تاريخنا.. هل من الضروري إعادة كتابته?

قاسم عبده قاسم

 

التاريخ بمعناه الواسع, نتاج لتراكم الفعل الإنساني على مرّ الزمن. وهدف الدراسات التاريخية الحديثة ينصب على تحليل عناصر هذا التراكم ومكوناته, سعيا إلى فهم الحاضر واستشراف آفاق المستقبل.

ليس ثمة معنى للتعامل مع التاريخ بمفهوم الحكاية ومنطق السرد, أو اعتبار «المعلومات التاريخية» حلية تزدان بها الرءوس الفارغة, ويتم التباهي بها في مجال السمر, أو وسيلة يتمكن صاحبها من الفوز في مسابقات الصحف والتلفزيون فحسب. ولم تكن هذه أبدًا وظيفة التاريخ منذ بداية المعرفة التاريخية التي توسل بها الإنسان لمعرفة ذاته. إذ إن المعرفة التاريخية والرغبة في معرفة الماضي تكاد ترقى إلى مستوى الغريزة لدى الإنسان, على مستوى الجماعة, وعلى مستوى الفرد على السواء. فالتاريخ, بمعناه الواسع, هو قصة الإنسان في الكون, وتفاعله مع الطبيعة على مرّ الزمان, وهو في هذا يشبه نهرًا يتدفق من المنبع إلى المصب, من بداية الوجود الإنساني حتى اللحظة الراهنة, يحمل كل تفاصيل رحلة الإنسان - التي لم تتم بعد - عبر الزمان.

ومن هنا يبدو السؤال المطروح سؤالا ذا مشروعية علمية: هل هناك ضرورة لإعادة كتابة تاريخنا? وربما يكون التحفظ الوحيد من جانبي أن السؤال ينبغي أن يكون: هل هناك ضرورة لإعادة قراءة تاريخنا? إن إعادة قراءة تاريخنا - أي إعادة تفسيره - هي التي ينبغي أن تكون محلاً لهذا السؤال المهم في تصوري. وسأحاول في الصفحات والسطور التالية أن أبين الأسباب التي دعتني إلى اقتراح هذه الصيغة للسؤال. ومن ناحية أخرى, فإن السؤال يحمل دلالة ضمنية بأن التاريخ يتعلق بالحاضر أكثر مما يتعلق بالماضي. فنحن نطرح السؤال بسبب الظروف التي تحيط بنا حاليا.

هذا المدخل يؤدي بنا, بالضرورة إلى عدة أسئلة تتعلق بالبحث في التاريخ العربي: كيف يمكن التعامل معه? هل نعتبره قصة تحكي لنا عن الماضي المجيد, على نحو يدغدغ فينا مشاعر الزهو الكاذبة بإنجازات وانتصارات لم يكن لنا - نحن أبناء الحاضر العربي التعس - فضل في تحقيقها? وهل نكتفي بقراءة هذا التاريخ من منطلق نفسي تعويضي يقول «نحن كنا» في زمن نكاد نعجز فيه عن «أن نكون»? وهل يمكن للقراءة الجزئية المبتسرة لتاريخ كل دولة عربية أن تغني عن إعادة القراءة من مفهوم الكل العربي? أم أن هذه القراءة الجزئية تعبير وانعكاس لحالة التشرذم والعجز العربي في مواجهة العدوان الصهيوني والأمريكي على جبهات عديدة? وهل نستسلم لما تشيعه «القراءة الصهيونية» لتاريخنا وتاريخ الحضارة العربية الإسلامية, بالشكل الذي يخلط الحقائق التاريخية بالأوهام الأسطورية والغيبيات الدينية?

ويمكن الاسترسال في هذه الأسئلة, وما تفرع عنها بالضرورة, إلى ما لا نهاية. بيد أننا يجب أن نتوقف قليلاً أمام حقيقة مهمة مؤداها أن التاريخ يحدث مرة واحدة, وتتعدد المرات التي تتم فيها قراءته أو تفسيره مادامت الجماعة الإنسانية بحاجة إلى تجديد وعيها بتاريخها, أي وعيها بذاتها. إذ إن الأحداث التاريخية هي المادة الخام التي يتناولها المؤرخ بمنهجه العلمي وأدواته البحثية, لكي يفهمها ويحلل عناصرها المركبة. أما ما نسميه «كتابة التاريخ» فهي في الواقع عملية تسجيل جزئية للأحداث التاريخية, سواء كان هذا التسجيل قد تم في كتب المؤرخين وحولياتهم, أو في الوثائق بأنواعها المختلفة, أو في النقوش والمسكوكات, أو غيرها من المصادر التاريخية المعروفة. ولا يمكن لأحد أن يزعم أن كل ما حدث في التاريخ قد تم تسجيله بالفعل. ومن ثم فإن مهمة المؤرخ, أو الباحث في التاريخ, أن يحاول استقراء مصادره بشهاداتها الجزئية, لاسترداد صورة الحادث من ذمة الماضي وإعادة بنائها بكل الوسائل المنهجية أولاً, ثم محاولة الفهم والتفسير ثانيًا, وعندما يصل البحث إلى نتيجة معينة يمكن استخدام حصاد البحث لخدمة أهداف الجماعة الإنسانية في الحاضر والمستقبل. هذه العملية ثلاثية المراحل هي ما نسميه قراءة التاريخ, أي تفسيره, وليست كتابته.

ومن هنا يمكن أن نفهم السبب في أن العصور المختلفة تشهد «قراءات مختلفة» لتاريخ الجماعة الإنسانية, قبيلة أو شعبًا أو أمة. ففي كل مرحلة تتم «قراءة» جديدة للتاريخ تسلط فيها الأضواء على جوانب معينة وعناصر محددة من التاريخ يمكن أن تساعد المجتمع على التعامل مع حاضره بشكل أكثر نجاحًا. فقبل عصور الديمقراطية والاشتراكية, مثلاً, كان التركيز في قراءة التاريخ على دور القصر, ودور البطل: ترسيخًا لفكرة الحكم الفردي. ولكن ما حدث بعد ذلك, لاسيما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية, وشيوع الأفكار الديمقراطية والاشتراكية, أن بدأ البحث التاريخي يهتم بتسليط الضوء على التاريخ الاجتماعي, ودور العمال والفلاحين, وتواريخ المدن... وما إلى ذلك تكريسًا لفكرة حق الشعوب في حكم نفسها بنفسها. وما حدث في العالم العربي أثناء فترة الستينيات وما بعدها, حيث تم التركيز على جوانب بعينها من تاريخ مصر والمنطقة العربية تتعلق بالطبقة العاملة, أو الفلاحين, أو الطبقات الاجتماعية بشكل عام, فضلاً عن دراسة الأنشطة الشعبية والحركات الثورية - وهذا كله يمكن أن يكون مثالاً ثانيًا على تعدد «القراءات» للتاريخ الذي يخص شعبًا أو أمة من الأمم في فترات متعددة من تاريخها.

وإعادة قراءة التاريخ ليست تزويرًا للتاريخ بأي حال من الأحوال, وإنما هي عملية تأتي في سياق الوظيفة الثقافية - الاجتماعية للتاريخ باعتباره ممارسة فكرية في خدمة الحاضر. ومن المهم أن نشير في هذا الصدد إلى أن الجماعات الإنسانية لا يمكن أن تستمر في الاحتفاظ بأي ممارسة ثقافية أو اجتماعية, ما لم تكن لها فائدة تعود على الجماعة بشكل إيجابي.

وبالتالي فإن عملية إعادة قراءة التاريخ تهدف إلى البحث عن العناصر التي ينبغي تسليط الضوء عليها لخدمة الحاضر واستشراف آفاق المستقبل. وليس المقصود هنا أن «قراءة التاريخ», أي تفسيره, يمكن أن تكون عملية تنبؤية ساذجة, وإنما المقصود أن «القراءة» المعادة للتاريخ يمكن أن تسلط الضوء على عناصر بعينها تكون إلهامًا وحافزًا على الفعل التاريخي في الحاضر والمستقبل. وبعبارة أخرى تجعل من المعرفة التاريخية نوعًا من «التاريخ الحافز» الذي ينشط الفعل لدى الجماعة الإنسانية. وربما يتجسد هذا فيما فعله المؤرخون العرب أثناء فترة الحروب الصليبية عندما بدأت الكتابة عن تاريخ القدس, وفضل الجهاد والمجاهدين, وإعادة «قراءة» تاريخ السيرة النبوية والمغازي. ثم ظهور نمط من الكتابة التاريخية يركز على سيرة السلطان المجاهد مثل سيرة صلاح الدين الأيوبي.

هذه «القراءات المتعددة» للتاريخ تشكل في حقيقة الأمر نظرات في مرآة الذات الحضارية, للتعرف على القسمات والملامح الثقافية والحضارية التي يمكن أن تكون هاديًا إلى طريق الفعل الحاضر. وعملية إعادة القراءة التي تتكرر كل حين هي محاولات معادة ومتعددة لفهم الذات, وهذا هو السبب في أن الشعوب تعيد قراءة تاريخها أكثر من مرة.

ومن ناحية أخرى, حرصت القوى الاستعمارية والغاصبة دائمًا على إعادة قراءة تاريخ الشعوب التي أخضعتها, بالشكل الذي يخدم أهدافها التسلطية. ومن الأمور ذات الدلالة في هذا السياق أن الاحتلال النازي لفرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية قد حرص على تغيير كتب التاريخ في المدارس الفرنسية, كما أن الصهاينة فعلوا الشيء نفسه بعد نجاحهم المؤقت في اغتصاب الأرض العربية في فلسطين. لقد أعادوا «قراءة» التاريخ العربي, والتاريخ الفلسطيني خاصة, بالشكل الذي يغيّب الدور العربي. ولكن هذه «القراءة» لم تكن تفسيرًا للتاريخ من وجهة نظر صهيونية, وإنما كانت تزويرًا لتاريخ العرب والفلسطينيين والحضارة العربية الإسلامية بوجه عام. من أجل تغييب دور الفلسطيني وتبرير سرقة الأرض بسرقة التاريخ والتراث. كذلك فإن إصرار الإدارة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية الآن على تغيير المناهج الدراسية, ومن بينها التاريخ بشكل خاص, في إطار ما تسميه «إصلاح» العقل العربي, يمكن أن يكشف لنا أهمية هذه العملية المتكررة لإعادة قراءة التاريخ. وقد استخدم الصهاينة قراءتهم الخاصة لتاريخ المنطقة أداة في الصراع السياسي والعسكري والثقافي ضد العرب, كما أن الأساطير التي تم اختلاقها وترويجها عن «إسرائيل القديمة» قد ساعدت على ترسيخ بعض الأوهام في أذهان اليهود وأبناء الغرب الأوربي والأمريكي عن العرب والمسلمين وفلسطين, باعتبارها «حقائق تاريخية» تعطيهم حقًا في أرض لم تكن لهم يومًا.

وليس من قبيل المصادفة أن كراسي التاريخ في الجامعات ومراكز البحوث والدراسات الغربية, والأمريكية منها بصفة خاصة, ظلت تحت السيطرة شبه الكاملة للباحثين والمؤرخين اليهود حتى منتصف القرن العشرين على أقل تقدير. وكان الحصاد المرُّ لهذه السيطرة الصهيونية أن رسخت في أذهان أبناء الغرب صورة سلبية تمامًا للعرب, ساعد عليها تراث قائم منذ عصر الحروب الصليبية, يحمل صورة سلبية للعرب والمسلمين بوجه عام. ولم يكن الأمر مجرد «دعاية» سيئة يمكن علاجها بالمفاهيم الإعلامية السطحية, كما يظن الجهابذة من أصحاب القرار, وإنما كان «قراءة للتاريخ» لخدمة الأهداف الصهيونية الآنية والمستقبلية. ولأن هذه «القراءة» تمت بشكل منهجي مدروس تنفيذًا لوصية هرتزل بإحداث «أكبر قدر من الضجة حول القضية اليهودية», من خلال الفن والتاريخ, فإنها تركت آثارها السلبية حتى في أوساط المؤرخين العرب, ومازلنا نعاني من هذه الآثار حتى الآن.

وكانت الظروف التاريخية الموضوعية مواتية تمامًا لسيادة هذه القراءة الصهيونية في دوائر الغرب الأوربي والأمريكي, وانتقال بعض انعكاساتها على أفكار ومفاهيم نفر من المؤرخين العرب «الحرفيين». حقيقة أن عددًا من المؤرخين العرب الفاهمين قد عملوا على «تعريب» الدراسة التاريخية منذ وقت مبكر, وفي العقود الأولى من القرن العشرين, لكن آذان أوربا وأمريكا كانت مفتوحة وراغبة في الاستماع إلى القراءة الصهيونية للتاريخ منذ القرن التاسع عشر. ذلك أن الفترة التي نشط فيها المؤرخون العاملون في خدمة الحركة الصهيونية جاءت في أعقاب فترة نشط فيها المؤرخون الأوربيون والأمريكيون, تحت مظلة الاستشراق, لدراسة تاريخ الحضارة العربية الإسلامية, وتاريخ المسلمين والعرب, انطلاقا من روح العداء للدولة العثمانية بسبب حروب المورة اليونانية التي تطوع فيها كثير من الأوربيين والأمريكيين للقتال إلى جانب اليونانيين ضد الأتراك العثمانيين, باعتبارهم أصحاب حضارة الغرب الكلاسيكية.

