الحج: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .

          سفري في الأرض الغريبة رحلة في المكان والزمان الغريبين, سعي لأقرأ وأكتب وأجوب مضارب وجودي, حتى أن جزءا كبيراً من كتاباتي الشعرية والنثرية كتبته في الفنادق والطائرات والمطارات والأمكنة التي نزلت بها, وتظل رحلات الشتاء والصيف والخريف والربيع فصولاً جديدة, للبحث عن مجهول لم يظهر لي, وأسر أفكار ورؤى وخيالات, حال ضغط الحياة في القاهرة ووطأتها دون اصطيادها.

          في الرحلة أتواصل معي, ومع العالم الجديد, الذي أرى فيه غير المألوف والمعتاد, ويشكل لي مادة متنوعة للعيش والكتابة, فنحن نسافر لنعرف ونطلب العلم ونعشق, وكل يرى ما لا يراه غيره, مستندا إلى معارفه وتجاربه وخبراته وثقافته.

          وإذا كان الإسلام يعلي من شأن الرحلة وشأوها, وأنا ابن الحضارة الإسلامية, فاتخذت الرحلة ـ من ظهوري كشاعر ـ مصدرا رئيسيا لتأسيس روحي, وتثقيف قلبي, وطلب العلم, ورياضة التأمل والمشاهدة, لأن في مسالك الأرض وممالكها ما هو غريب وعجيب, فأفدت واعتبرت وشفت وعاينت وخبرت, وسحت فيما وراء تخوم أقاليم وبلدان روحي.

          في الغرب لا أسعى إلى ما هو غرائبي لافت وعجائبي شائق فقط, لأنني قبل السفر أكون قد أعددت للرحلة مادة تكفي لقيادتي داخل البلد الذي أقصده, ذاهباً نحو ما أبتغي, ورائيا ما أحب, تاركا للمصادفات أن تضطلع بدور مهم في الرحلة, ولا أحب أن يكون لي شارح أو مرشد يعينني, إلا إذا كانت هناك عينا محب, لأن السياحة في الأرض أو الروح لا تحتاج إلى وساطة.

          ومن يفقد دهشته لا يكتب جديداً, وإذا كان لله عباد هم مدهوشون أبدا, فإذا سافر الواحد منهم زادت دهشته من فرط ما يرى من غرائب الموجودات وعجائب المخلوقات, وما يسمع من قصص ومرويات وأساطير, وما يحمل من كتب وموسيقى.

          وسفري ـ أنا المدهوش ـ يظل بحسب تعبير سراج الدين ابن الوردي (توفي 761 هجرية) (فريدة العجائب وخريدة الغرائب) امتد أثره في الشعر والنثر ونص الرحلة الذي أكتب, وأظن أن ما هو خيالي أو أسطوري في كتابتي مدين بجزء كبير منه إلى الرحلة. فلقد كنت محظوظا أن بدأت أولى رحلاتي إلى فرنسا, وأنا في السادسة والعشرين, ومنذ ذلك الوقت لم تمر سنة دون أن أذهب إلى أرض غربية أو عربية, أو من أية قارة, ولذلك تراكم الخيالي والأسطوري داخل النص الذي أكتب, وحاولت أن ابني صورة أناي بعد محاولات من الكشف, وامتلاك المعرفة, وتجريب اشكال شتى, فقد سعيت أن يكون جولاني جوانيا لا مرئيا, بحيث يتفتت الزمان مختفيا, ويغيب المكان ملغياً.

          وأظنني لا أحتاج كمسافر إلا إلى الأقلام والأوراق البيضاء, فلم أعد في زمن بدر الدين الزركشي (توفي 794 هجرية), عندما ألف كتابه (الغرر السوافر فيما يحتاج إليه المسافر), وما حاجتي في السفر إلا إليّ, إلى الصفاء الذي أسعى إليه, والتأمل الذي أرغب في تثبيته كاسمي,  والشوفان الذي صار جوهري, وشفيف نقاء ينأى ويقترب في الأمكنة التي ظهرت بجمالياتها فيما كتبت.

          وبعد طول سفر, صرت أرى أن رحلتي في الأرض ما هي إلا تقرب مني, كالهندي الذي يغرق نفسه ثم يقول لمن حضره: لا تظنوا أني أغرق نفسي لأجل شيء من أمور الدنيا, أو لقلة مال, إنما قصدي التقرب إلى كساي (وكساي اسم الله عز وجل بلسانهم).

          وتحضرني جملة ذكرها ابن فضلان في رسالته عن جارية اختارت الموت, فقال لها: (أخبري سيدك عندما ترينه بأنني عشت لأكتب). ولعل هذا التعبير (أنني عشت لأكتب), هو جوهر وجودي, كما أن إيماني بقول الخالق قل سيروا في الأرض  جعلني لا أطل من نافذتي على الآخر, بل أدخل من بابه, لأرى وأعرف, وأكون شاهداً عليّ, وعلى ما شفت, دون أن يخالجني شعور بنقصان أو استعلاء, لأن الاتصال الثقافي والروحي لا يعرف سلطة التفوق, فأنا قادم من مرجعية لها سلطانها وهيمنتها وتراثها الزاخم المتنوع المتعدد الكثير, ولم تسجل كتابات رحالتها صراعا بين الحضارة العربية الإسلامية وغيرها من الحضارات الأخرى إبان الفترة التالية لعصر الفتوحات الإسلامية.

          وإذا كان المشي في مناكب الأرض التي جعلت ذلولا رحلة, فإن القصيدة في تكوّنها وكتابتها رحلة, طريقها المتخيل لا ينتهي, فهي تبعث على تذكر المرأة واستعادتها في الذاكرة والنص معا, خصوصاً إذا ما كانت تلك المرأة ترحل هي الأخرى, وهذا ما يذكر بالوقوف على الطلل قديماً. الذي مازال حاضرا بأشكال أخرى تتنوع. إذ نجد (فعل الترحل مشتغلا في النص الشعري العربي منذ الجاهلية), حيث نرى الرحلة المتخيلة تتحقق في النص الشعري الحديث عن طريق سفر باطني كأنه المعراج اليومي للعاشق.

          وأنا لا يطول مقامي في الأرض التي أعيش فيها, كأن أبا تمام كان يخاطبني بقوله:

وطول مقام المرء في الحي مخلق   لديباجتيه, فاغترب تتجدد
 
 

          وهذه الغربة ـ الرحلة تتعدد فوائدها عندي غير راء إلى العيوب التي يراها غيري فيها, ولعل ما قاله ابن وكيع التنيسي يشير إلى الفوائد:

فإن قيل: في الأسفار ذل وغربة   وتشتيت شمل, وارتكاب شدائد
تغرب على اسم الله, والتمس الغنى   وسافر, ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج نفس, والتماس معيشة وعلم,   وآداب, ورفقة ماجد
 
 

          وإذا كان النص الشعري يذهب من أناي إلى أناي أولا, باعتباره رحلة مني إليّ, فهو بالقدر نفسه رحلة نحو الآخر تنطلق من الأنا التي شافت وعرفت بعد طوفانها وجولاتها داخل الأنا وخارجها, حيث الخارج يصير داخلاً بعد ذوبانه وتحولاته, لا يتناص أو يتحاور فقط بل يتوالد. من هنا عرفت كيف أعيد تركيب الجغرافيا داخلي وأرتاد مجاهلي, علني أصطاد ما لم أدركه في محاولاتي السابقة المتكررة, حيث يتحول زمن رحلتي في المكان المادي أو في المكان الروحي إلى زمن للكتابة يتجاوز أي وقت محدد, ليتيح لتجربة الرحلة أن تبقى ربما حتى الثانية الأخيرة من حياة الشاعر.

          ذهابي إلى الآخر أكان نائيا أم حميما, جعلني أحول الحركات والسكنات إلى كتابة, بمعنى أعمق أن تصير رحلة جسدي في المكان نصا, ربما لأنني منذ البدء أؤنث المكان فيلين لي, ويصبح أمر امتلاكه سهلا, ويهيمن كلانا على لغته, وينفتح المغلق, وتبدأ رحلة نحو الكشف. ونكون أمام نص يكتب ما شاف وما أحس, ولا يتعامل مع الآخر باعتباره (دار الكفر), لأن روحي صيرت هذه الدار جزءا منها, ومكونا لها, حيث يحدث الاتصال والجذب.

          وإذا كان المكان أساسيا في الرحلة, فهو يحاور أمكنة أخرى يبنيها الشاعر في نصه تخرج جميعها من الروح والمخيلة معاً, ولا يصير هناك فصل بين المكان الخارجي, وذات الكاتب التي هي مكان تلم ما يدخل إليها.

          وأتصور أن المكان يتحول عند الشاعر إلى (مكانه), حيث يعيد تفكيكه وخلقه من جديد بعد مكابدة واحتواء وحمله صورة حامله, لأننا عندما نألف مكانا فنحن ـ في الحقيقة ـ نألف مكاننا ونكتبه ونعيد خلقه, ونزاوج بين صوته وصورته, وبين صوت ذاتنا وصورتها.

          لقد اعتبرت سيري في الأرض جزءا مهما من سيرة روحي شعرا وذاتا, ولا أفصل بينهما أو أعطف أحدهما على الآخر, لأنهما عندي واحد كثير. فالرحلة سيرة المكان والراحل فيه, سيرة ضمير المتكلم في الأرض التي يسير فيها ويسيرها. الضمير الذي لا يسرد أو يقدم معلومات فقط, بل ينتج معرفة تتأول, تعود إلى أسئلة سالك الطريق المحمول على مراجعته ثقافية وبصرية. فلم تكن الرحلة عندي ـ في يوم من الأيام ـ مجرد سفر أو انتقال إلى مكان آخر جديد, بل هي ذهاب مادي أو متخيل لا مرئي يخايلني ما حققه الأسلاف والأنبياء في رحلاتهم, إنها طريق كتابة للذات, وكشف للروح.

          وإذا كان النص جسدا بين نقطتين هما بدء الكتابة وتواصلها, فالرحلة طريق بين نقطتي الذهاب والعودة, اللتين هما مفازتا النور الباطني.

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك