الرحلة إلى الآخر في القرن التاسع عشر
جابر عصفور
ربما كان أهم ما تركته مدافع نابليون من أثر في الوعي العربي العام في آخر القرن الثامن عشر أنها نبّهت هذا الوعي إلى تخلف العالم الذي يعيش فيه وضرورة تغييره. ولذلك طرح سؤال التخلف نفسه بقوة على هذا الوعي في موازاة الهزائم المتلاحقة. وكان السبيل إلى الإجابة الموجبة - من وجهة نظر أصحابها في ذلك الوقت - مقترنا بضرورة التعرف على حضارة الغرب الذي تقدّم وانتصر, وصنع نموذجا حضاريا متفوّقا, أخذ يخايل العيون بمخترعاته المادية, ويجتذب العقول بلوازمه الثقافية والاجتماعية والسياسية. صحيح أن هذا الغرب كان موجودًا بمعنى أو آخر قبل الحملة الفرنسية, وذلك منذ أن تبادل الشرق وأوربا التجارة والسفراء في القرون الوسطى, لكن إقامة التجار والسفراء الأوربيين لم يكن لها من التأثير ما صنعته مدافع نابليون وجنوده, فضلاً عن أجهزته العلمية المصاحبة التي وضعت الوعي العربي أمام تخلّفه للمرة الأولى, في حدة معرفية جذرية, حدة جعلت من حضور الاحتلال الفرنسي مرآة تكتمل فيها معرفة الوعي بحدوده الذاتية.
وإذا كانت معرفة الأنا بنفسها لا تكتمل إلا من خلال آخر يضعها في مواجهة حضورها الذاتي, كي تتعرف الموجب والسالب في حضورها, فتضيف إلى الموجب, وتجاوز السالب, فإن (الآخر) الفرنسي المتمثل في العتاد العسكري والعلمي, وفي المصاحبات الثقافية والاجتماعية والسياسية للحملة الفرنسية, كان بمنزلة المرآة التي رأى بواسطتها الوعي القومي حقيقة ما وصل إليه عالمه, وأدرك على نحو صادم أوضاع هذا العالم في علاقات تراتبه الجامد, وانغلاقه الخامل, فوعى تخلفه على نحو صادم, مقابل إدراكه تقدم (الآخر) الذي هزمه بما لا طاقة له به من علم ومخترعات, وعتاد وعلماء, وأوضاع وعلاقات لا تعرف التقليد المتحجّر أو الانغلاق الجاهل.
ويقدم الشيخ عبدالرحمن الجبرتي (1754-1822) في كتابه (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) الوثيقة التاريخية التي ترصد صدمة الوعي المهزوم بتفوق (الآخر) عسكريا, وشعوره بالعجز عن الفهم إزاء ما رآه من بعض مظاهر تقدمه العلمي, جنبا إلى جنب إحساسه بالدهشة من جرأة العادات الاجتماعية, والاختلاف المذهل في المصاحبات الثقافية والسياسية. وكما تحدث الجبرتي في دهشة عن نساء الفرنسيس المنطلقات في الشوارع, سافرات, متهللات, يتبادلن الضحك والقهقهة مع المُكارية والحمّارة, تحدث في نبرة استغراب عن التنظيمات السياسية الجديدة التي أقامها نابليون لتوسيع دائرة المشاركة في الحكم, كما توقف في إعجاب عند المسرح الذي أنشأه الفرنسيس ليعرضوا عليه فنونهم وآدابهم, والمطابع الجديدة التي رآها المصريون للمرة الأولى تُصدر من الجرائد والكتب والمطبوعات ما لا سابقة له أو عهد. وبلغ شعور الجبرتي بالدهشة المربكة والحيرة العاجزة عن الفهم عندما شاهد من التجارب الكيميائية والطبيعية البسيطة, ما أصابه بالاضطراب الذي دفعه إلى وصف علم الفرنسيس بقوله: (ولهم فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لا يسعها عقول أمثالنا).
وكان واضحًا منذ هذه اللحظة أنه لا سبيل إلى مجاوزة التخلف ومحو الشعور المؤرق بالهزيمة والانكسار, إلا بمعرفة أسرار تقدم ذلك الآخر الذي انطوى التعامل معه على نوع من التضاد العاطفي والفكري متعدد الأبعاد, فمن ناحية ظل هذا الآخر هو الغازي, المعتدي, الأجنبي, المخالف في الملة والمعتقد, الغريب في العادات والتقاليد. لكنه - من ناحية مقابلة - ظلّ المتقدم, صانع المصنوعات التي لابد منها لمجاوزة التخلف, والمخترعات الغريبة التي لا سبيل إلى معرفة أسرارها إلا بإذنه, وحامل مباهج الفنون والثقافات التي وصلت ما بين المسرح والمطبعة والكتاب والجريدة. ومن المؤكد أن جانب الإعجاب كان يغلب جانب النفور, ويتغلب على نوازعه, في لهفة الوصول إلى مراتب التقدم, فيغذّي في النفس رغبة التعرف على ما عند الآخر والتعلم منه والحوار معه.
ولم يكن الجبرتي وحده في ذلك, وإنما كان واحدًا من المشايخ الذين مثّلوا - في ذلك الوقت - الطليعة المثقفة للأمة التي كانت صدمتها الفكرية لا تقل عن الصدمة العسكرية للمماليك الذين فرّوا من جحيم الأسلحة الحديثة المتطورة التي حصدت جموعهم وطاردت فلولهم, وأزالت عالمهم القديم. وكانت النتيجة صعود عالم جديد يغلق أبواب القرون الوسطى, ويفتح آفاق العصر الحديث بوعوده الباهرة, فيغوي الطليعة المثقفة بما فيه من عجائب التقدم وغرائب التمدن. ولم يغادر أفراد هذه الطليعة دهشتهم حين استجابوا إلى نزوع الرغبة المعرفية في الفهم الذي لم يكن سهلا في كل الأحوال كما نجد عند الجبرتي, أو عند أقرانه من مشايخ العصر, ومنهم الشيخ المهدي والشيخ حسن العطار اللذان اتصلا بعلماء الحملة الفرنسية. أما الأول فلم يترك أثرا فيما بعده اللهم إلا تقرّبه من الفرنسيس, وتقديمه لهم مؤلفاته, فقد كتب مجموعة من الحكايات عنوانها (تحفة المستنيم ومقامات المارستان), أقرب إلى حكايات (ألف ليلة وليلة), فيما يذكر عبدالمحسن طه بدر في كتابه عن (تطور الرواية العربية الحديثة في مصر 1870-1938), وقد ترجمها المستشرق مارسيل بعنوان (Contes de Chekh El-Mahdy), وأما الشيخ حسن العطار (1766-1834) فقد اتصل بالمستشرقين الذين صحبوا الحملة الفرنسية, وأسهم في تعليم بعض شبابهم اللغة العربية, وتبادل وإياهم من الحوارات والأفكار ما فتح أمامه أفقا واعدا, انفسح ليحمل تلميذه رفاعة الطهطاوي إلى عاصمة الأنوار: باريس.
ولحسن الحظ وصلتنا مقامة حسن العطار التي عنوانها (مقامة الأديب الرئيس الشيخ حسن العطار في الفرنسيس), وهي مقامة بالغة الدلالة في الإشارة إلى التحول من شعور النفور إلى شعور الإقبال, واختلاط رغبة المعرفة بالبحث عن السر في تقدم هؤلاء الغرباء, والمقامة تؤدي من خلال السخرية والفكاهة ما يؤكد أهمية معرفة علماء الفرنسيس والاستماع إليهم والحوار معهم. وكان ذلك منذ أن سمع راوي المقامة - الشيخ العطار - من أهل العرفان وممن جال في الأقطار والبلدان (أن القوم لا يشدّدون الوطأة إلا على من حاربهم, ولا يعاملون بالرهبة إلا من نابذهم وغالبهم), فذهب إلى الأزبكية حيث يقيم علماء الفرنسيس, فالتقى بعض شبابهم, فحاورهم وحاوروه, وأدهشه معرفتهم بالعربية, بل معرفتهم بأمهات كتب التراث المهمة. وانتهى اللقاء بالراوي - الشيخ العطار - إلى التأكد من أن للقوم إلى غوامض المعارف تطلعا ولأبنائها تودّدا وترفّعا (قد أُشربوا في قلوبهم حب العلوم الفلسفية, وحرصوا على اقتناء كتبها وإعمال الفكرة فيها والرويّة, يبحثون عمّن له بها إلمام, ويتجاذبون معه أطراف الكلام), وأحداث مقامة العطار التي اقتبستُ منها الجمل السابقة دليل على رغبة المعرفة التي تغلّبت على الوعي المعاند, وأوقعته في شراك المعارف التي حصّلها علماء الفرنسيس, خاصة شبابهم الذين اصطفى العطار واحدا منهم ووصفه شعرا بقوله:
تجانس الحسن في مرآه حين غدا | بين الكلام وبين الثغر تجنيسُ | |
وصاد عقلي بلفتات فواعجب | حتى على العقل قد تسطو الفرنسيسُ |
وأتصور أن نغمة الدهشة المتضمنة في الشطر الأخير من البيتين تصف التوتر الذي أصاب وعي الطليعة المثقفة التي فاجأتها معارف علماء الفرنسيس, واجتذبتها إلى ما أصابها بالدهشة وزيادة الرغبة في المزيد من المعرفة. أما الإشارة إلى العقل, فإنها كاشفة, خصوصا في مصاحباتها الدلالية التي تقرن العقل بالقلب, وتجاوز ذلك إلى ما يجعل العقل علامة على نوع بعينه من المعرفة التي لا يخلو اكتسابها من معنى المفارقة التي يؤديها الشطر الأخير في أكثر من بعد دلالي.
ويلفت النظر في مقامة العطار أنها تبدأ بالهزل الذي ينتهي إلى الجد, وتنتقل من التغزّل في شباب الفرنسيس إلى عظيم علمهم, كما لو كانت تنتقل بالقارئ نفسه من موقف فكري إلى موقف مناقض, مستعينة بحيل الهزل التي لا تتحرج من التغزل بالمذكر, وأسلوب المفاكهة الذي لا يترك ما يبعث البسمة إلا ويقتنصه, غير غافل عن كل ما يحفظ على السجع التقليدي للمقامة صفته الإيقاعية المائزة, لكن بما يراوغ القارئ, وينقله دون أن يعي من اللازم إلى الملزوم, ومن الغفلة في معرفة هؤلاء الشباب الفرنسيس الذين ينجذب السُذَّج إلى حسن مرآهم وحده, فلا يرون منهم سوى هذا الحسن الظاهر, ولكن إذا اقتربوا منهم, وتعرّفوا عليهم, اكتشفوا الحسن الباطن للعلوم الذي يَبَزُّ الحسن الظاهر للوجوه.
وأحسب أن هذا المنحى في المقامة يؤكد ما تنطوي عليه من سخرية متعددة الأبعاد.
هناك السخرية التي تشمل الذين استهانوا - ولايزالون يستهينون إلى زمن المقامة - بالفرنسيين, ولا يسعون إلى معرفتهم على حقيقتهم, مع أن الفرنسيين يعرفون الكثير عن ثقافة وحضارة ولغة هؤلاء الذين لا يعرفونهم. ولذلك انتصروا هم بمعرفتهم, وانهزم الذين لا يعرفونهم نتيجة جهلهم, وهناك السخرية من الذين يحصرون حضور الفرنسيس في الجانب العسكري وحده, فلا يرون فيهم سوى غزاة يفزعون الناس ويسوقون إليهم الهلاك من كل سبيل, لكن إلى جانب هذه الصورة القاتمة صورة أخرى, مغايرة, لا سبيل إلى بلوغها إلا بإعمال العقل ومعرفة العارفين. ولا ينفصل هذا البعد الأخير عن سخرية مضمرة من طرائق المعرفة السائدة التي أدّت إلى الهزيمة المنكرة أمام الفرنسيس. أعنى طرائق المعرفة التي لا تفارق التقليد الجامد, ولا تتخلى عن النقل الأعمى والاتّباع العاجز, ومن ثم الكشف عن البديل الذي يحرر من هذه الطرائق العاجزة ويفضى إلى المعرفة المناقضة, وذلك هو طريق البرهان وإعمال الفكر, طريق (أهل العرفان ومن جال في الأقطار والبلدان), فهو الطريق الذي قاد الفرنسيس إلى الانتصار على غيرهم, بسبب ما انطوى عليه أهل العلم منهم من تطلّعٍ إلى غوامض المعارف, وحب العلوم الفلسفية, وإعمال الفكرة والرويّة فيها.
ولاشك أن إشارة العطار التي تقرن أهل العرفان بمن جال في الأقطار والبلدان هي إشارة دالة تومئ إلى إيمان أمثال هذا الشيخ المستنير بأهمية المعاينة المصاحبة لإعمال العقل, والبرهان الذي يرادف العرفان, الأمر الذي يصل مغزى الارتحال في المكان بمعنى الارتحال بين الأفكار, ويرد ثانيهما على أولهما, بما يدنى بالطرفين إلى حال من الاتحاد الذي يساعدنا على فهم الدوافع التي دفعت حسن العطار المعروف بميله للعلوم العقلية إلى حثّ تلميذه النابه - رفاعة الطهطاوي - إلى الاطلاع على هذه العلوم من ناحية, والكتابة عمّا يراه في رحلته إلى باريس طلبا للعلم من ناحية مقابلة, وكان العطار يستعيد في ذلك تقاليد عقلانية في التراث العربي, تقاليد استبدلت الابتداع بالاتّباع, فكانت سببا في ازدهار الحضارة العربية التي ظل تقدمها واتساعها في العالم القديم مرهونًا بانفتاحها العقلاني, وذلك في الوقت الذي كانّ تراجعها وتقلصها وانحدارها قرين الحجر على العقل وإغلاق أبواب الابتداع والابتكار دونه, ومن المؤكد أن هذه التقاليد العقلانية لم تمت قط, وأنها ظلّت أسيرة الهوامش المقموعة, وسط الثقافة التقليدية النقلية الغالبة المزهوّة باتّباعها. ولم تجد ثقافة الهوامش العقلانية ما يتيح لها بعض الحركة إلا في الانفتاح المملوكي على العالم بفضل تحوّل مسارات التجارة العالمية, وتحول السواحل العربية إلى مناطق جذب لتجار فينيسيا وغيرها من المراكز التجارية الأوربية.
ومن المؤكد أن ممثلي التيارات العقلانية - وكان منهم حسن العطار وتلامذته - وجدوا في التفوق الفرنسي ما يؤكد ما تعلموه عن أسلافهم من فلاسفة العرب ومتكلّميهم, خصوصا ما يتصل بأهمية إعمال العقل, واستبدال الابتداع بالاتّباع, والإفادة من التجريب الذي لا يخلو من معنى ارتحال العقل بين الظواهر والأفكار ارتحاله بين البلدان والأقطار. وكان ذلك يعني - في أكثر من اتجاه - أن ازدياد الرغبة في التعرف على أسرار الآخر لم يكن يكفي في إشباعها هذه اللقاءات العابرة أو المشاهدات العارضة التي نرى نماذجها عند أمثال عبدالرحمن الجبرتي أو حسن العطار, خصوصا بعد أن تدافعت رغبة معرفة الآخر وتزايدت, وأصبحت الرغبة الفردية قرينة الرغبة القومية في حلم التقدم الذي أصبح السبيل إليه هو النموذج الأوربي بوجه عام والفرنسي بوجه خاص.
ولم يكن من قبيل المصادفة - والأمر كذلك - أن يصدر كتاب التلميذ - رفاعة الطهطاوي - حاملا تقريظ الأستاذ - الشيخ حسن العطار - الذي يصل معنى الارتحال في المكان بالارتحال بين الأفكار, في مدى إعمال العقل, ومدى توسيع الوعي بعلم ما لم يكن يعلم من أحوال المعمورة الإنسانية, فيقول الشيخ الذي كان قد أصبح شيخ الجامع الأزهر في ذلك الوقت:
(سبحان من أظهر عجائب مصنوعاته في اختلاف أوضاع مخلوقاته, وتباين أنواع العالم واختلاف هيئاته. يرى ذلك بعين الاستبصار من ولج البحار واقتحم القفار, فإن السفر مرآة الأعاجيب, وقسطاس التجاريب. وقد أودع في هذه الرحلة مؤلفها الأديب الأريب, والفاضل الذكي اللبيب, ما شاهده من عجائب تلك البلاد, وأحوال هؤلاء العباد, ما يحرّض العاقل على الأسفار, والتنقل في الأمصار, حتى يزداد بذلك علما يقينا, ويفوق بالإحاطة بأحوال عباده في الزمن اليسير بما لا يدركه القاطن بداره ولو عاش من السنين مئينا).
والواقع أن دلالة (عين الاستبصار) لا تنفصل - في هذا السياق - عن دلالة إعمال العقل في أحوال المشاهدة والمعاينة, أو تجارب القراءة والتحصيل, وذلك في المدى الذي يجعل من السَّفَر - كالمعرفة المتجددة - مرآة الأعاجيب وقسطاس التجاريب. والإشارة إلى تحريض (العاقل) على الأسفار إشارة إلى تخصيص الإنسان بالعقل الذي ميّز به الله خلقه, وجعله أداة لإدراكهم, وحجّة عليهم, في التزود بمعارف الكون. ولا فارق بين الأسفار بمعنى التنقل والأسفار بمعنى الكتب في تجاوب الدلالة التي لا تفارق الحض على توسيع أفق المعرفة في الزمان والمكان. وهي المعرفة التي تتدافع بتدافع الرغبة إلى اكتسابها, والارتحال في سبيلها إلى الآخر الذي أصبح فضاء لأسفار هذه المعرفة التي تتيح لمن يسعى وراءها ما لا يتاح للقاطن بداره أو القانع بجهله.
وكان من نتيجة ذاك التشكل الحديث لما يمكن أن نسمّيه (أدب التعرف على الآخر). وهو الأدب الذي يبدأ من مقامة العطار (أو مقاماته?!), ولا ينتهي مع سرديات علي مبارك (1823-1893) في (علم الدين), وإنما يتواصل إلى آخر القرن, ومنه إلى القرن العشرين, جنبًا إلى جنب أدب الرحلة الذي جذب الأقلام إليه أكثر من القرن التاسع عشر, وذلك لكونه نوعًا أدبيا يجمع بين أنواع عديدة, جعلت منه الشكل الأدبي الأكثر مواءمة لتسجيل صدمات الاكتشاف الشعورية, والتعبير عن تحوّلات الأنا المعرفية للكاتب عبر متغيرات المكان والزمان والمدركات, والأداة المرنة لاستيعاب الوصف الجغرافي والمعلومات التاريخية والملاحظات الاجتماعية والمشاهدات الغنية وألوان المعارف العلمية المختلفة, فضلا عن تداعيات الذاكرة التي تصل الحاضر بالماضي, ولا تتوقف عن المقارنة بين ما تراه وما تسترجعه أو تتذكره.
وأتصوّر أنه لا يمكن اكتمال دراسة (أدب التعرّف على الآخر) إلا بدراسة الترجمات المتعاقبة خلال القرن التاسع عشر, أولا لأن هذه الترجمات انطوت على بعد تفسيري أو تأويلي ارتبط بوعي المترجم الذي يستقبل ويعيد إنتاج ما يستقبل من لغة الآخر في لغته هو بحسب منظوره, ومنظور ثقافته المتجسّدة في لغته التي هي فكره. وثانيا لأن اختيار المترجم علامة على فكره كما قال القدماء الذين علّمونا أن اختيار الرجل قطعة من عقله. وثالثا لأن المراوحة بين الترجمة والتعريب وما صحبهما من تمصير أو اقتباس, كان عملا موازيا من فاعلية رغبة معرفة الآخر, لكن بواسطة تحويله إلى ما يشبه الأنا التي أرادت أن ترى الآخر في مرآتها, أو أن ترى الآخر على صورتها, ولولا ذلك ما جعل محمد عثمان جلال (1829-1898) - تلميذ رفاعة في مدرسة الألسن - من (تارتوف) موليير (1622-1673) (الشيخ متلوف) في تجاوب العلاقات, ومن (بول وفرجيني) برناردين دي سان بيير (1737-1814) (قبول وورد جنة) ومن (حكايات لافونتين) (1621-1695) (العيون اليواقظ في الأماثل والمواعظ) لتكون على شاكلة (الصادح والباغم) و(فاكهة الخلفاء). وكان ذلك يعني أن الرغبة في معرفة الآخر بواسطة ترجمته كانت تعني الارتحال اللساني إليه, والارتحال اللساني له في الوقت نفسه, فالأنا الراغبة في معرفة الآخر لم يكن توترها إزاءه يخلو من محاولة تدجينه, أو تطبيعه بما يجعله صورة موازية لهذه الأنا التي أصبح يريحها جعل الآخر على صورتها, في نوع من الآلية الدفاعية التي تستحق دراسة تفصيلية, تتكشّف بها التقنيات النوعية المخصوصة للترجمة والتعريب والتمصير في القرن التاسع عشر.
ومهما يكن من أمر, فما بين مقامات أمثال العطار وسرديات علي مبارك من ناحية, وكتب الرحلات من ناحية مقابلة, كانت الترجمة عن اللغات الأوربية - وبخاصة الفرنسية - إلى اللغة العربية الجهد الإكمالي في معرفة (الآخر) بواسطة مرآة أخرى, بدأت آثارها في الاتساع مع إنشاء مدرسة الألسن على يدي رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) في عهد محمد علي الذي تولى حكم مصر ما بين سنتي 1805-1849, وأتاح لإشباع رغبة معرفة (الآخر) درجة واسعة من التحقق بواسطة البعثات التي أرسلها, والتي عاد طلابها ليسهموا في حركة الترجمة التي أسهمت بدورها في التعريف بعلوم الآخر وفنونه وآدابه, واستبدلت رحلة الكتاب برحلة المكان, فأكملت دائرة معرفة (الآخر) بوسائلها وتقنياتها النوعية المخصوصة في مجالات عديدة وعلى مستويات كثيرة.
ولكن بما أن هذا المقال لا يحتمل الإشارة إلى كل شيء أو التفصيل فيه, فسأقتصر فيما يلي على كتابات الرحلة إلى الآخر في القرن التاسع عشر, وذلك لأن هذه الكتابات اتسمت بمرونة من النوع الذي يجمع لكاتبه كل شيء بالمعنى القديم للأدب الذي هو أخذ من كل شيء بطرف, ولكن في القالب السردي الذي يدنو من تقنيات القص, سواء من منظور تعاقب الأحداث والأماكن عبر الزمن, أو منظور الراوي الذي يقصّ علينا كل ما رآه أو عاينه. ويرجع الاقتصار على القرن التاسع عشر لأنه قرن تأسيس المعرفة الحديثة بالآخر وتأصيلها, ولأنه البداية التي لاتزال تمارس حضورها إلى يومنا هذا بأكثر من معنى.
-2-
ولاغرابة أن يشهد القرن التاسع عشر (الذي بدأ بعد سنوات ثلاث من الحملة الفرنسية على مصر) عددا كبير من الرحلات إلى أوربا بوجه عام, وإلى فرنسا بوجه خاص, بوصفهما نموذج التقدم الذي وصل إليه العالم المتحضر, ومستقر العلوم الواعدة التي لابد من معرفة أسرارها لتحقيق الحلم الذي خايل العقول. وكما كان فن الرحلة العربي في القديم وسيلة لمعرفة أركان المعمورة الإنسانية, واكتشافا لأسرار العلوم في كل مكان للإفادة منها, وإغناء للتجربة الإنسانية بإضافة التجارب التي تشمل العجائب والغرائب, كان فن الرحلة في القرن التاسع عشر إحياء للفن القديم بلوازمه المعروفة, وإضافة إليه بما فرضته متغيرات التاريخ وتحوّلات الأوضاع السياسية والثقافية والعلمية والاجتماعية.
ويلفت الانتباه - في هذا الصدد - كثرة كتب الرحلات في هذا القرن, منذ العقد الرابع على وجه التخصيص, أي بعد أن تفاعلت الحملة الفرنسية حضاريا وثقافيا واجتماعيا مع الأوضاع السائدة, وبعد أن غاب وجودها العسكري عن مصر منذ سنة 1801, مفسحا المجال لحضور آثارها الثقافية التي تولّدت من نتائجها رغبة متزايدة في معرفة ذلك (الآخر) في موطنه, وفي داخل حدوده بعد اكتساب لغته التي تفتح الأبواب المغلقة من أسرار علومه. وقد فرض التاريخ أن تكون البداية في مصر التي سبقت غيرها من الدول العربية في معاناة الاحتلال الأجنبي وصدمة التجربة المعرفية المصاحبة لهذه المعاناة منذ مجيء الحملة الفرنسية سنة 1798م. وكان ذلك قبل سنوات عديدة من احتلال فرنسا للجزائر سنة 1830, وتحول تونس إلى محمية فرنسية سنة 1881, قبل عام واحد من الاحتلال الإنجليزي لمصر, وقبل عقود من استيلاء إيطاليا على طرابلس الغرب سنة 1911 وفرض الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912.
وقد قام المنصف الشنوفي في الدراسة المفيدة التي صدّر بها تقديمه لتحقيقه كتاب (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك) الذي كتبه خير الدين التونسي (1822-1890) بحصر كتب الرحلة إلى أوربا في القرن التاسع عشر في المشرق والمغرب, وذلك في قائمة لها دلالاتها التي لا تخفى على دارس القرن التاسع عشر. وتقترن الدلالة الأولى بالأثر الثقافي الفرنسي الذي جعل رفاعة الطهطاوي المصري (1801-1873) هو الرائد في هذا الفن, وذلك بما كتبه في (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) الذي طبع في القاهرة سنة 1834. وهي السنة التي توفى فيها أستاذه حسن العطار. واللافت للانتباه في دوافع تأليف هذا الكتاب أن صاحبه قد ذهب إماما للبعثة التي أرسلها محمد علي إلى باريس للمرة الأولى, بعد أن جرّب إرسال البعثات إلى إيطاليا التي تعلّم فيها أبناء مصر فنون الطباعة, وعادوا منها لإنشاء المطبعة الأميرية التي طبعت كتاب رفاعة الطهطاوي نفسه. وبقدر ما كان كتاب الطهطاوي علامة على التوجّه المعرفي إلى أوربا بوجه عام, وفرنسا بوجه خاص, كان الكتاب بداية لغيره من كتب الرحلات التي اقترن أغلبها بالسفر إلى فرنسا.
ولم يكن من الغريب, والأمر كذلك, أن يكون الكتاب التالي لكتاب رفاعة الطهطاوي المصري كتاب ابن أبي الضياف التونسي (إتحاف أهل الزمان بأخبار تونس وملوك أهل الأمان) بأجزائه التي شملت الجزء الخاص برحلته إلى فرنسا سنة 1846, وذلك في السياق التاريخي الذي أدى إلى أن يطبع أحمد فارس الشدياق (1804-1888) كتابه (الساق على الساق فيما هو الفارياق) أو (أيام وشهور وأعوام في عجم العرب والأعجام) سنة 1855 في مدينة باريس على وجه التحديد, وعلى نفقة العبد الفقير إلى ربه رافائيل كحلا الدمشقي, ويأتي بعده سليم بطرس البستاني بكتاب (النزهة الشهية في الرحلة السليمية) المطبوع في بيروت سنة 1856, وهي الرحلة التي أصدر بعدها أحمد فارس الشدياق كتابه (كشف المخبَّا عن فنون أوربا) سنة 1863, وفيه مقارنته الشهيرة بين بلاد الفرنسيس وبلاد الإنجليز. وفي سنة 1867 تصدر ثلاثة كتب مهمة في سلسلة أدب الرحلات. أولها كتاب فرنسيس فتح الله المرّاش عن رحلته إلى بارس الذي طبع في بيروت, وثانيها كتاب خير الدين التونسي (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك), الذي يتحدث فيه عن مملكة فرنسا وإنجلترا ومملكة النمسا والمملكة الروسية والمملكة البروسية ومملكة جرمانيا وإيطاليا وإسبانيا والسويد والنرويج وهولندا والدانمرك والبرتغال وبلجيكا وسويسرا وغيرها من الدول الأوربية. وثالثها كتاب سليمان الحرائري الذي كتبه بمناسبة زيارة المعرض العالمي في باريس 1866, وقد طبع الكتاب في السنة اللاحقة في باريس نفسها.
وتتوالى الكُتب بعد ذلك, ابتداء من (الرحلة النحلية) التي كتبها لويس صابونجي ونشرها في الأستانة سنة 1874, ورحلة نخلة صالح (الكنز المخبا للسياحة في أوربا) المطبوع سنة 1867, مرورا بمحمد السنوسي التونسي (الرحلة الحجازية) المطبوع في تونس 1883, وبيرم الخامس (صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار) المطبوع بالقاهرة سنة 1884, وعلي الورداني (الرحلة الأندلسية) المطبوع في تونس 1888 في العام نفسه الذي شهد طبع كتاب محمد شريف سالم (رحلة أوربا) في القاهرة. وتمضي السلسلة ليشهد عام 1891 أكثر من رحلة, تشمل دمتري خيلاط (سفر السفور إلى معرض الحضور) وحسن توفيق (رسائل البُشْرى في السياحة بألمانيا وسويسرا), وكلاهما مطبوع في القاهرة. أما كتاب محمد السنوسي (الاستطلاعات الباريسية) فقد طبع في تونس. وتأتي سنة 1892 بكتاب أمين فكري (إرشاد الألبا إلى محاسن أوربا) المطبوع في القاهرة, وبعده (السفر إلى المؤتمر) لأحمد زكي المطبوع في القاهرة سنة 1893. ويأتي مختتم القرن التاسع عشر (1900) بكتب ثلاثة هي: (سياحة مصري في أوربا) لعلي أبو الفتوح, و(الدنيا في باريس) لأحمد زكي. وكلاهما مطبوع في القاهرة. أما كتاب محمد بلخوجة (سلوك الإبريز في مسالك باريز) الذي يذكّرنا عنوانه بكتاب رفاعة الذي استهل هذا الفن فقد طبع في تونس.
ويلفت الانتباه في هذه القائمة - ومن خلال تأمل المتاح منها - ملاحظات أربع:
أولا: أن الرحلة إلى أوربا أصبحت هاجسًا ملحًا على وعي الطليعة المثقفة التي تهوّست بمعرفة مصدر التقدم وأسراره في بلاده, وذلك على النحو الذي جعل من النموذج الأوربي النموذج المسيطر على الوعي بوصفه النموذج الواجب احتذاؤه, والإشارة إليه بوصفه الإطار المرجعي في التقدم. ولذلك فإن الانتباه إلى النموذج الشرقي للدول الآسيوية لم يكن مطروحا على الأذهان لاعتبارات عدة, منها ارتفاع صوت الحركة الكمالية في الدولة العلية, والمطالبة بالتحديث على النموذج الأوربي, الأمر الذي أدى إلى إلغاء السلطنة التركية (الخلافة) على يدي مصطفى كمال أتاتورك سنة 1922, وإعلان الجمهورية التركية برئاسة أتاتورك سنة 1923, الأمر الذي ترتّب عليه تزايد عمليات التغريب التي أفضت إلى كتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية, كما لو كانت هذه الحروف قد أصبحت علامة على وعود زمن التغريب القادم. وبالطبع لم يلتفت أحد إلى اليابان التي كانت قد بدأت نهضتها مع نهضة محمد علي في مصر, ولم تكن قد حققت من التقدم ما يبعث على الاهتمام بها. ولذلك ظلّ اهتمام أدب الرحلة منطلقا من رغبة التطلع إلى أوربا بوجه عام, وفرنسا بوجه خاص.
ثانيًا: أن الذين تحمّسوا إلى أوربا كانوا من العقلانيين بمعنى أو آخر. أقصد إلى أنهم كانوا تلاميذ للتيارات العقلانية التي تبدأ من فلاسفة الإسلام ولا تنتهي عند المعتزلة. وهي التيارات التي دفعتهم معرفتهم بها - أو بما وصلهم منها - إلى أن يقتدوا بما سبق أن أكّده الكندي (-252هـ) فيلسوف البصرة من أن المسلم لا يستحي من استحسان الحق واقتنائه من أين أتى, وإن أتى من الأجناس القاصية عنا, والأمم المباينة لنا, فإنه لاشيء أولى بطالب الحق من الحق, وليس ينبغي بخس الحق, ولا تصغير قائله ولا الآتي به, فلا أحد بخس بالحق بل كل يشرّفه الحق. كما تعلموا من ابن رشد (595هـ) فيلسوف قرطبة أن على المسلم أن يستعين على ما هو بسبيله بما قاله غيره الذي تقدمه, وسواء كان ذلك الغير مشاركا له أو غير مشارك في الملة, فإن الآلة التي تصح بها التزكية ليس يعتبر في صحة التزكية بها كونها آلة لمشارك في الملة أو غير مشارك, إذا كانت فيها شروط الصحة.
ولاشك أن مثل هذه التأويلات العقلانية, فضلا عن غيرها من المأثورات المنقولة التي تحثّ المسلم على طلب العلم ولو في الصين, كانت تزيد من رغبة المعرفة, وتبعثها على التحقق, وتؤسس دوافعها على أسس مقنعة لأصحابها أولا, ويمكن استخدامها بوصفها حججا دامغة في مواجهة الجامدين من أهل النقل الذين ناصبوا الانفتاح على الآخر العداء, ولم يكفّوا عن مهاجمة الذين أفادوا منه. وليس من المصادفة - والأمر كذلك - أن يكون حسن العطار أستاذ رفاعة الطهطاوي منتسبًا إلى أهل العقل من مستنيري المشايخ الذين لم يقتصر تكوينهم على علوم النقل, بل جاوزها إلى المعارف العقلية. وقد كان العطار مشاركًا في علوم المنطق والطب والفلك والهندسة في عصره, وتولى تدريس العلوم العقلية في الأزهر, وترك لنا من تصانيفه حاشية على شرح إيساغوجي للأبهري في المنطق ورسالة في كيفية العمل بالأسطرلاب. ولولا ذلك ما كتب العطار ما كتب عن علم الفرنسيس, بل ما كتب تلميذه - بعد ذلك - مؤكدا ما بثّه فيه أستاذه من مبادئ بقوله: (إن مخالطة الأغراب, لاسيما إذا كانوا من أولي الألباب, تجلب للأوطان المنافع العمومية, والبلاد الإفرنجية مشحونة بأنواع المعارف والآداب التي لا ينكر إنسان أنها تجلب الأنس وتزيّن العمران).
ولذلك لا ينسى رفاعة أن يذكر في مفتتح كتابه أن من أفضال محمد علي باشا على مصر أنه أحضر إليها ما أمكنه إحضاره من علماء الإفرنج, وبعث ما أمكنه بعثه من مصر إلى تلك البلاد (فإن علماءها أعظم من غيرهم في العلوم الحكمية). ولكن رفاعة لا يكتفي بذلك, وإنما يورد الحديث (الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أهل الشرك), ويفسر الحديث الخاص بطلب العلم ولو في الصين بقوله: (من المعلوم أن أهل الصين وثنيون, وإن كان المقصود من الحديث السفر إلى طالب العلم, وبالجملة حيث أمن الإنسان على دينه, فلا ضرر في السفر, خصوصا لمصلحة مثل هذه المصلحة). ولا ينسى أن يقرن الموروث العربي بغير العربي في محبة الحكمة, فينقل عن بطليموس الثاني قوله: (خذوا الدر من البحر, والمسك من الفأرة, والذهب من الحجر, والحكمة ممن قالها), وليس من المصادفة - والأمر كذلك - أن يتحدث رفاعة عن الفارابي وغيره من الفلاسفة في سياق تداعيات ذاكرته بمحتوياتها العقلية, استجابة إلى ما يماثلها أو تماثله في حضارة الآخر الفرنسي. وكلها تداعيات تنطلق من اقتناع رفاعة التام (أن بلاد الإفرنج الآن في غاية في البراعة في العلوم الحكمية. وأعلاها في التبحّر في ذلك بلاد الإنجليز والفرنسيس والنمسا, فإن حكماءها فاقوا الحكماء المتقدمين كأرساطاليس وأفلاطون وأبقراط وأمثالهم, وأتقنوا الرياضيات والطبيعيات والإلهيات وما وراء الطبيعيات أشد إتقان, وفلسفتهم أخلص من فلسفة المتقدمين, كما أنهم يقيمون الأدلة على وجود الله تعالى وبقاء الأرواح والثواب والعقاب).
ثالثًا: كانت فرنسا القطب الذي يجذب إليه الاهتمام في التطلع إلى الغرب لسنوات طويلة من القرن التاسع عشر. لا تضارعها في ذلك سوى لندن (لندرة), التي سعت إلى منافستها في سياق الصراع الاستعماري على الشرق الأوسط, وفي جذب البعثات الثقافية إليها, على نحو ما فعلت إيطاليا والنمسا. ولكن الغلبة الثقافية ظلت لمدينة باريس في القرن التاسع عشر, الأمر الذي جعل منها موضوعًا محبّبا للكتابات التي ظلت تتطلع إلى فرنسا بوجه عام, وباريس بوجه خاص, بوصفهما النموذج الأمثل للتقدم المنشود على كل المجالات. ويبدو ذلك واضحا في كثرة الرحلات إلى فرنسا, ابتداء من رفاعة الطهطاوي الذي استهل البداية, مرورا بأحمد فارس الشدياق وابن أبي الضياف وفرانسيس فتح الله المرّاش وسليمان الحرائري وانتهاء بمحمد السنوسي وأحمد زكي ومحمد بلخوجة, ويرجع ذلك - بالطبع - إلى أن الحضور الثقافي الفرنسي كان أسبق من حضور غيره, وذلك لسبق فرنسا إلى احتلال مصر, واستمرار نفوذها بعد ذلك بوصفها دولة أوربية, يلجأ إليها الباحثون عن الحرية التي افتقدوها في أوطانهم, ووجدوا في فرنسا - لأسباب سياسية وفكرية معا - ما يحميهم من بطش الاحتلال البريطاني الذي أخذ يفرض وجوده. ولذلك اقترنت الحركة الوطنية المصرية المقاومة للاحتلال البريطاني برعاية ثقافية فرنسية, تؤكدها مسيرة مصطفى كامل وعلاقته بجولييت آدامز وأمثالها من المؤمنين بحرية الشعوب.
وأتصور أن هذا الجانب السياسي - ممتزجا بغيره من الجوانب الثقافية والحضارية - جعل من مدينة (باريس) رمزا للتقدم أسطع من غيره في القرن التاسع عشر, وهو أمر يمكن أن نراه بوضوح في كلام رفاعة الطهطاوي عن باريس, خصوصا حين يقول:
(أعظم مدائن الإفرنج مدينة لندرة, وهي كرسي الإنجليز, ثم باريز وهي قاعدة ملك فرنسا, وباريز تفضل على لندرة بصحة هوائها...وطبيعة القطر والأهل, وبقلّة الغلاء التام). ويضيف الطهطاوي إلى ذلك - في موضع آخر من كتابه - قوله في وصف باريس إنها (من أعمر بلاد الدنيا, ومن أعظم مدائن الإفرنج الآن). ويرى (أن الباريزيين يختصون من بين كثير من النصارى بذكاء العقل ودقة الفهم وغوص ذهنهم في العويصات... وليسوا أسراء التقليد أصلا, بل يحبون دائما معرفة أصل الشيء والاستدلال عليه, وكل صاحب فن من الفنون يحب أن يبتدع في فنه شيئا لم يسبق به, أو يكمل ما ابتدعه غيره). ويمضي رفاعة في تأكيد ذلك بقوله: (الأمة الفرنساوية ممتازة بين الأمم الإفرنجية بكثرة تعلقها بالفنون والمعارف, فهي أعظم أدبا وعمرانا), ويعود رفاعة إلى فضل باريس مرة أخرى, مؤكدا الجوانب الفكرية التي تكشف عن نزعته العقلانية التي ورثها عن أستاذه, وأضافة ليها ما جعله ينتهي من تأمل أحوال العلوم والفنون في عصره أن المعارف البشرية قد بلغت أوجها في باريز و(أنه لا يوجد من حكماء الإفرنج من يضاهي حكماء باريز, بل ولا في الحكماء المتقدمين).
ويبدو أن رفاعة الطهطاوي قد أسس بذلك الإعجاب الذي ظل مستمرا بمدينة (باريس) التي ارتفعت إلى مصاف الرمز الحضاري, وظل الإعلاء من شأنها بالقياس إلى غيرها وتبرير تفوقها بابًا ثابتًا في كل أشكال الرحلة إليها, ومبدأ ثابتًا في الكتابات اللاحقة المتتابعة التي وصلت إلى كتاب (باريس) الذي نشره أحمد الصاوي محمد سنة 1933, جامعا فيه كل ما عرفه من أقوال في مديح باريس وفضائلها, ولكنه اقتصر - مع الأسف - من أعلام القرن التاسع عشر في العالم العربي على المصريين وحدهم, فحرم القراء بذلك من مادة كان يمكن أن تضيف إلى كتابه, وذلك في السلسلة التي تبدأ من (رحلة باريس التي كتبها فرانسيس فتح الله المرّاش (1836-1873) الحلبي من سوريا وليس انتهاء بما كتبه محمد بلخوخة التونسي في (سلوك الإبريز في مسالك باريز) سنة1900.
ولا غرابة - والأمر كذلك - أن نرى مركزية (باريز) في (رحلة باريس) التي قام بها المرّاش, ووصفها في كتاب صغير حمل العنوان نفسه, كما حمل الآثار العقلانية لفلاسفة عصر الأنوار الفرنسيين, الذين اقترنت بهم الدلالات الفكرية لرمز باريس الذي أضاء وجدان المرّاش وعقله, فأكّد دينه لمصدر الأنوار وفضائها الفرنسي بقوله في كتابه:
(إن للفكر قوة تغلب جميع القوات, وانطلاقا يقاوم كل العوارض, فلا يوجد رادّ إذا جمحت, ولا صادم إذا اندفعت, وكل الوسايط التي استعملت قديما أو حديثا لردها وصدّها إنما كانت مساعدات لازدياد حركتها وتفاقم انطلاقها).
وغير بعيد عن ذلك ما يقوله المرّاش عن مدينة باريس التي هي (مركز مجد العالم وأعجوبته), و(مصب أنهار العجايب وموقع أنوار التمدن والآداب). لقد تحولت باريس - مدينة الأنوار العقلانية والفكرية - في عيني (الجيل الحاضر) الذي انتسب إليه المرّاش إلى رمز ساطع, رمز يجعل من المدينة (عروسة لجميع مدن المسكونة, وشمسا يدور حولها فلك العالم البشري).
وأتصور أن الإعجاب بباريس, ومن ثم الانحياز إلى النموذج الثقافي الفرنسي, ظل سائدا إلى أن تعدّلت علاقات المثاقفة في العالم العربي, وتحولت بعثات الأقطار التي غلب عليها الاستعمار البريطاني إلى إنجلترا, فأخذ نموذج ثقافي مقابل في الظهور, خلال التنافس الاستعماري على الأقطار العربية, والتنافس الفكري على الوعي العربي الذي أصبح منقسما, في بعض مستوياته, وفي مرحلة لاحقة, بين ما أخذ اسم اللاتين والسكسون, في المناظرة التي جرت بين العقاد وطه حسين في الثلاثينيات, وهي المناظرة التي أخذت تجليات أكثر حدة حتى في توزّعها الجغرافي الذي مايز, قطريا, في أشكال الصراع الثقافي, بين الفرانكفونيين والأنجلوفونيين في الثقافة العربية, فغلبت الفرانكفونية على البلاد التي احتلها الاستعمار الفرنسي, بينما غلبت الأنجلوفونية على الأقطار التي احتلها الاستعمار الإنجليزي.
لكن من الواضح أن الغلبة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين - على الأقل - كانت للثقافة الفرنسية, الأمر الذي أكّدته غلبة البعثات إلى فرنسا, وما أشاعته من غلبة للطابع الفرنسي على مولد الأدب الحديث في مصر كما يقول يحيى حقي في حديثه عن محمد حسين هيكل (1888-1956) وروايته (زينب) في كتابه (فجر القصة المصرية). ومصداق ذلك عنده ما يقوله هيكل من أن مزاجه كان أشد قربا إلى الأدب الفرنسي منه إلى الأدب الإنجليزي بالرغم من كثرة ما حصل منه. ولا يرجع ذلك عند يحيى حقي إلى أن بلاد هيكل كانت تعاني من الاحتلال البريطاني, وإنما يرجع إلى (التقارب الخفي بين التيارات الثقافية في حوض البحر الأبيض, تقف فيها إنجلترا بمعزل بجزيرتها وضبابها وكنيستها), وإلى أن الجيل الذي سبق هيكل تلقّى علومه في فرنسا, وترجم عنها و(بقيت رواسب هذه الثقافة متشبثة بأرض مصر لا يفلح الإنجليز في اقتلاعها بتحويل تيار التعليم والبعثات من فرنسا إلى إنجلترا, ولم يبدأ الأدب الإنجليزي يزاحم الأدب الفرنسي إلا حين تخرج طلبة المدارس الثانوية والعالية المعتمدة مناهجها على اللغة الإنجليزية, حدث هذا حوالي 1919 سنة الثورة).
وليس من الضروري المضي في مناقشة يحيى حقي في الصراع بين المزاج الأقرب إلى النموذج الثقافي الفرنسي والمزاج الأقرب إلى النموذج الإنجليزي, فالمؤكد أن الغلبة كانت للنموذج الفرنسي في القرن التاسع عشر, ولذلك كان أغلب الرحلات إلى أوربا متجها إلى فرنسا وعاصمتها باريس بالدرجة الأولى, وذلك إلى الدرجة التي جعلت من الافتتان بباريس موضوعا لكتاب كامل نشره الدكتور خليل الشيخ تحت عنوان (باريس في الأدب العربي). ولم يمنع هذا الافتتان بالطبع من الكتابة عن (لندرة) المنافس الطبيعي, بل وصل الأمر بأحمد فارس الشدياق إلى تفضيل لندرة على باريز, ولكن ظل ذلك من قبيل الاستثناء, وظلت (باريز) هي المرآة التي يجتلي فيها وعي الأنا واقع تخلّفه من ناحية, ويقرأ فيها أوصاف التقدم التي يسعى وراءها من ناحية موازية.
رابعًا: ومن الطريف أن تعكس متغيرات هذه المرآة في كتب الرحلات أو سردياتها المتتابعة المتغيرات العمرانية التي طرأت على باريس, أو تعكس نقد اللاحق للسابق, وذلك على نحو ما فعل علي مبارك باشا (1823-1893) الذي ذهب إلى (باريز) بعد حوالي ربع قرن من زيارة الطهطاوي إليها, وتمتعت عيناه بنتائج الثورة المعمارية التي قادها البارون جورج يوجين هاوسمان (1809-1891) التي لم يرها الطهطاوي, فلم ير من أسرار (باريز) ما أدركه خلفه الذي يعد تلميذا له, والذي تنقّل في كتابه (علم الدين) ما بين لندرة وباريز, وأتاح له التنقل مع الوعي بالمتغيرات الأحدث أن ينقد وصف أستاذه لباريز, وذلك عندما جعل (الخواجا) يتطرق إلى ما ذكره رفاعة من أوصاف باريس على النحو التالي:
(رأيته قد أكثر فيها من مدح باريز وأهلها, وأطنب في وصف نسائها ورجالها, وطاف حول الدن إلا أنه لم يدندن, ورتع حول ذاك الحمى وحام, وما رفع عن وجه ليلى اللثام, وأظنه لم يأتها من أبوابها, ولا كشف له عند وصف لها عن نقابها, ومع ذلك فجميع ما ذكره ورآه قد تغيّر الآن, ومضى في وقته إلى الآن نحو ثلاثين سنة, وفي هذه المدة تقدمت العلوم والصنائع تقدما زائدا, وظهر في أعمال الخلق النتائج المفيدة, فصلح بذلك شأنها واتسعت دائرة ثروتها).
والفارق بين ما كتبه الطهطاوي عن باريس وما كتبه علي مبارك عنها هو الفارق في تحول الوعي بالموضوع من ناحية, وتحول الموضوع نفسه من ناحية مقابلة, فعلي مبارك الأفندي نموذج لوعي أحدث, تولّد مع جيل الأفندية الذي جاء بعد جيل الشيخ رفاعة ومضى بعده إلى ما هو أبعد في مدى الوعي العمراني والحضاري, وباريس التي شاهدها علي مبارك أفندي ليست باريس التي شاهدها الشيخ رفاعة الطهطاوي, وإنما باريس البارون هاوسمان الذي جعل منها تاج العمارة الطالع في المدن الأوربية.
ونعلم من مصادر متعددة, من بينها كتاب الرافعي عن (عصر إسماعيل) وكتاب تيموثي ميتشيل عن (استعمار مصر) الذي صدر عن مطبعة جامعة كيمبردج سنة 1988, أن الخديو إسماعيل أرسل علي مبارك - وكيل وزارة المعارف العمومية وناظر القناطر الخيرية في ذلك الوقت - إلى باريس في مهمة مالية لحساب الحكومة المصرية وزيارة المعرض العالمي, وأن علي مبارك الذي سبق له أن درس في فرنسا قضى شهرًا ونصف الشهر بمدينة باريس, في شتاء 1867-1868, يدرس النظم الجديدة في مجال التعليم والصرف الصحي, وهناك, عاين المباني والكتب والمقررات الدراسية للمدارس الجديدة. وسار مع غيره من الزائرين عبر الأنفاق الضخمة لشبكة الصرف الصحي التي أقيمت تحت شوارع باريس الجديدة. ولم يفته, بالقطع, التمعن في التخطيط المعماري الجديد لمدينة باريس وتنظيم (بوليفاراتها) التي أخذت تبهر الأنظار, وتغدو نموذجًا لشوارع المدينة العصرية. وأتخيل أن علي مبارك لم يقصر في التمعن أو التحديق, على الأقل بوصفه مهندسًا, ومسئولاً بارزًا عن التعليم, ومرشحا محتملا لتولي مهمة تخطيط القاهرة الحديثة.
ولا أشك في أن علي مبارك استوعب بمعنى أو بآخر, في هذه الزيارة, أسرار الإنجاز الجذري للبارون جورج يوجين هاوسمان (1809 - 1891) متصرف عموم (السين) الذي انشغل, منذ أواخر الخمسينيات وطوال الستينيات من القرن التاسع عشر, في تحديث مدينة باريس, ونقلها من عمارة القرون الوسطى إلى عمارة العصر الحديث التي تتعامد على شبكة واسعة من الشوارع العريضة (البوليفارات) التي تُرف بها هاوسمان, والتي أطلق اسمه على شارع منها (بوليفار هاوسمان) تكريمًا لما فعل. وقد أنشأ هاوسمان - إلى جانب الشارع العريض (البوليفار) - شبكة مياه الشرب ونظام الصرف الصحي (المجاري). وقام بتخطيط وتنظيم حدائق غابة بولون ومتنزهات فانسان واللوكسمبورج. وأقام سوق الخضار وأوبرا باريس وغيرهما من معالم العمران, الذي جعل من مدينة باريس نموذجا يحتذى في العمارة الجديدة والتخطيط الحديث.
وكانت (البوليفارات) التي شقّها هاوسمان في قلب باريس, مسلحا بفرمان ملكي من نابليون الثالث, استهلالا ثوريا للحياة المدنية للمدينة الحديثة في القرن التاسع عشر, فقد أدّت هذه البوليفارات - فيما يقول مارشال بيرمان في كتابه عن (تجربة الحداثة) المنشور في نيويورك سنة 1982 - إلى زيادة الانسياب والتدفق عبر مركز المدينة على نحو لم يحدث من قبل, وساعدت على الانتقال مباشرة من أقصى المدينة إلى أقصاها, كما أتاحت متنفسًا وسط كثافة العتمة والاكتظاظ البشري, وأعانت على التوسع المتزايد للتجارة المحلية, الأمر الذي خفف من الأعباد المالية التي ترتبت على التدمير الكبير للمنازل والطرق القديمة التي كان لابد من إزالتها لشق البوليفارات, فضلا عن أعباء تكاليف التعويضات والبناء الجديد. ولم تكن (البوليفارات) عونا على الازدهار الاقتصادي والحراك الاجتماعي فحسب, وإنما كانت وسيلة للانضباط في الوقت نفسه, فمن شأنها أن تفضي إلى خلق ممرات طويلة, عريضة, تستطيع الوحدات العسكرية وبطاريات المدفعية أن تتحرك فيها بسهولة ويسر لتدمير أي متاريس مستقبلية أو أي حركات تمرد أو عصيان شعبي.
ولذلك كانت هذه (البوليفارات) مكونا أساسيا من مكونات منظومة شاملة لتخطيط المدينة الحيثة التي تضم أسواقا مركزية, وجسورا, وشبكات صرف صحي, وشبكات مياه شرب, وأوبرا ومراكز ثقافة موازية, ومجموعة كبيرة من الحدائق المتسعة, بعبارة أخرى, منظومة متكاملة تفتح المدينة كلها, للمرة الأولى في تاريخها, أمام جميع أهلها وسكانها, وذلك على نحو يؤدي إلى أن تغدو المدينة فضاء فيزيائيا وإنسانيا متحدا, يسهل فيه الانتقال داخل كل حي, وبين الأحياء داخل المدينة, بل بين المدينة وغيرها بواسطة ما أصبح نواة (الأوتوستراد) الأحدث. ولم يخل هذا الفضاء من الشوارع الفرعية المزودة بالمقاعد والمظللة بالأشجار, ولا من جُزُر المشاه التي لا تعيق حركة المرور, وتفتح ممرات بديلة إضافية للفرجة والنزهة. أضف إلى ذلك تصميم الميادين الكبيرة عند نهاية كل بوليفار, حيث النصب التذكارية والتماثيل التي تجعل كل شارع يقود إلى رمز من رموز القمم الخالدة للمدينة.
هذه المواصفات, مجتمعة, جعلت من باريس النصف الثاني من ستينيات القرن التاسع عشر مشهدا فريدا في إثارته, مهرجانا لعينَيْ وأحاسيس علي مبارك الذي رأى من أوجه المدينة الجديدة و(بوليفاراتها) ما لم يره سلفه رفاعة الطهطاوي, الذي أنهى بعثته قبل ثورة (هاوسمان) المعمارية بسنوات عديدة. وقد استوعب علي مبارك - فيما أحسب, وفيما تؤكد أعماله في وزارة الأشغال العمومية - المنظومة الشاملة لتخطيط المدينة التي تجمع ما بين (المدرسة المدنية) الحديثة و(البوليفارات) و(دار الأوبرا) و(الحديقة الكبيرة) و(المتحف) و(أقسام الشرطة). ولم يكن من قبيل المصادفة - والأمر كذلك - أن يقوم الخديو إسماعيل - زميل علي مبارك في (بعثة الأنجال) - بتعيينه ناظرا للمعارف وناظرا للأشغال العمومية بعد عودته من مهمته الرسمية في باريس. وكان ذلك سنة 1868, السنة التي نال فيها علي مبارك رتبة الميرميران, والتي كانت بداية عقد كامل قضاه منشغلا بتخطيط مدينة القاهرة الحديثة, مستهلا بناء عماراتها التي لايزال بعضها شاهدا على ما فعل, جنبا إلى جنب شق (بوليفاراتها) التي استهلها بشارع محمد علي وميدانه, وشارع عبدالعزيز, وشارع عابدين, وشارع الفجالة الجديد, وشارع كلوت بك. وكانت هذه الشوارع مفضية إلى الأحياء الجديدة, ابتداء من حي باب اللوق, مرورا بحي عابدين, وانتهاء بحي الإسماعيلية الذي كان من قبل, أراضي خربة سبخة تحتوي على كثبان من الأتربة وبرك المياه, فخططها علي مبارك وأنشأ فيها الشوارع والحارات على خطوط مستقيمة, وأغلبها متقاطع على زوايا قائمة ودكّت الشوارع والحارات بالحجر (الدقشوم) ونُظمت على جوانبها الأرصفة, ومدت في أرضها أنابيب المياه, وأقيمت فيها أعمدة المصابيح لإنارتها بغاز الاستصباح, فأصبح الحي كما يقول علي مبارك نفسه - في خططه التوفيقية - من أبهج أخطاط القاهرة التي سرعان ما سكنها الأمراء والأعيان.
ولم يقتصر الأمر بعلي مبارك - المسلح بفرمانات من الخديو إسماعيل - على شقّ البوليفارات والميادين والأحياء الجديدة فضلا عن شبكات المياه والصرف الصحي, وإنارة البوليفارات بمصابيح الغاز, ووصلها بالجسور التي كان أهمها جسر قصر النيل, وإنما امتد الأمر إلى بقية الإنجازات المعمارية لمدينة القاهرة التي أراد لها الخديو إسماعيل والطليعة المحيطة به والمتحمسة لرؤاه المحدثة أن تكون مدينة حديثة على طراز باريس هاوسمان, فقام علي مبارك بتنظيم الحدائق التي كانت (الأزبكية) أهمها, وإنشاء (دار الأوبرا) التي بُنيت بأسرع ما يمكن للاحتفال ببدء الملاحة في قناة السويس في السابع عشر من نوفمبر سنة 1869. واستهلت الأوبرا عروضها في مساء التاسع والعشرين من نوفمبر سنة 1869 بأوبرا (ريجيوليتيو) التي كانت الإمبراطورة أوجيني في مقدمة مشاهديها إلى جانب ضيوف افتتاح القناة. وكان بناء الأوبرا على تخوم الأزبكية بعد عام واحد فحسب من إنشاء المسرح الكوميدي بالأزبكية الذي افتتح في الرابع من يناير سنة 1868.
وقد فعل علي مبارك ذلك كله في عقد واحد من الزمان, كان بمنزلة استهلال لزمن جديد من التعليم المدني والعمران المدني, وذلك في منظومة وصلت التحديث الجذري لمدينة القاهرة بالتحديث الجذري للتعليم وأجهزة الثقافة ووسائلها التي تقف المطبعة والصحافة على رأسها. وكانت هذه المنظومة بأكثر من معني محاكاة لمنظومة هاوسمان الباريسية الحديثة.
وفي الوقت نفسه, كانت نتيجة من نتاج رؤية باريز بأعين متعاطفة, منبهرة, تسعى إلى إعادة إنتاج العاصمة الفرنسية في العاصمة المصرية, وذلك لكي يتحقق حلم إسماعيل باشا في أن تكون مصر قطعة من أوربا, أو تكون القاهرة مرآة ترى فيه باريس صورتها بأكثر من معنى وفي أكثر من اتجاه ومجال.
- 3 -
وإذا تركنا هذه الملاحظات العامة إلى نوع من التخصيص الذي يمكن أن يكون أقرب إلى دراسة حالة, في مدى متابعة تجليات الرحلة إلى الآخر في القرن التاسع عشر, فإننا يمكن أن نعود إلى كتاب رفاعة نفسه (تخليص الإبريز في تلخيص باريز) ونتوقف عنده بوصفه البداية الجذرية التي ظلت تتكرر صفاتها في الكتابات اللاحقة, حتي لو وجدنا اختلافات أو تحولات تتصل بوعي المدرك الذي ظل في الدائرة نفسها من منظور إدراك (الآخر). وإذا اقتصرنا على رفاعة وحده, بوصفه نموذجا لغيره وأساسا بنى عليه من جاء بعده, فإننا يمكن أن نقدم الملاحظات التالية:
أولا: يلفت الانتباه أن الدهشة التي تصيب المتخلّف من ظاهر التقدم تظل حالة مقترنة بالإعجاب الذي تعجز الكلمات عن التعبير عن خصوصيته الشعورية في بعض الحالات, وإذا كانت المظاهر المادية تشمل العمارة وتخطيط الشوارع والميادين والمتنزهات والفنادق والعربات, فإنها تشمل أماكن الفنون والعلوم (الجامعات, المكتبات, الأوبرا, المسارح) واحتفالاتها (الكرنفالات) كما تشمل العادات والتقاليد وأنظمة الحكم ومبادئ الفصل بين السلطات... إلخ.
وتلعب بعض المظاهر المادية دورا دالا يدنو من أحوال الرمز الكاشف عن توتر علاقة العارف بجدة الموضوع المعروف, وماذا يتصل بهذا التوتر من مشاعر مختلفة أو مختلطة. ومثال ذلك في كتاب رفاعة الطهطاوي حديثه عن المقاهي الفرنسية التي تمتلئ جدرانها بالمرايا العظيمة التي رآها رفاعة للمرة الأولى, فظهر له منها رونق عظيم واندهاش طريف, عبّر عنه بقوله:
(وحين دخولي بهذه القهوة ومكثي بها ظننت أنها قصبة عظيمة نافذة لما أن بها من الناس, فإذا بدا جماعة داخلها أو خارجها ظهرت صورهم في كل جوانب الزجاج, وظهر تعددهم مشيا وقعودا وقياما, فيظن أن هذه القهوة طريق, وما عرفت أنها قهوة مسدودة إلا بسبب أني رأيت عدة صورنا في المرآة. فعرفت أن هذا كله بسبب خاصية الزجاج).
والوصف دال على أحوال الدهشة التي أصابت رفاعة عندما دخل إلى قاعات المرايا للمرة الأولى, فأصبح هو الناظر والمنظور إليه, الأمر الذي يستدعي رمزية المرآة في العملية التي تتيح للأنا أن تتعرف على حضورها, بأن تنقسم على نفسها لتغدو موضوعا للتأمل وفاعلا له. ويحدث ذلك في منحى دلالي شبيه بذلك المنحى الذي أتاح لرفاعة أن يرى عدة صور له في المرآة, جنبا إلى جنب تعدد صور الناس الذي دفعه إلى الظن أن القهوة طريق. وتعدد صور الأنا في المرآة علامة على إمكان اتساع أفقها الذي يحيل الوعي المفرد إلى جمع بالتجارب التي يكتسبها, ويحيل العقل الواحد إلى عقول متكثرة باغتناء هذا العقل بثمرات العقول المغايرة. ولا يخلو هذا التعدد من دلالة ممتدة, تصل بين معني الاتساع بالأنا والقدرة على النظر إليها بما يجعل منها موضوعا للمساءلة أو النقد في الوقت نفسه. وفي ذلك كله يتحول حضور المرآة من حضور موضوع جذّاب تحدّق فيه العين, وتنبهر به, إلى حضور تمثيلي يجعل من مشاهد رفاعة لصوره في المرآة نوعا من الموازاة الرمزية غير المقصودة لوعيه بأوضاعه المعرفية وأحواله الحضارية في مرآة الحضارة الغربية.
ومن المؤكد أن باريس نفسها كانت تؤدي دور المرآة في وعي رفاعة الطهطاوي داخل هذا المنحى الدلالي نفسه. ولذلك كانت دافعه إلى المقارنة بين ما يراه فيها وما تستدعيه ذاكرة من صور وطنه. والأمثلة على ذلك كثيرة في (تخليص الإبريز). وأولها ما يذكره في خطبة الكتاب من أن هدفه من الرحلة كان التزوّد من العلوم البرانية والفنون والصنائع (فإن كمال ذلك ببلاد الإفرنج أمر ثابت شائع. والحق أحق أن يتبع). ويتبع رفاعة هذه الإشارة بما يغدو قرينا لأمثالها, على طريقة (والضد يظهر حسنه الضد) ما يؤكده بالقسم علي النحو التالي: (ولعمر الله إنني, مدة إقامتي بهذه البلاد, في حسرة على تمتّعها بذلك وخلو ممالك الإسلام منه). ويختم خطبة الكتاب بالدعاء لله أن يغدو كتابه مقبولا لدى الخاص والعام, وأن يوقظ به من نوم الغفلة سائر أمم الإسلام.
ويبدو أن هذا الحرص على إيقاظ النيام هو الذي دفعه إلى الاهتمام باللغة الفرنسية من حيث قدراتها الأدائية التي لا يتلاعب فيها بالعبارات ولا بالمحسنات البديعية اللفظية (وكذا غالب المحسنات البديعية المعنوية, وربما عد ما يكون من المحسنات في العربية ركاكة عند الفرنسيين) ويتصل بذلك ما ينتهي إليه من أن سهولة اللغة الفرنسية تعينهم على التقدم, حيث إنه لا التباس فيها أصلا, فالألفاظ مبينة بنفسها, والقارئ لكتاباتها لا يحتاج إلى تطبيق ألفاظه على قواعد أخرى برانية من علم آخر, وذلك (بخلاف اللغة العربية مثلا, فإن الإنسان الذي يطالع كتابا من كتبها في علم من العلوم يحتاج إلى أن يطبقه على سائر آلات اللغة, ويدقق في الألفاظ ما أمكن, ويحمّل العبارة معاني بعيدة عن ظاهرها). وأما كتب الفرنسيس فلا شيء من ذلك فيها, فليس لكتبها شرّاح ولا حواش. فإذا شرع الإنسان في مطالعة كتاب في أي علم كان, تفرّغ لفهم مسائل ذلك العلم وقواعده من غير محاكّة الألفاظ).
وإذا كانت اللغة تدل على الفكر, في علاقته بآلاته التي تدفعه إلى التقدم, أو التخلف, فإن تدبير الدولة يدل على تقدمها وتخلفها من حيث شيوع العدل فيها, أو غيابه. ولذلك يأتي تعليق رفاعة على المادة الأولى والثانية من الدستور الفرنسي تعليقا بالغ الدلالة, خصوصا لأن هاتين المادتين تنصان على أن سائر الفرنساوية متساوون قدام الشريعة, وأنهم يعطون من أموالهم بغير امتياز شيئا معينا لبيت المال, كل إنسان على حسب ثروته. ويعقب رفاعة على ذلك بأن مبدأ المساواة من جوامع الكلم عند الفرنساوية, ومن الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية, وتقدمهم في الآداب الحضرية. ويمضي في شرح معنى الضرائب بقوله إنها (لو كانت مرتّبة في بلاد الإسلام كما هي في تلك البلاد لطابت النفس).
ولا يكتفي رفاعة بذلك بل يضيف إليه شارحا أن القانون الفرنسي (فيه أمور لا ينكر ذوو العقول أنها من باب العدل). ويتناول ما يقترن بمبدأ العدل من الحرية السياسية والفكرية التي (تقوّي كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لا يضر غيره). ولا يغفل ما يتصل بمبدأ الحرية من ازدهار الصحافة (الورقيات اليومية المسماة بالجورنالات والكازيطات). وهي التي يعرف منها سائر الأخبار المتجددة, داخليا أو خارجيا. ومن فوائدها الجلية (أن الإنسان إذا فعل فعلا عظيما, أو رديئا, وكان من الأمور المهمة, كتبه أهل الجورنال ليكون معلوما للخاص والعام, لترغيب صاحب العمل الطيب, وردع صاحب الفعلة الخبيثة, وكذلك إذا كان الإنسان مظلوما من إنسان, كتب مظلمته في هذه الورقات, فيطلع عليها الخاص والعام, فيعرف القصة المظلوم والظالم من غير عدول عما وقع فيها, ولا تبديل, وتصل إلى محل الحكم, ويحكم فيها بحسب القوانين المقررة, فيكون مثل هذا الأمر عبرة لمن يعتبر).
وعندما ينتقل رفاعة من النظم السياسية إلى العادات الاجتماعية في المنازل ويتطرق إلى وصف غرف الاستقبال في بيوت الفرنساوية, وكيف تقبل سيدة البيت لتحية الضيف أنيقة نضرة وسط أثاث يماثله في الجمال, لا يملك إلا أن يقارن بينها وبين غرف الاستقبال في بيوت القاهرة, معلقا بقوله: (فأين هذه الأرض بما احتوت عليه من اللطائف من أرضنا التي يحيا فيها الإنسان بإعطاء شبق الدخان من يد خادم في الغالب قبيح اللون). ويقوده ذلك إلى الحديث عن أشكال النظافة في باريس التي تذكّره - على سبيل التضاد - بأشكال الوساخة في مصر, ويقارن بين اتساع الميادين النظيفة ووساختها في مدينته التي فارقها, غير ناس أن يتحدث عن العادات الصحية التي لم تكن تعرفها مدينته في ذلك الوقت. وتقوده أشكال النظافة إلى غيرها من أشكال الحياة في باريس التي تعيده باستمرار إلى وطنه في مدى المقارنة المؤسية, الظاهرة والباطنة, المباشرة وغير المباشرة, فعلاقات الحضور التي تمثلها باريس تقود دائما إلى علاقات الغياب التي تمثلها القاهرة, والتي تبرزها المواقف الحادة إلى مرتبة الحضور لاكتمال دلالة الأسى على التخلف والرغبة الحادة في التقدم.
وقد نتج عن ذلك أن كتاب رفاعة لم يكن وصفا لأوربا وحدها, أو وصفا لأحوال التقدم الفرنسي على وجه الخصوص, وإنما كان وصفا لأحوال الوطن العربي في الوقت نفسه, ومن ثم وصفا لأحوال التخلف. ولذلك كانت عناصر الحضور في الوصف مقترنة بعناصر الغياب التي كانت تشير دائما إلى الأصل الذي يستعاد, إما على سبيل الاستهجان لما فيه بالقياس إلى استحسان ما هو موجود لدى الآخر, أو على سبيل المقارنة المضمرة التي لا تخفي الإعجاب من الآخر.
ثانيا: يكشف كتاب رفاعة الطهطاوي عن البنية العقلية للأنا التي لم تكن تقبل إلا ما يتوافق معها, وترفض ما لا يتوافق معها. ولذلك لم يقبل صاحب (تخليص الإبريز) رفاعة الطهطاوي - على سبيل المثال - من مظاهر التقدم في الغرب إلا ما رأى له سندا عقلانيا لا يتعارض والشرع الذي كان يجسده رفاعة بثقافته الدينية. ولذلك يبدأ كتابه بقوله:
(وقد أشهدت الله سبحانه وتعالى على ألا أحيد في جميع ما أقوله عن طريق الحق, وأن أفشي ما سمح به خاطري من الحكم باستحسان بعض أمور هذه البلاد وعوائدها على حسب ما يقتضيه الحال. ومن المعلوم أني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نصّ الشريعة المحمدية, على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية).
وكان استحسان ما وافق الشريعة يتم على أساس عقلاني عند رفاعة الذي لم يتخل عن نزعته العقلانية, وإنما زادتها باريس عمقا واتساعا في مدى التأويل. ومن المؤكد أن تراثه العقلاني الذي عرف فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال هو الذي شجّعه على الإفادة من أفكار التنوير الأوربي بما يناسب طموح تطلعه إلى مستقبل واعد. ولذلك جعل رفاعة من مبدأ التحسين والتقبيح العقليين الذي ورثه عن المعتزلة إطارا مرجعيا لقبول أو رفض ما طالعه في كتب التنوير الأوربية, أو ما تأثر به من منجزات الآخر. هكذا, كتب في (تخليص الإبريز) مؤكدا أن:
(الأمة الفرنسية من الفرق التي تعتبر التحسين والتقبيح العقليين, وأن أبناءها يعتقدون أنه لا يمكن تخلّف الأمور الطبيعية أصلا, وأن الأديان إنما جاءت لتدل الإنسان على فعل الخير واجتناب ضده, وأن عمارة البلاد وتطرق الناس وتقدمهم في الآداب والظرافة تسد مسد الأديان, وأن الممالك العامرة تصنع فيها الأمور السياسية كالأمور الشرعية).
وهذا كلام يبرر إعجاب رفاعة بما قرأه في مجال (الحقوق الطبيعية الذي هو (عبارة عن التحسين والتقبيح العقليين يجعله الفرنج أساسا لأحكامهم السياسية المسماة عندهم شرعية).
وقد دفعه إعجابه بما قرأه في الحقوق الطبيعية إلى قراءة كتاب (روح الشرائع) لمنتسكيو (1689 - 1755). وهو كتاب رآه رفاعة (أشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية, ومبني على التحسن والتقبيح). وأتصور أن قبوله لهذا الميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية كان يعني إعجابه بمبدأ الفصل بين السلطات الذي ذهب إليه منتسكيو في كتابه الذي أصدره سنة 1734 قبل أن يصل رفاعة إلى باريس باثنين وتسعين عاما. ومن لوازم هذا المبدأ ضرورة الفصل بين السلطة الروحية والسلطة المدنية, وهو ضرورة لم ير فيها رفاعة تناقضا مع الشريعة الإسلامية التي لا تمنع من قيام الدولة المدنية.
وكان من نتيجة ذلك انفتاح الأبواب في كتابات رفاعة لأفكار المجتمع المدني ليس بوصفه نقيضا للدين, وإنما بوصفه مجتمع المؤسسات القانونية الذي لا مكان فيه لحكم الإكليروس من ناحية, ويمكن أن يعتمد على مصادر داخل الميراث الإسلامي العقلاني نفسه من ناحية مقابلة. ولذلك لم يشعر رفاعة بتناقض بين الاستخدام الاجتماعي لمبدأ التحسين والتقبيح العقليين عند المعتزلة, والمبدأ التنويري الفرنسي الذي انبنى على إمكان تأسيس المجتمع على مبادئ أخلاقية, مستنبطة بواسطة البحث العقلاني في الطبيعة العامة للحياة الاجتماعية. ومن هذا المنطلق كان تقبّل رفاعة معنى الدستور, في كتابه وكتاباته, فعلا آخر من أفعال (تخليص إبريز) المجتمع الذي عاشه في فرنسا, فنظر إلى الدستور من حيث هو تعاقد مدني, يتحقق في كل أمة لها طابع النظام والاستقرار, وتقبل معناه بوصفه (الشريعة) البشرية التي تنظم أمور الدولة المدنية, وتفصل بين سلطاتها, وتصون كل أطرافها. ووصل بينه وبين النظام النيابي الحر الذي يكفل الضمانات للأفراد كل الوصل, وذلك ربط ينتمي إلى تقاليد عرقية في الأنظمة الدستورية, تقاليد دفعت الكثيرين من مفكّري القرن التاسع عشر, في فرنسا, إلى عدم الاعتراف بوجود دستور أو قانون دستوري, إلا إذا تحققت الأنظمة النيابية الحرة. وقد انتقلت هذه التقاليد إلى خارج فرنسا, مع رفاعة وغيره, وتجسدت في كتابات المفكرين والساسة, وتغلغلت في الرأي العام للمثقفين, على نحو وصل بين الدعوة إلى النظم الديمقراطية والدعوة إلى الدستور في كثير من البلاد.
ومن اللافت للانتباه, في سياق هذه التقاليد, أن رفاعة طبع كتابه في العام نفسه الذي أنشئ فيه كرسي القانون الدستوري في كلية الحقوق بجامعة باريس, على يد (جيزو) الذي كان وزيرا للتعليم في حكومة الملك لويس فيليب, والذي كان يهدف من وراء ذلك إلى الدعاية لهذا الدستور الملكي والأنظمة التي أقامها, ومن ثم الترويج للفلسفة السياسية التي كان يستند إليها, والتي عمادها صيانة الحقوق والحريات الفردية وإقامة نظام نيابي برلماني حر. وكما ارتبط القانون الدستوري في ذهن جيزو بدستور فرنسا الصادر سنة 1830 الذي يسميه رفاعة (الشرطة), أصبح هذا القانون مثالا حديثا لأمور مدنية (لا ينكر ذوو العقول أنها من باب العدل) في رأي نموذج شيخ الاستنارة.
ويترجم رفاعة هذا الدستور إلى العربية, في الكتاب الذي دفع به إلى المطبعة داعيا الله العلي القدير (أن يوقظ به من نوم الغفلة سائر أمم الإسلام من عرب وعجم), ويمهد للترجمة بقوله إن غالب ما في هذا الدستور ليس في كتاب الله تعالى, ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم, ومع ذلك - أو بسبب ذلك - فهو دليل عقلي على إمكان وصول أبناء الأمة إلى عقد اجتماعي يحقق لهم التقدم, خصوصا حين تحكم عقول حكمائهم أن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد. والمؤكد أن انقياد الحكام والرعاة إلى ذلك قد أدى إلى عمران بلاد الفرنساوية, فيما يرى رفاعة, وأدى إلى كثرة معارفهم وتراكم غناهم وارتياح قلوبهم (لا تسمع فيهم من يشكو ظلما أبدا, والعدل أساس العمران).
وإذ يتحدث رفاعة عن أن ملك فرنسا ليس مطلق التصرف, وأن السياسة الفرنساوية هي قانون مقيد, بحيث إن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور في القوانين التي يرضى بها أهل الدواوين, فإنه يؤكد معنى أن يكون سائر الفرنساوية مستوين قدّام الشريعة (الدستور), ويشرحه بقوله: إن ذلك من الأدلة الواضحة على وصول العدل فيهم إلى درجة عالية, وتقدم في الآداب الحضرية (المدنية), فمعنى كون سائر الناس مستوين قدام الشريعة أنه لا يوجد رفيع أو وضيع, وأن الدعوى القضائية تقام على الملك كما تقام على أصغر مواطن, وفي ذلك إقامة للعدل وإسعاف للمظلوم وإرضاء لخاطر الفقير بأنه كالعظيم سواء بسواء. ولذلك كان كل واحد من الفرنساوية أهلا لأخذ أي منصب أو رتبة, وكانت حرية كل منهم مصانة في الحياة الشخصية والاعتقاد والاختلاف والتعبير عن الرأي بكل الطرق الممكنة.
أما حرية الملكية فلا تقل احتراما عن حرية التفكير التي تصونها السلطة القضائية المستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية.
ويتقبّل رفاعة التعديلات التي أضيفت إلى دستور 1830 الفرنسي نتيجة أحداث 1831 التي عاصرها وتعاطف مع ما انطوت عليه من (قيامة الفرنساوية للحرية والمساواة), وحرصهم على تعديل الدستور لتقييد الملكية وتأكيد استقلال القضاء, والارتقاء بدور السلطة النيابية. وكما كانت الحرية هي الدلالة متكررة الرجع في كل عمليات (تخليص الإبريز), كانت لوازمها ظاهرة لافتة: العدل الذي هو أساس العمران, الشورى اللازمة للحاكم, تدبير الدولة الحديثة, ديوان رسل العمالات الذين هم وكلاء الرعية, الوزراء الذين توكل إليهم السلطة التنفيذية, القضاة الذين لا يخرج شيء عن حكمهم, حقوق الناس التي يضمنها الدستور, الإنصاف في المعاملة, التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان, بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة, في الدولة المدنية (الفرنساوية) التي يراها رفاعة جديرة بقول الشاعر:
وقد ملأ العدل أقطارها | وفيها توالى الصفا والوفا |
وأحسب أن رفاعة كان يفكر في وطنه أثناء كتابة ذلك كله, فهو الهدف النهائي من كل عمليات (تخليص الإبريز). والمؤكد أنه كان يفكر في (وليّ النعم) وإمكان أن يرعى الدولة المدنية الحديثة, فينعم على رعاياه بالفرمانات التي تحقق العدل والتقدم معا.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يختتم رفاعة (تخليص الإبريز) بالحديث عن الحرية التي كانت دائما في طباع العرب كما يقول, ومن الحرية إلى شكر من ساعد الوالي (محمد علي) في نجاح مقصوده من تعليم المصريين في باريز, فالخاتمة تردـ آخر الكتاب على أوله, وتؤكد ما انطوى عليه من تأسيس معنى الدولة المدنية, واقترانها بمعنى جديد للمساواة بين المواطنين, ومعنى أجدّ في العلاقة بالوالي (وليّ النعم) الذي قام بالخطوات العملية الأولى في التأسيس لوجود هذه الدولة, فأرسل مبعوثيه لاستخلاص إبريزها من الخارج, وقرن ذلك بأن أمر بإنشاء (المجلس العالي) ثم صياغة (سياستنامة) و(خط شريف كلخانة) بعد سنوات قليلة من نشر الكتاب الذي استخلص فيه أنبغ مبعوثيه إبريز التقدم الذي تنطوي عليه الدولة المدنية الحديثة.
وكان طبيعيا أن يأمر هذا الوالي بعد عامين فحسب من نشر الكتاب, أن يترأس رفاعة ما أشرف على إنشائه من مدرسة جديدة للإدارة والألسن عام 1836, لتكون هذه المدرسة فاتحة شكل جديد من علاقات المثاقفة, في سياق يستبدل بكلمة (الكفار) المعادية كلمة (الإفرنج) المحايدة, وبالنزعة العرقية النزعة الإنسانية, وباللسان الواحد تعدد الألسنة, في خبرة إدارة الدولة المدنية التي شارفت أفقا جديدا لمعني (الإنسان).
وأتصور أن هذا المنحى من التفكير العقلاني الذي انتهى إلى الإيمان بالمجتمع المدني الحيدث, القائم على الفصل بين السلطات, هو الذي أدى برفاعة الطهطاوي إلى رؤية الأبعاد المدنية للمعرفة, ومن ثم التمييز للمرة الأولى - فيما أحسب - بين المعنى المدني للعلم والمعنى الديني, ومن ثم توسيع دائرة العلم لتجاوز مدارات العلوم التقليدية للمشايخ, وتوسيع معنى (العالِم) ليجاوز صفات الشيخ التقليدي, خصوصا في مجالات علوم المعرفة التي تتمايز عن علوم الدين بطبيعتها وأطرها المرجعية المدنية التي تعتمد على العقل والتجريب أو الاستنباط والمشاهدة.
ولا ينفصل عن ذلك الربط الجديد بين معنى العالم أو العلم ومعنى الإضافة في دائرة العلم المدني, فلا عالم إلا إذا أضاف إلى ما سبقه, واكتشف ما لم يكتشفه غيره. ولذلك يقول رفاعة:
(وأما علماؤهم فإنهم منزع آخر لتعلمهم تعلما تاما عدة أمور, واعتنائهم زيادة على ذلك بفرع مخصوص, وكشفهم كثيرا من الأشياء, وتجديدهم فوائد غير مسبوقين بها, فإن هذه عندهم هي أوصاف العالم, وليس عندهم كل مدرّس عالما, ولا كل مؤلف علاّمة, بل لابد من كونه بتلك الأوصاف, ولابد له من درجات معلومة, فلا يطلق عليه ذلك الاسم إلا بعد استيفائها والارتقاء, ولا تتوهم أن علماء الفرنسيين هم القسوس, لأن القسوس إنما هم علماء الدين فقط, وقد يوجد من القسوس من هو عالم أيضا, وأما من يطلق عليه اسم العالم فهو من له معرفة في العلوم العقلية, التي من جملتها علم الأحكام والسياسات).
ويلاحظ رفاعة قلة علماء الدين في فرنسا بالقياس إلى غيرهم من أصحاب العلم المدني, فإذا قيل هذا الإنسان عالم لا يفهم منه أنه عالم في دينه, بل إنه يعرف علما من العلوم الأخرى المدنية, الأمر الذي يفضي برفاعة إلى إدراك (خلو بلادنا) من كثير من هذه العلوم المدنية بوجه عام, والعقلية بوجه خاص. ودليله على ذلك أن الجامع الأزهر المعمور بمصر القاهرة, وجامع بني أمية بالشام, وجامع الزيتونة بتونس, وجامع القرويين بفاس, ومدارس بخارى ونحو ذلك, كلها زاهرة بالعلوم النقلية, وبعض العلوم العقلية كعلوم العربية, والمنطق, ونحو ذلك من العلوم الآلية). وفي مقابل هذه العلوم التي يغلب عليها النقل لا العقل, والتقليد لا الابتكار, يتحدد معنى العلم الفرنسي بالإضافة التي تجعل العلوم في مدينة باريس تتقدم كل يوم فهي (دائما في الزيادة) و(لا تمضي سنة إلا ويكشفون شيئا جديدا... عدة فنون جديدة أو صناعات جديدة, أو وسائط, أو تكميلات).
ولكن هذ النظرة المدنية لا تمضي إلى نهايتها المنطقية, فهناك السقف الذي لا يمكن لوعي رفاعة أن يجاوزه, عابرا الخطوط الحمراء للشريعة المحمدية, خصوصا في مجال الفلسفة الأولى على وجه التحديد. ولذلك ينتهي به الأمر إلى ملاحظة أن بعض الاعتقادات الفلسفية في فرنسا تخرج عن قانون العقل بالنسبة لغيرهم من الأمم, غير أنهم يموّهونها ويقوونها حتى يظهر للإنسان صدقها وصحتها. والنتيجة هي ما يقوله رفاعة من أن (للفرنسيس في العلوم الحكمية حشوات ضلالية مخالفة لسائر الكتب السماوية, ويقيمون على ذلك أدلة يعسر على الإنسان ردّها). والمؤكد (أن كتب الفلسفة بأسرها محشوة بكثير من هذه البدع... فحينئذ يجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية المشتملة على شيء من الفلسفة أن يتمكن من الكتاب والسنة, حتى لا يغترّ بذلك, ولا يفتر عن اعتقاده, وإلا ضاع يقينه. وقد قلت في مدح هذه المدينة وذمها:
أيوجد مثل باريس ديار | شموس العلم فيها لا تغيب | |
وليل الكفر ليس له صباح | أما هذا وحقكم عجيب |
ولا شك أن هذه النتيجة التي انتهى إليها رفاعة الطهطاوي هي التي غدت أساسا للذين ذهبوا بعده إلى باريس, خصوصا من مستنيري الإسلام الذين كان منهم بالقطع خير الدين التونسي الذي أكد في كتابه أن (الغرض من ذكر الوسائل التي أوصلت الممالك الأوربية إلى ما هي عليه من المنعة والسلطة الدنيوية أن نتخير منها ما يكون بحالنا لائقا ولنصوص شريعتنا مساعدا وموافقا).
ثالثا: ويتصل بالملاحظة السابقة ما يقترن بها من أن العقل المبرمج سلفا, نتيجة ميراثه وأنماط تعليمه, لم يكن يقبل من الحضارة الأوربية إلا ما كان أقرب إليه, كأنه لا يأخذ إلا ما يعطيه, ولا يدرك إلا ما هو مسموح له بإدراكه, في حدود برمجته الثقافية. ولذلك لا نجد معرفة بالأشياء الجذرية الجديدة في الثقافة أو الأدب أو الفكر أو بالأفكار الطليعية, وإنما معرفة بالذي رسخ واستقر في هذه الحضارة, وأصبح مقبولا من جميع أبنائها.
لقد قضى رفاعة في فرنسا سنوات خمس (1826 - 1831) عاصر فيها من الآداب الرومانسية ما كان يمكن أن يجذبه إليه, فقبل رحيله إلى فرنسا كانت مدام دي ستايل (1766 - 1817) وشاتوبريان (1768 - 1848) ولامارتين (1790 - 1869) وألفريد دي فيني (1797 - 1863) قد نشروا أعمالهم المؤثرة, وقد عاصر رفاعة أغلبهم في باريس, ولكنه فيما يبدو من كتابه لم يعرف شيئا عنهم, كما لم يعرف ما كتبه فيكتور هوجو (1802 - 1885) وألفريد دي موسيه (1810 - 1857) وتيوفيل جوييه (1816 - 1872). جورج صاند (1804 - 1876). ودليل ذلك ما قدمه رفاعة من ترجمة عن الشعر الفرنسي في كتابه, حيث يدل اختياره على عدم معرفة حقيقية بالميراث الشعري للبلد الذي عاش فيه خمس سنوات, واقتصار معرفته على بعض المنظومات التي كان يتداولها أساتذته الذين اختارهم له المستشرق جوامر الذي كان مرافقا للحملة الفرنسية, وظل معروفا باهتمامه بمصر, الأمر الذي دفع محمد علي إلى أن يطلب منه الإشراف على المبعوثين الذين أرسلهم إلى فرنسا. ويبدو أن ثقافة جومار الاستشراقية التقليدية كانت العدسات التي نظر من خلالها رفاعة إلى متغيرات الثقافة والإبداع في بلد جومار, فاقترب من الثابت المعترف به عند الجميع , ولم ير المتغير الذي كان واعدا بالكثير في مدى الإبداع.
وكانت النتيجة أن معرفة رفاعة بالرواية الفرنسية لم تختلف عن معرفته بالشعر الفرنسي. صحيح أن بلزاك (1850 - 1899) كان قد ولد بعد مغادرة رفاعة باريس بسنوات, وكذلك ستندال (1783 - 1842). ولكن كان يمكن لرفاعة - على الرغم من ذلك - أن يشير إلى نماذج من الرواية الفرنسية التي كتبت قبل وصوله إلى باريس بسنوات وعقود, سواء في أعمال فولتير (1694 - 1778) أو ماريفو (1688 - 1763) صاحب (حياة ماريان) وكاتب المسرحيات الشهيرة و(الفلاح المحظوظ) أو بريفو (1697 - 1763) الذي عرف بروايته الشهيرة (مانون لسيكو) أو جان جاك روسو (1712 - 1788) برواياته الأشهر, أو بومارشيه (1732 - 1799) أو برناردين دي سان بيير (1737 - 1814) صاحب (بول وفرجيني) الشهيرة. ولكن رفاعة الطهطاوي اكتفى من الميراث القصصي بما يعد كلاسيا تعليميا, ولم يختر للترجمة بعد ذلك إلا رواية (تليماك) التي أصدرها المفكر الكاثوليكي فرانسوا فينلون (1651 - 1715) سنة 1699, وقد كتبها لتلميذه دوق بورجوني, حفيد وولي عهد لويس الرابع عشر, كي يدعم الحاسة الخلقية في تكوينه, ويعلمه تعليما غير مباشر أصول الحكم العادل كما يراها المعلم, وذلك بشكل غير مباشر يستخدم أساطير الإغريق القديمة أمثلة على ما يقول. ولم يجد رفاعة غرابة في تقبّل هذه الرواية التي وجد فيها ما يشبه حكايات (كليلة ودمنة) من أنواع ضرب المثل, فترجمها واستخدمها استخداما تربويا مماثلا في (مواقع الأفلاك في وقائع تليماك) متبعا لغة العصر المشبعة بالسجع.
ثالثا: ويقترن بما سبق ما يتصل به من ملاحظة أن التركيبة العقلية التي انطوى عليها أمثال رفاعة الطهطاوي, من المرتحلين إلى الحضارة الأوربية, لم تكن تصنع لهم سقفا للقبول والرفض فحسب, وإنما كانت تحدد لهم المنظور الذي ينظرون منه, وحدوده القصوى في الاختيار والتعريف والنقل. ولذلك نلاحظ أنه على الرغم من إعجاب رفاعة الطهطاوي - مثلا - بما قرأ - من أدب عند الفرنسيين فإنه ظل على إيمانه بأن البلاغة للعرب والشعر للعرب.
ولذلك فإنه على الرغم من امتداحه اللسان الفرنسي, ووصفه له بأنه لا يميل إلى المحسنات, وينتهي إلى تأكيد (أن نظم الشعر غير خاص بلغة العرب, فإن كل لغة يمكن النظم فيها بمقتضى علم شعرها), يتراجع عن ذلك كله عندما يؤكد اتساع اللغة العربية على غيرها, ويعلن إيمانه القديم بأن بلاغة العرب (أفضل) من كل بلاغة بالقياس إلى اللسان الفرنسي أو الإفرنجي, لأن ذلك (يشبه أن يكون من خواص اللغة العربية لضعفه في اللغات الأجنبية). وقد اقترن ذلك عنده بإعلان (اتساع اللغة العربية) الذي يدل عليه وجود الكثير من كتب العلوم منظوما بها, (وأما لغة الفرنسيس فلا ينظم فيها كتب العلوم أصلا) أضف إلى ذلك ما أومأ به إلى تميز أعاريض الشعر العربي المتسعة, وتحويله المعاني التي نقلها عن شعر الفرنسيس إلى نظم عربي بدوي السمات, نظم يؤكد إيمانه بتميز الشعر العربي وفضله المطلق الذي دفعه إلى أن يستشهد بقول القائل:
إلى العربي مل في نظم شعر | فذاك لسان أرباب الكمال |
رابعا: لم تخل مواقف الرحلة إلى الآخر من توتر متوثب بين قطبي القبول والرفض, الإعجاب والنفور, وهو توتر خلق في بعض أشكال الكتابة عن الآخر في الارتحال إليه درجة عالية من الأضداد وأشكال التعارض الذي يمكن الكشف عنها في مواضع كثيرة.
وقد اقترن هذا التوتر على وجه الخصوص بما يتصل بالمرأة التي كانت إشكالا حقيقيا لهؤلاء المثقفين الذين خرجوا من مجتمعات الحريم التي لم يكن يسمح للمرأة فيها بالخروج من المنزل, والذين رأوا أو سمعوا ما فعله المشايخ بزينب البكرية التي جرؤت على الزواج من فرنسي. وكان لقاء هذه المرأة والحوار معها والتعرف على ثقافتها التي قد تسبق ثقافة الرجال مسألة مربكة محيرة, المسكوت عنه من الكلام فيها أكثر من المنطوق الذي تظل عناصر الحضور فيه تشير إلى عناصر الغياب.
وكانت البداية هي الصدمة التي حدثت لرفاعة الطهطاوي حين رأى الكيفية التي يعامل بها الرجال النساء, فانتهى إلى الظن بأن الرجال عندهم عبيد النساء وتحت أمرهن, وأن من خصالهم الرديئة عدم غيرة رجالهم. ولكنه يدرك - من ناحية مقابلة - أن للنساء تآليف عظيمة, ومنهن مترجمات للكتب, بل منهن من يتمثل بإنشائها ومراسلاتها, فيدرك أن المثل العربي القائل: جمال الرجل في عقله وجمال المرأة في لسانها لا ينطبق على تلك البلاد التي تهتم بعقل المرأة وفهمها وقريحتها. ويقوده ذلك إلى إدراك أن النساء الفرنسيات متولعات بحب المعارف والوقوف على أسرار الكائنات والبحث عنها (فهن كالرجال في جميع الأمور). وتدفعه هذه النتيجة إلى تغيير رأيه الذي سبق عن عدم غيرة الرجال الفرنساوية, فيرى في الأمر نوعا من أدب خطاب الرجل للمرأة التي تساويه, وأنه (كلما حسن خطاب الرجل مع النساء, ومدحهن عد هذا من الأدب). ويندفع - نتيجة ذلك - مع موجة الإعجاب بسفور المرأة الفرنسية, ويرى في الحجاب رأيا جريئا مؤداه (أن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن. بل منشأ ذلك التربية الجيدة والخسيسة والتعود على محبة واحد دون غيره, وعدم التشريك في المحبة والالتئام بين الزوجين). لكنه لا يستطيع أن يمضي إلى النهاية المنطقية لهذا النوع من التفكير, فيعود إلى حدود المباح من المدى الذي تسمح به ثقافته, فيقول عبارات لا تخلو من التعارض, على النحو التالي: (ولا يظن بهم أنهم لعدم غيرتهم على نسائهم لا عرض لهم في ذلك, حيث إن العرض يظهر في هذا المعنى أكثر من غيره, لأنهم وإن فقدوا الغيرة, لكنهم إن علموا عليهن شيئا كانوا شر الناس عليهن, وعلى أنفسهم, وعلى من خانهم في نسائهم, غاية الأمر أنهم يخطئون في تسليم القيادة للنساء, وإن كانت المحصّنات لا يخشى عليهن شيء كما قال الشاعر:
إذا غاب عنها البعل لم تفش سره | وترضى إياب البعل حين يئوب |
وهي عبارات تنطق التذبذب اللافت على مستوى الوعي أو حتى اللاوعي النصي, فلابد من إبراز معنى (العرض) ومحاولة إزالة التناقض بين التمسك وبه وفقدان (الغيرة), حتى لو لم تكن هناك علاقة بين الاثنين, في تفكيرنا المحدث على الأقل, فمن الواضح أن رفاعة خلط بين احترام المرأة الذي يترتب عليه استقلالها والثقة في سلوكها وبين تقبّل الرجال لضحكات أزواجهن أو حواراتهن مع غيرهم من الرجال, وليس في هذا الأمر فقدان غيرة وإنما احترام وإيمان بالمساواة التي تنبني على الثقة. أما مسألة (تسليم القيادة للنساء) فهي من بقايا الوعي التقليدي في مكونات رفاعة الثقافية, حيث تظل المرأة هي المخلوق الأدنى في سلم التراتب القمعي الذي يجعل الذكر أفضل من الأنثى على الإطلاق, ولا ينبغي للأفضل (الأعقل, الأحكم) أن يسلم القيادة للأدنى (الأقل عقلا, والأكثر انصياعا للغريزة). ويمضي التمييز المبني على التراتب القمعي نفسه ليفصل بين المرأة الحرّة وغير الحرة, فالمحصّنات لا يخشى عليهن شيء لأن لهن من شرفهن وطيب محتدهن ما يحميهن من الزلل, وأما المرأة غير الحرة - من حيث هي الأدنى في المكانة الاجتماعية - فهي الأدنى في التمسك بالشرف لأنها لا تعرف طيب المحتد, ومن ثم تغدو فريسة سهلة للآثام التي تقترن بخضروات الدمن?
المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=968&ID=36