«وبالمناسبة كانت تلك هي الفترة التي ظهرت فيها موجة العداء للسامية, والتي كانت موجهة ضد العرب والمسلمين واليهود, ثم حولتها الدعاية الصهيونية إلى أداة ابتزاز لصالح الحركة الصهيونية». والناظر في تراث هذه الفترة سيجد أن البحوث والدراسات التاريخية التي خرجت في هذه الفترة, كانت في الغالب الأعم نوعًا من «القراءة الانتقامية» التي تحرض أبناء الغرب ضد المسلمين والعرب بشكل عام. وكانت تلك فرصة ذهبية لم يتوان المؤرخون الصهاينة في استغلالها والسير على نهج مؤرخي الفترة الاستعمارية الأوربيين في «قراءة», أو تفسير, تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.

ومن ناحية أخرى, كانت الظروف التاريخية الموضوعية مواتية للقراءة الصهيونية, لأن الدراسات التاريخية العربية الحديثة كانت لاتزال فرخًا من أفراخ الدراسة التاريخية الأوربية. إذ كان رؤساء قسم التاريخ بالجامعة المصرية - أولى الجامعات العربية - من الأوربيين حتى سنة 1936م, وكان طبيعيًا أن تسود المفاهيم التاريخية من وجهة نظر المؤرخين الأوربيين في الدراسات التاريخية العربية الناشئة. وكانت النتيجة الحتمية أننا صرنا نقرأ التاريخ العربي بعيون أوربية وأمريكية معادية, أو منحازة في أحسن الأحوال.

هذه الحقيقة التي نعرفها هي التي استوجبت طرح السؤال حول ضرورة إعادة قراءة تاريخنا أو إعادة تفسيره من منظور عربي.

وربما يكون من المناسب أن نحاول النظر إلى المشهد الحالي في مجال الفكر التاريخي العربي قبل الخوض في تفاصيل الإجابة عن السؤال الذي يشي بأن ثمة أزمة تكمن وراء السؤال, فقد مر البحث التاريخي العربي, بتطورات كثيرة منذ بدأ الأجانب الدراسات التاريخية في جامعة القاهرة قبل ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن. فقد قام عدد من المؤرخين المصريين والعرب الرواد بتعريب الدراسة التاريخية. وتخرجت أعداد كبيرة من الباحثين العرب لم يلبثوا أن أسسوا الأقسام الأكاديمية في الجامعات العربية, التي توالت في الظهور في شتى أرجاء الوطن العربي, وتكاثرت الدراسات والبحوث التي حققت قدرًا متوازنًا من تطور الفكر التاريخي العربي.

وقد أدت هذه الزيادة الكمية إلى تغير نوعي وكيفي في مجال الدراسات العربية حقًا, ولكن روح التفرق وعدم التنسيق وغياب مشروع عربي متكامل لإصدار الكتب والموسوعات التي تحمل القراءة العربية للتاريخ, حالت دون الإفادة الكاملة من هذه الزيادة الكمية والتغير النوعي النسبي.

والمنطقة العربية حافلة بأقسام التاريخ, كما أن أعدادًا متزايدة من الجمعيات المهتمة بالدراسات والبحوث التاريخية قد نبتت على أرض الواقع الأكاديمي العربي, وهذه نقطة إيجابية, يجب أن نضعها في الحسبان. ومن ناحية أخرى, فإن عملية «تعريب» الدراسات التاريخية في العالم العربي تمت أحيانًا بنجاح كبير في بعض الفروع, وبنجاح جزئي في فروع أخرى. على حين بقيت فروع قليلة أسيرة تمامًا للمفاهيم والمصطلحات والمنظور الأوربي - الأمريكي, وهذه نقطة إيجابية ثانية. كذلك فإن عدد المؤرخين العرب الفاهمين لحقيقة الوظيفة الثقافية - الاجتماعية للدراسة التاريخية يزداد بشكل مطرد, وهذه نقطة إيجابية ثالثة. فضلاً عن أن البحوث والدراسات التاريخية التي قام بها المؤرخون العرب قد نجحت إلى حد ما في إحداث شرخ في الصورة التي رسمتها القراءة الصهيونية - الاستشراقية لتاريخ العرب والحضارة العربية الإسلامية, وهذه نقطة إيجابية رابعة. والأهم من هذا كله أن عددًا متزايدًا من المؤرخين المسلمين والعرب قد نجحوا في كسر الاحتكار اليهودي الصهيوني لدراسة الحضارة العربية الإسلامية في الجامعات الأوربية والأمريكية, وهذه نقطة إيجابية خامسة.

هذه النقاط الإيجابية في المشهد, وغيرها, لا تنفي وجود النقاط السلبية المتمثلة في سيادة المفهوم الأوربي في تقسيم العصور التاريخية حتى الآن, وفي تسلط المصطلحات الأوربية التي تخدم القراءة الأوربية التي تصطدم بالضرورة مع القراءة العربية للتاريخ العربي, فضلاً عن تخلف وسائل أعداد الباحثين والمؤرخين العرب, وضآلة الموارد المالية المخصصة لتعليمهم. ومن ناحية أخرى, فإن الخصومة القائمة بين معظم الحكام العرب والبحث العلمي وأهله, قد جعلت مسألة البحث العلمي مسألة مظهرية شكلية في كثير من الأحيان, ولم يكن البحث التاريخي استثناء في ذلك بطبيعة الحال «انظر إلى ميزانيات البحث العلمي في العالم العربي وقارنها بميزانية البحث العلمي في دولة الكيان الصهيوني مثلا». ومثلما يفتقر العرب حاليًا إلى التنسيق في كثير من أمور حياتهم على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية, بالشكل الذي جعلهم يتوارون في الركن المظلم من العالم, غير أنهم لايزالون أسرى التواريخ القطرية والمحلية التي تعكس واقعهم السياسي المفكك وحال التشرذم التي يعانون منها, من جهة, وتكرسه من جهة أخرى.

ومن هنا, فإن الإجابة عن السؤال المطروح: هل هناك ضرورة لإعادة كتابة تاريخنا? تكون بالإيجاب حتما. إذ إن ما تم إنجازه قد تحقق بجهود فردية في غالب الأحوال, ولم تكن تساند هذه المبادرات الفردية جهود مؤسسية عامة في كثير من الأحيان, وهو ما أدى بالضرورة إلى عدم توافر الشروط اللازمة لوجود «قراءة عربية للتاريخ العربي» حتى الآن. صحيح أن الفترة التي تمتد من العقود الأولى من القرن العشرين حتى الآن, قد شهدت تطورًا كميًا كبيرًا, بيد أن هذا التطور الكمي لم يكن يوازيه تطور كيفي مناسب. وهو ما يعني أنه لا توجد حتى الآن مدارس عربية, أو حتى اتجاهات, في الفكر التاريخي, ومازلنا نعيش عالة على إنجازات الفكر التاريخي الغربي ومدارسه واتجاهاته حتى الآن. وحين ظهرت مجموعة من المؤرخين العرب تسير على هدي مدرسة ليوبولد فون رانكه الألماني الصارمة الخالية من الخيال, نافستها جماعة نسبت نفسها إلى الفكر الماركسي ونظريات التفسير المادي, على حين لحق آخرون بالمدرسة البورجوازية التي يمثلها الإنجليزي «آرنولد توينبي». وعلى الرغم من أن البحث التاريخي قد حقق قدرًا معقولاً من التقدم النسبي في النصف الأول من القرن العشرين, فإن التراجع بدأ مرة أخرى في الربع الأخير من هذا القرن, ولأسباب كثيرة, لا يتسع المجال لها, تراجع البحث التاريخي ضمن تراجعات كثيرة في العالم العربي, وإن ظلت مجموعات من المؤرخين الفرادى, ومراكز البحوث, تحاول السباحة ضد التيار.

وعلى الرغم من أن المقارنة بين الأوضاع في خمسينيات القرن العشرين, والأوضاع الآن في مجال الدراسات التاريخية العربية تكشف عن الكثير من الجوانب الإيجابية والتقدم الكمي والنوعي, فإن ما يحقق إعادة قراءة تاريخنا من شروط لم تتوافر حتى الآن, ولست أظن أن الأمر مستحيل أو حتى صعب, ذلك أننا نمتلك المقومات والشروط اللازمة لتحقيق ذلك, ولكننا لا نملك التنسيق الجماعي على مستوى العالم العربي من ناحية, ونفتقر إلى الإرادة السياسية التي توفر الشروط الصحية للبحث العلمي من ناحية أخرى. وعلى الرغم من أن مؤسسات أهلية كثيرة تحاول إذكاء العمل الثقافي في الوطن العربي, فإن نشاطها يكاد يكون محصورًا في نطاق الأدب والنقد والدراسات الأدبية. كما أن الاستبداد السياسي الذي تعاني منه الشعوب العربية انعكس سلبيًا على الحرية الفكرية. ولم يكن البحث التاريخي استثناء في ذلك بطبيعة الحال, والمسألة لا تحتاج إلى جهد المقاتلين بقدر ما تحتاج إلى صبر العلماء, ولنا فيما حدث في مجال الدراسات العثمانية أسوة.

وربما يساعدنا على الدعوة لإعادة قراءة تاريخنا حقيقة, مؤداها أن خطوات مهمة قد تمت بالفعل في هذا المجال, في دراسة بعض جوانب الحضارة العربية الإسلامية, وبعض فترات تاريخ المسلمين, فضلاً عن القراءة الناجحة لفترات مهمة في تاريخ العرب الحديث والمعاصر. وقد أسهم مؤرخون مسلمون وعرب كثيرون في إعادة قراءة التاريخ الإسلامي بالدرجة التي أحدثت صدعًا في الرؤية الغربية لهذا التاريخ. وجدَّت مراجعات كثيرة لعدد من المسلمات التي كانت راسخة بشأن التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية بالفعل. ولكن الهجوم العنيف من جانب الدوائر الصهيونية والإمبريالية على الإسلام والمسلمين والعرب يستدعي جهدًا أكثر قوة ومثابرة لإعادة قراءة, أو تفسير, التاريخ الإسلامي, وهنا ينبغي أن نشير إلى أننا لسنا بحاجة إلى قراءة تبريرية, أو دفاعية, للتاريخ الإسلامي أو تاريخ الحضارة العربية الإسلامية. كما أننا لسنا بحاجة إلى قراءة بعيون وردية تجرد التاريخ الإسلامي من طابعه البشري, وتحاول أن تجعله نوعًا من الفعاليات الإلهية. فقد كان المسلمون الأوائل بشرًا مثل سائر البشر, ولكنهم كانوا أصحاب مرجعية تمثل قوام حضارتهم, وعليها مدار حياتهم. ويجب إعادة قراءة تاريخهم في ضوء هذه المرجعية, وليس في ضوء مرجعيات أخرى لم يكن أصحاب هذه الحضارة يعرفون عنها شيئًا. كما أنها ليست ملزمة لنا في حاضرنا بشيء.

ويتمثل خطر القراءة التبريرية, أو الدفاعية, للتاريخ الإسلامي في أنها تتصور أن الحضارة العربية الإسلامية كانت حضارة أحادية الجانب, وهو أمر لا يمكن أن يكون صحيحًا من ناحية, كما أنه يعيق فهمنا لتاريخنا من ناحية أخرى. فقد كانت الحضارة العربية الإسلامية حضارة متعددة الجوانب, حققت الكثير من الإنجازات, وحفلت بالعديد من السلبيات, شأن كل حضارات البشر, ولكنها في التحليل الأخير كانت حضارة إنسانية الطابع, فتحت ذراعيها لكل الأجناس والديانات, فأفادت منهم وأفادتهم, وربما يكون هذا هو السبب في أن هذه الحضارة هي الأطول عمرًا بين حضارات البشر, والأوسع في مداها الجغرافي. كما أن مراكز الثقل فيها تنقلت بين كل الأقاليم الحضارية القديمة في العالم. كذلك فإن القراءة التبريرية تحمل خطرًا آخر هو الإحساس بالدونية الحضارية إزاء الآخر الذي يهاجم حضارتنا وتاريخنا, والإحساس بالدونية يعيق القراءة الواعية للتاريخ على أي حال.

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك