مرفأ لحقيقتنا الضائعة

 

محمد جابر الأنصاري

هل تبدأ ذاكرة الإنسان لحظة ارتطام وعيه الطفولي بحقائق الحياة, الأشياء, أم أن لهذه الذاكرة بداية أبعد غوراً بأزمان وعصور?

لا أقصد بذلك مذاهب (التقمص) القائلة إن للإنسان (حيوات) أسبق عاشها في أزمنة وأمكنة أخرى, فما ذلك إلا رجم بالغيب, وإن كان لا يخلو من إثارة لبعض النفوس التي تتجاذبها الأسرار الماورائية.

لكني قصدت: إن كان الإنسان مجرد كائن فرد محصور في ذاتيته المباشرة, فإن ذاكرته لا تعود كونها رصيده الشخصي من شريط العمر.

أما إذا كان الإنسان يتعدى فرديته, و(أناه الصغرى) إلى مكوناته الأعمق والأبعد في الزمان والمكان- وهذا قدر الكاتب بالأخص- فإنه لا مندوحة من تجاوز الذاكرة المفردة إلى الذاكرة الجمعية التي كونته- زماناً ومكاناً- فصار من قدره أن يكون بؤرة لاقطة لابعادها المتباينة, ونسيجاً عاكسا لخيوطها وألوانها المتشابكة.

وإذا كان (المكان الأول) لذاكرة اللاوعي, السابق لتفتح الوعي, لدى الإنسان الفرد هو رحم الأم, فإن (المكان الأول) لذاكرة (الإنسان- الجمع) هو حضن الوطن بترابه وموقعه وإرثه المتراكم عبر التاريخ.

فللمكان الأول بهذا المعنى حضوره في الإنسان أيا كانت مؤثرات الأزمنة والأمكنة الأخرى (فحنينه أبداً لأول منزل).

وفي البحرين المكان / الوطن- في قلب الخليج العربي المتصل بقارات وبحار- تلقيت بعضاً من أعمق فواعل التكوين: التألف الواقعي مع النفس, الانفتاح على الآخر وشهوة الوصول والاستماع إليه, التمرس بالاتصال مع الذات والانفصال عنها في الوقت ذاته ضمن براحة ذهنية ونفسية تبتعد لتقترب, من أجل حميمية أصدق ومعرفة أوعى للنفس وللآخر.

لم يكن هذا مجرد اكتساب ذاتي, فالبحرين موضوعياً هي البلد العربي الوحيد الذي ينفرد كليا بجغرافية الجزر في الوطن العربي. إنه متصل بالكيان العربي أوثق اتصال لكن براحة مائية من الخليج تفصل أرخبيله عن اليابسة الأم في جدلية برمائية- مكنته من المزج والتوليف في هويته بين ثوابت الصحراء الراسخة ومتغيرات البحر المتحرك, وذلك في تقديري مفتاح فهمه ثقافيا ومجتمعياً- كما أتاحت له من جانب آخر جدلية الانفصال / الاتصال, والابتعاد / الاقتراب كما لم يتح جغرافيا ومعنوياً لأي بلد عربي.. وهو مراس أعتقد أننا نحتاج إليه عربيا أكثر من أي وقت مضى أعنى ممارسة الاقتراب من النفس عن (بعد) يسمح بسبر الذات عن صفاء رؤية لا يتحقق إلا بهذا الابتعاد من أجل الاقتراب (وذلك ما مررت به في حياتي الشخصية, حيث ابتعدت عن الوطن لسنوات, لأقترب منه).

هذه الميزة أكسبت مجتمع البحرين وإنسانها القدرة على تأمل الذات العربية التي هي جزء منها بشيء من الحيدة والمحايدة التي إن كانت في صميم الداخل إلا أنها تستطيع رؤيته تأملياً من خارجه. لربما كانت عبارة صلاح عبد الصبور (أجافيكم لأعرفكم) خير معبر عن هذه الحالة على أن يفهم الجفاء بأنه جفاء التصافي.

ولصغر حجم البلد مع حساسيته ورهافته الحضارية والثقافية استطاع أن يستمع أكثر مما يسمع.

فقد اهتمت أقطار الثقل العربي بتسميع ما لديها من دعوات وأيديولوجيات إلى العرب الآخرين. أما البحرين فانشغلت بالاستماع إلى جوارها الأقرب والأبعد, القومي والعالمي, فاكتسبت من الاستماع على الأرجح أكثر مما كسب غيرها من التسميع في وطن كبير مازالت أغلبيته تستمع إلى صوتها المنفرد مع قلة إصغاء للصوت الآخر.

وفي الفضاء الوادع والمنفتح للجزر والبحر والإنسان التقت المتغايرات, وربما الأضداد, وتعلمت التعايش والتوافق. ومثلت البحرين ساحلاً وجزراً, تحت اسمها التاريخي (دلمون), صلة الوصل بين حضارة وادي الرافدين وحضارة وادي السند ثقافة وتجارة. ومن مفارقة دراما الصراع المعهود في وادي الرافدين بتقلباته المفاجئة, حولت الأسطورة السومرية- بالمقابل- أرض البحرين المجاورة لها جنوباً إلى أرض للخلود الهادئ السمح, وجاء جلجامش باحثاً بين لؤلؤها الأبيض عن اللؤلؤة السوداء الزامرة لخلود الأبد.

وبالنظر لتعايش المتغايرات والأضداد على أرض البحرين مقابل اصطراعها فوق أرض الرافدين ذهبت الميثولوجيا السومرية إلى حد التخيل أنه في أرض دلمون يتعايش الحمل مع الأسد والعصفور مع الثعبان, ولا ينعب البوم ولا يشيخ الإنسان, كما ورد نصاً في نشيد سومري مقدس عن البحرين.

وعمّد هذا النشيد البحرين / دلمون (ميناء العالم كله), وذلك ما تحقق لها منذ فجر تاريخها ميناء تجارة وبالتالي ثغر ثقافة وحضارة. وظلت البحرين منذ فجر عروبتها أيضاً- في جزرها خاصة وفي إقليمها التاريخي بعامة- تمثل ائتلافا للمختلف بمواصلة انفتاحها على بحار العالم وثقافاته من ناحية مع تفاعلها الحميم مع براري العرب بادية وحضارة. وكانت هي حاضرة البحر التي تعايشت فيها, قبل الإسلام وبعده, المسيحية مع الزرادشتية مع الهندوسية, وتقاسم فيها الإخوة في البيت الواحد المعتقدات الدينية المتباينة, حتى قال قائلهم عن رهطة وعشيرته:

وإني وإن كانوا نصارى أحبهم   ويرتاح قلبي نحوهم ويتوق
 
 

وفي العصر الحديث كانت البحرين أول فضاء على أطراف الجزية العربية ينفسح لإقامة الكنائس في اقتراب وادع من مساجدها وحسينياتها المؤتلفة هي الأخرى في تبادين حميم. لذا لم يأت الفصل الخاص بالفكر المسيحي العربي وبالفكر الشيعي بين عقلانية عربية وعرفانية فارسية في أوسع مؤلفات كاتب هذه السيرة الوجيزة: (الفكر الربي وصراع الأضداد), لم يأت اهتماماً محض أكاديمي من جانبه بقدر ما كان معايشة حياة كانت البحرين مسرحها الأصيل.

وعلى مدى التاريخ الإسلامي شهد إقليم البحرين فكريا وسياسيا توتر الجدلية بين دول الخلافة والقوى المعارضة والمتمردة حقبة بعد أخرى, فمن هنا مر الخوارج والزنج والقرامطة بين آخرين مما أصل في لا شعورها الجمعي حس الجدل التاريخي والفكري دون أن تتخلى عن ثوابتها عروبة وإسلاما وجماعة, فكانت الغلبة دائما لصيغة التعايش المختلف لكن في إطار الجماعة المؤتلفة منذ العيونيين إلى يومنا هذا.

لربما بدت هذه الصورة التي أرسمها للوطن صورة تجنح إلى المثالية والرومانسية خاصة بمقياس واقع الزمن الزاهر ووقائعه. لكنا صورة المثل الأعلى التي أوحاها إلي الوطن واستقيتها منه في تصوري لحياة الفكر وتعايش الأفكار بحثا عن المتماثل في المتباين وكشفاً عن المتبادين في المتماثل, كما عاينت ذلك في كتابي المذكور وغيره من المؤلفات.

أما بحرين العصر الحديث فأعتبرها (حالة مشرقية) في الخليج. حالة مشرقية يعتمد فيها الإنسان على كده وفكره أكثر من اعتماده على ثرائه وماله, وليس فيها من نفط, كما عبر كاتب غربي إلا ما يكفي لتزييت العقول, وكان هذا التميز في أساس ريادتها للخليج الحديث, وهي ريادة أدعها لشهادة التاريخ, كي أعود لتاريخي مع المكان والزمان والفكر, عبر هذه المرافئ.

وأنا كمواطن من البحرين لا تدهشني عولمة اليوم كثيراً. فقد عشنا العولمة وتجر عناها طوعاً أو كرهاً, سلباً وإيجاباً ولم تكن شرا كلها بمقياس ما لدينا في الواقع العربي من شرور ذاتية بل كانت هذه المؤثرات الخارجية, أحياناً أهون الشرين. وعلى كل حال فقد كانت حينئذ عولمة حاسرة الرأس, مكشوفة الوجه لم تقتنع بدعوى حقوق الإنسان ولا بالديمقراطية ولا حتى بأبسط حقوق العمل الذين كانت تضطهدهم شركاتها الجشعة, كان أبي مشاركا في حفر آبار البترول لإضاءة العالم ولم أجد إلى آخر دراستي الثانوية مصباحا كهربائياً واحداً أذاكر في ضوئه مما قلص ضوء عيني. وأدركت على الفور معنى قول الشاعر العربي حين سمعته:

النفط من عرق الشعوب مقطر   ومن العيون تفجر الأبار
 
 

لذلك, وعلى ما شهده الخليج من رفاهية وطفرات اقتصادية في العقود الأخيرة, فإني لم أستسغ تقسيم العربي وشطره إلى (كائن نفطي) حسب تعبير بعض العرب خارج الخليج, و (كائن غير نفطي) كما يصفون أنفسهم, (في مثل هذه التشطيرات التي لم تجلب للعرب غير الفرقة كما بين رجعية وثورية, وبين قوميات آشورية وفينيقية الخ, حسب تصنيفات الأيديولوجيا السائدة في منطقة الهلال الخصيب, وما أكثر تشطيرات هذه المنطقة المنشطرة على نفسها!).

فمن واقع كدح أبي في حفر النفط- منذ 1934- قبل خمس وستين سنة, ومعه بالتأكيد الآلاف المؤلفة من رجال الخليج العربي, من جنوبه في سلطنة عمان إلى شماله في دولة الكويت مروراً بعمقه في المملكة العربية السعودية, من واقع الكدح الشريف لسنا في موقع نعتذر فيه لأحد عن رفاهية إن نالتها أجيالنا الجديدة فبكدح آبائها وأجدادها في حرقة الشمس وضراوة الصخر. وإذا كان ثمة سوء استخدام للثروة في بلداننا, وهو واقع نملك الشجاعة للاعتراف به, إلا أنه شأن داخلي من شئوننا لنا وحدنا أن نقومه ونصلحه, دون وصاية أحد كما أصلحنا شأننا أيام الشدة والقحط, بجهدنا المتواضع دون نجده من أحد ورحم الله امرءاً أصلح بيته قبل أن يمد يده إلى بيت أخيه.

وأياً كان الأمر, فعندما سيقول التاريخ كلمته بهذا الشأن, فقد لا يبقى على المحك سوى الدعم المصري لعرب الخليج, في الضراء قبل السراء, وفي الشدة قبل الرخاء, منذ كانت مصر تبعث البعوث التعليمية من خيرة معلميها لبلادنا في الخليج والجزيرة- وعلى حسابها إذا اقتضى الأمر- منذ أيام الملكية إلى أن أسهم نضالها القومي التحرري على الصعيد العربي في تحقيق الكثير من المطالب الوطنية والشعبية لعرب الخليج. وليس صدفة أن الذين زايدوا على مصر ونضالها التحرري في حقبة سابقة هم الجهات ذاتها التي تزايد على عرب الخليج اليوم. وقد حان الوقت لتجاوز احن النفوس العربية جمعاء بنقد ذاتي شجاع لا يعرف الهوادة.

أعلم أنها قضية عربية شائكة ولا أطرحها للجدل, فهي جرح ذاتي ضمن هذه اللمح الذاتية, وأرجو قبولها من ذوي قربانا على أنها شكوى إلى ذي مروءة وكل الأشقاء العرب هم كذلك في لحظة الصدق مع النفس, فلقد عشنا بشرف ونحن نحفر بأظفارنا آبار النفط في الخليج ونحافظ على عروبتنا في الوقت ذاته, ونؤكد انتماءنا القومي للوطن العربي الكبير, شعوباً ومثقفين.

أبعد هذا, يكافئنا الشقيق بمثل هذا التجني? أي (نضال قومي) وشرف قومي يستبيح تزييف الحقيقة, إلى هذه الدرجة, وتعميم هذه (النمطية) النفطية على كل عرب الخليج?

أفنعجب إن تدهورت أوضاعنا إلى هذا الحد, ونحن نمارس باسم القومية هذا التجني على جزء من حقيقتنا القومية في هذا الخليج الذي لم يحافظ على شيء كما حافظ على عروبته, رغم طعنه في الظهر من بعض أشقائه في.. العروبة?!

وما ذنب على الخليج إن هبطت الثروة النفطية على فئات منهم فلم يحسن بعض أفرادها التصرف والتدبير?وهل مسلك الأثرياء العرب وباشواتهم في الأقطار الأخرى فوق مستوى الشبهات? بل هل مسلك القادة (الثوريين) منهم أقرب إلى الطهر والتقشف?

ولعلها ليست صدفة أن يكون قائل هذا البيت القديم شاعراً من الخليج وشرق الجزيرة (طرفة بن العبد):

وظلم ذوي القربي أشد مضاضة   على النفس من وقع الحسام المهند
 
 

فلمن يهمه إعادة اكتساب ذوي قرباه في الخليج من الأشقاء العرب في كل مكان أقول: لن يسترد الخليج إلا من داخله- طوعاً لاكرها- وبغلبة إيجابة على سلبة ذاته بذاته!

لقد مثلت هزيمة يونيو 1967 ثم وفاة الرئيس عبدالناصر 1970 نقطة تحول في حياتي حيث قررت بعدها مباشرة ترك المنصب الوزاري الذي توليته في البحرين عشية استقلالها (1970/1971) وذلك للتفرغ لبحث الدكتوراة في الفكر العربي ليس من أجل الدرجة ولكن لأتيح لنفسي أساساً فترة من التأمل والبحث والتعمق النظري.

فقد تبين لي بعد هزائمنا العربية المتوالية أن أخطر ما نفتقده هو التأسيس المعرف لقضاياناً, قبل الترويج الأيديولوجي لها, وإن الظن لا يغني عن الحق شيئا. ومازلت أزداد يقينا أن اللحظة التاريخية الراهنة في حياة العرب هي (لحظة ثقافية) ولحظة تصحيح للوعي المعرفي بالنفس والآخر, وأكثر منها لحظة سياسة ومواجهة خارجية, على ضراوة هذه الانشغالات الوقتية. ومنذ بداية عهدي بالتفكير والكتابة تنازعتني اهتمامات عدة بين أدب وفلسفة وسياسة واجتماع- تشوقا مني للحقيقة الواحدة وراء كل العلوم- فلم أكن يوما رجل التخصص الواحد أو الاهتمام الواحد. لذلك فقد وجدت في الفكر- أخيراً- ضالتي لأنه المنطقة المشتركة الجامعة بين هذه الاهتمامات, وهو الذي يمكن الكاتب من أني صبح عابر للتخصصات, لكن في منهج منضبط, وإن لم يمنعني ذلك من الكتابة الذاتية والسجالية التي تمثل وجهي الآخر وإجازتي المفضلة التي ألجأ إليها طلباً للراحة من الكتابة البحثية والأكاديمية. لذلك فرجائي من النقاد والقراء أن يتأكدوا إن كان ما يقرؤونه لي بحثاً أم سجالا. حتى لا يحاسبوا الباحث من خلال المساجل ولا المساجل من خلال الباحث!

بل لعلني لا أذيع سراً من أسرار (المهنة) إذا قلت إن الباحث بداخلي يقف له المساجل بالمرصاد, ويستفزه, ويشاغبه ويدفعه دفعاً للخروج من برود الباحث الأكاديمي.

انعكست اهتماماتي العابرة للتخصصات في كتب مثل: تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها, الحساسية المغربية والثقافة المشرقية, ورؤية قرآنية للمتغيرات الدولية, وأخيراً: انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية.

من بين هذه الكتب أستأذنكم في التوقف برهة عند كتاب (العالم والعرب سنة 2000) الذي صدر قبل عشر سنوات مايو 1988م. وتعرض لمظلمة حقيقة لا لشيء إلا أنه صادر باللغة العربية ولكاتب من العالم الثالث الذي أصبح يعرف بعالم الجنوب!

ورد في الكتاب بالنص في ذلك التاريخ: (الجديد, جديد القرن الواحد والعشرين إنه للمرة الأولى منذ ثلاثة قرون لن تكون جميع القوى الرئيسية قمة التوازن العالمي منتمية إلى الجنس الأوربي الأبيض, أو إلى الحضارة الأوربية الغربية, فلأول مرة في تاريخ العالم الحديث تقوم قوة حضارية غير مرتبطة بميول الغرب وانحيازاته, وغير مرتبطة بأي عداء تاريخي للعرب والمسلمين, أعني بها القوة الآسيوية في الشرق الأقصى هذا التحول الخطير في بنيان القوة العالمية هل يستوعبه العقل الاستراتيجي العربي.. وتضمن الكتاب شرحاً مسهبا لهذه الرؤية يمكن الرجوع إليه في موضعه.

كانت هذه محاولة في طرح فكرة تواجه الحضارات من وجهة عربية وقبل ظهور صيغة ديفيد هنتنجتون لها بسنوات والتي عرفت بنظرية صدام الحضارات. إضافة إلى ما تضمنه الكتاب المذكور من إرهاصات بشأن المتغيرات في المعسكر الشرقي وقيام ألمانياً الموحدة وذلك قبل سقوط جدار برلين بعام ونصف العام.

ضاعت هذه الإرهاصات- بطبيعة الحال- في زحمة اهتمام المثقفين العرب بنظرية هنتنجتون. إذ لابد أن يأتينا (الجديد) من الغرب ليبهرنا.

ثم نتحدث عن ضرورة الاستقلال الفكري!

هذه إشارة أسجلها فقط للمؤرخ الموضوعي لتاريخنا الفكري, ولا أريد من خلالها شهادة أنصاف, لعلمي أن هذا من أندر الأشياء في حياتنا العربية وعلينا أن نتعايش مع قلة الإنصاف في معظم الحالات, خاصة من ذوي قربانا!

أنتقل أخيراً إلى أهم المرافيء التي توقفت فيها في السنوات الأخيرة.

إنه مرفأ البحث عن حقيقتنا العربية في جانبيها: مستوى الوعي (البنية الفوقية) ومستوى الواقع (البنية التحتية).

فيما يتعلق بالمشروع الأول, دراسة البنية الفوقية, يمثل كتاب (الفكر العربي وصراع الأضداد: تشخيص حالة اللاحسم في الحياة العربية)- المرجع الأساس لهذا التشخيص, بالإضافة إلى كتاب (تحولات الفكر والسياسة) الصادر مطلع الثمانينيات.

يستند هذا المشروع البحثي بتبسيط شديد إلى الفرضيات التالية:

أولا: الفرضية الرئيسية في هذا المشروع أن الفكر التوفيقي في الحياة العربية الحديثة يمثل أيديولوجيا اللاحسم في هذه الحياة.. وهي ظاهرة مستمرة منذ ما عرف بفجر النهضة إلى يومنا هذا, وذلك نظراً لتعددية النقائض والأضداد في واقع هذه الحياة- حيث لم يتيسر الحسم التاريخي بينها- بعد- جاء الفكر التوفيقي في البنية الفوقية تعبيرا عن (حالة اللاحسم) في البنية التحتية على أرضية الواقع الاجتماعي والسياسي والحضاري الذي لا يزال يعاني من تعارض تلك الأضداد دون حسم يذكر: بين الوطني وما دون- الوطني, ثم بين الوطني والقومي, ثم بين القومي والديني, ثم بين الديني والعصري, إلى آخر هذه السلسلة من الثنائيات غير المحسوم بينها في الحياة العربية الحديثة.

ثانياً: وهنا لابد من تنويه منهجي, وهو أن هذا المشروع لا يمثل دعوة إلى التوفيقية ولا يبشرها بها- كما توهم البعض- وإنما هي محاولة معرفية في التشخيص والتوصيف, ثم التحليل والنقد لظاهرة أعتقد أنها من أخطر الظواهر في الحياة العربية واقعاً وفكراً. إن هذا المشروع في حقيقته هو دعوة لتجاوز التوفيقية, بعد تشخيصها ونقدها.

ثالثاً: هذا التوفيق السياسي الأيديولوجي ليس غريباً عن البيئة الفكرية السائدة في مجتمعات المنطقة العربية وفكرها بعامة, فمن تعادلية توفيق الحكيم الكاتب الفرعوني المصري إلى مدرحية أنطون سعادة مؤسس الحركة القومية السورية في المشرق, في الأوساط غير المتفتحة أساسا للأغلبية الدينية أو المذهبية السائدة, يرتسم هذا المنشور التوفيقي الواسع, بحيث يمكن أن ندرج ضمن هذا المجرى تيارات فكرية وسياسية بدت متناقضة أمامنا على صعيد السياسة الآنية, لكنها تنتمي بنسب فكري واجتماعي مشترك وجامع بينها وهو حالة اللاحسم وعدم القدرة عليه على أرضية الواقع.

أما المشروع البحثي الثاني الذي استحوذ على اهتمامي في السنوات الأخيرة فقد كان بالمقابل, تشخيصاً للبنية السوسيولوجية التحتية لمجتمعاتنا العربية- بعد أن درست البنية الفوقية (الوعي) في المشروع الأول. وأستطيع الزعم بأني أتميز بهذا المشروع البحثي بالذات عن معظم زملائي وأساتذتي من المفكرين العرب. فإذا انصبت مشاريعهم الفكرية في نقد (الفكر) أو نقد (العقل) فإن مشروع البحث هذا يتصدى لنقد الواقع, الواقع بمعناه التكويني والتركيبي العميق في الكيان العربي الجمعي ماضياً وحاضرا, إن (نقد الواقع) بهذا المعنى هو مطمحي البحثي الكبير, ليقيني أن جميع أشكال الفكر والنظم والسلوك هي في التحليل النهائي نتاج ذلك الواقع الذي لابد من تفكيكه واختراقه للخروج من وطأته.

والفرضية الأساسية للمشروع الثاني أن التأزم السياسي الشامل وما أفرزه من هزائم ونكبات في الحياة العربية لا يمكن تفسيره كليا ً بصور الأنظمة السياسية ومؤامرات الأعداء على ما لهذه العوامل من تأثير- وإنما يجب الرجوع إلى تأمل طبيعة تكوين (القاع السوسيولوجي) العربي وبناه العشائرية والطائفية, إلخ التي تفرز تلك الأنظمة والمسلكيات المختلفة والظواهر السياسية السالبة. وأنه ما لم يتم تشخيص تلك النية القبلية والريفية المعيقة لنمو المجتمع المدني/ المدني وتطوره الديمقراطي وتحوله إلى دولة المواطنة الحديثة, دولة المؤسسات والنظام والقانون, فإن مجتمعاتنا العربية ستبقى في أوضاعها الراهنة من التخلف السياسي والتخلف الحضاري الشامل وستظل تفرز النوع ذاته من الأنظمة مهما تغيرت تسمياتها.

وقد تمثل هذا المشروع البحثي في ثلاثة مؤلفات:

  • تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية (1994).
  • التأزم السياسي عند العرب وسوسيولوجيا الإسلام (1995).
  • العرب والسياسة: أين الخلل ? (1998).

ومؤدى هذا المشروع أنه على الرغم من التألق الروحي والعقلي والعمراني للحضارة العربية الإسلامية, فإن تاريخها السياسي وفكرها السياسي ظلا أضعف عناصرها على الإطلاق واشدها ارتباكاً.

وباختصار شديد, يمكن إجمال الصورة المعقدة على النحو التالي:

1- لم يحدث في أي منطقة من مناطق العالم أن تواجهت البادية والحضارة, الصحراء والمدينة كما تواجهت هيكلياً في المنطقة العربية. فحيث أحاطت البوادي والصحاري بأطراف الصين والهند والقارة الأوربية دون تأثير حاسم في دواخلها حول الاختراق الصحراوي والرعوي المراكز الحضرية العربية إلى جزر منعزلة في بحر من الرمال حسب تعبير علي الوردي, مما خلق جدلية بالغة التوتر انتقلت من الواقع الجغرافي والاقتصادي إلى صميم المجتمع والثقافة والسياسة, وهي خصوصية عربية مثقلة بالأعباء إن كان الدارسون قد مروا بها لماماً فإنه لم يتوقف حيالها كموضوع للدرس الدقيق- بعد ابن خلدون- غير المفكر الاجتماعي العراقي الراحل علي الوردي في دراسته للشخصية المجتمعية في العراق بخاصة والوطن العربي بعامة.

2- هذه الجدلية نتجت عنها في مسار الحضارة العربية قطيعتان:

أ- قطيعة المكان بمباعدة الفراغات الصحراوية الهائلة بين مراكز التحضر مما حال دون نشوء النسيج العمراني المتصل الذي يعتبر الشرط الأول لقيام الدولة واستمرارها, وهذه القطعية المكانية المتطاولة هي العامل الانفصالي الطبيعي الأكبر في الوطن العربي, سواء في التكوينات الاجتماعية أو السياسية.

ب- قطعية الزمان بحدوث الاجتياحات الرعوية المتتابعة لعواصم الحضارة مما أعادها مع تراكمها الحضاري ومؤسساتها السياسية إلى ما يقرب من نقطة الصفر حقبة بعد أخرى. هذا بالإضافة لموجات التصحر المتكررة التي دفنت حضارات ودولاً بأكملها تحت الرمال.

اسهمت هاتان القطيعتان (قطيعة المكان وقطيعة الزمان) في إعاقة النمو المستمر للمجتمع الحضري المستقر الذي هو قاعدة الدولة وأساس تطورها وحدتها. ونجمت عن ذلك التعديات القائمة في الواقع العربي: تعددية المراكز الحضارية, بدل مركز رئيس واحد, تعددية البنى المجتمعية من قبائل وطوائف ومحلات, تعددية الكيانات السياسية المصطرعة تبعاً لذلك.

وهي تعدديات لا تعاني منها بالدرجة ذاتها كيانات حضارية وسياسية كبيرة في آسيا الموسمية المطيرة كالصين واليابان والهند التي ساعدت مجتمعاتها النهرية الحضرية ذات النسيج العمراني المتوحد على احتواء ما فيها من تعدديات أخرى لصالح وحدة المجتمع الكبير ودولته الواحدة. (ففي الصين مثلا نرى التطابق بين دائرتها الحضارية ودائرتها السياسية المتمثلة في الدولة الصينية المستمرة, بينما تعددت الدوائر السياسية من دويلات وكيانات داخل الدائرة الواحدة للحضارة العربية الإسلامية).

3- هذه الخصوصية الجغرافية والمجتمعية في المنطقة العربية أثرت في تكوينها السياسي على النحو التالي:

تقطعت استمرارية الدولة, وتأرجح العرب بين وضعية الدولة واللادولة عبر تاريخهم السياسي. وترحل المركز السياسي لدولهم الغالبية كما لم يحدث في تاريخ أي أمة أخرى, الأمر الذي لم يتح لهم خبرة العيش في دولة مستقرة ومستمرة والتمرس بالتعامل السياسي في إطار مؤسساتها وقوانينها ومفاهيمها. وإذا أخذنا في الاعتبار أن الدولة مدرسة السياسة, وأن ممارسة السياسة خارج نطاق الدولة تبقى قاصرة وناقصة, حيث لا ممارسة سياسية حقيقية خارج الدولة أدركنا قصور التجربة السياسية لأغلب المجتمعات العربية التي توزعت تجربتها السياسية بين الخضوع لسلطة خارجية كالسلطة المملوكية الوافدة في المجتمعات الحضرية الزراعية والتجارية, أو الخضوع للسلطات القبلية التي هي نقيض الدولة في المجتمعات الرعوية. وفي الحالتين فإن الممارسة العربية الذاتية لسياسة الدولة على المدى التاريخي كانت تفتقد التمرس الإيجابي بهذه التجربة الدقيقة في حياة الأمم.

4- في ضوء ذلك يمكن القول إن الدولة الوطنية الراهنة في العالم العربي, بكل أوجه القصور فيها, ومع الإقرار بأنه تمثل تجزئة استعمارية في بعض الحالات, فإنها من حيث الواقع التاريخي وعلى النطاق الشامل للمجتمعات العربية أول تجربة للعرب في الدولة وفي الوحدة, في الدولة بمعنى ممارسة العيش في نطاق دولة ثابتة بصفة مستمرة, وفي الوحدة في الدولة بمعنى الشروع في توحيد التعدديات والبنى المجتمعية وانصهارها في نطاق مجتمع مدني ودولة وطنية واحدة. وهي خطوة تاريخية لابد منها للوحدة القومية التي لن تكون غير حاصل جمع الوحدات الوطنية. وحيث لم تشهد المنطقة العربية اقطاعا إنمائيا حقيقيا في تاريخها- بالمعنى الفيودالي الأوربي والياباني فقد جاءت الدولة الوطنية في بعد من أبعادها لتمثل هذه المرحلة الاقطاعية المفتقدة تاريخيا والممهدة للوحدة القومية في تاريخ المجتمعات الأخرى. فالدولة القطرية العربية يمكن النظر إليها بتجريد فكري كمرحلة إقطاعية مؤجلة في عصر الرأسمالية العالمية والسيادات الدولية. (تكوين العرب السياسي).

5- إن الاختيار التاريخي لهذه الدولة الوطنية يتمثل في مدى قدرتها على صهر التعدديات والبنى والمجتمعات التقليدية في بوتقة مجتمع مدني موحد يستند إلى تمدين الريف والبادية, بدل بدونة المدينة وترييفها ويفتح المجال أمام القوى المدنية الوطنية المشتركة إمكان العمل السياسي المعقلن الحديث في وجه العصبيات السياسية التقليدية. وما لم يتم تمدين هذه القوى ودمجها في مجتمع مدني الطابع, مديني القاعدة, فإن الحديث عن الديمقراطية في البلاد العربية سبقى حديث خرافة.

وبالمقابل فإن الوحدة العربية ستبقى شعاراً طوباويا إذا واصلت استنادها إلى ظاهرة الوحدة المعنوية في الثقافة والشعور عند العرب ولم تجد لتوحيد بناها وتعددياتها المجتمعية الحقيقة المعيشة عبر هذه الدولة الوطنية التي تمثل الإمكانية العملية والمعبر التاريخي لأي وحدة عربية ممكنة ومن هذه الزاوية يمكن أن نرى مثلا أن الوحدة اليمنية المتحققة اليوم على الأرض اليمنية كلها هي بلا جدال أكثر واقعية وفائدة وديمومة من انضمام اليمن الشمالي إلى ما عرف باتحاد الجمهوريات العربية في يوم من الأيام. من هنا فإن العمل الوطني من هذا المنظور, وإن بدا أقل احتفالية من الإعلانات الوحدوية القومية العارمة, فإنه قد يكون أكثر نفعاً على المدى الطويل. وما يبدو لنا أنه عصر انحطاط عربي نعيشه الآن يجعله دهاء التاريخ ومكره بداية لعصر عربي أفضل بشرط أن نعرف كيف نفكك هذا المكر التاريخي ونمتلك الوعي القادر على كشف آلياته المواربة والمخادعة.

هل بدأ هذا المرفأ الأخير شديد الوطأة بمراسيه الثقيلة لربما كان كذلك, لكن لا مفر من الغوص إلى أعماق العربية لاكتشاف الذات, وبعد مرفأ (الحقيقة العربية ينازعني شوق عظيم ومقيم لمقاربة مرفأ (الحقيقة الإنسانية) و(الحقيقة الكونية).

فلا بقاء إلا للفكر الذي - يبدأ من حقيقة الإنسان وينتهي إليه الإنسان كظاهرة وجودية كونية.

ذاك (مرفأ) أتطلع إليه وأتامل فيه كل يوم منذ صباي قاربت الآن الستين من العمر, لكني لم أبلغه بعد, أعني (مرفأ اليقين), وإن كنت آمل أن أكتب عنه آخر كتبي قبل انتهاء رحلة العمر والعبور إلى ما وراء الأفق.

 المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=1183&ID=41

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك