من تنويم الدجاج إلى تنويم الشعوب

 

كالفيروسات التي تخرج من المعامل أحياناً, سواء نتيجة إهمال أو بفعل متعمّد, وتنشر دماراً هائلاً بين البشر. هاهو فن التنويم يقتنصه البعض, لا لإرقاد التماسيح والأفاعي والدجاج وحسب, ولكن الأخطر... لتنويم الشعوب.

في الصدفة حكمة ما. لأن الصدفة نفسها ما هي إلا تخطيط دقيق لا نعرف قانونه. فإذا كان للفوضى - لدى أهل الرياضيات - قانون, وللكوارث قانون, فلابد أن للصدفة قانوناً لم نعرفه بعد.

ولابد أن هناك حكمة كامنة في أنني تعرّفت على موضوع التنويم (المغناطيسي) للحيوانات وللبشر, في الوقت ذاته لتعرفي على مجموعة الأفلام التسجيلية الوثائقية التي تؤرخ لصعود الفاشية والنازية في أوربا ابتداء من عشرينيات هذا القرن.

وهذا ما كان...

عجيبة في بلد العجائب

عندما نقول روسيا, فإننا نعني - على الأرجح - منطقة من العالم تضم روسيا وبيلاروسيا (روسيا البيضاء) وأوكرايينا.

وفي أقدم عاصمة لروسيا هذه, في مدينة (كييف) بدأت التعرّف على بعض من عجائب روسيا.

وروسيا في حد ذاتها عجيبة.

فهي شرق في الغرب أو غرب في الشرق, وشمال في الجنوب أو جنوب في الشمال. شقراء شقرة أوربية, بينما تدمدم في عروقها دماء شرقية ساخنة, صوفية في تقسيمة سيكلوجية الشعوب. لكنها تنطوي على جبروت مدمّر إذا أدركتها الغواية.

وفي روسيا العجيبة هذه رحت أتعرف على العجائب.

أدهشني من مجمل العجائب ذلك الاحتفاء التحتي بكل ما هو غامض وميتافيزيقي رغم أنف اللافتات الفوقية الزاعقة بالمادية آنذاك. فقد فوجئت بمدى النفوذ الذي لقراءة الكف وقراءة النجوم وتفسير الأحلام والأرقام وقراءة الفنجان وكل ما هو غامض وغريب.

وما بين الغامض والسافر كان للتنويم المغناطيسي (الذي ليس مغناطيسياً بكل تأكيد) مكانة مرموقة ومقننة. فهذا الموضوع الذي أوشك أن يبدو (باراسيكلوجياً) (أي مما وراء علم النفس) أخذ على خريطة علم النفس السوفييتي مكانة رصينة كظاهرة فسيولوجية اعتماداً على دراسات بختريف وبافلوف التي التقت, بالصدفة (ويا لتلك الصُدف) مع مادية (الحمر) الطالعين آنذاك.

ولأنني ذهبت أدرس الطب النفسي, كان لابد أن أتعرف على التنويم (المغناطيسي) كوسيلة علاجية. وهي وسيلة جيدة إذا أحسن استخدامها, فهي أوفر وآمن وأجدى, في كثير من الحالات, من وسائل عدة تكوي الجهاز العصبي بنار الكيمياء - كما في كثير من العقاقير النفسية - أو تلهبه بصعق الكهرباء كما في أجهزة الحث الكهربي والصدمات الكهربائية وغيرها.

وعلى هامش ذلك التنويم الطبي, صرت مولعاً بتلك الظاهرة وممارسيها حيثما كانوا. سواء في الحقل العلمي, أو في المسارح حيث رأيت بعضاً من جلسات التنويم تتم هناك.

وفي هذا الخضم المتلاطم من العلم وشعوذة الحواة, تعرّفت بدهشة على موضوع تنويم الحيوانات.

بلى تنويم الحيوانات!!

تنويم الدجاج... والأسود أيضاً

 

في فيلم علمي مقاس 8 مم, وبماكينة عرض بسيطة, وعلى شاشة عرض صغيرة بإحدى قاعات المحاضرات في مستشفى بافلوف شاهدت فيلما عن التنويم. وكان الجزء الذي استهواني وأعدت مشاهدته مراراً هو الجزء الخاص بتنويم الحيوانات.

وكان الدجاج أول هذه الحيوانات التي تم تنويمها في الفيلم.

وكانت أول طريقة لتنويم الدجاج بسيطة غاية البساطة, فهي مجرد خط من الطباشير يُرسم تحت رأس الدجاجة على الأرض, وما إن تومئ وتراه حتى تجمد في مكانها ولا تتجاوزه أبداً.

وكانت هذه الطريقة لتنويم الدجاج هي أول ما أشير إليه من طرق تنويم الحيوانات منذ ثلاثة قرون ونصف. ففي عام 1636 وردت أول إشارة إلى ذلك في كتاب (ديليسيا فيزيكوماتيا) لمؤلفه (إسكيفنتر). وكان تفسير إسكيفنتر لتلك الظاهرة أنها راجعة إلى الخوف.

وتوالت التجارب والتفسيرات لتنويم الدجاج.

فبعد (لاسكيفينتر) جاء (كيرشر), وفسّر قدرته على تنويم الدجاج, وقابلية هذا الطائر للتنويم بأنها (نتاج قوة التوهّم لدى الدجاج)!

وفي السبعينيات من القرن التاسع عشر, وعبر تجاربه, أشار الفسيولوجي (سيزرماك) إلى تأثير التثبيت في المكان والكف عن الحركة وإدامة التحديق في بقعة بعينها لإحداث هذا (التنويم العصبي) عند الدجاج.

ولم تتوقف حركة تنويم الحيوانات عند الدجاج.

فالعالم (نيوبل) (وليس نوبل) وبعد تجاربه لتنويم الضفادع قال إن تنويم الحيوانات ما هو إلا دفعها دفعاً إلى النوم العادي.

أما الدكتور (سفوراد) الذي وسّع مجال تجاربه لتنويم الحيوانات عام 1957, لتشمل القطط والأرانب والكلاب والديوك الرومية, فقد أرجع تلك الظاهرة إلى إيقاف عمل الحزمة المنشطة في التكوين الشبكي داخل أمخاخ هذه الحيوانات.

وأغرب منوّمي الحيوانات جميعاً كان مُعالجاً نفسياً مجرياً اسمه (فولجيزي), نجح في تنويم الأسود والدببة والتماسيح والثعالب. وفسّر تنويمه لها بأنه مجرد (إلغاء لإرادة هذه الوحوش).

ومن بين تراث منوّمي الحيوانات كان الأكثر معاصرة والأقرب إلى متناول يدي في كييف - آنذاك - الفسيولوجي الأوكراييني (دانيلوفسكي), الذي استطاع بنجاح وخبرة عميقة تنويم حيوانات لا يخطر على بالنا إمكان تنويمها. فقد نجح في تنويم الضفادع, والعناكب, والأسماك, والعصافير, والأفاعي!!

وفسّر دانيلوفسكي نجاح تجاربه بلغة عصرية, إذ قال (إن الصدمة العاطفية (هكذا) تشل إرادة وعضلات الحيوان فيتم تنويمه). وعن نوع العواطف هذه حدد دانيلوفسكي: (الخوف).

رعب العصافير

الخوف إذن, إضافة إلى التهديد والألم هو ما يشل حركة الحيوان. وليس ببعيد ما نعرفه عن العصافير التي تصاب بالشلل عندما يفاجئها ظهور ثعبان أمامها.

وفي شرح عملي لطريقة تنويم عصفور يقول دانيلوفسكي: (ضع الحيوان في وضع غير معتاد بالنسبة له, دون أن يؤلمه ذلك, ومن الأفضل وضعه على الظهر, وثبّته لبعض الوقت حتى تسكن حركته وتنتهي مقاومته, وأبقه على هذا الوضع بضع دقائق, ثم اتركه, فلن يتحرك مما هو فيه لدقائق أخرى وربما لساعات. وفي هذه الحالة, يلاحظ أن الحيوان يفقد الكثير من إحساسه فلا يستجيب للألم حتى أنه يمكن ذبحه دون أن يبدي حراكاً).

ولقد شاهدت في بعض التجارب عصافير يتم تنويمها بطريقة دانيلوفسكي. فبسرعة يقوم المنوّم بقلب الطائر على ظهره فيرفع الطائر رأسه ويدور بها 180 درجة, ويثبّته المنوم في هذا الوضع لمدة دقيقة ثم يرفع عنه اليدين بالتدريج وببطء, وبلطف يسحب بإحدى اليدين منقار الطائر إلى أسفل. عندئذ يتحوّل العصفور إلى ما يشبه لعبة شمعية ساكنة لا يحرّكها صوت جرس منبه حاد, أو وخز إبرة, أو حتى صعق قطب كهربي غير قاتل.

فهل هو الخوف? وإلى هذا الحد?!

موعد مع (الفوهرر)

في هذه الأيام - أيام الولع بظاهرة تنويم الحيوانات والبشر - وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام (الفوهرر).

فشارع (الكرشياتيك) وهو الشارع الرئيسي في قلب مدينة (كييف) يحمل من أيام هتلر ذكرى ماثلة في جدران أبنيته الباذخة الراسخة ذات الطراز الستاليني الموحّد والمجلد بالجرانيت الأحمر والرمادي.

إذ يُحكى أن هذا الشارع تم تدميره تماماً على أيدي النازيين الذين اجـتاحوا العاصمة الأوكرانية. وبعد اندحار وانتحار هتلر تم تسـخير الأسرى من جيش النازي في إعادة بناء هذا الشارع تحت إشراف المعماريين الروس.

ليس فقط الشارع وأبنيته هي ما تحمل ذكرى أيام هتلر, لكن أيضاً تلك الدار الصغيرة المخصصة لعرض الأفلام التسجيلية التي تقع على ناصية الشارع في الناحية البعيدة عن نهر (الدنيبر). وفي هذه الدار التقيت بهتلر!

لقد تحوّلت هذه الدار السينمائية مع كثرة تجوالي في قلب المدينة إلى استراحة من نوع خاص. فهي زهيدة السعر جداً, يكفي أن يلقم الإنسان عين بوابتها الإلكترونية بقطعتين من فئة خمسة كوبيكات (القروش التي كانت تساوي آنذاك مجرد مليمات), ويدخل, يستريح بعد المشي, ويرى فيلماً قصيراً (بالمرّة).

كان الفيلم يتحدث عن صعود النازية من بين أنقاض ما بعد الحرب العالمية الأولى. وكيف تحوّل حزب صغير هو (حزب العمال الألماني الاشتراكي الوطني) الذي يسمى اختصاراً (النازي) إلى قوة تغازل طموح الناس إلى نظام حكم قوي ينتشلهم من بؤس ما بعد الحرب. وكيف تحوّل قائد الحزب الشاب والخطيب المفوه (أدولف هتلر) إلى حاكم مطلق لألمانيا وطامح شره للتحكم في كوكب الأرض.

لقد حاول هتلر في البداية أن يقهر الحكومة البافارية لكنه فشل وسُجن. وخلال فترة سجنه, وضع كتابه (كفاحي) الذي ضمنه آراءه الخطرة, والمغرية للجماهير عن تفوّق الجنس الآري واعتقاده في أن الألمان ذوو طبيعة أرقى وأعلى من كل البشر. ومن ثم يحق لهم قهر فوضى أجناس (العبيد) لإفساح (فضاء للحياة) يليق بحركة الشعب الألماني.

كان هناك إلى جوار هتلر, ساعده الأيمن, عبقري الدعاية النازية (جوزيف جوبلز) وكانت هناك الطوابير فولاذية الانضباط من الجناح العسكري للحزب النازي المسماة (فرق العاصفة). الطوابير المخيفة (لذوي القمصان البنية) حملة لافتات الصليب المعقوف. وسرعان ما دعمت كل الطبقات المسحورة بدبيب القوة تقدّم الحزب النازي فكسب الأغلبية البرلمانية عام 1932, وصار هتلر مستشاراً لألمانيا. وبعد حريق مدبّر - بأيدي النازيين أنفسهم - في مبنى البرلمان (الريشستاغ) وجد هتلر ذريعة للإطاحة بكل معارضيه السياسيين. وسرعان ما صار حاكماً مطلقاً لألمانيا ومنح نفسه لقب (فوهرر) وتعني: القائد.

وياله من قائد, مهووس, وحديدي, ويبعث الرعب حتى في قلب المشاهد لذلك الفيلم التسجيلي - الذي عاودت مشاهدته مرات في سينما (الكريشياتيك) الصغيرة, وكأنني أمتحن قدرتي على مواجهة الخوف... والجنون.

تنويم بعيون مفتوحة

كانت صوراً عجيبة لحشود شعب من أذكى شعوب الأرض, وهي تمضي في صخب احتفالي إلى جحيم العالم.

إطلالة هتلر الضئيل المشدود على الجماهير المسحورة, ورنين صوته مفصّل الجُمل عبر مكبرات الصوت الفولاذية المبثوثة في كل مكان. وجنون الجماهير الذي يشتعل بين وقفات صوت الخطيب المفوّه.

جنون شامل.

حتى العلماء أصابتهم لوثة هتلر, وأظهرهم الفيلم وهم يطبّقون بهوس معطيات علم الجماجم (الفرينولوجي) لفرز الناس. من منهم يمتلك جمجمة آرية حقيقية ومن البائس, المحروم من شرف هذه الجمجمة!

تذكّرت (جوستاف لوبون) وآراءه في سيكولوجية الجماهير. وكيف أن الفرد في كتلة الجمهور تصير له سيكولوجية أخرى, حيث تتحول هذه الكتلة بفعل لهيب كلمات المحرّض إلى حيوان ضخم لا منطق له إلا منطق الوحش المندفع.

ولقد كان الوحش منوّماً بعيون مفتوحة ويتقدم لالتهام العالم, وإحراقه, بفعل تحريضات الديكتاتور... الفوهرر.

مغناطيسية الدوتشي

(بنيتو موسوليني) قائد جناح (فاشي دي كومباتيمنيو) أشد الأجنحة تطرّفاً بين المجموعات اليمينية.

هتلر آخر, وخطيب مفوّه مثله, ومثله صعد على أنقاض مناخ اليأس السائد في أوربا بعد الحرب العالمية الأولى, وكان أيضاً يلوح ببشارة النجاة الوهم: القوة لانتشال الوطن والأفراد من البؤس واليأس. وكانت ساحته هذه المرّة في روما. وبدلاً من (ذوي القمصان البنية) كان (ذوو القمصان السود) جناح البطش لحزبه شبه العسكري.

وتكررت قصة هتلر في إيطاليا.

وصار موسوليني حاكماً مطلقاً في روما, ومثل نظيره في برلين منح نفسه لقب (الدوتشي) وتعني أيضاً: القائد!

ويا له من قائد آخر.

لقد كان (الدوتشي) موسوليني مجنوناً جنوناً خيلائياً لا يخفى على أصغر طبيب نفسي في الأرض.

رأيته بفكه العريض وقبعته الجنونية ووضعه الخيلائي, فتعجبت كيف لم تكتشف الجماهير الإيطالية جنونه. لقد كان حالة يمكن تشخيصها بمجرد النظر. وإذا كان هناك عذر للجماهير المنوّمة بسحر (كاريزما) الديكتاتور. فأين كان أطباء وعلماء النفس في إيطاليا وأوربا?

لعلهم كانوا منوّمين أيضاً.... تنويماً مغناطيسياً بفعل الافتتان بفك الدوتش العريض ووقفته الخيلائية!

عرض للتنويم الجماعي في مسرح

في مسرح كبير, احتشد قرابة ثلاثة آلاف إنسان, تم تنويمهم جميعاً باستثناء شخصي المدهوش وأشخاص آخرين قليلين تناثروا بين الصفوف النائمة!

كان ذلك في المسرح الكبير - قاعة الاحتفالات - بمعهد الدراسات العليا للأطباء المتخصصين بمدينة كييف.

جاء الطبيب النفسي المنوّم من ليننجراد ليستعرض فنه وعلمه. كان رجلاً صغيراً ونحيفاً اعتلى خشبة المسرح بخفة وراح يدير الجلسة - العرض بميكروفون متحرك في يده. تكلم عن مفهومه للتنويم وأهدافه وفوائده ثم بدأ يطلب المتطوعين للتنويم.

بعد فترة من التردد, راح يتدفق المتطوعون, وكان يجري عليهم اختباراً يكشف مدى قابليتهم للتنويم وتأثرهم بالإيحاء. فيقف وراء ظهر المتطوع, ويأمره بإغماض عينيه ومد ذراعيه أمامه ثم يوحي له بأنه يقع إلى الخلف (إلى الخلف), (إلى الخلف), (إلى الخلف). وسرعان ما يبدأ الشخص في الوقوع فيتلقفه وينبهه ويضعه إلى جوار مَن سبق اختيارهم. أما الذين لا يستجيبون, فقد كان يقعدهم كمشاهدين في خلفية خشبة المسرح. وبعد اختيار خمسة عشر شخصاً من الرجال والنساء بدأ جلسة التنويم.

لكنه لم يكتف بتنويم هؤلاء الخمسة عشر, بل عمد إلى تنويم الصالة كلها, ومن العجيب أنه نجح في ذلك. فما إن طلب من المشاهدين إغماض عيونهم, حتى أغمضوا, ثم أمرهم برفع أياديهم عالياً, فرفعوها.. (تنفسوا عميقاً)... (عميقاً... تنفسوا).. وإذا بالقاعة كلها عميقاً تتنفس (أنزلوا أياديكم ببطء...ببطء... وعندما تصل أياديكم إلى مواضعها ستكونون منوّمين... منوّمين... منوّمين).

ونام المسرح من حولي!

مكثت أقاوم - مع نفر قليل - إغراء السقوط في جب النوم الفاغر من حولي (وبالمناسبة فإن مَن يرفض التنويم لا يمكن - علمياً تنويمه), حتى أيقظ المنوّم القاعة واكتفى باستمرار تنويم الطابور المصطف على خشبة المسرح أمامه. بل راح يلعب لعباً بهؤلاء ليمتّع النظارة! ويحلل أثمان التذاكر التي دفعوها.

يوحي لهم بأنهم يرتعشون في برد سيبيريا, فيرتعشون. ويوحي لهم بأنهم يتلظظون تحت شمس إفريقيا, فيتصبّبون عرقاً ويعطيهم البصل موحياً لهم بأنه تفاح فيقضمونه بتلذذ!

وصفقت القاعة للمنوّم (المغناطيسي) في نهاية الجلسة العرض. وصفقت مبهوراً ببراعة الصنعة. لكن سرعان ما شُغلت بأسئلة شتى عن الجمهور, عن ذلك الشعب الذي يتم تنويمه بإيحاءات منوّم صغير نحيف?!

كاشبيروفسكي منوّم الملايين!

اسمه (أناطولي كاشبيروفسكي), طبيب نفساني أوكراييني من الدرجة الرابعة. فالاخصائيون في أوكرايينا درجات: أولهم حامل الدكتوراه (الكنديدات). وثانيهم حامل الماجستير (الأورديناتورا), وثالثهم حامل الدبلوم (الانترناتورا). ورابعهم لا يحمل شيئاً إلا شهادة بالانتظام في (كورس) متخصص لمدة شهور قليلة حتى يخدم في المستشفيات الريفية أو عيادات المدن الصغيرة. وقد كان كاشبيروفسكي من النوع الأخير... طبيب نفسي في مستوصف صغير بمدينة اسمها فينسيا الأوكرانية (وليست الإيطالية).

المهم, لقد رأيت كاشبيروفسكي هذا في بداية مشوار صعوده بمدينة (كييف), كان منوّماً يجيد صنعته (وسط بيئة تتلهف على النوم وتألف التنويم بأشكال شتى... من اللافتات حتى طوابير العروض التي لا تنتهي). لكنه كان في ميزان المتخصصين - في الطب النفسي والتنويم العلاجي مثل الأكاديمي الكبير روجونوف - جاهلاً كبيراً ومحتالاً لا تنقصه الجرأة التي تبلغ مبلغ الصفاقة. فالمعيار ليس قدرة المنوّم على تنويم مرضاه, لأن هذا يتم بالاتفاق الضمني على الاستسلام للتنويم... المهم, ما هو الذي سيبثه المنوّم من إيحاءات علاجية أثناء جلسة التنويم. ولقدكان كاشبيروفسكي في هذا الشأن صفراً كبيراً.

لكن الصفر ظل يكبر حتى فوجئت به ينوّم الاتحاد السوفييتي (السابق) كله! ثم يزور إسرائيل فيُستقبل بحفاوة مَن أدى مهمة جليلة!

لقد خصص التلفزيون السوفييتي (الذي كان في قبضة اللوبي الصهيوني هناك) وعبر قناته الرئيسية مساحة بث هائلة لنقل جلسات كاشبيروفسكي للعلاج بالتنويم والتي كان يجريها في مسرح غاص بالآلاف من مريديه المصابين بالهستيريا وما يشابهها, ومن كل الأعمار... حتى الأطفال!

كان المسرح الكبير يتداعى نائماً وكان المشاهدون ينامون بفعل إيحاءات كاشبيروفسكي الطبيب الجاهل والجريء إلى أبعد حد. فللجهل جرأة ما بعدها جرأة. ولقد وصف الأطباء الإنجليز كاشبيروفسكي بعدما رأوا استعراضاته في برنامج اسمه (تليموست) يُبثّ بالأقمار الصناعية على الهواء مباشرة بين كييف وأدنبرج, بأنه: (محتال كبير ينبغي محاكمته في نقابات الأطباء).

لكن هذا المحتال نجح في تنويم الملايين.

فقد كانت الملايين متعبة وفي حاجة إلى النوم والتوهّم بعد أن باعها الشيوعيون لصالح مغانمهم الذاتية الرخيصة, ولصالح هتافات ولافتات فقدت معانيها في حياة الناس اليومية, بينما كان الشيطان واقفاً على الباب, والبدائل غامضة ومخيفة في مجتمع لم يعرف لغة البدائل.

نامت الملايين.

وسقط الاتحاد السوفييتي كقصر من الرمال على شاطئ الريح!

إلا الخط الأزرق السماوي

الآن أصل - ولو بشكل غائم - إلى حكمة الصدفة في التقاء تلك الصور جميعهاً عند لحظة من العمر.

فإذا كان الخوف, وإلغاء الإرادة, والكف عن الحركة, والركون إلى السكون, والثبات في المكان... إذا كانت كل تلك المفردات تنطوي على تفسير النجاح في تنويم الدجاج, وبمجرد خط بالطباشير يُرسم تحت رءوسها, فإنني أرى تفسيراً لتنويم البشر في رسم خطوط أخرى.

فلقد كانت طوابير ذوي القمصان السود خطاً للتنويم.

وكانت طوابير ذوي القمصان البنية خطاً للتنويم.

وكانت لافتات وهتافات الحمر الزاعقة خطاً للتنويم.

ولا...

لا لكل هذه الخطوط التي تسلب الإنسان شرف الاختيار الحرّ, وفضيلة الانتقاد, وإمكانية النجاة, حتى ليستحيل إلى دجاجة يشل حركتها بمجرد خط أبيض بالطباشير يجعلها إن ذُبحت لا تبدي حراكاً.

لا للخطوط البيضاء أو الحمراء أو الخضراء أو السوداء. ومرحباً بالخط الوحيد النظيف الجميل الذي ينبغي أن يترسمه البشر أمام عيونهم ورءوسهم المرفوعة, الخط الأزرق السماوي الشفيف المتقوّس برهافة... خط الأفق.

المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=1682&ID=53

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك