لك الله يا دمشق

 

شاكر مصطفى 

عندما يقترب رمضان تشرع المدن العربية بارتداء زينتها الخاصة احتفاء بالشهر المبارك، وتأخذ بعض الجماعات بالاستعداد لإحياء لياليه، ولكن تطور المدنية الحديثة عفى دور بعض الجماعات كالمسحرين، وحلت محلهم أجهزة الراديو والتلفاز. فماذا بقي من طرق الاحتفاء برمضان في مدينة عربية كبيرة مثل دمشق؟

كان ما كان، في سالف العصر والأوان، كانت هناك مدينة اسمها دمشق.. إنها ليست هذا السيل الأسمنتي الشاسع الذي يملأ السهل والجبل فيما يسمى بدمشق اليوم: عمائر وجسور وبيوت التهمت المتنزهات والغوطة فلم تبق على "مقاصف" دمر، ولا على الظل الظليل في بساتين النيربين، ولا على أشجار الثمر والخضرة في الغوطة! دمشق التي أتحدث عنها شيء آخر انقرض أو يكاد.

إنها دمشق مطالع هذا القرن، ودمشق ما بين الحربين التي أدركنا أواخرها، دمشق التي كانت قلبا كقلب النسر هو الشام القديمة، وجناحان ممدودان، واحد نحو الجنوب "هو الميدان" وآخر إلى الشمال على جبل قاسيون "هو الصالحية"، لقد ضاعت معالم هذه المدينة، وبهتت التقاليد فما تبين. تغير كل شيء فيها حتى البشر. دمشق الشمشير والياسمين والليلك وشجر النارنج والكباد والبحيرات الدافقة " وأرض الديار" والايوان " الليوان" لم تعد موجودة. تراجع الماء الدافق فيها إلى الخزانات، وحل الأسمنت محل الخضرة على الأرض، وانسحب سحر الشرق منها إلى كتب السياح!.

دمشق التي أتحدث عنها أمضت عدة قرون سابقة لم تتغير فيها ملامحها إلا قليلا، أما تقاليدها فلم تتغير في شيء. ما ذكره ابن جبير قبل ثمانمائة سنة عن أهلها وعاداتهم، كنت لا تزال تراه ماثلا في البيوت، في الأسواق في باحة الجامع الأموي وفي الحارات القديمة.. بل وفي عمائم الرجال "وزكرتية" (أي فتيان) الحارات وفي طريقة التحية!

مئات السنين مرت، وكل شيء يجري في المدينة مكرورا رتيبا. من خرير مياه "الطوالع" إلى نزهات المتنزهين عند الربوة وكيوان إلى قرقرة النراجيل في "لواوين" البيوت. لم تكن هذه الرتابة تضطرب إلا مرة في العام: حين يحل شهر رمضان!

إنه الموسم السنوي للتغير. المدينة تنقلب إلى شيء أشبه بالجامع الكبير بما فيه من تهليل وخشوع، وطيور آمنة! فلرمضان نكهته ودنياه وأجواؤه الخاصة به كأنما شيء مما وراء الطبيعة يحل مع حلوله.

وتغشى البلد كله غلالة هفهافة ملونة بقوس قزح، فتلون الدروب والناس والجدران المهترئة بالرطوبة، فالدنيا بحر خشوع وشموع، وشيء من سكون غير قليل!

يبدأ هذا الانقلاب كله قبل يومين أو ثلاثة من قدوم رمضان، إذ تمتلئ المتنزهات حول دمشق وضفاف الأنهر بالمتنزهين من العائلات أو الأصدقاء. إنها عادة دمشقية يسمونها "تكريزة" رمضان، هي وداع للمفاسد كي تنصرف النفوس بكليتها إلى التعبد، وإلى روحانية رمضان المقبلة. فبعض يغني وينقر العود وبعض يذكر. وبعض يلهو بالألعاب والحزازير أو بالقمار أو بطاولة الزهر وينتهي " السيران= النزهة" بأكواب الشاي أو بأكواب أخرى تعلن بعدها التوبة حتى إطلالة العيد المقبل.

في الليلة التي ينتظر فيها رؤية هلال رمضان تكون كل الأعين والآذان على الترقب. الأتقياء يلزمون المساجد. الباعة يعدون أنفسهم للسهر الطويل، الذين اعتادوا العبث تابوا منذ الليلة. ودعوا الكئوس والأوتار وأدوات القمار شهرا بطوله. الفقراء ينتظرون بدء موسم الخير.. والناسون المهملون يهرعون إلى الأسواق يتدبرون السحور الأول، والكل على الترقب أعينا وآذانا.

لم يكن هناك تلفاز ولا إذاعة تعلن ثبوت رؤية الهلال. القاضي الشرعي هو الذي يعطي الإشارة فإذا بالمدافع تطلق إحدى وعشرين طلقة وبذلك يعلم الجميع أن رمضان قد حل: "هل هلالك شهر مبارك" وتضج البيوت والأسواق بالتهاني المتبادلة وبالحركة، ويتراكض الأطفال في الحارات:

"سبتوها، سبتوها! سبتوها وما خلوها!".

وترافق المدافع الشهر كله، عند موعد الإفطار مرة وعند موعد السحور في الليل ثلاث مرات، أولها قبل الفجر بساعتين وآخرها لحظة الإمساك. وتكفهر وجوه المقاهي والحانات ودور العبث الحرام، فإن عليهم أن يصوموا بدورهم شهرا عما فيهم وأنهم ليصومونه مرغمين. ومع أن لإبليس مداخله التي لا تنتهي وخبائثه إلا أن الجو الرحماني يطرده إلى ما وراء الأبواب المغلقة. رمضان "الفضيل" هو صاحب الكلمة الأولى. صحيح أن "رمضان كريم" ولكنه كرم التقي. إن له حرمته التي تغشى كل شيء.. وتسيل في الدروب وتنزل إلى الأسواق فإذا هي قد اتخذت زينتها الكبرى.

السجاد يعلق على الدكاكين، والأخشاب تنصب لتقوم عليها الأغصان الخضراء المجلوبة أحمالا من الغوطة، والفوانيس تعلق. ويتبارى الباعة في عرض بضاعتهم، فالدكاكين تتدفق بمحتوياتها إلى الخارج. وتجد أكياس الرز معروضة بشكل مغر بجانب السكر وقوالبه المخروطية. والطحين الأبيض مع البرغل الأسمر. وغير بعيد تقدم أكياس النقوع والصنوبر واللوز والفستق والجوز ولفائف القمر الدين، وبين هذا وذاك صفائح السمن البلدي. وتقف صفائح الزيت والجبن والزيتون وراء ذلك المشهد. وأما الخضار والفواكه فلها سوقها الذي تسمع فيه ألوان الغزل بها: "أصابيع الببوياخيار"، "نصب الملوك يا دراقن "، "الحلوة ليكا يا فندي لا تدور عليها الحلوة ليكا "، "بخر الشورة يا زبداني يا تفاح " "عالمكسر يا أخضر "للبطيخ "، "استامبولدار مملكت يا باميه "، "الزيني ألمانس والأحمر دباس يا عنب"، ومع أن هذه النداءات الغزلية غير خاصة برمضان، إلا أن لها فيه جاذبية خاصة، لاسيما حين يشتد الجوع قبل الإفطار.

إن شهر الصيام هو أيضا شهر الطعام. لا يتمتع الموسرون وحدهم بالأطايب، وتكتظ موائدهم بما تشتهي الأنفس، ولكن يصيب بعض ذلك الفقراء أيضا، فالولائم تكثر وتكثر وتأتي على رأسها ولائم الحكام الذين يقسمون الشعب فئات متعددة، ولكل فئة يوم محدد يدعون فيه. وبعض الناس يتبارون في الدعوة إلى ما يقيمون من المآدب لذوي القربي وللطارئين على المساجد من الغرباء، وللمساكين، أو يرسلون الأطعمة للأسر "المستورة"، وغالبا ما تكون الولائم غنية أكثر مما ينبغي بالأطايب وألوان الحلوى، فالمغالاة في ذلك ميزة رمضانية يصر عليها الدمشقي لا بسبب التقى ولكن تحت ضغط صيامه على الأغلب، فشراب عرق السوس ونقيع قمر الدين والجلاب وعصير التمر هندي توجد معا.

وأنواع الشوربات والمقبلات والفول والفتوش بعدها. وألوان الخضار المطبوخة تلي ذلك وقد يذهب بعضها "سكبة" من بيت لبيت "أي هدية طعام". ويأتي الخشاف بعد الأكل وأنواع الحليب المطبوخ وألوان الفاكهة وتنتهي المائدة بكوب سخي من الشاي الأخضر.. يحاول أن يهضم ذلك الخليط كله!

وتظهر في الأسواق أنواع من الحلوى لا تصنع إلا في رمضان. يظهر الخبز "المعروك" في المخابز ويطوف الباعة بأقفاص كبيرة من الخوص ملأى بخبز " الجرادق" عليه الدبس. ويكثر الحلوانيون من صنع "النهش" والقطائف والبرازق، فهي حلوى الشهر. وللصغار حلواهم أيضا: " ليلة الله". ما يكادون يسمعون بمناديها حتى يهرعوا إليه بقروشهم ويتناولوا منه بضعة أساور عريضة ملونة من السكر.. وفي السحور لا بد من النقوع وبعض قمر الدين.

وتبدأ بذلك مسيرة الشهر "الفضيل" شهر الخشوع والصدقة والأطايب والزيارات وصلة الأرحام وحسم الخصومات أيضا، " اللهم إني صائم " ومع أن الناس يقسمون رمضان أثلاثا: فثلثه الأول مرق "أي بحث عن شهي الطعام" والثلث الثاني خرق "أي تهيئة لملابس العيد" والأخير ورق "أي دفع صدقات وبحبوحة من المال على الأهل". مع ذلك فرمضان المقسم بهذا الشكل هو رمضان "البيوت". الأسر هي التي تشغل بالمرق والخرق والورق. ولكنك ما إن تغادر البيوت حتى تغرقك أجواء من المد الروحي تسري ملامحها في جميع الوجوه.

التهاني التي تستنفد اليوم الأول وأمسيته الطويلة، تستنفد معه اليوم الثاني. وتصبح المدينة في الأمسيات الأولى بخاصة خلية نحل. حركة الأسر تنتقل من بيت إلى بيت. الأهل والجيران تصبح زيارتهم أشبه بالفرض، والضيافات من الحلو تزيد المعد اكتظاظا، وحين تمر الأيام الثلاثة تبدأ الأحياء بتبادل الزيارات فيخرج كبار الحي ليباركوا للحي المجاور وينتظرون في اليوم التالي هذا الحي ليبادلهم التهنئة.

العشر الأول من الشهر هذا دوره، في حين يكون العلماء ومشايخ الطرق الصوفية قد تبادلوا التهاني مع نقيب الأشراف والمفتي ويكون هؤلاء قد أدوا واجب التهنئة للسلطات الرسمية من وال أو رئيس.

.. ولا تستغرق هذه الزيارات وقتا طويلاً فإن صلاة التراويح في الانتظار، وهي عشرون ركعة تصلى حتى في البيوت، وتتخللها الأدعية كل أربع ركعات: سبحان الملك القدوس! اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك. وبك منك. لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. ".

وقد تمتد التراويح في الليالي الأخيرة من الشهر لتزيد عما كانت عليه باثنتي عشرة ركعة أخرى يسمونها صلاة الرغائب، فينقضي بذلك كله هزيع طويل من الليل ، في انتظار السحور.

كل هذه التقاليد تمر في جو من البشر والحبور إلا لدى الأسر المنكوبة منذ قريب بفقد أحد أعضائها، عند ذلك يكون رمضان مناسبة لتجديد العزاء والنواح والخروج إلى القبور.

رمضان ليس بنهاره الصائم ولكن بلياليه. الليالي هي رمضان وحياة رمضان تبدأ بعد الأفطار. النهار باهت لا تسمع فيه بكل مكان إلا رمضان كريم "وقد تحتد فيه النفوس أو يضيق الخلق أو تنعس العيون بعد العصر" فالجو متوتر وكل "يتخانق" مع ذباب وجهه. فإذا جاء الليل بسط رمضان أجنحته الملائكية روحانية عميقة هادئة. فالمآذن مضيئة حتى الصباح والزينات المشعة تجمع الصغار والكبار على السمر. والسهرات الأسرية بكل بيت، وأهل التقى في المساجد قائمون قاعدون في صلاة التراويح، أو قارئون للقرآن في تبتل وخشوع، بعضهم يتلو الختمة في شهر، وبعضهم يتلو كل يوم ختمة! الناس أهواء وأشتات، بعض يتمعن بقرقرة النرجيلة أمام الحكواتي الذي يبدأ قصة "عنترة" أو "الزير أبي ليلى" أو "أبي زيد الهلالي" فيستغرق الشهر كله متلاعبا بعواطف السامعين.

وبعضهم يفضل سينما ذلك العصر: إنه "قره كوز" الذي يعمل في ليالي رمضان فقط. ويجتمع إليه اللاهون، فللصغار موعدهم المبكر، وللكبار موعد آخر بعدهم يقضون فيه ساعة من الضحك المتواصل والغناء والتفكر بمقالب "قرة كوز وعيواظ والبيو والكر وبكر المصطفى". وقد يتخلل ذلك نقد جارح للحكم والحكام! وقد يتجمع الأطفال كعصائب الطير من الحارات مجموعات، بعضهم يحمل الفوانيس أو الشموع أولا، فهم يتساندون في العتمة وعلى ضوء مصابيح الدكاكين يهزجون:

يا مفطر يا بم

يا براق الدم

دمك دم الخنزير

ربطوك بالجنزير

والجنزير مالو حلقه

علقوك بالمشنقة

ولا عجب في حماسة الأطفال لرمضان، فإن لم رمضانهم الذي يصومونه ويسميه الناس "درجات المئذنة" يصومون حتى الظهر فقط. ولإغرائهم بالصيام تقوم كبيرة البيت بحمل الطفل على ظهرها، والطواف به في ساحة الدار، ثم تضع له مائدة صغيرة ليأكل كالكبار. ويمتد الليل ويمتد بمعظم الناس ليصبح ليلين أو ثلاثة فلا ينتهي إلا مع طبلة المسحر ! الأداة الموسيقية بامتياز لهذا الشهر.

وفي الليلة الأولى لرمضان يسمع النائمون في الهزيع الأخير من الليل نقر الطبلة ومن ينادي عليهم بالصحو. إنه المسحر! يوم كانت المدينة صغيرة في القديم، كان طبل واحد يقرع للسحور فيها.

وحين كبرت صغر الطبل، وتوزع طبلات صغيرة يقرعها المسحرون في الحارات والأزقة. وقبل توافر السماعات المنبهة، كان الكثيرون في حاجة إلى من يوقظهم لتناول السحور، وكان في دمشق ما يقارب خمسة وسبعين مسحرا يملأون الليل بالنقر والنشيد والصياح. ويسلي المسحر نفسه بالغناء أو يستعين به على لسعة البرد أو على الظلمات المتراكمة. وتسمع في هدأة الليل طرقا على الأبواب والمسحر ينادي على صاحب البيت باسمه:

قوم يا نائم

وحد الدايم

يابو كاسم وحد الله

قول لا إله إلا الله

وقد ينشد المسحر وهو عائد من جولته بعض المدائح النبوية:

ياما سارت لك المحامل يا أشرف العربان

حنين بدرك وحنين نورك يا محمد بان

وليس المسحر بالمتطوع، إنها مهنة وأجر جزيل يدومان شهرا في السنة، والمهنة مقصورة على بعض الأسر المتخصصة بها، ولها مشيخة، وشيخ الكار منصبه وراثي ويتقاضى أجره من التابعين، وإليه يجتمع المسحرون قبيل انتهاء النصف الثاني من شعبان لتوزيع المطافات "المناطق" بينهم أو استئجار تسحيرها، ولحسم ما ينشب من الخصومات أيضا، فثمة خصومات لا تنتهي، وللمهنة نقيب مهمته التفتيش، وشاويش يقوم بمهمة الاتصال بين المسحرين وشيخ الكار! ويتقاضى المسحر أجره يوميا قبيل الإفطار من جميع البيوت التي يطوف بها في الليل: صحون طعام يختلط فيها المحشي مع اللحم والسلطات مع الحلوى حتى صارت هذه التشكيلة مثلا شاميا على الخليط غير المتجانس: مثل "صحن المسحر" أو "سلة المسحر" وقد يلحق به بعض الأطفال لسماع غنائه وطبلته أو ينتظرونه ليضايقوه وهم يهزجون:

أبو طبلة

مرتو حبلة

شوجابت ؟

ماجابت شيء

جابت جردون بيمشي!

لكن المسحر ينسى عند نهاية الشهر كل المضايقات والليل والزمهرير "بالعيدية" التي لابد منها ويدفعها رب الأسرة شاكرا أول أيام العيد.. وقد غابت صورة المسحر الآن فلم يبق من شخصيته إلا الظل الباهت في الحارات القديمة

حين يتجاوز الشهر منتصفه تلتقي معظم العيون والقلوب في سرة البلد: في الجامع الأموي، هناك تجتمع كل مظاهر رمضان من التقي الخاص، ومن المظاهر الخاصة، ويبدأ الشعور بتصرم رمضان وهرب لياليه، فتبدأ حركة وداعه التي تصل أوجها ليلة السابع والعشرين من الشهر.. وفيما تشغل النساء في إعداد ملابس العيد للصغار ويسهر الخياطون عليها وينهمك الحذاؤون في إنهاء أحذية الصغار الذين يبكون لأن ملابس العيد لم تنته في مواعيدها وينادي باعة الآس في المنعطفات وعلى قارعة الطريق لبيع أغصانهم الخضراء للناس كي يزوروا بها القبور صباح العيد، ويتراكض المساكين إلى أطراف الجوامع يتلقون زكاة رمضان وزكاة الفطر.. وكل ذلك يجعل المدينة شعلة نشاط وحركة وسهر، ثم ينصرف أصحاب الشعائر الدينية إلى ما ينبغي من الترتيبات لوداع الشهر. وللوداع طقوسه وتقاليده، ولكل جماعة دينية طريقتها في الوداع.

أما المؤذنون فيخرجون إلى المآذن في جوقة متطوعة وينشدون كل ليلة اعتبارا من الخامس والعشرين من الشهر:

يا شهرنا أودعتنا

عليك السلام

لا تشتكي من سوء أفعالنا

واصفح فإن الصفح من شيم الكرام

وينبري واحد منهم متفردا:

شهر الصيام لقد كرمت نزيلا

ونويت من بعد المقام رحيلا

نبكيك يا شهر الصيام بأدمع

تجري فتحكي في الخدود سيولا

ويبرز أصحاب الطرق الصوفية كل منهم بلباس طريقته إلى الجامع الأموي أو إلى الاحتفالات الدينية في المدينة، أو إلى الحضرة "مقر الطريقة" لإقامة الذكر.. ولكل طريقة يومها الخاص الذي يحرصون أن يكون فرديا لأن ليلة القدر قد تتجلى في تلك الأيام حتى السابع والعشرين.

ولما كانت غايات الطرق متشابهة هي عبادة الله كأنك تراه، فإن طقوس الذكر لديها متشابهة، تنشد المدائح النبوية وتوزع أجزاء من القرآن على الناس لتلاوتها ثم تأتي فترة الدعاء والاستغفار ولها بدورها تراتيبها: استغفر الله 101 مرة، لا اله الا الله 101 مرة، الله الله 101 مرة. وبعد وصلة من المدائح النبوية ينهض مريدو الطريقة ويبدأون الذكر على إيقاع الدفوف: الله يا دائم "33 مرة" يا حي يا قيوم "33 مرة" الله "33 مرة" كل ذلك مع هز الرءوس يمنة ويسرة ووضع الكف الأيمن على القلب!

وتتميز الطريقة المولوية طريقة جلال الدين الرومي التي نشرها العثمانيون وتبرز، فأتباعها الدراويش لهم ذكرهم الخاص، بلى! إنهم يجتمعون ليلة الاثنين والجمعة من كل أسبوع، وليالي 27 رجب والنصف من شعبان وليلة المعراج والمولد، لكن اجتماعهم الأكبر إنما يكون في ليلة القدر السابع والعشرين من رمضان. إنهم يعقدون مجلس الذكر في مقر التكية المولوية حيث يجتمع الدراويش بالألبسة التقليدية "الكلاه والعباءات السود تحتها الثوب بالتنورة الفضفاضة" ويدخلون إلى الحضرة "السمع خانة" ثم يلحق بهم شيخ الطريقة وتبدأ قراءة القرآن ثم نفخ النايات ثم يقوم الدراويش للدوران على رءوس الأقدام والكعوب وتتحرك الأيدي من الصدور إلى الأعلى ويمتد الدوران وتعلو الأناشيد النبوية فيما يظل الناي على النواح ليصبح الجميع مجرد مخاريط بيضاء تدور وتدور.. وينتهي الذكر بتلاوة القرآن ثم يتلوه الدعاء.. ولكن بالفارسية فهذه هي التقاليد.

ويخرج الدراويش بعد ذلك إلى مقرات الطرق الأخرى متنقلين من دار إلى دار. مقدمين في كل منها "وصلة" راقصة للتحية ويدركهم السحور فيتسحرون عند شيخ الطريقة الأخير قبل أن يدخلوا الجامع الأموي. ويدخلون وهم يدورون ويعودون ثم يكررون فإذا وصلوا مقام النبي يحصي وسط الجامع حيوه: "دام سره"، ثم صلوا الصبح وانصرفوا خارجين.

أما أصحاب الطرق الصوفية الأخرى فيلتقون في الجامع الأموي بعد عصر اليوم الأخير من رمضان.

وتعرف كل طريقة موضعها من الجامع. فهنا الرفاعية، وهناك القادرية، ومن بعدها التلمسانية والأحمدية والمولوية وغير بعيد الهاشمية، ويتجمع السعدية أمام مقام النبي يحيى، ويقوم الجميع بالأذكار وتلاوة الأوراد والتهليل والتكبير. إنها لحظات الوداع الأخير لرمضان قبل أن تضرب المدافع إحدى وعشرين طلقة معلنة حلول عيد الفطر.

وللمسحرين بدورهم احتفالهم بوداع رمضان ليلة السابع والعشرين. يجتمعون في مقهى معين وفي صدر المكان شيخ الكار والنقيب والشواويش، وأمامهم مائدة تزينها الشموع ومع كل مسحر طبلته وأمامه فانوسه وسلته ويأخذون في انشاد المدائح النبوية وعزف الطبلات حتى يأخذهم "الحال" وهي لحظة الإشراق الصوفي. وحين تذوب الشموع يخرجون بفوانيسهم والطبلات وهم لا يزالون ينشدون ويهزجون:

يا سامعين ذكر النبي عالمصطفى صلوا

لولاك يا محمد ما بنوا جامع ولا صلوا

غير أن قمة احتفالات السابع والعشرين هي الاحتفال بشعرة النبي، في تلك الليلة يقوم حفل خاص في جانب من الجامع الأموي هو مشهد الحسين، الحفل للتبرك بشعرة من شعرات النبي، وفي دمشق ثلاث شعرات من شعره: احداها لدى آل سعد الدين أهداهم إياها السلطان عبد الحميد، والثانية لدى شيوخ الطريقة الشاذلية آل أبي الشامات، والثالثة لدى الأشراف آل حمزة يحفظونها في مشهد الحسين، فلا تخرج إلا في المناسبات الدينية الكبرى: ليلة 27 رجب، النصف من شعبان، ذكرى المعراج، ذكرى المولد، وفي ليلة القدر هذه يقام الذكر أولا حتى الوصول إلى حالة الوجد العميق ثم يكشف الشيخ الستارة عن مقام الشعرة ويخرج صندوقها من محرابه مغشي بالحرير وموشي بالآيات المذهبة، وحين يبدأ بكشف الأغطية غطاء بعد غطاء يتعالى صوت المنشدين:

يا زائرا شعر النبي محمد

كن عند كشفك للغطاء معظما

ويتلمس الحضور تلك القارورة التي تحوي الشعرة أو يحملها الشيخ فيلوح بها في حركة دائرية على الجميع قبل أن يعيدها إلى الصندوق في انتظار موسم قادم.. وتهوي الأيدي إثر ذلك على صحون الطعام والحلويات في عشاء دسم

 

المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=983&ID=63

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك