التطور الحضاري العربي.. الأزمة مازالت مستمرة?

 

محمد السيد سعيد

ربما كانت الندوة قديمة بعض الشيء. ولكننا سوف نكتشف أن كل ما تثيره من قضايا مازال قائما وأننا كعرب لم نعد في حاجة إلى كلمات وتنظيرات بقدر حاجتنا إلى الفعل الحقيقي.

وفي الواقع لا يكاد يبز جمال الأوراق والبحوث التي قدمت لهذه الندوة غير المناقشات العميقة والحصيفة التي دارت حولها أو اشتبكت مع موضوعاتها. وبكل بساطة أنت لا تقرأ حصيلة ندوة أو تشارك في واحدة مثل هذه إلا كل عقد من زمن في أحسن تقدير. إنها ندوة (أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي) التي عقدت في الكويت بين 7 و12 أبريل عام 1974 بدعوة من جامعة وجمعية الخريجين بالكويت.

يكفي أنه شارك في وقائع هذه الندوة 33 من فطاحل الفكر العربي الذين جاءوا من خارج الكويت و49 من أبرز المثقفين والمفكرين الكويتيين أو المقيمين بالكويت في ذلك العام, وكانت الكويت في ذلك الوقت تلعب دورا بؤريا في تجميع إشعاعات الثقافة العربية, فما كان أيسر أن تجمع تلك العقول الأبرز في الوطن العربي والتي تركت أثرا مضيئا ومستديما في الثقافة والفكر العربيين أعني أسماء نجوم فكريين مثل إبراهيم أبو لغد وأحمد بهاء الدين وأدونيس وأنطوان زحلان وأنور عبدالملك وحلمي مراد وزكي نجيب محمود, وسهيل ادريس وطيب تزيني وعلى الوردي وفؤاد زكريا وقسطنطين زريق ومحمد النويهي ومحمود أمين العالم ونديم البيطار ونقولا زيادة وهشام شرابي ويوسف الصايغ وحسين مؤنس وشاكر مصطفى وعبدالله النفيسي وعلي عتيقة ونصير عروري ووليد خدوري وغيرهم من الأسماء الكبيرة التي يصعب حصرها هنا.

جدير بنا أن نذكر بهذه الندوة أو أن نعيد إليها الأضواء الكاشفة والمنذرة لأنها يجب أن توثق بين أبرز محطات الفكر العربي أو كنقطة لقاء نادرة في التاريخ الثقافي العربي الحديث.

ولكن أين نحدد موقع هذه الندوة من الناحية الكيفية في هذا التاريخ الثقافي?

قليل من مثل تلك الندوات أو اللقاءات الضخمة عدداً ونوعا يقوم في الحقيقة بدور تأسيسي أو بدور ختامي. أعني بذلك إما افتتاح منظور جديد لفهم التشكيلة الثقافية العربية في الماضي أو الحاضر, أو جمع وتتويج منظور شكل بتلاوينه المختلفة المحيط الذي احتضن شتى المراكب السائرة والباحثة عن كنوز المعارف الكفيلة بفهم هذه التشكيلة.

وقد جاءت هذه الندوة التي ندعو للاحتفال بها أقرب إلى الوظيفة الأخيرة فهي تمثل الاختتام الملحمي لما يمكن تسميته تيار النقد الحداثي للثقافة العربية وهو التيار الذي وصل به جيل الأربعينيات والخمسينيات من المفكرين العرب الكبار إلى ذراه قبل أن يتم تحديه أو تشتيته أو إيقاع هزيمة سياسية (لم تكن بالضرورة فكرية) به.

يقول الدكتور نقولا زيادة في بحثه لهذه الندوة إن (الإنسان) العربي المعاصر يبدو (كمية مجهولة) وشخصية يكتنفها الكثير من الغموض ولعلنا نحسن صنعا إذا نحن حاولنا قبل كل شيء أن نتعرف إلى أسباب هذا الغموض..).

وفي تقديري أن حصاد تلك الندوة هو جمع حكيم لتيارات الفكر العربي (الحداثي أساسا) من حيث صياغة إجابة عن هذا السؤال انطلاقا من حقل الثقافة أو بالأحرى بدءا مما يمكن تسميته منظور النقد الحضاري للتشكيلة التاريخية والاجتماعية العربية كما قدمت نفسها لهذه التيارات ورموزها المؤثرة في لحظة فاصلة من التاريخ العربي وهي عام 1974 أعني تلك اللحظة التي تفجرت معها شظايا قنبلة النكبة الثانية عام 1967.

ولنعرض لأطروحات الندوة ومشاغلها ومناظراتها المحتدمة حسب الترتيب الذي شاءته هي. لقد أحسن المنظمون صنعا عندما بدأوها بمحاضرة افتتاحية لشيخ الفلاسفة العرب في ذلك الوقت وهو الدكتور زكي نجيب محمود الذي تصدر فلسفته وتتبلور مساهماته الفكرية الجليلة حول غرس الوضعية المنطقية في البحث المعرفي العربي كما هو معروف.

وعلى كثرة مدارس الفلسفة الأوربية الحديثة, لا يوجد ما هو أكثر التصاقا بمشروع الحداثة من الفلسفة الوضعية وخاصة مشروعها المنطقي. فهي الفلسفة التي احتفلت بالعلم إلى درجة تقريب أو صهر كل فكر مقبول في بوتقته, وخاصة فيما يتعلق بالفصل بين الكشف والقيم والبحث عن القانون الذي يغطي كل مظاهر وتجليات الظاهرة المبحوثة واللغة المنطقية التي يجب أن يصب فيها كل افتراض أو نظرية.

وكان زكي نجيب محمود في محاضرته الافتتاحية أمينا مع مشروعه إذ عرف مصطلح الحضارة أو القاسم المشترك في كل حضارة من حيث (الاحتكام إلى العقل في قبول ما يقبله الناس وفي رفض ما يرفضونه, العقل وحده هو الفيصل بين الحق والباطل. وبه وحده يصبح الإنسان سيد مصيره ) غير أنه يكتفي بتعريف العقل في محاضرته هذه بالإشارة إلى إحدى فعالياته وتجلياته: أي رد الظواهر إلى أسبابها الطبيعية. وبذلك يحصر أزمة الأمة العربية في (الهوة اللا عقلية العميقة التي لا تزال تتخبط في ظلامها). ويتحداه الدكتور سهيل إدريس بتوجيه النقد الدءوب لهذه المعاني, من حيث اهمال الوجدان والقيم ومن ثم تمجيد الحضارة الرأسمالية وخاصة في ثوبها الأمريكي. فيرد الدكتور زكي بأن شغله الشاغل هو إيجاد مقياس للحضارة يكون ضروريا وكافيا وليس الإحاطة بجميع مجالات ومظاهر الازدهار الحضاري. ويرد التحدي على سهيل إدريس سائلا إياه: العقل عندي هو المقياس هذا هو جوابي عن سؤال ماذا أصنع لو أردت أن أعيش في عصري? فما الجواب عندك?

وتدلف الندوة إلى موضوعها الأول وهو الأبعاد التاريخية لأزمة التطور الحضاري. وقدم لمعالجة هذا الموضوع بحثان, الأول كتبه الدكتور شاكر مصطفى تحت هذا العنوان ذاته والثاني كتبه الدكتور نقولا زيادة بعنوان الأبعاد التاريخية لأزمة التطور العـربي حضاريا).

يصف الدكتور شاكر مصطفى سؤاله المركزي بأنه مصيري ونازف كالجرح في ضمير كل عربي. أما السؤال فهو: لماذا تطلب وفاق العرب مع العصر كل هذا الوقت الطويل ودون كبير جدوى? وهذا بلاشك بحث رائع أظن أنه انطلاق من توصيات نجيب محمود المنطقية, وإن كان في مجال المعرفة التاريخية. وهو يؤكد أن اللاتاريخية في الفكر تعني العمى عن إدراك الواقع وهو ينظر للتاريخ نظرة تاريخانية: أي كجذور للواقع وجزء حي منه. ويتتبع شاكر مصطفى علل التخلف العربي كظاهرة تاريخية عبر أطروحات معينة أولها: هي علاقة الإنسان العربي بالزمان, فارتباط العرب بالتاريخ ليس كارتباط أي أمة أخرى به, فقد اعتادت المجتمعات القومية العربية أن تحيا مع تاريخها دوما حياة شديدة التماسك مع الماضي, وترفض تفتيت الزمن إلى وحدات كمية أو النظر إليه كامتداد وبعيد. ولكن المؤسف أن النظرة العربية للتاريخ لا تزال سكونية رجعية الاتجاه, ونحن لا ننظر إليه على أنه نقطة انطلاق ولكن حدود انتهاء وهو ما جعل مشكلة الذات في مركز مشاكل الجدل, ومال بالعقلية العربية إلى الجنوح الغيبي حيث يحل (الميتافيزيك) في نواح عديدة محل (الفيزيك) قابلا بذلك انفصامية بين عصر نعيش فيه وعصر آخر نرتبط به, نصب فكرنا في مصطلحاته وجدالاته. وتدخل هذا الفهم في طرق الإنتاج المادي التي تسيطر عليها البداوة, بمعنى الاعتماد على (اللا عمل), كما تدخل في نظام السلطة التي سادها عبر قرون طويلة تحالف من طبقة عسكرية لها الرئاسة, وطبقة من الأسر المحلية (الإقطاعية أو التجارية) وطبقة تعيش على أطراف هاتين الطبقتين وتتشكل من رجال العلم الديني, وهو ما أوجد وضعا تسلطيا مستغلا بصورة منظمة للطبقات الشعبية, وخاصة بعد إضافة الطبقة البيروقراطية في العصر الحديث. ولعل التاريخ لا يتجذر في شيء قدر تجذره في العلاقات الاجتماعية بما تشمله من علاقات الأسرة ذات الطراز الأبوي, وأطر الانتماء إلى العائلة والعشيرة والطائفة, وقيم سكونية عاجزة تقوم في الجوهر على مفهوم الشرف الجسدي. وتتشعب تلك العلاقات والقيم في التربية وعلاقات الأجيال والطبقات وفي علاقة الرجل بالمرأة. ويلخص ذلك كله في معطيات تراثية نافذة في الفكر العربي بأيديولوجياته وأبنيته التعليمية والتربوية وتعبيراته اللغوية, حيث تسود الغيبية, والتلقينية والسكونية والإرهاب الفكري وتوظف اتهامات الكفر والخروج على الجماعة توظيفا تابوياً (تحريمياً) وقمعيا يسعى لقتل كل تجديد في مهده.

الدكتور نقولا زيادة له إسهام آخر في التفسير, فهو يدرس مادة التاريخ وليس قوالبها العامة. ويبدأ برصد أعظم تجليات الحضارة العربية الإسلامية من حيث إنها كانت نتاج لقاء نادر وقد لا يوجد له مثيل بين عشرات من الشعوب والثقافات والحضارات. فكانت الحضارة في أدوارها الأولى على الأقل (ديناميكية) مستنبطا بالإشارة إلى تلك السمة جذرا مهما من جذور الفشل (ففي الوقت الذي أغلق فيه العرب الباب عليهم ورفضوا روافد الفكر من الخارج أصابهم ـ من الناحية الفكرية ـ نوع من الجمود والركود.. وأصبحوا (اقليميي التفكير) وفي قلب هذا التفسير يقدم أطروحة الخصام بين مساقات ثلاثة متوازنة ومتوازية للحضارة العربية وهي مساق الشريعة ومساق الفلسفة ومساق العلوم. ثم تتبع مصير المؤسسات الحضارية الكبرى ويلحظ الاضطراب والاختلال الذي بدأ في العلاقة بين مؤسسات السلطة والقضاء والمؤسسات المرتبطة بالدين والعلم. ويبدو أنه ينسب للمدرسة النظامية التي قامت على اكتاف ممالك الأتراك المختلفة فضل التقدم بالبحث الفقهي وقمع البحث الفلسفي والعلمي. ويؤكد أن سلاطين المماليك حاولوا التقوي بالإسلام ليس ضد خصومه الخارجيين فحسب, بل وفي مواجهة المجتمع الذي حكموه دون مبرر, فكان للأحداث الخارجية في المشرق والمغرب وخاصة غزو الصليبيين والتتار دور في وقف المساق الفكري الطليعي. ورسخ ذلك هيمنة الحياة البدوية فلم ينفتح العقل ليسبر غور الكون إلا لفترة قصيرة عاد بعدها إلى الانغلاق. الدكتور نور الدين حاطوم يكمل من جانبه ما طرحه الدكتور شاكر مصطفى مشيرا إلى التلازم بين البداوة والعدوان, وبين الحياة الفلاحية وقوة العادة القديمة, وسطوة الحكم الاستبدادي طوال الروح الأطول من التاريخ العربي ثم إنه يضيف لما قال به الدكتور زيادة مقارنة طريفة بين أسباب تدهور الحضارة العربية وحضارة أوربا في القرون الوسطى, محيلاً بعض أسباب هذا التدهور في الحالتين إلى الغزوات الخارجية المدمرة.

وحول موضوع الاستعمار وأزمة التطور الحضاري قدم الدكتور إبراهيم أبو لغد والدكتور عبدالجبار عطيوي بحثين قصيرين ومختلفين.

يطرح الدكتور إبراهيم أبو لغد منظورا مناقضا لفكر الحداثة بل إنه يعزو استمرار التخلف الحضاري لسيادة هذا الفكر في المعترك العربي. فهو يدين هذا الفكر باعتباره تفريعا عن الأيديولوجية الداروينية الاجتماعية. وفي رأيه أن الفئات الحاكمة والمفكرين الذين خدموها قد سلموا تحت ضغط الاستعمار الغربي بتفوق التصورات الغربية كحقيقة للتطور. فجاءت التنظيمات الجديدة الجيش والمصنع وملكية الأرض وأنظمة التعليم والقوانين الجديدة مقتبسة من الغرب, وسمح للقلة التي تثقفت غربيا بأن تسيطر في النهاية على الوطن العربي وهو ما جعلها تقبل بمقاييس الاستعمار, وبالتجزئة إلى دول مستقلة.

أثارت آراء الدكتور أبو لغد مناقشات حامية وتعليقات حاسمة ويلفت أحمد بهاء الدين النظر إلى أن العرب لم يكونوا في أحسن حال حين داهمتهم الغزوات (الغربية) بل العكس, وبعبارة أكثر جزما يؤكد الأستاذ عبدالكريم غلاب في تعليقه المطول النقدي على ورقة أبو لغد أن الوطن العربي (لم يكن يوما وحدة كاملة حتى في عهد الخلافة العباسية).

ويؤكد أن الحركات النهضوية السابقة على الاستعمار إنما انبثقت للرد على التحدي الذي يمثله, ولم تكن بعيدة عن مكتسبات الحضارة الغربية. لقد كنا نواجه ـ ونحن نتلمس المستقبل ـ عقدا خطيرة في مواجهتنا لحضارة الخصم ومن هذه العقد (أننا كنا نخاف من الحضارة الجديدة لأن أهلها ينتسبون إلى عالم آخر دينيا وعرقيا ولغويا وحضاريا.. عالم دأبنا على أن نسميه عالم الكفر) ويؤكد (أننا لا نستطيع أن ننتمي.. كاملا لحضارة الغرب.. ولكننا لا نستطيع أن ننتمي إلى عالم عربي إسلامي مقفل فنولي ظهورنا للتطور الحضاري الغربي).

دلفت الندوة بعد ذلك لتناول البعد الفكري في أزمة التطور الحضاري من خلال ثلاث ورقات. الدكتور فؤاد زكريا يحاجي حول الحاجة لتأســـيس رؤية تاريخية للتراث, بادئا بتبديد الأوهام الشائعة حول التطور التاريخي للحضارة الغربية باعتبارها أساس القـياس والمقارنة. إن أعداء التراث وأنصاره يقتسمون المسئولية عن النظرة اللا تاريخية للتراث وهو ما يعيده د. زكريا إلى سمة (الانقطاع الحضاري المميز للتراث الفكـري والعلمي في بلادنا العربية).

أما أدونيس فيسعى لبلورة معنى محدد للتخلف, انطلاقا من بحث مصدر تراثي (ساد الثقافة العربية) وهو الإمام أبو حامد الغزالي وهو يركز هنا على تحديد الغزالي لدور العقل وهو أن يهدي إلى صدق النبي وفهم سنته وفيما عدا ذلك يجب اطراحه ولزوم الاتباع. وعلى ضوء هذه الدراسة يصوغ أدونيس نظرية للتخلف الفكري كظاهرة تتألف من أربع نزعات وهي اللا هوتانية والماضوية والفصل بين المعنى والكلام والتناقض مع الحداثة ومصادرة المغامرة في اكتشاف المجهول.

ولقد لقي هذا التحليل معارضة شديدة من جانب أغلب المشاركين في مناقشة هذا البعد ولفت عبدالكريم غلاب نظر الندوة إلى ما يمكن تسميته (سوء النية) في اختيار أبي حامد الغزالي كتعبير عن الحضارة العربية كلها (لأنه وصل به إلى النهاية التي أرادها) فهناك فلاسفة آخرون لم يتحدث عنهم أدونيس, وانتقد الطيب تزينــي (لا تاريخية) هذه الرؤية. واستنفر الدكتور محمد الطالب مجموع المشاركين لبحث إنجاز أبي حامد الغزالي من منظور مناقض لما طرحه أدونيس جاعلا الغزالي الرائد الحقيقي ـ قبل ديكارت ـ لمنهج الشك المنهجي.

ويقدم د. أنور عبدالملك ورقة تبحث في معنى الخصوصية, بدءا من إدانة الفكر الغربي الذي يصفه بأنه ليس علما وإنما هو ما قبل العلم. ولاستنباط معنى الخصوصية يقدم نموذجا تجديديا جوهره التفاعل الجدلي بين عوامل الاستمرار وعوامل التغير فهو يرى أن خصوصية مصر هي تكون سلطة دولة مركزية موحدة تعد مفتاح الوجود القومي كله. وفي تعليقه على هذا البحث يطرح الأستاذ محمود أمين العالم الاستنتاج الذي يزلزله من جذوره (فيقول) إن مفهوم الخصوصية عند عبدالملك يمكن أن يكون (سلاحا لأشد الحكومات تمركزاً ورجعية واستبدادا).

في اليوم الرابع للندوة بدأ التداول حول الأبعاد العملية وأولها هو البعد السياسي, فقد ناقشت الندوة هنا ثلاثة بحوث, أولها وأطولها كان للدكتور نديم البيطار. وهو يبدأ بتحديد موضوعه, وهو (تخلف عملنا السياسي الثوري عن العقل العلمي الحديث.. هو ممارسته لذاته في إطارات غيبية ومثالية, هو انحرافه عن المنهج العلمي.. في ممارسات أخلاقية وتبشيرية). وهو يدين هذا التخلف من حيث أنه يعاني من تجزئة عاجزة عن رؤية الواقع الاجتماعي ككل وتخلفه عن ممارسة استراتيجية مرحلية واعية, وفشله في رؤية ومعاينة العلاقة الديالكتيكية التي تربط بين مراحل مختلفة في إطار الطور الانتقالي الذي نمر به: وفي أنه لا يرى بوضوح أن الممارسة الناجحة هي في الواقع القياس الوحيد لصحة مفاهيمه ومواقفه وعدم وعيه بأن الثورة العربية هي ثورة دائمة وشاملة كلية وأخيرا فالتخلف السياسي يتميز بسمة مثالية أخلاقية تبشيرية. وهو يطبق هذا التعريف على تيارات شتى للفكر القومي الثوري في الربع الثالث من القرن العشرين.

وتطرقت الندوة بعد ذلك للقيم والعادات والتقاليد العربية. فقدم الدكتور على الوردي كالعادة بحثا متميزا دار أساسا حول مفهوم البداوة والحضارة. فالأولى تقوم على الغزو والعصبية القبلية وتقدير المروءة والثانية تقوم على المهنة والسلطة الحكومية وتقدير المال. وفي ظنه أن المجتمع العربي مازال يشهد صراعا مضطربا بين البداوة والحضارة, ويلاحظ مراوحة العرب وفئاتهم الحاكمة والمثقفة بين هذين القطبين. وينصح الدكتور بهاء أبو لبن بتبني ثلاثة محاور للتغيير الثقافي وهي المشاركة الشعبية, والتوازن في تفسير وتغيير النظم والانتقاء سواء في الحفاظ على الثقافة العربية أو في الاقتباس.

أما في محور الدين وعلاقته بالتطور الحضاري العربي فقد قدمت ورقتان رائعتان, ففي ورقة الدكتور حسين مؤنس نبدأ بالسؤال الكبير وهو إذا كان الإسلام عقيدة حضارية تطورية وحافزا قويا على التقدم والتطور فلماذا فشلنا في الاستفادة منه كقاعدة حضارية كبرى? يجيب: لأننا فهمنا الإسلام فهما متخلفا. وهنا أيضا يأخذ العلامة أبا حامد الغزالي كنموذج مثالي ولكن في إطاره التاريخي فالدكتور مؤنس يسأل: إلى أين تؤدي بالإنسان قراءة كتاب الإمام (المنقذ من الضلال)? ويجيب: إلى الموت! ويسهب الدكتور مؤنس في شرح ظروف العصر التي أدت بالإمام إلى اتخاذ موقف مناهض للعقل. وهو يرى أن الخطوة الأولى التي نحتاج إليها للإسراع في طريق الحضارة هي الخروج من نظام الحكم الاستبدادي.

لقد مر أكثر من ربع قرن على تلك الندوة الرائعة, وجرت مياه كثيرة تحت كل الجسور كما يقال, وتغيرت جوهريا الساحة الثقافية والفكرية العربية, فتحول التحديثيون إلى أقلية, وتوسد الاتجاه التراثي والاتجاه الأصولي قمة المنصة الثقافية العربية.

لقد أضاف هذان الاتجاهان ثقلا سياسيا للاهتمام بتراثنا الثقافي العظيم, واستعادة هويتنا الحضارية, ومن ثم بعض الفضل يحسب له إذا ما نجحت الأمة العربية يوما في صنع سبيكتها الثقافية التي تعكس خصوصيتها وقدرتها على الإضافة للتدفق الثقافي العالمي من ناحية والتعليم من الآخرين وامتصاص المنجزات الإيجابية المضيئة للحضارات الحديثة من ناحية أخرى.

ولعل من الضروري أن نحد من غلو هذين الاتجاهين, وخاصة فيما يتعلق بالموقف من الاحتكام للعقل وعصرنة هياكلنا الاجتماعية والتعاطي الخلاق مع المركب الثقافي المعقد الذي ورثناه عن الأجداد.

وبعد مضي أكثر من ربع قرن على هذه الندوة, تتقادم بعض الرؤى والأطروحات التي صدرت عن الباراديم الحداثي بوجه عام. وصار من الضروري مراجعة كثير من التوصيفات والأفكار التي انسابت في تلك الندوة على ضوء المكتسبات النظرية والمنهجية الأحدث. فقد تعرضت منظومة الفكر الحداثي لنقد عارم من جانب تيارات جديدة في فلسفة العلوم, وعلوم الاجتماع واللغة والثقافة. ولم يعد من الممكن التوقف عند الباراديم الحداثي وصار من الضروري تجاوزه. ولكن هذا التجاوز لا يعني إلغاء مهمة عصرنة المجتمعات العربية في شتى المجالات, بل يعني إعادة تركيب القضايا على مستوى أرقى وأعلى من المعرفة بتعقيداتها ومضاعفاتها والآفاق التي تنقل إليها المجتمعات والحواجز التي تقيمها في وجه التطور المبدع والمنهجي.

لقد آن الأوان لعقد ندوة أو مؤتمر موسع مناظر لتلك الندوة لتحصيل نتائج هذا النقد وطرح آفاق أرحب للانطلاق والنهوض الحضاري للأمة العربية في مقتبل القرن الواحد والعشرين.

 المصدر:http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=1343&ID=45

 
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك