كازاخستان .. بلاد السهوب والوعود

محمد المنسي قنديل

 

ها أكبر دولة إسلامية من حيث المساحة، ومع ذلك فالإسلام فيها مهدد. وتوجد على أرضها رءوس نووية ولا تملك من أمرها شيئا. وعلى أرضها عشرات الصناعات الثقيلة، ولكنها معطلة. لقد حصلت "كازاخستان" على استقلالها أخيرا، ولكن مصير هذا الاستقلال ما زال محفوفا بالمخاطر.

لم تكن أنوار الفجر قد بزغت بعد عندما أعلن قائد الطائرة عن الاستعداد للهبوط أخيرا في مطار "الماآتا". لم يكن هناك أي ضوء يبدد وحشة السهوب المظلمة منذ أكثر من سبع ساعات. لا أثر لبيوت أو شوارع أو سيارات مارقة.. ظلمة خالصة كثيفة. ولولا أن محركات الطائرة قد غيرت من درجة طنينها ما صدقنا أن هناك مطارا أصلا.

كانت واحدة من أشق رحلات الطيران التي قمنا بها. كان من الممكن أن تكون أسهل وأسرع لو أننا ذهبنا على إحدى شركات الطيران التابعة لكازاخستان. ولكن المشكلة أن هذه الدول الست التي بزغت أخيرا والتي ينتهي اسمها بـ "ستان" غير معترف بخطوط الطيران التابعة لها دوليا. لذا كان علينا أن ندور طويلا في الفضاء لنصل إليها عبر خطوط دولية ومسافات منهكة.

أضواء مرور الهبوط شاحبة، كأنها توشك على الانطفاء. والليل ينجلي عن آثار الأمطار الغزيرة والعواصف التي غمرت المدينة في عز يوليو. بزغ الفجر قبل أن ننتهي من مراسم الدخول. كان علينا تقديم إقرارات جمركية بكل ما معنا من نقود ومعدات. وكانت مهمة زميلي المصور صعبة وهو يشرح أنواع الكاميرات التي يحملها لضابط الجوازات الذي لا يفقه كلمة واحدة من لغة أخرى غير الروسية أو الكازاخية. ظل يفحص الكاميرات في ريبة كأنها قنابل موقوتة.

سمحوا لنا أخيرا بالدخول. كنا وبقية الركاب نحمل الحقائب ونسير نياما. المستيقظون الوحيدون كانوا سائقي سيارات الأجرة بأسعارهم الملتهبة. ولم ينقذنا من مساوماتهم غير ظهور الشيخ خالد. شاب نشط يشرف على مكتب لجنة مسلمي آسيا وأعمالها الخيرية في الماآتا. استقبلنا بالأحضان وبشوق غامر وحملتنا السيارة القديمة التي استأجرها عبر شوارع المدينة الخالية المبللة.

الفنادق قديمة، بقايا إرث الاتحاد السوفييتي الغارب. لم تجدد ولم يضف لها شيء. الاستثمارات الغربية ما زالت مترددة. أما الأتراك فإن مشاريعهم تحت الإنشاء. الفنادق الحكومية الموجودة شديدة الضخامة من الخارج. شديدة الضيق في الداخل. المشكلة هي البحث عن فندق تجري فيه المياه الحارة. ففي طقس مثل هذا تتغذى المدينة بمياه ناتجة عن ذوبان الثلوج من جبال "التاد" التي تحيط بالمدينة وتفصلنا عن الصين. لذا فالمياه الحارة ضرورية جدا، ومصدرها الوحيد هو الغلاية الضخمة التي تغذي المدينة كلها. وفي الآونة الأخيرة تفاقمت أزمة الطاقة وأصبح هناك نقص في إمدادات الكهرباء وقطع للمياه الحارة عن العديد من الأحياء. وكانت هذه أولى المفاجآت لنا من دولة نعرف أنها غنية بإمدادات النفط.

عثرنا أخيرا على الفندق. وألقينا أجسادنا المنهكة على الأسرة الضيقة. تركنا شمس "الماآتا" الباردة تواصل صعودها. واستيقظنا بعد نوم قصير متعب. بدأنا جولتنا الاستكشافية في المدينة التي أصبحت عاصمة لدولة جديدة عمرها أربع سنوات. إنها تذكرك بمدن الخمسينيات من هذا القرن. أشجار عتيقة الجذوع تغطي واجهات البيوت حتى تكاد تخفيها. المباني عتيقة الطراز طبعها الزمن بصفرته الذاوية. الشوارع واسعة والسيارات التي تمرق فيها قديمة الطراز، قليلة العدد. أما المشاة فما أكثرهم. ملامحهم متميزة تشي بالتركيبة السكانية للدولة. الكازاخ بملامحهم ذات الطابع المغولي، والروس بشقرتهم السلافية.

إنها مدينة يطيب العيش فيها. تثير في داخلك كل أحاسيس المدن المستكينة الهادئة. ولكن السيدة نعمة الله التي تعمل في المطعم الذي تناولنا فيه الغذاء قدمت لنا صورة مختلفة عن مدينة مميتة. "الأطفال يولدون وهم يعانون أمراضا خبيثة في الجهاز العصبي. فالغبار النووي الناتج من التجارب النووية الصينية يأتي إلينا عبر جبال "التاد". وكذلك آثار التجارب السوفييتية المفتوحة التي جرى معظمها في أراضينا. وكذلك الرءوس النووية التي لا نعرف أين تستقر وكيف تتفكك. لقد دخلنا العصر النووي رغما عنا ونحن ندفع ثمن شيء لم نشارك فيه."

لم أدر أن الماآتا التي أخذتني لأول وهلة تعيش سنواتها كعاصمة، فالموقع غير مناسب لدولة بهذا الاتساع، فهي تقع في أقصى شرق البلاد، كما أنها معرضة باستمرار للهزات الزلزالية. هذه هي الأسباب المعلنة، ولكن الأسباب الخفية هي محاولة لوجود السلطة المركزية في وسط البلاد، في المنطقة الشمالية التي تسكنها أغلبية روسية وتهدد بانفصالها. خاصة بعد إعلان الكاتب الروسي الشهير ألكسندر سولجنتسين أن هذه الأراضي هي جزء من روسيا المقدسة.

إن نسبة الكازاخ الذين يملكون دفة الحكم الآن ويعتبرون أن بلادهم قد عادت إليهم لا تتجاوز 40% من مجموع السكان وهي نسبة لا تزيد كثيرا على نسبة الروس التي تصل إلى 38%. غير هؤلاء تكمن أعراق أخرى تعطي ملخصا لكل الأجناس التي أظلتها الإمبراطورية السوفييتية. لقد تمت في عصر ستالين أكبر خلطة عرقية عرفها التاريخ. انتزعت أجناس من موطنها لتحل بدلا منها قوميات أخرى. عوقبت قرى بأكملها بتهم عدم الولاء أو التعاون مع النازي وخضعت كلها لنوع من التهجير القسري. وكان الغرض الأساسي من هذه الخلطة هو محاولة صهر هذه الأعراق في تركيبة واحدة لكي يتماسك قوام الإمبراطورية الشاسعة في ظل رابطة جديدة. ولكن كانت تكفي عاصفة واحدة ليتفكك كل شيء، ويلوذ كل بقوميته.

لقد فقد الروس فجأة المكانة الأولى التي كانوا يحتلونها وأصبحوا يعانون شظف المواطن العادي. كنا في ضيافة إحدى الشخصيات الكازاخية عندما قدمت لنا خادمة روسية أكواب العصير. وسأله مرافقنا في دهشة: هل يعمل عندك خدم روس. قال الرجل: لقد عملنا عندهم كثيرا.

الكازاخ من الشعوب الطيبة والبسيطة. يبادلونك التحية وهم يضعون أيديهم على قلوبهم وهم يرددون "رحمات". في كل مكان ذهبنا إليه كانوا يهرعون لتقديم العون والمساعدة. كانوا فرحين لأننا عرب ومسلمون. كان شوقهم إلى الانتماء كبيرا لأن الإسلام في النهاية كان يمثل جزءا من شخصيتهم القومية التي جرى طمسها طويلا، تماما مثل اللغة الكازاخية التي ظلت لسنوات طويلة محفوظة داخل البيوت .. لا تدرس ولا تكتب ولا تقرأ. إنها تعود الآن ولكن بعد أن فقدت الحرف العربي الذي كانت تكتب به. فقد قررت الدول الخمس (ما عدا طاجكستان) في مؤتمر لها عقد تحت رعاية تركيا الأخذ بالنهج الأتاتوركي وهجر الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني .. لقد بدأت ملامح الخطر تلوح في الأفق.

على حافة الماآتا تقع واحدة من أجمل المناطق الجبلية في العالم "الميدو" ذلك المنتزه الرائع الذي تتألق الشمس عليه خاصة بعد أن تذوب الثلوج من فوق غصون الصنوبر. درج يصعد بنا إلى أعلى الجبل. عشاق صغار متناثرون. بعضهم في حالة شديدة من السكر البين. المنطقة كانت زاهية ذات يوم. تحتوي على فندق وساحة للتزلج على الجليد وكافيتريا واستراحات. كل شيء معطل ومغلق الآن. كل شيء أصابه خراب مفاجئ كأن هناك أيدي مجهولة هوت عليها بالتدمير.

"لم نتناول رواتبنا منذ ثمانية شهور. لم نفقد الراتب المنتظم فقط ولكننا فقدنا الشعور بالأمان" تحدث إلينا البرفيسور ناصروف أستاذ التاريخ بجامعة "الماآتا" كان واحدا من الحرس القديم ارتفع عنه غطاء الحكم الشمولي فجأة. ولكن رأي الشباب الذين قابلناهم في شوارع المدينة نصف المعتمة كان مختلفا. "لا شيء يوازي الحرية" هكذا أعلنوا جميعا. كانوا يمارسون حياتهم على المقاهي الجديدة وأندية الديسكو الليلية التي انتشرت في المدينة والتي تسهر إلى وقت متأخر. كانوا يطالعوا الماركات الغربية التي بدأت تغزو الواجهات الزجاجية للمحلات ووكالات السفر التي تقدم رحلات إلى بلاد العالم. شعور الحرية رائع طبعا برغم كل ما يكتنفه من مشاكل، فالجميع كان متأكدا أن كازاخستان الدولة الغنية بكل أنواع المعادن سوف تعاود النهوض من جديد.

ولكن تمثال لينين الذي يتوسط أكبر حديقة في المدينة لم يسقط بعد. كان لا يزال واقفا مادا ذراعه كأنه يحاول منع وقوع كارثة بعد أن كف عن توجيه الجماهير. تماثيله الصغيرة المتناثرة في المدن الإقليمية والقرى لم تهبط هي أيضا. لعله نوع من الذكرى.. مما لا شك فيه أن هذا الرجل قد حول تلك السهوب في دولة آسيوية إقطاعية قديمة يحكمها "الخانات" إلى دولة تقف على أعتاب العصر النووي.

فأين يكمن الخطر إذن ؟

إن كل شيء لم يتبلور بعد. فقد اتجهت أنظار الأطماع العسكرية إلى هذه المنطقة منذ فجر التاريخ، منذ أن حلم الإسكندر الأكبر بإمبراطوريته التي تمتد من مشرق الأرض حتى مغربها. ولكن اللعبة الكبرى - وهو تعبير سياسي معروف - بدأت في القرن التاسع عشر بين إنجلترا الفيكتورية وروسيا القيصرية.

لم تكن إنجلترا تتصور أن يستقر بها المقام في الهند دون أن تبعد أظفار الدب الروسي عن وسط آسيا. وقد دار الصراع بينهما سافرا أحيانا وخفية في أغلب الأحيان. وحدثت أكثر من مواجهة بين البعثات الاستكشافية التي أرسلها الطرفان سرعان ما استتبعها تدخل الجنود ونشوب بعض من الحروب الصغيرة. وانتهت اللعبة مؤقتا باستيلاء روسيا على هذه المنطقة كلها.

ملامح اللعبة تعاود الظهور الآن من جديد. والصراع هذه المرة يدور بين روسيا وأمريكا مع تداخل من بعض الأطراف الأقل أهمية مثل تركيا وإيران. والهدف هو احتياطيات النفط الكبيرة الرابضة تحت سهوب كازاخستان. وقد بدأ الصراع الذي كان خفيا يأخذ شكله السافر منذ عام عندما حاولت شركة "شيفرون" ثالث الشقيقات السبع، وهي أكبر الشركات التي تتحكم في سوق النفط على مستوى العالم، استثمار 10 بلايين دولار لتطوير حقول النفط في منطقة تاينجيس التي تؤكد التقارير أنها قادرة على إنتاج 600 ألف برميل من النفط يوميا. أي ما يعادل 10.5 مليون دولار حسب الأسعار العالمية.

ولكن روسيا التي تتحكم في كل خطوط أنابيب النفط الداخلة والخارجة في وسط آسيا تقف أمام هذا المشروع بالمرصاد. فقد أعلنت عدم موافقتها بدعوى أن الأنابيب لا تتحمل سوى عشر هذه الكمية. إن روسيا تضغط بالطبع للحصول على نصيبها من هذه الثروة فهي لم تتخل بعد عن أطماعها الإمبرالية القديمة. وبدلا من الاستسلام لعرض "شيفرون" أعلنت عن مشروع تقوم به وحدها لنقل بترول كازاخستان لشواطئ البحر الأسود.

حكومة كلينتون قبلت التحدي وبدأت تدافع عن مصالح شركاتها وعن أطماعها في المنطقة. أعلنت أنها تدعم بناء خط جديد يبدأ من كازاخستان وينتهي عند بحر قزوين عبر الأراضي التركية. تركيا طبعا ترحب بهذا الخط الذي سوف يحدث نوعا من الانفراج لها ويزيد من روابطها بدول وسط آسيا.

توضح هذه المواجهة مدى التأثير الروسي في المنطقة كلها بشكل عام وفي كازاخستان بشكل خاص. فهي تتحكم في كل الطرق التي تصلها بالعالم وبالتالي فهي تتحكم في ثرواتها الطبيعية وتبدي كلمتها في أي مشروع استثماري يسعى إليها. أي أنها تحاول أن تكون شريكا في كل صفقة سواء كانت قادرة على المشاركة في التمويل أو غير راغبة. وفي كازاخستان اضطرت شركة أجيب البريطانية للغاز للتوقيع على عقد تعطي بموجبه 15% من حصتها في غاز كاراشاجانك - وهو واحد من أكبر عشرة حقول للغاز الطبيعي في العالم - لشركة جاز بورم التي تمتلكها الحكومة الروسية بسعر 8.84 دولار لكل ألف متر مربع بينما ثمنه الحقيقي في السوق العالمية 80 دولارا.

ولا يتركز التأثير الروسي في تحكمه في الطرق والثروات فقط. ولكن وجود روسيا العسكري ما زال مؤثرا أيضا. ربما كانت "أوزبكستان" هي الدولة الوحيدة من وسط آسيا التي لا يوجد على أرضها أو على حدودها جنود روس. ولكنهم موجودون بالفعل في بقية الدول. إما بشكل سافر أو خفي. في طاجكستان المجاورة تدور حرب ضروس - لا يعلن عن ضحاياها - بين الحكومة التي تملكها فلول الشيوعيين القدامى والمعارضة الإسلامية. كذلك الحال في أذربيجان. أما في كازاخستان فهم يملكون المفاتيح الرئيسية للقوات المسلحة ويشرفون على قواعد الصواريخ ويقومون بتدميرها وفق معاهدة "سولت" دون تدخل من الحكومة.

فخبرة شعوب وسط آسيا بالحياة العسكرية قليلة إلى حد ما. فقد كان معظمهم يعلمون في الجيوش السوفييتية كطهاة أو عمال للنظافة. وأسفر تفكك الاتحاد السوفييتي عن وجود قواعد عسكرية في هذه الدول لا تعرف عنها شيئا، وحدود لا يدرون كيف يراقبونها. لقد اضطر الرئيس الكازاخي نزار بياف إلى الموافقة رسميا على مشاركة روسيا في قواته المسلحة. واعترف بالروسية كلغة رسمية بجانب الكازاخية كما وافق أيضا على مشاركة روسيا في كل مشاريع الطاقة.. وعلى حد تعبير دبلوماسي غربي قابلناه في "الماآتا": "هذه هو السبب الرئيسي في الترنح الذي يعانيه الاقتصاد الكازاخي .. فليس أمامهم خيارات كثيرة.."

قوة الرؤساء في كازاخستان وبقية الدول المسلمة في ازدياد مستمر. فهم كما هي الحال في بعض بلادنا العربية لا يؤمنون كثيرا بأسلوب الانتخابات ويفضلون بدلا منها الاستفتاءات التي تسفر في العادة عن النتيجة الشهيرة 99.9% لذا فإن هؤلاء الرؤساء يمسكون بزمام السلطة دون أي معارضة حقيقية. وحتى بعد أن رفضت المحكمة العليا في كازاخستان نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة أعلن الرئيس نزار بياف بوضوح عن عدم نيته في إجراء انتخابات أخرى. إنهم "خانات" جدد كما يؤكد كل المراقبين، تربوا منذ الحزب الشيوعي على عدم حب الديمقراطية وأغلبهم يجاهر بذلك.

السهوب الواسعة خارج الماآتا تدعونا للرحيل. امتداد خرافي آسر. دائم عبر الزمن. خضرة تنام على حافة الجبال التي تغطيها الثلوج. الطريق إلى شمكنت يمتد جنوبا على مدى 800 كيلو متر. تحملنا سيارة سوفييتية خشنة تتقافز فوق تشققات الأسفلت. قطعان من الأغنام والأبقار والخيول ترعى في هدوء. تبدو من فرط بريتها أنها ليست ملكا لأحد. إنها تنتمي فقط إلى عمق السهوب. كأنها تنتظر جحافل المغول حتى تأتي فيأكلون لحومها ويعتلون ظهورها ثم يقومون بغزو العالم.

نتوقف عند المطاعم الصغيرة المتناثرة في الطريق. نأكل "اللجمان" الدسم. لحم الغنم بكل ما فيه من شحوم مع خلطة من العجائن والخضروات. دسم يتناسب مع طقس هذه المناطق التي تغطيها الثلوج سبعة أشهر كل عام. نعبر المدن والقرى الصغيرة. قباب الشيوخ والأولياء تلوح فوق همم الجبال. بصمات الإسلام في كل مكان.. فكيف تأتى لهذه الدعوة التي خرجت من قيظ مكة البقاء والازدهار وسط هذه السهوب الباردة؟

في متحف الماآتا كان هناك تمثال للسكان الأصليين أو "الساكيين" ملامحهم أقرب ما تكون للقبائل السلافية قبل أن يجتاحهم المغول ويختلطوا بهم. لقد اعتبروا السماء آلهتهم. ولكنهم أرواح الأسلاف وأقاموا النصب المقدسة وزينوها بذيول الخيول، وآمنوا بأن المرور بين نارين يطهرهم من الآثام. ليس هم فقط بل كانوا يمررون ماشيتهم أيضا قبل أن تذهب للذبح.

دخل الإسلام إليهم من الجنوب - عكس الطريق الذي نسير عليه الآن - متأثرا بالمدن الإسلامية الكبرى التي صعدت وازدهرت مثل بخارى وسمرقند وخيفا. حمله إليهم تجار القوافل على طريق الحرير الطويل والذي يوجد في كازاخستان الجزء الأكبر منه.

والمدهش أن النبلاء الكازاخ المسلمين هم الذين اختاروا الانضمام طواعية لروسيا القيصرية. فقد كان "الخانات" الذين توالوا على حكم البلاد أضعف من أن يقاوموا أطماع الصين. وفي المقابل شجعت روسيا انتشار الإسلام لتقوية نفوذ النبلاء الذين كانت تعتمد عليهم. ولكنها ما لبثت أن انقلبت عليهم حين بسطت سيطرتها على البلاد. وأكدت ذلك بأن أصدرت سلسلة من القوانين تحد من انتشار الإسلام بحيث لا يكون هناك أكثر من إمام واحد لكل مقاطعة وأن يوقف إنشاء المساجد إلا بتصريح من القيصر، ثم دفعت بالعديد من المبشرين لدفع الناس لاعتناق المسيحية الأرثوذكسية.

وازدادت محاصرة الإسلام بعد وصول البلاشفة إلى الحكم في عام 1917 ولكن في المقابل دخلت كازاخستان في مرحلة جديدة بعيدا عن العلاقات الاقتصادية الإقطاعية التي كانت تسودها.. لقد أصبحت واحدة من كبريات الجمهوريات السوفييتية من حيث مستوى التعليم الحديث "وقد حرم التعليم الديني نهائيا". كما أن الحرب العالمية الثانية قد مثلت ثورة أخرى بالنسبة لها على المستوى الصناعي. فقد انتقلت إليها كل الصناعات الثقيلة التي كان السوفييت يخشون عليها من الدمار أو الوقوع في أيدي القوات الألمانية. كما أنها تحولت إلى ثالث منطقة لإنتاج الحبوب بعد روسيا وأوكرانيا. ويمكن القول إن الثروات الكامنة في أعماق هذه السهوب هي التي ساهمت في انتصار السوفييت في هذه الحرب الكونية. وبرغم ذلك كما قال لي أحد الاقتصاديين الكازاخ : لم يعترف الروس بذلك وظلوا يواصلون سلب ثرواتنا الطبيعية. وأبسط مثال على ذلك أنه برغم أن الثروة الحيوانية في كازاخستان كانت مصدرا أساسيا من مصادر الطعام في الاتحاد السوفييتي فقد كانت أسعار اللحوم في موسكو أرخص بكثير عنها في كازاخستان.

نقف الآن على أبواب جمبول. مدينة أخرى من أشهر معالم طريق الحرير الطويل. تغير اسمها القديم، ولكنها أخذت اسمها الحديث من الشاعر جمبول الذي خرج من هذه المنطقة وآمن بستالين وخصص له الكثير من قصائده خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد فاز مائة من أبناء كازاخستان بلقب "بطل الاتحاد السوفييتي" وهو عدد كبير بالنسبة لقومية واحدة، بل إنها كانت قومية مهمشة عسكريا أيضا.

في الحقيقة لم نكن نسأل عن جمبول.. فقد نلنا كفايتنا من الشعر السياسي. كنا نبحث عن أشهر العاشقات الكازاخيات، قبر عائشة بيبي. الجميع كانوا يعرفون مكانه ولكننا برغم ذلك ظللنا ندور حول أنفسنا في الطرق الملتوية وغير الممهدة. صعدنا تلة وهبطنا أخرى واجتزنا البوابات المغلقة لنجد قبر العاشقة أمامنا. أحجار تكسوها الفسيفساء الذائبة. نجوم وأهلة، ودمعة وحيدة على قبر العاشقة التي تنمو حولها أزهار شقائق النعمان. دائما تذكرني هذه الأزهار بكل مآسي العشاق. كانت عائشة فتاة صغيرة عندما وقعت في غرام أحد الخانات. قال لها إنه ذاهب إلى الحرب وعندما يعود سوف يتوجها أميرة على قلبه وبلاده. ولكن والديها حذراها من أن الخان يخدعها وأنه لن يتوج بجانبه أبدا فتاة من العامة. ولكن عندما عاد الخان من الحرب كان ما زال يذكرها وأرسل إليها رسولا يقول لها إنها أول وجه يحب أن يراه عندما يعود.

لم تبال عائشة باعتراض أبويها وهرعت في الليل لتلاقي حبيبها ولكن حية لدغتها في قدمها فماتت في موضعها. وحزن الخان حزنا شديدا عليها ولم يكتف ببناء هذا القبر العالي بل بنى في مقابله صومعة يعيش بها طوال حياته ويدفن فيها بعد أن يموت زاهدا في متاع الدنيا من أجل حبيبته. ولكن الحياة هي الحياة، فقد نسي الخان أحزانه وتزوج مرة أخرى وهجر صومعته ولم يعد إليها.. ولكن القبر بقي شاهدا على أشهر قصص الحب في طريق الحرير الطويل.

مرة أخرى نواصل الرحيل وسط متاهة السهوب الخضراء. أين ذهبت المزارع النموذجية ؟ الكلوخوزات ؟ ملاحم الفلاحين في مواجهة الطبيعة القاسية. كل الأدبيات والرموز التي تغذينا عليها صباح مساء من التجربة السوفييتية.. كيف اختفى كل هذا ؟ على امتداد البصر لا توجد إلا صحراء خضراء قاحلة من البشر تنتظر الغراس والبذر.

نظل نواصل السير ساعة وراء الأخرى. نلمح إحدى المزارع وماكينات الري العملاقة تتحرك والنباتات تعلو قليلا على مستوى العشب. ولكن سيارات الشرطة توقفنا تنظر إلى وجوهنا في تشكك. إنها قرية "تشو" أشهر قرى زراعة المخدرات في كازاخستان. أكثر من مرة هاجمتها الشرطة ودمرت مزروعاتها ولكنها عادت للنمو من جديد دون أن تتوقف السيارات القادمة إليها من العاصمة. إنها تبعد حوالي 350 كيلو مترا ولكن الحركة إليها لا تهدأ خاصة سيارات الشباب الذين يتطلعون إلى مخدرات جيدة ورخيصة السعر.

نصل إلى شمكنت أخيرا في مساء يوم منهك من السفر المتواصل. نلمح خضرتها الكثيفة للحظات قبل أن تغيب الشمس ويسود الظلام الدامس طرقات المدينة الواسعة. نتخبط فيها بحثا عن فندق مناسب. معظمها من بقايا تركة السوفييت، رديئة ورخيصة. فندق واحد حديث يملكه زعيم المافيا في المدينة ولكن أسعاره أزيد بكثير من الحدود المعقولة.

ولكن إذا كان من الممكن حل مشكلة الفندق والرضا بأي شيء - وأهي نومة وخلاص - فقد كان من الصعب حل مشكلة وجود المياه الحارة. فالمدينة كلها لا توجد فيها مياه حارة ولا فيما يحيط بها من مدن أو قرى صغيرة. لقد قضت شمكنت شتاء قاسيا هذا العام بعد أن انقطعت عنها إمدادات الغاز والطاقة التي كانت تصل إليها من دولة أوزبكستان المجاورة.

فالمسافة بين شمكنت وطشقند عاصمة أوزبكستان لا تتجاوز 150 كيلو مترا أي أنها أقرب مدينة كبيرة إليها. وكان من الطبيعي في ظل الاتحاد السوفييتي أن تعتمد عليها في إمدادات الغاز والطاقة. ولكن طشقند الآن أصبحت عاصمة دولة أخرى.. مستقلة. وهي تطالب بثمن كل ما تقدمه من خدمات. ولآن كازاخستان كانت عاجزة عن الدفع فقد تم قطع الغاز.

لقد تراجعت القرى المحيطة بشمكنت إلى العصور الوسطى ولم تعد تسمع عن الكهرباء من أعوام. لقد عادوا للضخ من مياه الآبار وأصبحت الأراضي المحيطة بها مهددة بالبوار. وتعود الناس في شمكنت على السير في الظلام الدامس وحتى داخل البيوت فإن درجات الإضاءة في أدناها.

وجاء الصباح ليحمل إلينا وجه المدينة المضيء. ولكن حتى في عز الشمس لم تكن الإضاءة كافية. فهذه العاصمة الدينية القديمة التي كانت محط القوافل ومهبط العلماء تعاني مشاكل خطيرة. كان أول ملامحها باديا على أبواب مصنع النسيج الذي كان يعد ثاني أكبر مصنع نسيج في الاتحاد السوفييتي. كان مغلقا، وأفواج العمال العاطلين يجلسون حول أسواره في كل صباح، ربما لم يعترفوا بعد بهذا العطل، وربما لأنه لا يوجد مكان آخر يذهبون إليه.

لم يكن هذا المصنع وحده هو المغلق، كل مصانع "شمكنت" كانت صامتة. لا توجد ذرة دخان واحدة تتصاعد إلى عنان السماء، مصنع الأدوية والكيماويات، مصانع المعادن، مصنع الحافلات، المنظفات، الملابس، مؤسسات ضخمة وعملاقة، ترتفع مداخنها كأنها أذرع تتوسل دون جدوى. مقابر من المعدن يزحف عليها الصدأ. كانت كلها تعمل ضمن منظومة الاتحاد السوفييتي القديمة. كل مصنع كان يتكامل بشكل أو بآخر على مصنع آخر في جمهورية أخرى. كانت الشرايين موصولة بين كل هذه المؤسسات الصناعية. الآن تمزقت، كما تمزقت الدول، وكما تمزقت الأندلس قديما بين ملوك الطوائف. كلها تنتظر الاستثمارات الغربية، والاستثمارات الغربية جاءت بالفعل، فقد اشترى الأمريكيون مصنعا لإنتاج البسكويت وأصبحوا ينتجون الآن نوعا لذيذا منه. كما أن هناك مصنعا لإنتاج سجائر المارلبورو وربما يكون هناك مصنع آخر للعلك تحت الإنشاء.

التعليم أيضا يعيش محنته، مثلما الحال مع أستاذ التاريخ الذي قابلته في الماآتا. كشفت لي شمكنت عن وجه آخر، تلك الفتاة الجميلة التي كانت معلمة في المدرسة العليا بالمدينة. إنها تعمل الآن جرسونة في المطعم التركي في المدينة. عندما كانت معلمة لم يكن راتبها يتجاوز الثلاثين دولارا. أما الآن فهي تعمل طوال اليوم مقابل 120 دولارا وهو مبلغ يكاد يفي باحتياجاتها. قالت لي : "كنا كلنا نعتقد أنها فترة مؤقتة من الركود وعدم الاستقرار وسوف تنتهي. ولكنها طالت أكثر مما ينبغي .."

ها نحن نعاود الرحيل مرة أخرى. لا نهاية للمسافات في هذا البلد الشاسع. يقودنا الطريق الضيق المليء بالأشجار العتيقة إلى واحدة من أقدم مدن العالم.. "تركستان" مدينة عمرها خمسة عشر قرنا الآن. الطريق إليها مليء بمعالم الماضي والمدن الصغيرة ليست مجهولة. أسماؤها متناثرة في كتب الرحالة. وبرغم أنها تقع في الطرف الجنوبي من كازاخستان فإنها ذات يوم كانت قلب العالم التجاري. نلتقط أنفاسنا قليلا في بلدة "سيرام" في هذه المنطقة يتراجع الكازاخ وتسود قومية أخرى هي "الأوزبيك". لذا فإنهم أكثر نشاطا في مجال الزراعة. يتغير الطابع الرعوي الذي كان يغلب على الأرض في الشمال وتبدو الأرض المقسمة تشي خطوطها الطينية بجهد البشر.

كنا نخوض في تضاريس تركستان محاولين اكتشاف خطى الذين ساروا قبلنا على درب الحرير. لم يكن الحرير أهم ما يباع فيه من بضائع. ولكن كم يبدو هذا الاسم آسرا خاصة أنه يعبر عن واحدة من أطول الرحلات الدورية التي عرفها البشر. في بدايتها ينتصب أشهر المزارات في منطقة وسط آسيا كلها. مزار حاجي أحمد عيسوي. ولأن الاسم الأخير ثقيل على النطق التركي فإنه يطلق عليه "أحمد ياسفي". أو مكة الثانية كما يطلق عليه هنا.

بناء قديم ومهيب، يستمد مهابته من عالم الأسطورة. الإصلاحات تدور في كل مكان فيه. الأحفاد من الخبراء الأتراك أقبلوا على عجل كي ينقذوا البناء المتداعي بأساسات جديدة وبمكعبات من "السيراميك" تحاكي الأصل القديم نفسه، وبرغم الإصلاحات فوفود الزوار لا تنقطع مثلما لم تكن القوافل تنقطع عن هذا المكان كلهم يريدون التبرك بهذا الحاجي الشاعر الذي ما زال يسكن في القلوب برغم مرور كل هذه القرون على وفاته.

ففي زمن الاتحاد السوفييتي، عندما كان الخروج لحج بيت الله الحرام أشبه بالمستحيل، كان الجميع يزورون هذا المقام. والآن حتى بعد أن انفتحت الأبواب فإن الأقدام ما زالت تسعى إليه من كل أطراف وسط آسيا. في باحة المسجد - بين أعمدة السقالات ودعامات الإصلاح - تتزاحم النسوة حول الإناء المعدني الضخم الذي يتوسط المكان. إناء أسطوري، محفور عليه آيات قرآنية، مصنوع من سبيكة مجهولة التركيب كما يقولون. تكفي شمعة واحدة تضاء تحته حتى يتحول ما فيه من ماء بارد إلى شديد الحرارة حتى في أقسى شهور الشتاء. إنه ماء مبارك، يقف أمامه طابور مكون من عشرات النسوة اللواتي لا يكففن عن التوافد. كل واحدة منهن حريصة على لمسه أو أخذ بضع قطرات منه، فهو يشفي من الأمراض، ويعالج العقم، ويعيد الغائب، ويحافظ على توهج مشاعر المحبة.

والأساطير لا تخص الإناء المعدني وحده، ولكنها تحيط بصاحب المكان أيضا حاجي أحمد ياسفي (أو عيسوي) الذي كان فقيها وعالما وشاعرا. استقر في هذه المدينة بعد تطواف طويل في بلاد المسلمين. ثم أحب هذا المكان الذي كان واحدا من أهم مراكز طريق الحرير. ويقال إنه عندما بلغ سن الثالثة والستين اعتكف في قبو هذا المسجد ورفض أن يتناول طعاما أو شرابا حتى لا يعيش أكثر من العمر الذي عاشه الرسول الكريم. وعندما مات دفن في هذا المكان. وعندما مر به تيمور لنك الذي كان سلطان العالم في هذا الوقت أمر بتشييد كل هذا البناء الضخم.

ها نحن نسمع أصوات القوافل وهي قادمة لتحط رحالها عند أبواب تركستان. تتناهى إلينا عبر غبار السنين. تصل بيننا وبين ذلك الطريق الأسطوري الذي احتل خيالات البشر تحت اسم "طريق الحرير" .. فهو لم يكن مجرد طريق تجاري، ولكنه كان شريانا للاتصال بين الحضارات المختلفة.

لقد ضاعت معالم هذا الطريق مع تقلبات الزمن. وطمر الغبار المدن التي كانت زاهرة. ولكن دعوة منظمة اليونسكو في عام 1985 إلى إعادة إحيائه جعلت الكثيرين من الباحثين والمنقبين يعاودون فتح مساراته القديمة مرة أخرى.

في متحف "الماآتا" قالت لنا الدكتورة نعمة الله حسبوف أستاذ الآثار: "لقد كان الرحالة الإيطالي فرانسيسكو بيجولوتي هو أول من أشار إلى هذا الطريق عام 1355 بعد أن عاد إلى بلدته فلورنسا إثر غياب غامض ثماني سنوات كاملة ليحكي عن ذلك الطريق الطويل الذي قطعه من أوربا حتى قلب الصين وقد أمر تجار فلورنسا بطبع هذا الكتاب الذي سجل فيه رحلته ليكون فيما بعد دليلا للتجار".

بدأت الرحلة من قلعة "أزوف" على نهر الدون في أوربا ثم أخذ عربة "الكيبيكا" لمدة عشرين يوما نحو مدينة "أسترخان" على نهر الفولجا ثم عبر سهول كازاخستان إلى خوارزم حتى وصل إلى نهر "سرارا داريا" أو نهر سيحون كما يعرف في كتب الرحالة العرب ومنها سار إلى "أورار" عاصمة كازاخستان القديمة بلدة العالم الفارابي قبل أن يدخلها جنكيز خان ويدمرها. ثم استأجر البغال ليصعد بها فوق جبال "التاد" ويهبط منها إلى مقاطعة "تيان شان" في الصين. ومنها ركب القوارب عبر القناة الكبرى في "هوانج هو" التي قادته إلى نهر "اليانجستي" العظيم ومنها إلى بكين قلب الصين.

هذا هو خط الرحلة الذي ظل أساسيا على مدى آلاف السنين مع إضافة بعض التفاصيل .. موسكو شمالا .. القدس جنوبا .. ولكنها الرحلة نفسها التي صنعتها جيوش الإسكندر المقدوني منذ آلاف السنين. فهذا القائد الصغير الذي حلم بامتلاك العالم قد غير شكل خارطة الأرض ووسع من المساحات المأهولة. لقد تحول العالم بفضله إلى شيء دائم الحركة. واكتشفت أوربا أن عليها التعامل مع آسيا. أي أن ال "أيوكومن"Oikumeneالهليني وجد نفسه في مواجهة ال "أيوكومن" الشرقي وقد انفتحت بينهما شرايين لا لتبادل التجارة فقط، ولكن لتبادل المعارف والخبرات الحضارية.

ولا يوجد تاريخ قديم يحكي لنا عن طريق الحرير قبل الفتح الإسلامي. وربما كان السبب أنه كان طريقا مضطربا غير آمن. لا توجد فيه محطات كافية لاستراحة القوافل، وتزويد الركاب بالمؤن. لم يشهد الطريق أمانه وازدهاره إلا تحت إمرة المسلمين. وبرغم ذلك يروق للمستشرقين أن يروجوا قصة زائفة عن فتح قتيبة بن مسلم لمدينة خوارزم عام 712 م، وكيف أنه جمع كل الذين يعرفون الكتابة وكل حفظة التاريخ والأساطير وقتلهم جميعا وأراد بذلك أن يمحو ذاكرة ما قبل الإسلام وهو ادعاء باطل يكذبه سلوك العرب كفاتحين في كل البلاد. وحقيقة عدم وجود تاريخ لطريق الحرير قبل الفتح الإسلامي هو أن الطريق لم يكن له وجود فعلي منتظم ومردود اقتصادي وثقافي ملحوظ إلا تحت إمرة حكام المسلمين.

على مدى ألفي عام كانت القوافل تتحرك على طريق الحرير. قامت العديد من الحروب الدموية، وانتشرت الأوبئة والمجاعات. قامت أقوام وبادت، وازدهرت مدن واندثرت. حتى الأنهار غيرت مساراتها وظل مسار الطريق كما هو. أكثر من مرة ارتفعت سيوف الغزاة حتى تقطع أوصاله أو تضعه تحت سيطرتها. الإسكندر المقدوني، جنكيز خان، تيمور لنك، فشلوا جميعا. لا المدن المدمرة ولا السيوف ولا الطاعون قد استطاع أي منها أن يوقفه.

وإذا كان قد أخذ لقب الحرير فإن بضاعته الأصلية لم تكن كذلك. كانت مادته السحرية التي أعطته تلك الديمومة عبر الزمان هي "البهارات". فعلى مدى قرون طويلة كانت الحروب المتواصلة تمزق أوربا. في كل عام تسقط عشرات القلاع والحصون. تسير الجيوش لمسافات طويلة ويهاجر أناس أو تتم محاصرتهم داخل الحصون. وحتى يمكن مواجهة كل هذه الظروف كان لا بد من وجود وسيلة لحفظ الطعام. إن قدرة المحاربين على الصمود، وحركة الجيوش، والرحلات البحرية الطويلة لاستكشاف الأرض الجديدة لم تكن تخضع لقوة الجدران، أو براعة القادة، أو متانة السفن، ولكنها كانت بالضرورة تعود إلى وسيلة حفظ الطعام من التلف. وفي البداية كان البهار يستخدم لحفظ الطعام من موسم لآخر، ولكنه بعد ذلك أصبح ضروريا في الحرب والسلم والاستكشاف. من يملك مصدره يملك السيطرة على مصير أوربا.

إن موطن البهار هو آسيا الاستوائية. ففي قلب غاباتها الاستوائية توجد أشجار جوز الطيب والقرنفل ونباتات الآس العطري وبقلات الينسون والمسطردة والفانيليا والجنزبيل والفلفل الأسود والكمون والكزبرة. كانت القوافل تسير إلى أوربا محملة بأثقالها وهي في أشد الحاجة للتخلص منها.

ولكن بحارة لشبونة استطاعوا اختراع أشرعة رباعية تسير ضد اتجاه الريح. وقد أحدث هذا الاختراع ثورة هائلة في كل طرق الملاحة. وقد أدرك كريستوفر كولمبس أن الوقت قد حان للوصول إلى بهار الهند بواسطة البحر، ولكنه اكتشف بدلا منها أرضا جديدة. ولكن الانتصار الحقيقي لأوربا كان هو دعوة "فاسكو دي جاما" عام 1949 الذي كان أول من اكتشف أرض البهار. وكانت حمولته من جوز الطيب والقرنفل التي عاد بها تساوي ستين ضعف تكاليف رحلة الاستكشاف التي استغرقت عامين. وكان هذا إيذانا بموت طريق الحرير وأخذت مكانه الاستكشافات الجغرافية الكبرى. وازدهرت المدن البحرية بينما بدأ التراب يطمر مدن الحرير. لقد تغير الطريق من الصحراء والثلوج إلى البحار المفتوحة.

لم تنته الرحلة بعد لأن أهل الخير في الكويت أضفوا على رحلتنا طابعا مختلفا.

جاءت السيدة تعدو حين لمحت سيارتنا، كانت تحمل في يدها طبقا مليئا بقطع الحلوى والكعك والزبيب. نثرت الحلوى على رءوسنا وهي تتمتم بالدعوات. لم نفهم غير كلمة "رحمات" ولكننا كنا نفهم شدة انفعالها. كنا قادمين من بلاد الخير بالنسبة لها. كنا في قرية "شان ران" التي لا تبعد عن "الماآتا" إلا بأميال قليلة ومع ذلك فكأنها تعيش في عالم آخر. ألواح صغيرة، وطرق وعرة، وحيوانات ترعى وأعشاب برية تقطع الدروب.. كل ذلك دون قطرة واحدة من الماء.

كانوا جميعا فلاحين، كازاخا مسلمين. يعيشون من قبل على نهر أرال. ولكن مياه النهر غاضت وتلوثت بالملوحة وأصبحت أراضيهم جافة وقاحلة .. واضطرت الحكومة لتهجيرهم إلى هذه الأرض الجديدة ولكن بلا أي خدمات، لا كهرباء ولا ماء ولا عيادة صحية. وظلوا في هذا الواقع المأسوي لمدة ثلاث سنوات كاملة.

تقول فاطمة شيخا عضو مجلس النواب عن هذه المنطقة "وجهنا العديد من النداءات إلى كل المسئولين دون جدوى. كانوا يتعللون دائما أن الميزانية لا تسمح. وكان أهل القرية يضطرون للسير أكثر من مسافة ثلاثى أميال للحصول على قطرة من الماء." وأضافت شلبان جمعة الصحفية في جريدة "الماآتا": "كنا نحتفل في العام الماضي بذكرى الشاعر "أباي" الذي أحيا اللغة الكازاخية وجاء حاكم المنطقة وشاهد الوضع المأسوي ووعدنا دون أن يفي بأي وعد .."

المياه تتدفق الآن في قرية "شان ران" والمناطق التي تحيط بها. والفضل في ذلك يعود لتبرعات أهل الخير في الكويت وإلى جهود لجنة مسلمي آسيا. لقد تبرعوا لهذه القرية التي لا يعرفون اسمها ولا موقعها بحفر عشرين بئرا. وشاهدنا نحن عندما كنا نقوم بتغطية وقائع هذا الاستطلاع افتتاح ثماني آبار دفعة واحدة. والأشد تأثيرا من ذلك هو أننا عشنا لحظات نادرة من الفرح الخالص مع أهالي المنطقة الشيوخ والنساء والأطفال وهم يستقبلون أولى هذه القطرات. لقد ارتدى الأطفال الملابس الملونة وأخذنا الرجال بالأحضان وتحدث إلينا الشيخ العجوز "قايد مراد" وهو يحاول أن يتمالك نفسه من البكاء. كان يؤكد لنا أن جذوره تعود إلى قريش وأن جدوده هاجروا إلى هذه المنطقة لنشر الإسلام في القرن السابع وما زالوا يؤلفون قومية خاصة اسمها "قوجاك" وهي محرفة من كلمة قريش. كان يحمل القرآن في يده وكتابا آخر يضعه باستمرار على صدره فيه أوصاف الرسول الكريم. ويطلب منا أن نقرأ له بالعربية حتى يستأنس بصوتنا.

كان احتفالهم أخاذا بمجامع القلب. فرشوا مائدة خشبية طويلة في ساحة القرية ووضعوا عليها وليمة من لحم الضأن بجانبها أطباق "الشوربة" الساخنة واللجمان وخصونا نحن برأس الذبيحة تعبيرا عن تكريمهم لنا وقال لنا قنص باي حاكم القرية بين لقيمات الطعام: "لقد خرجنا من تحت الحكم الشيوعي وعقولنا كالأوراق البيضاء. يستطيع كل من يريد أن يخط عليها ما يشاء. الصراع هنا شديد وإذا لم يسارع المسلمون بتقديم العون لنا فسوف يرتد الناس عن الإسلام. إننا نريد المزيد من المدارس والمعلمين. لقد رويتم عطشنا للمياه وبقي أن ترووا عقولنا إلى العلم بالإسلام"

لم أدرك خطورة كلمات قنص باي إلا عندما شاهدنا ما يحدث في الماآتا والمدن الأخرى. الحملة التبشيرية الضخمة التي يقودها مجلس الكنائس العالمي آثارها في كل مكان. كتب ملونة ومجلات جذابة ومبشرون مقنعون وكل وعود الغرب البراقة. يفسرون آيات الإنجيل في التلفزيون، ويقيمون حفلات موسيقية في الأندية، ويقدمون الهدايا والهبات المالية ووعود الهجرة والعمل في الخارج ويساعدون في نشر كل الكتب التي تسيء إلى الإسلام.

يوجد في "الماآتا" أربعة مساجد وثلاث عشرة كنيسة. ومسجد المفتي الرسمي الذي لم يكتمل بناؤه منذ ست سنوات ولا يبدو أنه سيكتمل في القريب العاجل. في مقابل ذلك توجد بعض الجمعيات الإسلامية التي تعتمد في جهودها وتحديها على تبرعات الأفراد. أكثرهم نشاطا وحضورا على الساحة هي لجنة مسلمي آسيا، إنها تحاول من خلال مشروعاتها "التواصل الحضاري مع أحفاد البخاري .." أن تصل تلك المنطقة النائية بقلب الإسلام من خلال العديد من المشروعات الدينية والتنموية. وأهمية دورها يظهر وسط الكازاخ العاديين الذين هم في أمس الحاجة إلى مؤسسة دينية ترعى شئونهم وتقف بجانبهم في أزماتهم. يقول لنا الشيخ عبد القادر ممثل اللجنة في مدينة شمكنت : "لم يترك المبشرون مدينة إلا وحاولوا أن ينشروا نفوذهم فيها. لقد أقاموا احتفالا كبيرا في الاستاد الرياضي الكبير في "الماآتا" احتفالا بدخول 250 ألف مواطن كازاخي إلى المسيحية، وهم يحلمون بتكرار ذلك في كل مدينة ".

ولكن للإسلام عنصره الإيجابي برغم كل هذه التحديات. إنه جزء من الشخصية الكازاخية التي يريد الكازاخيون استعادتها. إنها تمثل ماضي العزة والاستقلال التي يتصورها مثل ظلال لأحلام عابرة يود لو أنها تتحقق على أرض الواقع. وهو يريد رابطا قويا مع العالم الإسلامي الذي تقطعت روابطه معه منذ زمن طويل.

ففي شمكنت عندما تجاوزت سيارتنا الخط الأبيض الموجود في منتصف الطريق أوقفت الشرطة قائد السيارة الذي كان عائدا بنا من تركستان. وقال لهم السائق معتذرا إنه فعل ذلك لأنه كان متعجلا ولديه ضيوف من الكويت. وكان هذا عذرا قويا جعل الشرطة يطلقون سراحه. وقد كان هذا جزءا من السمعة الطيبة التي حققتها الكويت بفضل أفعال أهل الخير بها. لقد امتلأت المدن والقرى في جنوب كازاخستان بالمساجد والمشاريع الخيرية. وقد قمنا بزيارة إحدى القرى النائية وشاهدنا كيف أحدث وجود المسجد والمدرسة الملحقة به تغييرا كبيرا في حياة الناس الاجتماعية والدينية. لقد أحسوا أنه أصبح لهم بيت عام يجتمعون فيه ويناقشون أمور حياتهم ويعقدون فيه الزيجات والأفراح. وكذلك وجد فيه الأطفال متنفسا لتعلم القرآن وأصول اللغة العربية. إن المساجد التي تحمل أسماء أناس مجهولين لهم في دولة الكويت قد تحولت إلى علامات فارقة في حياتهم. كما أن المبالغ التي تدفع شهريا للأطفال الأيتام ضمن مشروع كفالة اليتيم، التي تتبناها اللجنة، تفوق المساعدات الحكومية التي يتلقاها هذا اليتيم.

لقد أصبحت لجنة مسلمي آسيا إزاء تراكم المشاكل الاقتصادية تفكر بطريقة أكثر إيجابية، بدلا من الاقتصار على توزيع التبرعات سوف تقوم باستثمار هذه التبرعات في العديد من الصناعات الصغيرة التي تفتقر إليها البلاد بشدة. مشروع تعمل فيه أرامل المسلمين والمطلقات والأطفال اليتامى ويعود عائده لهم، فالإسلام في كازاخستان يواجه تحديا كبيرا لا تجدي معه التمنيات الطيبة ولا صدقات الزكاة إنه يحتاج إلى ما هو أكثر من ذلك. وعلى حد تعبير الشيخ عظيموف إمام المسجد في بلدة "سيرام": كيف يقرأ المصلون القرآن وهم جوعى؟

مجلس الكنائس لم يذهب هنا بمفرده ولكنه كان أشبه بحصان طرواده لكل الدول الأوربية. إسرائيل أيضا موجودة هنا بشدة. وهي موجودة في الشارع من خلال بضائعها المتناثرة من زجاجات الخمر حتى قطع الحلوى. كما أن عملاءها ينتشرون بحثا عن أسرار الترسانة العسكرية السوفييتية. وكذلك تسلل خبراؤها الزراعيون إلى حقول الكازاخ. البلد ساحة حقيقية لصراع الأفكار والأديان ويجب ألا تجد المؤسسات الإسلامية نفسها غائبة عن كل هذا.

أين نحن الآن؟ وماذا يمكن أن نفعل؟ هل يكفي دور الجمعيات؟.. أعتقد أن هذه البلاد في حاجة ماسة إلى بنك إسلامي قوي يقوم بتمويل المشروعات الصغيرة ثم الكبيرة للمسلمين الكازاخ. إنهم في حاجة ماسة إلى رأس المال وإلى الاستشارة الصناعية حتى يمكنهم عبور هذه المرحلة المضطربة. وسوف يساهم هذا البنك في رعاية كل من لديه القدرة على الإبداع والاستثمار. فأحوال البنوك في كازاخستان متردية. وهي مؤسسات مالية تتحكم فيها المافيات ونشاطها الأساسي هو غسل الأموال. وإذا أخطأت وأودعت تحويلا لن تستطيع سحبه إلا برشوة ضخمة، لذا فإن وجود بنك إسلامي أمر كفيل بحفظ أموال المسلمين ومساعدتهم على النهوض والانتقال من الاقتصاد الرعوي الذي أرغموا عليه طويلا إلى أبواب الاستثمار المعاصر.

الرحلة لم تنته بعد على درب الحدود. وعلينا أن نستعد لعبور الحدود إلى درب آخر في جمهورية أوزبكستان، فإلى لقاء آخر.

المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=1023&ID=62

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك