قراءة عربية للنهضة الأوربية

 

حسن حنفي

أولا: القراءة المزدوجة بين الأنا والآخر

كثر الحديث عن فجر النهضة العربية الأولى منذ القرن التاسع عشر وروادها الأوائل سواء الإصلاح الديني عند الأفغاني أو الفكر الليبرالي عند الطهطاوي وخير الديني أو الفكر العلمي العلماني عند شبلي شميل, وما آلت إليه هذه التيارات الثلاثة من انقلاب على ذاتها فأصبحت النهايات غير البدايات, والنتائج غير المقدمات. فشتان ما بين الأفغاني, الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل, والجماعات الإسلامية المعاصرة, الخطاب الديني المغلق الذي يقوم على الشعارات المطلقة. وشتان ما بين الطهطاوي وخير الدين والليبرالية الوطنية, (فليكن هذا الوطن مكاناً لسعادتنا أجمعين نبنيه بالحرية والفكر والمصنع), والليبرالية الغربية الرأسمالية التابعة التي يمثلها رجال الأعمال في عصر الانفتاح. وشتان ما بين شبلي شميل الذي يؤسس العلم الطبيعي والعلم الاجتماعي على أساس من العقل والطبيعة وبين كتاب العلم والإيمان, والعلم في القرآن. كانت نقاط البداية في عصر النهضة ثلاثة: الأولى الدين, لا يتغير شيء في الواقع إن لم يتغير فهمنا للدين أولا, وهو طريق الإصلاح. والثانية الدولة, لا يتغير شيء في الواقع إن لم نبن الدولة الحديثة أولا, وهو طريق الليبرالية السياسية. والثالثة العلم, لا يتغير شيء في الواقع إن لم نبدأ بالعلم الطبيعي أولا ونفصل بين الدين والدولة, وهو الطريق العلمي العلماني.

كما عم حكم شائع عند العلمانيين, أن فجر النهضة العربية متأثر بالغرب وتياراته الفكرية. فقد وعى الإصلاح الديني النموذج الليبرالي الغربي بالرغم من هجومه على دارون والاشتراكيين (السوسيالست), والشيوعيين (الكومونيست), والعدميين (النهيلست) كما فعل الأفغاني في (الرد على الدهريين). وأعجب محمد عبده بسبنسر وتولستوي وآرائهما في التربية. وروج الطهطاوي في (تلخيص الإبريز) وفي (مناهج الألباب) لمثل التنوير الأوربي, العقل والطبيعة والإنسان والحرية والعدالة الاجتماعية والتقدم. ورأي مقاربة بين مونتسكيو ابن خلدون الغرب, وابن خلدون مونتسكيو الشرق, بين الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة والقانون الطبيعي في (روح القوانين). كما ترجم (الشرطة) ميثاق نابليون ووجده متفقا مع الشريعة. وظل النموذج قائما عند أحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد. وارتبط التيار العلمي العلماني عند شبلي شميل وفرح أنطون ويعقوب صروف وسلامة موسى وزكي نجيب محمود بدارون وسبنسر في العلم الطبيعي ونظرية التطور, وجان جاك روسو في نظرية العقد الاجتماعي, وأراد نفس البداية, فصل الدين عن الدولة وإقامة مجتمع مدني يقوم على العقد الاجتماعي. فالإنسان مواطن في دولة وليس مؤمنا في كنيسة أو رعية في ملكية. والعقل قادر على النظر في الطبيعة, ومعرفة قوانينها.

والسؤال الآن: هل النهضة الأوربية التي كانت نموذج النهضة العربية, خلق إبداعي على غير منوال أم أنها نتاج الحضارة الإسلامية في فترتها الأولى عندما أبدعت العلوم وقامت على العقل والطبيعة ثم ترجمتها إلى اللاتينية مباشرة أو عبر العبرية وأصبحت أحد روافد النهضة الأوربية? هل يمكن إعادة قراءة عصر النهضة الأوربي قراءة عربية, إرجاعا لها لأحد مصادرها الأولى وروافدها المعلن عنها أحيانا والمستورة في أغلب الأحيان? هل يمكن أن تصبح الأنا قالبا يوضع فيه الآخر, وإطارا مرجعيا له بدل أن يكون الآخر إطارا نظريا توضع الأنا فيه? هل يمكن إعادة كتابة تاريخ النهضة الأوربية بل وتاريخ الوعي الأوربي كله من منظور عربي في هذه الفترة التي يتم فيها التحول من الغرب إلى الشرق, ومن (أفول الغرب) إلى (ريح الشرق), ومن الاستشراق إلى (الاستغراب)?

وهناك حكم شائع آخر عند السلفيين أن سبب انهيار ما يسمى بفجر النهضة العربية هو تبنيها للنموذج الغربي: القطيعة مع الماضي, وفصل الدين عن الدولة, وجعل الدين مجرد علاقة خاصة بين الانسان والله, والحكم بالقانون الوضعي, والاعتماد على العلم, وجعل العقل والطبيعة مصدرين للمعرفة, والإنسان مركز الكون, والتقدم جوهر التاريخ, والتغير قلب الزمان, وإيثار المتحول على الثابت. وهو أيضا حكم جائر لأن الأسس التي قامت عليها النهضة الأوربية ومُثــُل التنوير لا تختلف كثيرا عن مقاصد الشريعة كما حددها الشاطبي, الحياة (النفس), والعقل, والمبدأ العام الشامل (الدين), والكرامة (العرض), والثروة الوطنية (المال). وربما كانت الطبيعة البشرية واحدة, والتجارب البشرية متكررة كما يبدو ذلك من قوانين التاريخ, وقيام الحضارات وسقوطها.

والسؤال الآن هو: إذا كان ذلك الحكم صحيحا فهل يمكن القيام بنهضة عربية ثانية لها نموذجها الخاص, وتطور الإصلاح إلى نهضة, وتقيله من عثرته, وترسي قواعد فجر نهضة عربية جديد? ألا يمكن التعلم من تجربة النهضة العربية الأولى التي قامت على النموذج الغربي أو قراءته في التراث القديم أو الانتقاء من التراث القديم ما يتفق مع النموذج الغربي? ألا يمكن إبداع نموذج خاص لفجر نهضة عربية ثانية تعلمت من الأولى بعد أن غامت الرؤية, وانهارت الأيديولوجيات في واقع عربي يزداد تأزما يوما بعد يوم? هل يمكن تطوير الإصلاح إلى نهضة شاملة, وينتصر الجديد على القديم, ويصبح الإنسان مركزا للكون, والطبيعة في مواجهة العقل, والمجتمع لحظة في تطور التاريخ? 

ثانيا: التيارات الفكرية في عصر النهضة الأوربي

يعتبر عصر النهضة الأوربي حلقة الاتصال الفعلي بين العصر الوسيط والعصور الحديثة كما أننا الآن ننهي عصرنا الوسيط منذ مائتي عام لبداية عصورنا الحديثة. وهو المتوجه نحو المستقبل في حين كان الإصلاح الديني الإسلامي والمسيحي متوجها نحو الماضي لإعادة بنائه طبقا لروح العصر. يدرسه الباحثون الأوربيون باعتباره جزءا من التاريخ الأوربي, ثورة على القديم أو إرهاصات للجديد أو إعادة تقييم ونقد كما يحدث حاليا في الدراسات حول الإصلاح الديني والمذهب الإنساني. فإذا كان قد دخل في نطاق التاريخ في التراث الغربي وأمكن تجاوزه فإنه بالنسبة لنا مازال حيا للغاية يمكن أن يعطينا نماذج لما تكون عليه الحضارة في نهاية فترة وبداية أخرى. فنحن تاريخيا مررنا بأواخر القرن الرابع عشر الأوربي, عصر الإحياء, وقد ظهر لدينا في الشعر. وفي بداية الخامس عشر نحاول الدفاع عن كرامة الانسان وحريته, وإقامة نظام ديموقراطي, والشك في الموروث, وتأسيس العلم. نعيش مشاكل عصر النهضة الأوربي. وربما نمر بمرحلته التاريخية دون أن يعني ذلك أي تواز بين المسارين. فلكل حضارة مسارها الخاص. قد يعني عصر النهضة قدرة الوعي الأوربي على اكتشاف الحقائق الإنسانية والطبيعية والدينية بنفسه, اعتمادا على جهد العقل ورؤية الطبيعة. وهو اقتراب غير مباشر من النموذج الإسلامي في تراثنا القديم, وحدة الوحي والعقل والطبيعة والذي تسرب قبيل عصر النهضة إلى الوعي الأوربي بعد نقل التراث الإسلامي من العربية إلى اللاتينية. وبالتالي يمكن القول بما قاله أحد علماء المشرق عندما قرأ مؤلفا مغربيا (تلك بضاعتنا ردت إلينا).

والبحث التاريخي ضروري لمعرفة كيف تسرب التراث الإسلامي في ثنايا عصر النهضة الأوربي. وهو بحث مشروع وضروري من حيث الكم. ومع ذلك فالوصف الكيفي أيضا ضروري عن طريق فعل القراءة دون الأخذ بالشبهات والوقوع في منطق التشابه والاختلاف. وقد قدم كاسيرر في (فلسفة عصر النهضة) نموذجا لدراسته طبقا للبواعث أو المقاصد فيه مثل العقل والحرية والإنسان والعدالة الاجتماعية. وهي مقاصد طبيعية في كل حضارة تتحول من القديم إلى الجديد, ومن الركود إلى النهضة, ومن التوقف إلى الحركة. ومن ثم كان المنهج (الظاهرياتي) أفضل المناهج, يبدأ من التجربة دون الوقوع في حواملها المادية. ويتحد بالموضوع ويحوله إلى قصد. ويدركه بالحدس قبل أن يحلله بالعقل. وتتطابق التجارب في التجربة المشتركة للأفراد والحضارات.

ويمكن التمييز بين خمسة تيارات في عصر النهضة الأوربي. قد تتداخل فيما بينها أحيانا. فمثلا يوحد لورنزو فالا بين المذهب الإنساني والعلمانية كنظام سياسي. وبيكو دي لاميراندولا بين المذهب الإنساني وتأسيس العلم.

1 - الأفلاطونية. وقد حاولت إحياء القديم والتحول من أرسطو والعودة إليه من جديد, إلى الأفلاطونية الجديدة وإشراق النفس, وحديث القلب. فقد استمرت الفلسفة الإلهية في القرن الخامس عشر عند الأفلاطونيين مثل نيقولا الكوزي(1). فأحيا الأفلاطونية الصوفية من جديد كمقدمة للإصلاح الديني. والفلسفة الحديثة التي بدت عند ديكارت وكانط أفلاطونية أكثر منها أرسطية, وأوغسطينية أكثر منها توماوية. وهو طريق الصوفية والذي جعله الغزالي في (إحياء علوم الدين) بعد (المنقذ من الضلال) نهاية البداية الأولى, وبداية البداية الثانية. استعمل طريقة اللاهوت السلبي الذي كان مؤثرا إبان عصر النهضة لقدرته على الرفض والتطهير والتخلص من كل مظاهر التجسيم والتشبيه دفاعا عن التنزيه كما فعل المعتزلة من قبل. وقرظ الجهل العالم في مقابل العلم الجاهل كما فعل بترارك. الجهل العالم هو البراءة الأصلية التي تحدث عنها الأصوليون القدماء والفطرة البشرية, والعلم الطبيعي المغروز في النفس, النور الفطري الذي تحدث عنه ديكارت بعد ذلك. استعمل المنطق المدرسي كما استعمل القدماء المنطق الأرسطي. وبحث في طبيعة الله والكون على طريقة الأفلاطونية الجديدة. طبيعة الله سر, والعلم بها نسبي كما قال القدماء في الذات الإلهية (كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك) طبيعة الله مجهولة كما قال القدماء أن الذات الإلهية لا يمكن معرفتها بل مقايستها. وهو رأي المهندسين في الإلهيات. والعالم مجموعة من الأشياء المتناهية, تفيض من الله وتعود إليه كما هو الحال في نظرية الفيض. والعلم بها نسبي كذلك, العلم ببعضها والجهل بالبعض الآخر. (والله أعلم).

أما طبيعة المسيح فهي الوحدة الوجودية بين الله والعالم كما هو الحال في الانسان الكامل عند ابن عربي أو في نظريات الحلول والاتحاد عند الحلاج والجنيد. وهو مركز الكون وليست الأرض. أنكر مبدأ عدم التناقض في المنطق الأرسطي حتى يمكن فهم عقيدة التجسد, والتوحيد بين الله والعالم في شخص المسيح, مثل (الرد على المنطقيين) و( نقض المنطق) لابن تيمية. كذلك أحيا فيتشينو الأفلاطونية(2). ودافع عن خلود الروح. وجمع باراسلوس بين الأفلاطونية والفلسفة العملية مثل جالينوس في الجمع بين الطب والفلسفة مثل الأطباء العرب ابن سينا وابن رشد(3). فالفلسفة إحدى دعائم العلوم الطبيعية. ورفض النظريات الطبيعية الخالصة لجالينوس لأنها منفصلة عن الإلهيات. ويتضح من ذلك كيف كان الطب الإسلامي يمثل نموذجا علميا أرقى من علم الطب الأفلاطوني في عصر النهضة. كما جمع بين الأفلاطونية الجديدة والتجريبية والسحر والخرافة وكان أكبرهم على الإطلاق يعقوب البوهيمي(4). وهو أيضا صوفي إشراقي, خرافي تنجيمي سحري, ثنائي. يقول بأولوية الإرادة الإلهية في كل شيء. أعلن أن حدوسه في الطبيعة الإلهية ونشأة العالم وبنيته, والأسرار الخفية, كلها موجودة في الكتاب المقدس. عرفها عن طريق الإلهام الإلهي. مصطلحاته صعبة. يعتمد على السحر والتنجيم والكيمياء اللاعلمية لنسج صور شعرية للعالم ورموز وأخيلة وانتهى إلى وحدة الوجود. فالله والطبيعة شيء واحد, ولا يوجد شيء خارج الطبيعة. وكل الخلق تجليات لله, كما هو الحال عند ابن عربي. كل شيء يحتوي على تناقضات حتى الله الذي يجمع بين الخير والشر. فالله له إرادتان: الأولى للحب, والثانية للانتقام. هذه الثنائية هي أساس حركة العالم.

2 - المذهب الإنساني. وقد حاول جعل الإنسان بؤرة الكون, غاية في ذاته لتبني العصور الحديثة عليه مشروعها في الذاتية ابتداء من (الأنا أفكر). وجعل الذات محورا للعالم. خرج من ثنايا الفكر الديني, وحول بؤرته من الله إلى الإنسان. وهو ما لم يحدث بعد بشكل صريح في فكرنا المعاصر وإن كان قد وُجـد متخفيا في تراثنا القديم مغتربا في الله في علم أصول الدين, وعقلا خالصا في علوم الحكمة, وتجربة ذوقية في علوم التصوف, وسلوك عملي في علم أصول الفقه.

ظهرت هذه النزعة أيضا عند بيكو دي لاميراندولا, مدافعا عن المسئولية والكرامة الإنسانية (5). ثم تحولت إلى مذهب عند اراسموس يضع الانسان في مركز العالم, ويعيد بناء العقيدة المسيحية على أساس إنساني خالص(6). ويضع برنامجا لتعليم المسيحي كمواطن عصري مستنير كما حاول البعض وضع دليل للمسلم المستنير, عارض بقوة الفلسفة المدرسية, كما فعل بعض مفكري الإخوان مثل سيد قطب وسعيد رمضان, ووهب حياته للإصلاح الكنسي. فالمسيحية ليست مجرد عقيدة في الخلاص بل هي دين الروح الذي يقوم على الثقة بالعقل الإنساني كما حاول محمد عبده مستئنفا دور المعتزلة في جعل العقل أساس النقل. أيد مارتن لوثر, ودعا الناس إلى الاستماع إليه. وروح البروتستانتية هو روح الإسلام في جعل مصدر الوحي الكتاب وحده, وحرية التفسير, ورفض التوسط بين الانسان والله, والربط بين الدين والوطن, باستثناء الخلاص بالإيمان وحده دون الأعمال. فالخلاص في الإسلام بالعمل ولا يكفي الإيمان وحده. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون . وعارض اللاهوت العقائدي الإصلاحي الذي يدعو إلى العنف والثورة المسلحة على الكنيسة والإقطاع. ونقد تعاليم الكنيسة وبين سطحيتها. وهو الذي أمد المصلحين الدينيين بأسس عقلية مستنيرة فكان بمنزلة عقلهم المنظر لوجدانهم الديني.

3 - الطوباوية. وكانت ترنو إلى عالم أفضل يعيش فيه الإنسان عاقلا حرا وفي مجتمع يسوده العدل والمساواة. فقد تحول المذهب الإنساني تدريجيا إلى مذهب سياسي, منتقلا من الفرد إلى المجتمع, ومن الانسان إلى الجماعة. ويقوم على رفض السلطة الدينية وفصل الكنيسة عن الدولة وتأسيس المجتمع المدني العلماني الحديث.

دافع لورنزو فاللا عن حرية الإرادة, وبّين أن علم الله المسبق وهي قدرة الله (أبولو) لا ينفي استقلال الإنسان (زيوس) (7). عرض المشكلة دون حلها خوفا وحذرا. وفي الأخلاق كان متعاطفا مع أبيقور دفاعا عن الأخلاق المادية كما هو الحال في التيار العلمي العلماني خاصة عند سلامة موسى. كان أكثر جرأة في الدعوة إلى العلمانية, وفصل الكنيسة عن الدولة, والكشف عن الأسطورة التاريخية ابتداء من تحول قسطنطين إلى المسيحية التي تقوم عليها ادعاءات البابوية, وبالتالي القضاء على الشرعية التاريخية التي أعطتها روما لنفسها.

وكان أجرؤهم جميعا على تأسيس الحكم المدني الذي يقوم على الاختيار الحر للشعب هو سواريز(8). أعاد صياغة الأرسطية المسيحية, وجمع بين الاسمية والبير الكبير وتوما الاكويني ودنزسكوت لعرض مذهب معرفي متكامل في الميتافيزيقا وعلم النفس والمعرفة والكونيات واللاهوت الطبيعي. واللاهوت العقائدي ليس فلسفة بل هو مستمد من الدين والوحي مباشرة. أما اللاهوت الطبيعي فإنه قادر على إثبات وجود الله وصفاته عن طريق الفعل. لذلك كان سهل الفهم. والروح أساس كل موجود حي, حسي أو عقلي. بها ملكتان: الحس والعقل. والإرادة رغبة عقلية, حرة خيرة. والانسان مسئول عن أفعاله. وهي آراء شبيهة بآراء المعتزلة في التوحيد والعدل. وتتمثل جرأته الفكرية في نظريته السياسية التي عارض بها الحقوق الإلهية للملوك. فالشعب مصدر السلطات, والحاكم ممثل الشعب وليس ممثلا لله كما قال الأصوليون القدماء: الإمامة بيعة واختيار, ووظيفة الحاكم تحقيق العدالة الاجتماعية. وكان لسواريز أبلغ الأثر على ديكارت واسبينوزا وليبنتز وشوبنهور.

ثم أخذ الفكر السياسي في عصر النهضة طريقين مختلفين: الأول واقعي يصف ما هو كائن كما هو الحال عند ميكيافيللي. والثاني طوباوي يضع ما ينبغي أن يكون كما هو الحال عند توماس مور وكامبانيللا. كان ميكيافيللي منظرا للأيديولوجية الجديدة التي تنتقل من السماء إلى الأرض(9).

القوة والمصالح المادية هما القوتان الفاعلتان في التاريخ. ونظرا لتعارض المصالح بين القوى الاجتماعية الشعبية والطبقات الحاكمة لزم تكوين دولة قوية قومية ضد الإقطاع وضد الثورات الشعبية في آن واحد. الغاية تبرر الوسيلة. والغش والخيانة والقسوة أدوات لتحقيق الأهداف السياسية. وهي آراء تقترب أو تبتعد من ابن خلدون.

أما توماس مور فهو أشهر ممثل للاشتراكية الطوباوية في عصر النهضة(10). نقد الملكية الخاصة والعلاقات السياسية والاجتماعية في انجلترا في عصره. ووضع نظاما تسوده الملكية العامة وعلاقات المساواة. أعطى تصورا لاشتراكية الإنتاج, مرتبطا بالشيوعية وبتنظيم العمل وعدالة التوزيع. الأسرة هي الوحدة الاقتصادية الرئيسية. والإنتاج يدوي, والتنظيم ديموقراطي, والتمتع بإنتاج العمل اليدوي ضروري, وغياب الصراع بين القرية والمدينة يورث السلام. العمل ست ساعات يوميا, وباقي اليوم مع اليوم السابع للعلوم والفنون. ويهدف المجتمع إلى التربية الشاملة للأفراد, وربط التعليم النظري بالعمل. ويتم التحول إلى النظام الجديد بالطرق السلمية. وهي غير المدن الفاضلة التي عرضها الفارابي والتي تحدد طبيعتها بطبيعة الرئيس.

وكان آخر الفلاسفة الطوباويين في عصر النهضة هو كامبانيللا(11). عارض الفلسفة المدرسية, كما رفض مذهب التأليه الطبيعي. جمع بين روح التحرر الغالب على عصر النهضة وبعض الآراء الصوفية والدينية مع بعض الحماس للسحر والتنجيم من بقايا أفلاطونية العصر. كان يحلم بوحدة البشر وخير الإنسانية ظناً أنه يمكن تحقيق ذلك عن طريق البابوية. وتصور مجتمعا طوباويا اشتراكيا تحت تأثير الأيديولوجية الدينية وتصوره للكنيسة المثالية. وتصوره مجتمعا ثيوقراطيا يحكمه حكماء وقسيسون مثل (ولاية الفقيه) في الثورة الإسلامية في إيران. ومع ذلك تقوم الاشتراكية لديه على حكم العقل والطبيعة.

4 - الشك المذهبي. تحول إلى نقد للقديم والشك في صحته لإفساح المجال للجديد. وقد أخذ طريقين الأول يجد بديلا عن الشك في الوحي حتى يعود إلى الواقع عن يقين وهو شك مونتاني(12). والثاني شك مطلق لا بديل له وهو الشك المعروف عند شارون(13). الأول مثل شك الغزالي من أجل اليقين, والثاني مثل فرقة السمنية التي لا تعترف إلا بشهادة الحواس. فقد حول مونتاني نظريات الشك اليونانية إلى مستوى الثقافة العامة في عصر النهضة. كما دافع عن اللاهوتي الإسباني ريمون سيبون في تشككه في العقائد اللاهوتية السابقة وفي الفلسفة المدرسية مع شواهد من سكتوس امبريقوس. والعقلانية لديه نوع من السلوك الحيواني يعقل بها الانسان نفسه. وبالرغم من ادعاء الانسان السمو فإنه مغرور أحمق وفان بل وفي مرتبة أقل من الحيوان ولا يعيش في مستوى سعادته, أشبه بالمتوحش النبيل. ولما صعب الحصول على اتفاق حول المعرفة والعلم خلال العصور, واستحالت معرفة العالم وتأسيس العلم جاء الخلاص عن طريق الوحي الإلهي من أجل العودة إلى الواقع والاتصال به. ويوجه مونتاني الشك ضد العقائد الكاثوليكية, وأفكار المسيحيين عن الله. وعلى الانسان أن يعمل من أجل الحصول على السعادة دون انتظارها, خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف.

ويمثل شارون الشك الجذري الذي يبدأ بالشك وينتهي بالشك, ولا يجد بديلا عنه في الدين أو العلم. لا يمكن ضمان أية حقيقة يقينية حتى ولو كان الدين لأن الدين ليس مباطنا في الانسان بل يتكون بالتربية وفي الظروف المحيطة به. أما الأخلاقية فهي الأصل في الانسان ويصبح الدين يقينا إذا ما تأسس على الأخلاق كما هو الحال عند كانط ومسكويه والمعتزلة. على الانسان إذن أن يعيش وفقا لقوانين الأخلاق داخليا وأن يمارس الدين الذي تمثله السلطات خارجيا.

5 - العلم التجريبي الجديد. وكان يهدف إلى تأسيس علوم الفلك والطب والنفس والطبيعة بعيدا عن الأحكام المسبقة والذي طبع العصور المدنية كلها بطابعه فصار عصر العلم. نشأ العلم بعد أن رفض النقاد والشكاك والفلاسفة كل الموروث القديم, وأصبح الواقع عاريا من كل أساس نظري له. نشأ العلم من أجل إعطاء غطاء نظري بديل ومن أجل السيطرة على الواقع بنظريات أكثر دقة وضبطا من الموروث القديم الذي ثبتت أخطاؤه عند التجريب. فالجهد الإنساني وحده مصدر لكل نظرية وليست المصادر المسبقة من الكنيسة أو من أرسطو. فكان الغالب هو علم الفلك الذي غير التصور القديم للكون من التمركز حول الأرض إلى التمركز حول الشمس, وبصورة أقل علوم الحياة مثل النفس والطب, وتبني النظرة العلمية الأحادية للانسان وليس التصور الثنائي المدرسي القديم.

أعاد بومبوناتزي قراءة أرسطو على نحو مادي ضد الفلسفة المدرسية(14). ونحن نرد على الدهريين كما فعل الأفغاني ونستنكف من الماديين. وأكد أهمية الحس. فالنفس صورة للبدن على ما قال أرسطو ثم اسبينوزا. تفني بفنائه. والخلود في الأرض للمادة كما هو الحال عند ابن رشد. والحقيقة حقيقتان كما هو الحال عند حكماء المسلمين, الأولى للعامة, والثانية للخاصة. لذلك يجب الفصل بين الحقيقة الدينية والحقيقة الفلسفية.

كما عبر تيليزيو عن نفس النزعة المادية(15). درس الطبيعة عن طريق التجارب. فالحواس مصدر رئيسي للمعرفة. عارض منهج القياس والتأمل المعروف في الفلسفة المدرسية. فهو أحد السابقين على فرانسيس بيكون في دعوته إلى المنهج التجريبي. فالتجريب ابن عصر النهضة قبل العصور الحديثة. وتصور الطبيعة تملأ المكان, ورفض الخلاء. فالطبيعة خالدة مثل الله. قوانينها صفاته كما هو الحال عند اسبينوزا. وتبني تصور العالم المتمركز حول الشمس. الحرارة والبرودة في صراع, والمادة بينهما. الحرارة من الشمس والبرودة من الأرض.

وأسس كوبرنيقس علم الفلك الحديث(16). فالشمس وسط الكون, والأرض كروية تدورحولها. رفض مذهب بطليموس. ودعا إلى نظرية مركزية الشمس عند أرسطخرس المعاصر لإقليدس والتي كانت تدرس في علم الفلك عند المسلمين. واستعمل مذهب فيثاغورس كي يبرهن رياضيا على أن الأرض مستديرة وفي حركة مطردة نحو الشمس. قوبل بمعارضة الكنيسة التي كانت ترى أن الأرض وبالتالي البشر مركز العالم مع أن الخلافة في الأرض معنوية وليست جغرافية.

وأيد جيوردانو برونو أكبر ممثل لروح عصر النهضة نظريات كوبر نيقس(17). وعبر عن تجارب صوفية تظهر فيها وحدة الوجود ولكن بروح عصر النهضة أي العلم الجديد. الله لديه هو الجوهر الموحد لكل الأشياء والتي تستنبط منه. الله والعالم اسمان لشيء واحد ولواقع واحد هو الماهية المبدعة لكل شيء. فتحولت إلى إمكانات متحققة متجددة. الله هو الطبيعة الطابعة, والعالم هو الطبيعة المطبوعة بلغة اسبينوزا. صيرورة العالم أبديته, من الله إلى العالم ومن العالم إلى الله. ويصور ذلك العقل الإنساني الذي يبحث عن الواحد في الكثير, والبسيط في المركب, والأبدي في التغير. والروح مثل الله صيرورة في البدن, من الروح إلى البدن ومن البدن إلى الروح. ومع ذلك بقيت لديه بعض التصورات الماهوية الثنائية القديمة عن الله والعالم. فالله لا يمكن وصفه في حين أن العالم مرئي يمكن وصفه كما هو الحال عند المتكلمين المسلمين. وبالتالي قد لا تؤدي معرفة العالم إلى معرفة مميزة بالله.

وقد تمت آخر صياغة للعلم الجديد في عصر النهضة عند كبلر وجاليليو. فقد استبعد كبلر المبادئ الرياضية من علم الفلك حتى لا يطغى التحليل الرياضي على الملاحظة التجريبية(18). ومع ذلك أثبت صحة وصف فيثاغورس لحركة الأفلاك المطردة في مدارات دائرية. ولها قوانين ثلاثة شرحها نيوتن, وتبين دوران الأفلاك دورانا بيضاويا, والشمس أحد مراكزها. حركتها ليست هندسية. بل يتحدد وقت دورانها حول الشمس نسبيا مع بعدها عنها. وواضح أن علم الفلك الذي أبدعه المسلمون القدماء والذي اشتهر في عصر النهضة الأوربي هو الذي كان وراء الفكر العلمي الحديث في عصر النهضة.

كما بدأ جاليليو بملاحظات تلسكوبية على السماء مما دفعه إلى الشك في مركزية الأرض التي قبلتها الفلسفة المدرسية والفلسفة الطبيعية الأرسطية والكنيسة(19). دافع عن مركزية الشمس التي تتفق مع تجارب العلم الحديث. ودافع عن الفصل بين اللاهوت والعلم لأنهما مختلفان موضوعا ومنهجا وغاية حتى لا يتعارضان ويتصادمان. وبذلك وضع جاليليو أساس استقلال العلم الحديث عن اللاهوت. كما أسس علم الرياضيات. فكتاب الطبيعة مكتوب بلغة الرياضة. ولذلك وصفه هوسرل عن حق بأنه هو الذي حول الطبيعة إلى رياضة. اعتمد أيضا على المنهج التجريبي القائم على الملاحظة والمشاهدة. وميز بين الصفات الأولية للأشياء والصفات الثانوية كما فعل لوك فيما بعد. واكتشف قانون الأجسام الساقطة, وأسس الميكانيكا التقليدية والحركة الكامنة.

ثالثا: هل يمكن قراءة عربية جذرية لعصر النهضة الأوربي?

والسؤال الآن. ماذا أخذ فجر النهضة العربية الأولى من عصر النهضة الأوربي وماذا ترك? وماذا أخذ عصر النهضة الأوربي من الحضارة الإسلامية في ازدهارها الأول بعد ترجمتها في الفلسفة المدرسية المتأخرة وماذا ترك?

لقد استطاع عصر النهضة الأوربي أن يعلن عن نهاية مرحلة وبداية أخرى في الوعي الأوربي, نهاية مرحلة المصادر, وبداية مرحلة التكوين الجديد. لقد استطاع إحداث قطيعة بين الماضي والحاضر, والتحول من الماضي إلى المستقبل. ونقد الموروث حتى يمكن التحرر منه كمصدر للعلم وكقيمة في السلوك. انتصر المحدثون فيه على القدماء. وتم التحول من سلطة أرسطو وشراحه المسلمين إلى سلطة العقل, والانتقال من سلطة الكتاب المغلق (المقدس) إلى كتاب الطبيعة المفتوح, ومن التمركز حول الله إلى التمركز حول الانسان, ومن البحث عن خلود الروح إلى البحث في طبيعة البدن وتكوين الجسم. فتم اكتشاف علم وظائف الأعضاء وعلوم الأحياء والتشريح والطب الحديث. وبالتالي أمكن للوعي الأوربي إبداع الجديد بعد أن تم تقويض القديم. أصبح الواقع عاريا من أية نظرية. وسقط الوئام النظري بين الأنا والطبيعة مما دفع الوعي الأوربي ليجد وئاما نظريا جديدا يستطيع به أن يفهم العالم, ويؤسس العلم الجديد بدلا من أرسطو, ويبني الدولة الجديدة بدلا من الكنيسة(20).

أما عصر النهضة العربية فقد آثر قراءة انتقائية لعصر النهضة الأوربي تتفق مع الموروث القديم دون أن تتخلص منه. واكتفى بالتلميع للقديم نفضا للتراب والصدأ عنه. وظل الله مركزا للعالم فلم تنجح محاولات الدفاع عن حقوق الانسان لأن الانسان ربما ظل غائبا كبعد مستقل في تراثنا القديم. وظل العلم هو العلم الشرعي وليس العلم الطبيعي. واكتفي بالفخر بعلوم القدماء الرياضية والطبيعية وفي نفس الوقت نقل علوم المحدثين من الغرب. وظل الغطاء النظري القديم قائما: الله موجود, والعالم مخلوق, والنفس خالدة. ومن ثم محت التساؤلات الثلاثة التي منها تنشأ الفلسفة كما تساءل كانط: ماذا يجب علي أن أعرف? ماذا يجب عليّ أن أعمل? ماذا يجب عليّ أن آمل? وظل التفكير في النفس وتميزها عن البدن مستمرا مع أن النفس طيبة والبدن هو الأزمة, أزمة الغذاء والكساء والسكن والمواصلات. ظل القديم مسيطرا على الجديد بالرغم من محاولات الشعر الجديد. وكان أقصى طموح للإصلاح الملكية المقيدة بالدستور دون تقويض جذري للنظم الثيوقراطية والملكية والإقطاعية بالرغم من ثوارث العرب الحديثة وكتاباتهم في (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد). ظل الإيمان بالقديم قائما. وكل من شك فيه ثم تكفيره حتى ولو كان في الشعر العربي وقضيته الانتحال أو في الحوامل الزمانية والمكانية واللغوية والإنسانية للوحي في فهم النص الديني استدراكا على (أسباب النزول) و(الناسخ والمنسوخ).

انتقى عصر النهضة العربية الأول الإشراق والعلم اللدني استئنافا للغزالي والتصوف القديم. واستمر في الثنائية القديمة بين الخالق والمخلوق, الله والعالم, النفس والبدن, الخير والشر, الذكر والأنثى, دون الوصول إلى نظرية أحادية للعالم تكون أقرب إلى التوحيد من الثنائية المانوية الفارسية القديمة. واستمر الفيض القديم. فالطبيعة فيض من الله. فساد التصوف, وتغلب على العلم, استمراراً للقدماء. واستمرت السلطة الدينية تحتكر التفسير وأصول العقيدة وتتهم المخالفين بالكفر والخروج والزندقة. وكلما ضعف النظام السياسي قويت السلطة الدينية. واستعملتها السلطة السياسية لمزيد من السيطرة على رقاب الناس خشية من الثورات السياسية والاجتماعية. ومازالت ترفع شعارات الحكم الديني مثل (الحاكمية لله), (الإسلام هو الحل), (تطبيق الشريعة الإسلامية) والتشكك في الحكم المدني, والقانون الوضعي مع أن الشريعة الإسلامية شريعة وضعية كما قرر الشاطبي في (الموافقات), لها أسسها في أوضاع الـناس وحياة البشر. ومازال بعض الفقهاء يقولون بمركزية الأرض ودوران الشمس حولها.

فهل يمكن لعصر نهضة عربي جديد أن يكون أكــثر جذرية في قراءة عصر النهــــضة الأوربـــي بل ويتجــــاوزه إلى آفـــاق جديدة للنهضة? هل يمكن إقامة لاهوت الأرض من أجل تحرير الأرض المحتلة في فلسطين وكما ربط القرآن بين السماء والأرض في, رب السموات والأرض , وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله ? هل يمكن إقامة لاهـــوت الحـــرية من أجل الدفاع عن حرية المواطن. كما قال عمر: (متـــى استعـــبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا?), وأن تصبح الشهـــادة (أشهد أن لا إله إلا الله) إعلانا للحرية, فالشهادة إعلان وليست صمتا. وفعل الشهادة فــعلان, نفـــي وإثبـــات, ســلب وإيجاب, الأول للتحرر من آلهة العصر المزيفة مثل الشهرة والمال والجاه والجنس, والثاني لإثبات المبدأ الواحد الذي يتساوى أمامه جميع البشر? هل يمكن إقامة لاهوت للعدالة الاجتماعية فأغنى أغنياء العالم منا وأفقر فقراء العالم فينا? هل يمكن إقامة لاهوت للوحدة خاصة وأن التوحيد اسم فعل أي حركة ونشاط في مواجهة التجزئة والتشرذم والطائفية والعرقية? هل يمكن إقامة لاهوت للتنمية المستقلة بدلا من لاهوت التبعية, تبعية الأرض للسماء? هل يمكن إقامة لاهوت للهوية ضد مخاطر التغريب والتميع في الآخر? هل يمكن إقامة لاهوت لحشد الجماهير إحساسا بالرسالة والأمانة والمسئولية بدلا من اللامبالاة والفتور?

 

هذه التساؤلات هي القادرة على قراءة أكثر جذرية لعصر النهضة الأوربي وتجاوزه إلى عصر نهضة عربية ثانية لا تكبو, وتكون قادرة على وضع مسار التاريخ من الإصلاح إلى النهضة, ثم من النهضة إلى الثورة, الثورة الدائمة عبر الثقافة والتاريخ وليس الانقلاب العسكري الوقتي لمصلحة قائده مهما حاول تغييره إلى نظام سياسي, وليس النخبة الحاكمة من الطبقة العليا حتى ولو قادت النضال الوطني وأرست قواعد تجربة الحكم الليبرالية. وتبدأ الثورة الثقافية من المثقفين الوطنيين وعلماء الأمة وفقهاء الشعب بإعادة بناء الموروث الثقافي القديم بحيث يكون قادرا على مواجهة تحديات العصر. فقبل الاستيلاء على (الباستيل) تم تنوير عقول جماهير باريس بكتابات المفكرين الأحرار وليس (الضباط الأحرار). ويعتبر (لاهوت التحرير) نموذجا لهذه الثورة الثقافية من خلال الثقافات التقليدية التي مازالت هي الغالبة على شعوب العالم الثالث.
---------------------------

 

هوامش

 

(1) نيقولا الكوزي (1400 - 1464) كاردينال ألماني. عمله الرئيسي (الجهل العالم) 1440, (التوافق الكاثوليكي), (في الافتراض).
(2) مارسيليو فيتشينو (1433 - 1499) رئيس الأكاديمية الأفلاطونية في فلورنسا. قام بأول ترجمة معترف بها في 1484 لمحاورات أفلاطون. كما قام بعدة شروح عليها وعلى تاسوعات أفلوطين حظيت بقبول كبير وذاع صيتها. ولم يحظ باهتمام كبير بعد انقضاء عصره بالرغم من أنه من أعمق الأفلاطونيين. وهناك الآن إعادة اهتمام بمؤلفاته وفي مقدمتها (اللاهوت الأفلاطوني لخلود الأرواح) 1482.
(3) باراسلوس (1493 - 1541), طبيب وفيلسوف ألماني ولد في هوخنهايم. وله (التيه), (المعجزات الكبرى), (الأعمال المعجزة), (في طبيعة الأشياء).
(4) يعقوب البوهيمي (1575 - 1624), فيلسوف من سيليزيا معروف بلقب الفيلسوف الألماني. مؤلفاته الرئيسية (الفجر أو الشفق في السر الأعظم) وقد تمت إدانته, (الخروج), (أربعون سؤالا في النفس), (من أجل اختيار الفضل الإلهي). وكانت موضع إعجاب كبير في القرن السابع عشر. وكان له أبلغ الأثر على هامان وهيجل وشلنج في العصور الحديثة.
(5) بيكو دي لاميراندولا (1463 - 1494) فيلسوف إيطالي. وكانت له علاقات شخصية وعلمية مع أكاديمية فلورنسا.
درس القبالة, وكانت دراسته رائدة في هذا المجال, وهو العالم المسيحي الأورثوذكسي الاتجاه. عارض الكنيسة في تسعمائة مسألة كما فعل مارتن لوثر في خمس وتسعين مسألة مما دعا البابا إلى تحريم آرائه. كان أول من كتب (بلاغ في كرامة الإنسان).
(6) اراسموس (1466 - 1536) لغوي لاهوتي هولندي, انتظم في سلك الرهبنة الأوغسطينية. درس في باريس وعلّم بها كما علم في انجلترا. وهناك نشر (ثناء على الجنون). وله أيضا (الندوة).
(7) لورنزو فاللا (1405 - 1457) إنساني إيطالي دافع عن حرية الاختيار كحق طبيعي للإنسان. وكتب في ذلك (حوار حول الإرادة الحرة).
(8) سواريز (1548 - 1617) فيلسوف إسباني. له (منازعات ميتافيزيقية).
(9) ميكيافيللي (1469 - 1527) مفكر إيطالي اشتهر بكتابه (الأمير) الذي ترجم أيام محمد علي أثناء بناء الدولة المصرية. وله (خطاب في الكتب العشرة الأولى لتيتوس ليفيوس, المبادئ)
(10) توماس مور (1478 - 1535) إنساني عقلاني من عائلة برجوازية. كان مستشارا للملك ثم اعدم لرفضه الاعتراف به كرئيس للكنيسة. وفي السجن وصف رحلة إلى اليوتوبيا, المكان الذي لا وجود له في (العمل الخصب والجميل لأفضل دولة للصالح العام وللجزيرة الجديدة التي تسمى يوتوبيا) ويعرف بصيغة مختصرة (يوتوبيا). وهو أهم كتاب في الفكر الاجتماعي حتى القرن الثامن عشر.
(11) كامبانيللا (1568 - 1639) فيلسوف إيطالي طوباوي, التحق بالدومنيكان في سن الخامسة عشرة, وشارك تيليزيو في آرائه الطبيعية. قدم إلى محاكم التفتيش بسبب آرائه المتحررة. حاول قيادة ثورة في 1599 لتحرير إيطاليا من الحكم الإسباني ولكن تم اكتشاف المؤامرة. وبعد تعذيبه أودع السجن سبعة وعشرين عاما. وفيه كتب في 1602 (مدينة الشمس) يتصور فيه مجتمعا طوباويا ونشر عام 1623. وقد لعب كتابه دورا مهما في تطور الأفكار الاجتماعية التقدمية. وساهم في صياغة الاشتراكيات الطوباوية في العصور الحديثة.
(12) مونتاني (1553 - 1592) فيلسوف إنساني وكاتب فرنسي. له (محاولات), (دفاع عن ريمون سيبون).
(13) شارون (1541 - 1603) فيلسوف فرنسي بدأ كمحام ثم أصبح قسيسا, وهو مع مونتاني مؤسس مذهب الشك الحديث. له كتاب (في الحكمة) وجد فيه اللاهوتيون ذريعة لاتهامه بالإلحاد.
(14) بومبوناتزي (1462 - 1524) فيلسوف عصر النهضة الإيطالي. وله كتاب (في خلود النفس). وقد حرق كتابه علنا.
(15) تيليزيو (1508 - 1588) فيلسوف طبيعي إيطالي. كتب (في طبيعة الأشياء والمبادئ المتجاورة).
(16) كوبرنيقس (1473 - 1543) مؤسس علم الفلك الحديث. ولد في بولندا, ودرس في جامعة كراكو الفلاسفة اليونان. وأكمل دراسته للرياضيات والفلك والطب واللاهوت في جامعة بادو التي كانت العلوم الإسلامية تدرس فيها. ثم استقر في فراونبرج في بروسيا. ودفن في الكاتدرائية مع القسيس والمؤمنين. وله (دورات الأفلاك السماوية).
(17) جيوردانو برونو (1548 - 1600) ممثل روح عصر النهضة. وهو فيلسوف إيطالي, وراهب دومنيكاني. حرق بسبب آرائه المعارضة لآراء الكنيسة. أشهر أعماله (في العلة والسبب الواحد), (في لانهائية الكون والعالم), (طرد الحيوان المنتصر), (عشاء الرماد), (الغضب البطولي), (في الموناد). وقد أثرت أعماله في الحركة العلمية والسحرية في القرن السابع عشر ثم تم نسيانه. وفي القرن التاسع عشر ارتبط اسمه بالحركات المعادية للكهنوت.
(18) كبلر (1571 - 1630) عالم فلك ألماني درس في توبنجن, وعلم الرياضيات في جراتز ولينز.
(19) جاليليو (1564 - 1642) عالم فلك وطبيعة رياضي إيطالي, مؤسس الميكانيكا الحديثة. دخل معركة مع الكنيسة في 1633, واضطرته الكنيسة إلى التراجع, ووضع تحت الإقامة الجبرية طوال حياته. وكان له أكبر الأثر في القرن السابع عشر وهو على مشارفه في القدرة على تنظير الطبيعة وتحويلها إلى رياضيات شاملة. أهم أعماله (خطاب إلى الدوقة الكبرى كريستينا) يرد فيه جاليليو على منتقديه في عصره مدافعا عن نفسه, (المحاول), (محاورة في نظامي العالم الأساسين), (خطاب في العلوم الجديدة).
(20) انظر كتابنا : مقدمة في علم الاستغراب, الدار الفنية, القاهرة 1991, ص 235 - 245.

 

 المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=970&ID=36 

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك